مغنى اللبيب - ج ١

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري

مغنى اللبيب - ج ١

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات مكتبة الصادق للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٦
الجزء ١ الجزء ٢

الثالث : أن يكون «ماذا» كله استفهاما على التركيب كقولك «لماذا جئت؟» وقوله :

٤٩٨ ـ يا خزر تغلب ما ذا بال نسوتكم

[لا يستفقن إلى الدّيرين تحنانا؟]

وهو أرجح الوجهين فى الآية فى قراءة غير أبى عمرو (قُلِ الْعَفْوَ) بالنصب ، أى ينفقون العفو.

الرابع : أن يكون «ماذا» كله اسم جنس بمعنى شىء ، أو موصولا بمعنى الذى ، على خلاف فى تخريج قول الشاعر :

٤٩٩ ـ دعى ما ذا علمت سأتّقيه

ولكن بالمغيّب نبّئينى [ص ٣٠٢]

فالجمهور على أن «ماذا» كله مفعول دعى ، ثم اختلف فقال السيرافى وابن خروف : ما موصول بمعنى الذى ، وقال الفارسى : نكرة بمعنى شىء ، قال : لأن التركيب ثبت فى الأجناس دون الموصولات.

وقال ابن عصفور : لا تكون ما ذا مفعولا لدعى ؛ لأن الاستفهام له الصدر ، ولا لعلمت ؛ لأنه لم يرد أن يستفهم عن معلومها ما هو ، ولا لمحذوف يفسره سأتقيه ؛ لأن علمت حينئذ لا محل لها ، بل ما اسم استفهام مبتدأ ، وذا موصول خبر ، وعلمت صلة ، وعلّق دعى عن العمل بالاستفهام ، انتهى.

ونقول : إذا قدرت «ماذا» بمعنى الذى أو بمعنى شىء لم يمتنع كونها مفعول دعى ، وقوله «لم يرد أن يستفهم عن معلومها» لازم له إذا جعل ما ذا مبتدأ وخبرا ، ودعواه تعليق دعى مردودة بأنها ليست من أفعال القلوب ، فإن قال : إنما أردت أنه قدر الوقف على دعى فاستأنف ما بعده ردّه قول الشاعر «ولكن» فإنها لا بد أن يخالف ما بعدها ما قبلها ، والمخالف هنا دعى ، فالمعنى دعى كذا ، ولكن افعلى كذا ، وعلى هذا فلا يصح استئناف ما بعد

٣٠١

دعى ؛ لأنه لا يقال : من فى الدار فإننى أكرمه ولكن أخبرنى عن كذا.

الخامس : أن تكون ما زائدة وذا للاشارة كقوله :

٥٠٠ ـ أنورا سرع ما ذا يا فروق

[وحبل الوصل منتكث حذيق]

أنورا بالنون أى أنفارا ، سرع : أصله بضم الراء فخفف ، يقال : سرع ذا خروجا ، أى أسرع هذا فى الخروج ، قال الفارسى : يجوز كون ذا فاعل سرع ، وما زائدة ، ويجوز كون ما ذا كله اسما كما فى قوله :

*دعى ما ذا علمت سأتّقيه* [٤٩٩]

السادس : أن تكون ما استفهاما وذا زائدة ، أجازه جماعة منهم ابن مالك فى نحو «ماذا صنعت» وعلى هذا التقدير فينبغى وجوب حذف الألف فى نحو «لم ذا جئت» والتحقيق أن الأسماء لا تزاد.

النوع الثانى : الشرطية ، وهى نوعان : غير زمانية نحو (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) وقد جوزت فى (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) على أن الأصل وما يكن ، ثم حذف فعل الشرط كقوله :

٥٠١ ـ إن العقل فى أموالنا لا نصق بها

ذراعا ، وإن صبرا فنصبر للصّبر

أى إن يكن العقل وإن نحبس حبسا ، والأرجح فى الآية أنها موصولة ، وأن الفاء داخلة على الخبر ، لا شرطية والفاء داخلة على الجواب.

وزمانية ، أثبت ذلك الفارسى وأبو البقاء وأبو شامة وابن برى وابن مالك ، وهو ظاهر فى قوله تعالى : (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) أى استقيموا لهم مدة استقامتهم لكم ، ومحتمل فى (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)

٣٠٢

إلا أن ما هذه مبتدأ لا ظرفية ، والهاء من به راجعه إليها ، ويجوز فيها الموصولية وفآتوهن الخبر ، والعائد محذوف أى لأجله ، وقال :

٥٠٢ ـ فما تك يا ابن عبد الله فينا

فلا ظلما نخاف ولا افتقارا

استدل به ابن مالك على مجيئها للزمان ، وليس بقاطع ؛ لاحتماله للمصدر أى للمفعول المطلق ، فالمعنى : أىّ كون تكن فينا طويلا أو قصيرا.

وأما أوجه الحرفية.

فأحدها : أن تكون نافية ، فإن دخلت على الجملة الاسمية أعملها الحجازيون والتهاميون والنجديون عمل ليس بشروط معروفة نحو (ما هذا بَشَراً) (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) وعن عاصم أنه رفع أمهاتهم على التميمية ، وندر تركيبها مع النكرة تشبيها لها بلا كقوله :

٥٠٣ ـ وما بأس لوردّت علينا تحيّة

قليل على من يعرف الحقّ عابها

وإن دخلت على الفعلية لم تعمل نحو (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) فأما (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) فما فيهما شرطية ، بدليل الفاء فى الأولى والجزم فى الثانية ، وإذا نفت المضارع تخلّص عند الجمهور للحال ، وردّ عليهم ابن مالك بنحو (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ) وأجيب بأن شرط كونه للحال انتفاء قرينة خلافه.

والثانى : أن تكون مصدرية ، وهى نوعان : زمانية ، وغيرها.

فعير الزمانية نحو (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) (ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) (لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا)

٣٠٣

وليست هذه بمعنى الذى ؛ لأن الذى سقاه لهم الغنم ، وإنما الأجر على السّقى الذى هو فعله ، لا على الغنم ، فإن ذهبت تقدر أجر السقى الذى سقيته لنا فذلك تكلف لا محوج إليه ، ومنه (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) (آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) وكذا حيث اقترنت بكاف التشبيه بين فعلين متماثلين.

وفى هذه الآيات ردّ لقول السهيلى : إن الفعل بعد «ما» هذه لا يكون خاصا ؛ فتقول «أعجبنى ما تفعل» ولا يجوز «أعجبنى ما تخرج».

والزمانية نحو (ما دُمْتُ حَيًّا) أصله مدّة دوامى حيّا ، فحذف الظرف وخلفته «ما» وصلتها كما جاء فى المصدر الصريح نحو «جئتك صلاة العصر» و «آتيك قدوم الحاج» ومنه (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وقوله :

٥٠٤ ـ أجارتنا إنّ الخطوب تنوب

وإنّى مقيم ما أقام عسيب

ولو كان معنى كونها زمانية أنها تدل على الزمان بذاتها لا بالنيابة لكانت اسما ولم تكن مصدرية كما قال ابن السكيت وتبعه ابن الشجرى فى قوله :

٥٠٥ ـ منّا الّذى هو ما إن طرّ شاربه

والعانسون ومنّا المرد والشّيب

معناه حين طرّ ، قلت : وزيدت إن بعدها لشبهها فى اللفظ بما النافية كقوله :

ورجّ الفتى للخير ما إن رأيته

على السّنّ خيرا لا يزال يزيد [٢٧]

وبعد فالأولى فى البيت تقدير ما نافية ؛ لأن زيادة إن حينئذ قياسية ، ولأن فيه سلامة من الإخبار بالزمان عن الجثة ، ومن إثبات معنى واستعمال لما لم يثبتا له ـ وهما كونها للزمان مجردة ، وكونها مضافة ـ وكأن الذى صرفهما عن هذا الوجه مع ظهوره أن ذكر المرد بعد ذلك لا يحسن ؛ إذ الذى لم ينبت شاربه أمرد ، والبيت عندى فاسد التقسيم بغير هذا ، ألا ترى أن العانسين ـ وهم الذين لم يتزوجوا ـ لا يناسبون بقية الأقسام ، وإنما العرب محميّون من الخطأ فى الألفاظ دون المعانى. وفى البيت

٣٠٤

ـ مع هذا العيب ـ شذوذان : إطلاق العانس على المذكر ، وإنما الأشهر استعماله فى المؤنث ، وجمع الصفة بالواو والنون مع كونها غير قابلة للتاء ولا دالة على المفاضلة.

وإنما عدلت عن قولهم ظرفية إلى قولى زمانية ليشمل نحو (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) فإن الزمان المقدر هنا مخفوض ، أى كل وقت إضاءة ، والمخفوض لا يسمى ظرفا.

ولا تشارك «ما» فى النيابة عن الزمان أن ، خلافا لابن جنى ، وحمل عليه قوله :

٥٠٦ ـ وتالله ما إن شهلة أمّ واحد

بأوجد منّى أن يهان صغيرها

وتبعه الزمخشرى ، وحمل عليه قوله تعالى (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) ومعنى التعليل فى البيت والآيات ممكن ، وهو متفق عليه ؛ فلا معدل عنه.

وزعم ابن خروف أن «ما» المصدرية حرف باتفاق ، وردّ على من نقل فيها خلافا ، والصواب مع ناقل الخلاف ، فقد صرح الأخفش وأبو بكر باسميتها ، ويرجحه أن فيه تخلصا من دعوى اشتراك لا داعى إليه ؛ فإن «ما» الموصولة الاسمية ثابتة باتفاق ، وهى موضوعة لما لا يعقل ، والأحداث من جملة ما لا يعقل ، فإذا قيل «أعجبنى ما قمت» قلنا : التقدير أعجبنى الذى قمته ، وهو يعطى معنى قولهم : أعجبنى قيامك ، ويردّ ذلك أن نحو «جلست ما جلس زيد» تريد به المكان ممتنع مع أنه مما لا يعقل ، وأنه يستلزم أن يسمع كثيرا «أعجبنى ما قمته» لأنه عندهما الأصل ، وذلك غير مسموع ، قيل : ولا ممكن ؛ لأن قام غير متعد ؛ وهذا خطأ بين ؛ لأن الهاء المقدرة مفعول مطلق لا مفعول به ، وقال ابن الشجرى : أفسد النحويون تقدير الأخفش بقوله تعالى (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ)

٣٠٥

فقالوا : إن كان الضمير المحذوف للنبى عليه‌السلام أو للقرآن صح المعنى وخلت الصلة عن عائد ، أو للتكذيب فسد المعنى ، لأنهم إذا كذبوا التكذيب بالقرآن أو النبى كانوا مؤمنين ، اه. وهذا سهو منه ومنهم ؛ لأن كذبوا ليس واقعا على التكذيب ، بل مؤكّد به ؛ لأنه مفعول مطلق ، لا مفعول به ، والمفعول به محذوف أيضا ، أى بما كانوا يكذبون النبى أو القرآن تكذيبا ، ونظيره (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) ولأبى البقاء فى هذه لآية أوهام متعددة ؛ فإنه قال : ما مصدرية صلتها يكذبون ، ويكذبون خبر كان ، ولا عائد على ما ، ولو قيل باسميتها ، فتضمنت مقالته الفصل بين ما الحرفية وصلتها بكان ، وكون يكذبون فى موضع نصب لأنه قدره خبر كان ، وكونه لا موضع له لأنه قدره صلة ما ، واستغناء الموصول الاسمى عن عائد ، وللزمخشرى غلطة عكس هذه الأخيرة ؛ فإنه جوز مصدرية ما فى (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ) مع أنه قد عاد عليها الضمير.

وندر وصلها بالفعل الجامد فى قوله :

٥٠٧ ـ أليس أميرى فى الأمور بأنتما

بما لستما أهل الخيانة والغدر

وبهذا البيت رجح القول بحرفيتها ؛ إذ لا يتأتى هنا تقدير الضمير.

الوجه الثالث : أن تكون زائدة ، وهى نوعان : كافة ، وغير كافة.

والكافة ثلاثة أنواع :

أحدها : الكافة عن عمل الرفع ، ولا تتصل إلا بثلاثة أفعال : قلّ ، وكثر ، وطال ، وعلة ذلك شبههن بربّ ، ولا يدخلن حينئذ إلا على جملة فعلية صرّح بفعلها كقوله :

٥٠٨ ـ قلّما يبرح اللّبيب إلى ما

يورث المجد داعيا أو مجيبا

فأما قول المرار :

٣٠٦

٥٠٩ ـ صددت فأطولت الصّدود ، وقلّما

وصال على طول الصّدود يدوم [ص ٥٨٢ و ٥٩٠]

فقال سيبويه : ضرورة ، فقيل : وجه الضرورة أن حقها أن يليها الفعل صريحا والشاعر أولاها فعلا مقدرا ، وأن «وصال» مرتفع بيدوم محذوفا مفسّرا بالمذكور وقيل : وجهها أنه قدّم الفاعل ، ورده ابن السيّد بأن البصريين لا يجيزون تقديم الفاعل فى شعر ولا نثر ، وقيل : وجهها أنه أناب الجملة الاسمية عن الفعلية كقوله :

*فهلّا نفس ليلى شفيعها* [١٠٩]

وزعم المبرد أن «ما» زائدة ، ووصال : فاعل لا مبتدأ ، وزعم بعضهم أن ما مع هذه الأفعال مصدرية لا كافة.

والثانى : الكافّة عن عمل النصب والرفع وهى المتّصلة بإنّ وأخواتها ، نحو (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) وتسمى المتلوة بفعل مهيّئة ، وزعم ابن درستويه وبعض الكوفيين أن «ما» مع هذه الحروف اسم مبهم بمنزلة ضمير الشأن فى التفخيم ، والإبهام ، وفى أن الجملة بعده مفسرة له ، ومخبر بها عنه ، ويردّه أنها لا تصلح للابتداء بها ، ولا لدخول ناسخ غير إنّ وأخواتها ، وردّه ابن الخباز فى شرح الإيضاح بامتناع «إنما أين زيد» مع صحة تفسير ضمير الشأن بجملة الاستفهام ، وهذا سهو منه ؛ إذ لا يفسر ضمير الشأن بالجمل غير الخبرية ، اللهم إلا مع أن المخفّفة من الثقيلة فإنه قد يفسر بالدعاء ، نحو «أما أن جزاك الله خيرا» وقراءة بعض السبعة (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها) على أنا لا نسلم أن اسم أن المخففة يتعين كونه ضمير شأن ؛ إذ يجوز هنا أن يقدر ضمير المخاطب فى الأول والغائبة فى الثانى ، وقد قال سيبويه فى قوله تعالى (أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) إن التقدير أنك قد صدقت ، وأما (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ) (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ

٣٠٧

الْباطِلُ) (إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) فما فى ذلك كله اسم باتفاق ، والحرف عامل ، وأما (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) فمن نصب الميتة فما : كافة ، ومن رفعها ـ وهو أبو رجاء العطاردى ـ فما : اسم موصول ، والعائد محذوف ، وكذلك (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ) فمن رفع كيد فإن عاملة وما موصولة والعائد محذوف ، لكنه محتمل للاسمى والحرفى ، أى إن الذى صنعوه ، أو إن صنعهم. ومن نصب ـ وهو ابن مسعود والربيع بن خيثم ـ فما كافة ، وجزم النحويون بأن ما كافة فى (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) ولا يمتنع أن تكون بمعنى الذى ، والعلماء خبر ، والعائد مستتر فى يخشى.

وأطلقت «ما» على جماعة العقلاء ، كما فى قوله تعالى (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) وأما قول النابغة :

*قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا* [٩٢]

فمن نصب الحمام وهو الأرجح عند النحويين فى نحو «ليتما زيدا قائم» فما : زائدة غير كافّة ، وهذا : اسمها ، ولنا : الخبر ، قال سيبويه : وقد كان رؤبة بن العجاج ينشده رفعا ، اه. فعلى هذا يحتمل أن تكون ما كافة ، وهذا مبتدأ ، ويحتمل أن تكون موصولة وهذا خبر لمحذوف ، أى ليت الذى هو هذا الحمام لنا ، وهو ضعيف ؛ لحذف الضمير المرفوع فى صلة غير أى مع عدم الطول ، وسهل ذلك لتضمنه إبقاء الإعمال.

وزعم جماعة من الأصوليين والبيانيين أن «ما» الكافة التى مع إنّ نافية ، وأن ذلك سبب إفادتها للحصر ، قالوا : لأن إنّ للإثبات وما للنفى ، فلا يجوز أن يتوجّها معا إلى شىء واحد ؛ لأنه تناقض ، ولا أن يحكم بتوجه النفى للمذكور بعدها ؛ لأنه

٣٠٨

خلاف الواقع باتفاق ، فتعين صرفه لغير المذكور وصرف الإثبات للمذكور ، فجاء الحصر.

وهذا البحث مبنى على مقدمتين باطلتين بإجماع النحويين ، إذ ليست إنّ للاثبات ، وإنما هى لتوكيد الكلام إثباتا كان مثل «إنّ زيدا قائم» أو نفيا مثل «إنّ زيدا ليس بقائم» ومنه (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) وليست «ما» للنفى ، بل هى بمنزلتها فى أخواتها ليتما ولعلما ولكنما وكأنما ، وبعضهم ينسب القول بأنها نافية للفارسى فى كتاب الشيرازيات ، ولم يقل ذلك الفارسى لا فى الشيرازيات ولا فى غيرها ، ولا قاله نحوى غيره ، وإنما قال الفارسىّ فى الشيرازيات : إن العرب عاملوا إنما معاملة النفى وإلا فى فصل الضمير كقول الفرزدق :

٥١٠ ـ [أنا الذّائد الحامى الذّمار] وإنّما

يدافع عن أحسانهم أنا أو مثلى

فهذا كقول الآخر :

٥١١ ـ قد علمت سلمى وجاراتها

ما قطّر الفارس إلا أنا

وقول أبى حيان : لا يجوز فصل الضمير المحصور بإنما ، وإن الفصل فى البيت الأول ضرورة واستدلاله بقوله تعالى (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وهم ، لأن الحصر فيهن فى جانب الظرف لا الفاعل ، ألا ترى أن المعنى ما أعظكم إلا بواحدة ، وكذا الباقى.

والثالث : الكافة عن عمل الجر ، وتتصل بأحرف وظروف.

فالأحرف أحدها ربّ ، وأكثر ما تدخل حينئذ على الماضى كقوله :

ربّما أوفيت فى علم

ترفعن ثوبى شمالات [٢٠٧]

لأن التكثير والتقليل إنما يكونان فيما عرف حدّه ، والمستقبل مجهول ، ومن ثمّ قال الرمانى فى (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) إنما جاز لأن المستقبل معلوم عند الله تعالى

٣٠٩

كالماضى ، وقيل : هو على حكاية حال ماضية مجازا مثل (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) وقيل : التقدير ربما كان يود ، وتكون كان هذه شانية ، وليس حذف كان بدون إن ولو الشرطيتين سهلا ، ثم الخبر حينئذ وهو يودّ مخرّج على حكاية الحال الماضية فلا حاجة إلى تقدير كان.

ولا يمتنع دخولها على الجملة الاسمية ، خلافا للفارسى ، ولهذا قال فى قول أبى دؤاد :

ربما الجامل المؤبّل فيهم

[وعناجيج بينهنّ المهار] [٢١٥]

ما : نكرة موصوفة بجملة حذف مبتدؤها ، أى رب شىء هو الجامل.

الثانى : الكاف ، نحو «كن كما أنت» وقوله :

*كما سيف عمرو لم تخنه مضاربه* [٢٩٤]

قيل : ومنه (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) وقيل : ما موصولة ، والتقدير كالذى هو آلهة لهم ، وقيل : لا تكف الكاف بما ، وإنّ ما فى ذلك مصدرية موصولة بالجملة الاسمية.

الثالث : الباء كقوله :

٥١٢ ـ فلئن صرت لا تحير جوابا

لبما قد ترى وأنت خطيب

ذكره ابن مالك ، وأن ما الكافة أحدثت مع الباء معنى التقليل ، كما أحدثت مع الكاف معنى التعليل فى نحو (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) والظاهر أن الباء والكاف للتعليل ، وأن «ما» معهما مصدرية ، وقد سلّم أن كلا من الكاف والباء يأتى للتعليل مع عدم «ما» كقوله تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) وأن التقدير أعجب لعدم فلاح الكافرين ؛ ثم المناسب فى البيت معنى التكثير لا التقليل.

٣١٠

الرابع : من ، كقول أبى حيّة :

٥١٣ ـ وإنّا لممّا نضرب الكبش ضربة

[على رأسه تلقى اللّسان من الفم] [ص ٣٢٢]

قاله ابن الشجرى ، والظاهر أن «ما» مصدرية ، وأن المعنى مثله فى (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) وقوله :

٥١٤ ـ [ألا أصبحت أسماء جاذمة الحبل]

وضنّت علينا ، والضّنين من البخل

فجعل الإنسان والبخيل مخلوقين من العجل والبخل مبالغة.

وأما الظروف فأحدها «بعد» كقوله :

٥١٥ ـ أعلاقة أمّ الوليّد بعد ما

أفنان رأسك كالثّغام المخلس

المخلس ـ بكسر اللام ـ المختلط رطبه بيابسه.

وقيل : «ما» مصدرية ، وهو الظاهر ؛ لأن فيه إبقاء بعد على أصلها من الإضافة ، ولأنها لو لم تكن مضافة لنونت.

والثانى «بين» كقوله :

٥١٦ ـ بينما نحن بالأراك معا

إذ أتى راكب على جملة

وقيل : «ما» زائدة ، وبين مضافة إلى الجملة ، وقيل : زائدة ، وبين مضافة إلى زمن محذوف مضاف إلى الجملة ، أى بين أوقات نحن بالأراك ، والأقوال الثلاثة تجرى فى «بين» مع الألف فى نحو قوله :

٥١٧ ـ فبينا نسوس النّاس والأمر أمرنا

إذا نحن فيهم سوقة ليس ننصف (١) [ص ٣٧١]

__________________

(١) حفظى «إذا نحن فيهم سوقة نتنصف» يريد أنهم صاروا محكومين بعد أن كانوا حاكمين وصاروا يطلبون النصفة والعدل بعد أن كان ذلك يطلب منهم.

٣١١

والثالث والرابع «حيث ، وإذ» ويضمنان حينئذ معنى إن الشرطية فيجزمان فعلين.

وغير الكافة نوعان : عوض ، وغير عوض.

فالعوض فى موضعين :

أحدهما : فى نحو قولهم «أمّا أنت منطلقا انطلقت» والأصل : انطلقت لأن كنت منطلقا ، فقدم المفعول له للاختصاص ، وحذف الجار وكان للاختصار ، وجىء بما للتعويض ، وأدغمت النون للتقارب ، والعمل عند الفارسى وابن جنى لما ، لا لكان.

والثانى : فى نحو قولهم «أفعل هذا إمّا لا» وأصله : إن كنت لا تفعل غيره.

وغير العوض تقع بعد الرافع كقولك «شتّان ما زيد وعمرو» وقول مهلهل :

٥١٨ ـ لو بأبانين جاء يخطبها

زمّل ما أنف خاب بدم

وقد مضى البحث فى قوله :

*أنورا سرع ما ذا يا فروق* [٥٠٠]

وأن التقدير أنفارا سرع هذا ، وبعد الناصب الرافع نحو «ليتما زيدا قائم» وبعد الجازم نحو (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) (أَيًّا ما تَدْعُوا) (أَيْنَما تَكُونُوا) وقول الأعشى :

٥١٩ ـ متى ما تناخى عند باب ابن هاشم

تراحى وتلقى من فواضله ندا

وبعد الخافض حرفا كان نحو (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) (عَمَّا قَلِيلٍ) (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) وقوله :

ربما ضربة بسيف صقيل

بين بصرى وطعنة نجلاء [٢٠٧]

وقوله :

٣١٢

وننصر مولانا ونعلم أنه

كما النّاس مجروم عليه وجارم [٩٥]

أو اسما كقوله تعالى (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ) وقول الشاعر :

٥٢٠ ـ نام الخلىّ ، وما أحسّ رقادى

والهمّ محتضر لدىّ وسادى

من غير ما سقم ، ولكن شفّنى

همّ أراه قد أصاب فؤادى

وقوله :

*ولا سيّما يوم بدارة جلجل* [٢١٩]

أى ولا مثل يوم ، وقوله «بدارة» صفة ليوم ، وخبر لا محذوف. ومن رفع «يوم» فالتقدير ولا مثل الذى هو يوم ، وحسّن حذف العائد طول الصلة بصفة يوم ، ثم إن المشهور أن ما مخفوضة ، وخبر لا محذوف ، وقال الأخفش : ما خبر للا ، ويلزمه قطع سىّ عن الإضافة من غير عوض ، قيل : وكون خبر لا معرفة ، وجوابه أنه قد يقدر ما نكرة موصوفة ، أو يكون قد رجع إلى قول سيبويه فى «لا رجل قائم» إن ارتفاع الخبر بما كان مرتفعا به ، لا بلا النافية ، وفى الهيتيات للفارسى «إذا قيل : قاموا لا سيما زيد ، فلا مهملة ، وسى حال ، أى قاموا غير مماثلين لزيد فى القيام» ويردّه صحة دخول الواو ، وهى لا تدخل على الحال المفردة ، وعدم تكرار لا ، وذلك واجب مع الحال المفردة ، وأما من نصبه فهو تمييز ، ثم قيل : ما نكرة تامة مخفوضة بالإضافة ، فكأنه قيل : ولا مثل شىء ، ثم جىء بالتمييز ، وقال الفارسى : ما حرف كافّ لسى عن الإضافة ، فأشبهت الإضافة فى «على التّمرة مثلها زيدا» وإذا قلت : لا سيما زيد ، جاز جرّ «زيد» ورفعه ، وامتنع نصبه.

٣١٣

وزيدت قبل الخافض كما فى قول بعضهم «ما خلا زيد ، وما عدا عمرو» بالخفض ، وهو نادر.

وتزاد بعد أداة الشرط ، جازمة كانت نحو (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) (وَإِمَّا تَخافَنَّ) أو غير جازمة نحو (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ) وبين المتبوع وتابعه فى نحو (مَثَلاً ما بَعُوضَةً) قال الزجاج : ما حرف زائد للتوكيد عند جميع البصريين ، اه ، ويؤيده سقوطها فى قراءة ابن مسعود وبعوضة بدل ، وقيل : ما اسم نكرة صفة لمثلا أو بدل منه ، وبعوضة عطف بيان على ما ، وقرأ رؤبة برفع بعوضة ، والأكثرون على أن ما موصولة ، أى الذى هو بعوضة ، وذلك عند البصريين والكوفيين على حذف العائد مع عدم طول الصلة وهو شاذ عند البصريين قياس عند الكوفيين ، واختار الزمخشرى كون ما استفهامية مبتدأ ، وبعوضة خبرها ، والمعنى أى شىء البعوضة فما فوقها فى الحقارة.

وزادها الأعشى مرتين فى قوله :

٥٢١ ـ إمّا ترينا حفاة لا نعال لنا

إنّا كذلك ما نحفى وننتعل

وأمية بن أبى الصّلت ثلاث مرات فى قوله :

٥٢٢ ـ سلع مّا ، ومثله عشر ما

عائل ما ، وعالت البيقورا

وهذا البيت قال عيسى بن عمر : لا أدرى ما معناه ، ولا رأيت أحدا يعرفه ، وقال غيره : كانوا إذا أرادوا الاستسقاء فى سنة الجدب عقدوا فى أذناب البقر وبين عراقيبها السّلع بفتحتين والعشر بضمة ففتحة ، وهما ضربان من الشجر ، ثم أوقدوا فيها النار وصعدوا بها الجبال ، ورفعوا أصواتهم بالدعاء قال :

٣١٤

٥٢٣ ـ أجاعل أنت بيقورا مسلّعة

ذريعة لك بين الله والمطر

ومعنى «عالت البيقورا» أن السنة أثقلت البقر بما حمّلتها من السّلع والعشر.

وهذا فصل عقدته للتدريب فى (ما)

قوله تعالى (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) تحتمل ما الأولى النافية أى لم يغن والاستفهامية فتكون مفعولا مطلقا ، والتقدير أىّ إغناء أغنى عنه ماله ، ويضعف كونه مبتدأ بحذف المفعول المضمر حينئذ ، إذ تقديره أىّ إغناء أغناه عنه ماله ، وهو نظير «زيد ضربت» إلا أن الهاء المحذوفة فى الآية مفعول مطلق ، وفى المثال مفعول به ، وأما ما الثانية فموصول اسمى أو حرفى ، أى والذى كسبه ، أو وكسبه ، وقد يضعف الاسمى بأنه إذا قدّر والذى كسبه لزم التكرار لتقدم ذكر المال ، ويجاب بأنه يجوز أن يراد به الولد ؛ ففى الحديث «أحقّ ما أكل الرّجل من كسبه وإنّ ولده من كسبه» والآية حينئذ نظير (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) وأما (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) فما فيهما محتملة للاستفهامية وللنافية ، ويرجحها تعينها فى (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ) والأرجح فى (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) أنها موصولة عطف على السحر ، وقيل : نافية فالوقف على السحر ، والأرجح فى (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) أنها النافية بدليل (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) وتحتمل الموصولة والأظهر فى (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) المصدرية ، وقيل : موصولة ، قال ابن الشجرى : ففيه خمسة حذوف ؛ والأصل بما تؤمر بالصدع به ، فحذفت الباء فصار بالصّدعه فحذفت أل لامتناع جمعها مع الإضافة فصار بصدعه ، ثم حذف المضاف كما فى (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) فصار به ، ثم حذف الجار كما قال عمرو بن معد يكرب :

٥٢٤ ـ أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

[فقد تركتك ذا مال وذ انشب] [ص ٥٦٦]

٣١٥

فصار تؤمره ، ثم حذفت الهاء كما حذفت فى (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) وهذا تقرير ابن جنى.

وأما (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) فما شرطية ، ولهذا جزمت ، ومحلها النصب بننسخ وانتصابها إما على أنها مفعول به مثل (أَيًّا ما تَدْعُوا) فالتقدير أى شىء ننسخ ، لا أى آية ننسخ ؛ لأن ذلك لا يجتمع مع (مِنْ آيَةٍ) وإما على أنها مفعول مطلق ؛ فالتقدير : أى نسخ ننسخ ، فآية مفعول ننسخ ، ومن زائدة ، وردّ هذا أبو البقاء بأن «ما» المصدرية لا تعمل ، وهذا سهو منه ، فإنه نفسه نقل عن صاحب هذا الوجه أن ما مصدر بمعنى أنها مفعول مطلق ، ولم ينقل عنه أنها مصدرية.

وأما قوله : تعالى (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) فما محتملة للموصوفة أى شيئا لم نمكنه لكم ، فحذف العائد ، وللمصدرية الظرفية ، أى أن مدة تمكنهم أطول ، وانتصابها فى الأول على المصدر ، وقيل : على المفعول به على تضمين مكنا معنى أعطينا ، وفيه تكلف.

وأما قوله تعالى (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) فما محتملة لثلاثة أوجه ، أحدها : الزيادة ، فتكون إما لمجرد تقوية الكلام مثلها فى (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) فتكون حرفا باتفاق ، وقليلا فى معنى النفى مثلها فى قوله :

*قليل بها الأصوات إلّا بغامها* [١٠٤]

وإما لإفادة التقليل مثلها فى «أكلت أكلامّا» وعلى هذا فيكون تقليلا بعد تقليل ، ويكون التقليل على معناه ، ويزعم قوم أن «ما» هذه اسم كما قدمناه فى (مَثَلاً ما بَعُوضَةً) والوجه الثانى : النفى ، وقليلا : نعت لمصدر محذوف ، أو لظرف محذوف ، أى إيمانا قليلا أو زمنا قليلا ، أجاز ذلك بعضهم ، ويرده أمران : أحدهما أن ما النافية لها الصدر فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، ويسهل ذلك شيئا ما على تقدير

٣١٦

قليلا نعتا للظرف ؛ لأنهم يتّسعون فى الظرف ، وقد قال :

*ونحن عن فضلك ما استغنينا* [١٣٧]

والثانى : أنهم لا يجمعون بين مجازين ، ولهذا لم يجيزوا «دخلت الأمر» لئلا يجمعوا بين حذف فى وتعليق الدخول باسم المعنى ، بخلاف «دخلت فى الأمر» و «دخلت الدار» واستقبحوا «سير عليه طويل» لئلا يجمعوا بين جعل الحدث أو الزمان مسيرا وبين حذف الموصوف ، بخلاف «سير عليه طويلا» و «سير عليه سير طويل ، أو زمن طويل».

والثالث : أن تكون مصدرية ، وهى وصلتها فاعل بقليلا ، وقليلا حال معمول لمحذوف دل عليه المعنى ، أى لعنهم الله ، فأخروا قليلا إيمانهم ، أجازه ابن الحاجب ، ورجح معناه على غيره.

وقوله تعالى (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) ما إما زائدة ، فمن متعلقة بفرطتم ، وإما مصدرية فقيل : موضعها هى وصلتها رفع بالابتداء ، وخبره من قبل ، وردّ بأن الغايات لا تقع أخبارا ولا صلات ولا صفات ولا أحوالا ، نصّ على ذلك سيبويه وجماعة من المحققين ، ويشكل عليهم (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) وقيل : نصب عطفا على أنّ وصلتها ، أى ألم تعلموا أخذ أبيكم الموثق وتفريطكم ، ويلزم على هذا الإعراب الفصل بين العاطف والمعطوف بالظرف وهو ممتنع ، فإن قيل : قد جاء (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) قلنا : ليس هذا من ذلك كما توهم ابن مالك ، بل المعطوف شيئان على شيئين.

وقوله تعالى (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) ما ظرفية ، وقيل : بدل من النساء ، وهو بعيد ، وتقول «اصنع ما صنعت» فما موصولة أو

٣١٧

شرطية ، وعلى هذا فتحتاج إلى تقدير جواب ، فإن قلت «اصنع ما تصنع» أمتنعت الشرطية ؛ لأن شرط حذف الجواب مضىّ فعل الشرط.

وتقول «ما أحسن ما كان زيد» فما الثانية مصدرية ، وكان زيد صلتها ، والجملة مفعول ، ويجوز عند من جوز إطلاق ما على آحاد من يعلم أن تقدرها بمعنى الذى ، وتقدر كان ناقصة رافعة لضميرها وتنصب زيدا على الخبرية ، ويجوز على قوله أيضا أن تكون بمعنى الذى مع رفع زيد ، على أن يكون الخبر ضمير ما ، ثم حذف ، والمعنى ما أحسن الذى كانه زيد ، إلا أن حذف خبر كان ضعيف.

ومما يسأل عنه قول الشاعر فى صفة فرس صافن : أى ثان فى وقوفه إحدى قوائمه :

٥٢٥ ـ ألف الصّفون فما يزال كأنّه

ممّا يقوم على الثّلاث كسيرا

فيقال : كان الظاهر رفع كسيرا خبرا لكأنّ.

والجواب أنه خبر ليزال ، ومعناه كاسر : أى ثان ، كرحيم وقدير ، لا مكسور ضد الصحيح كجريح وقتيل ، وما مصدرية ، وهى وصلتها خبر كأنّ ، أى ألف القيام على الثلاث فلا يزال ثانيا إحدى قوائمه حتى كأنّه مخلوق من قيامه على الثلاث ، وقيل : ما بمعنى الذى وضمير يقوم عائد إليها ، وكسيرا حال من الضمير ، وهو بمعنى مكسور ؛ وكأنّ ومعمولاها خبر يزال ، أى كأنه من الجنس الذى يقوم على الثلاث ، والمعنى الأول أولى.

(من) : تأتى على خمسة عشر وجها :

أحدها : ابتداء الغاية ، وهو الغالب عليها ، حتى ادعى جماعة أن سائر معانيها راجعة إليه ، وتقع لهذا المعنى فى غير الزمان ، نحو (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) قال الكوفيون والأخفش والمبرد وابن درستويه : وفى الزمان أيضا ؛

٣١٨

بدليل (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) وفى الحديث «فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة» وقال النابغة :

٥٢٦ ـ تخيّرن من أزمان يوم حليمة

إلى اليوم ، قد جرّبن كلّ التّجارب

وقيل : التقدير من مضىّ أزمان يوم حليمة ، ومن تأسيس أول يوم ، وردّه السهيلى بأنه لو قيل هكذا لاحتيج إلى تقدير الزمان.

الثانى : التبعيض ، نحو (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) وعلامتها إمكان سد بعض مسدها ، كقراءة ابن مسعود (حتى تنفقوا بعض ما تحبون)

الثالث : بيان الجنس ، وكثيرا ما تقع بعد ما ومهما ، وهما بها أولى ؛ لإفراط إبهامهما نحو (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) (مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ) وهى ومخفوضها فى ذلك فى موضع نصب على الحال ، ومن وقوعها بعد غيرهما (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) الشاهد فى غير الأولى فإن تلك للابتداء ، وقيل : زائدة ، ونحو (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) وأنكر مجىء من لبيان الجنس قوم ، وقالوا : هى فى (مِنْ ذَهَبٍ) و(مِنْ سُنْدُسٍ) للتبعيض ، وفى (مِنَ الْأَوْثانِ) للابتداء ، والمعنى فاجتنبوا من الأوثان الرجس وهو عبادتها ، وهذا تكلف. وفى كتاب المصاحف لابن الأنبارى أن بعض الزنادقة تمسّك بقوله تعالى (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً) فى الطعن على بعض الصحابة ، والحق أن من فيها للتبيين لا للتبعيض ، أى الذين آمنوا هم هؤلاء ومثله (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) وكلهم محسن ومتّق (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) فالمقول فيهم ذلك كلهم كفار.

٣١٩

الرابع : التعليل ، نحو (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) وقوله :

٥٢٧ ـ وذلك من نبإ جاءنى

[وخبّرته عن أبى الأسود]

وقول الفرزدق فى على بن الحسين :

٥٢٨ ـ يغضى حياء ويغضى من مهابته

[فما يكلّم إلّا حين يبتسم]

الخامس : البدل ، نحو (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) (لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) لأن الملائكة لا تكون من الإنس (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أى بدل طاعة الله ، أو بدل رحمة الله «ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» أى لا ينفع ذا الحظ من الدنيا حظه بذلك ، أى بدل طاعتك أو بدل حظك ، أى بدل حظه منك ، وقيل : ضمن ينفع معنى يمنع ، ومتى علّقت من بالجد انعكس المعنى ، وأما (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) فليس من هذا خلافا لبعضهم ، بل من للبيان أو للابتداء ، والمعنى فليس فى شىء من ولاية الله ، وقال ابن مالك فى قول أبى نخيلة :

٥٢٩ ـ [جارية لم تأكل المرققا]

ولم تذق من البقول الفستقا

المراد بدل البقول ، وقال غيره : توهم الشاعر أن الفستق من البقول ، وقال الجوهرى : الرواية «النقول» بالنون ، ومن عليهما للتبعيض ، والمعنى على قول الجوهرى أنها تأكل البقول إلا الفستق ، وإنما المراد أنها لا تأكل إلا البقول ؛ لأنها بدويّة ، وقال الآخر يصف عامل الزكاة بالجور :

٥٣٠ ـ أخذوا المخلض من الفصيل غلبّة

ظلما ، ويكتب للأمير أفيلا

أى بدل الفصيل ، والأفيل : الصغير ؛ لأنه يأفل بين الإبل : أى يغيب ، وانتصاب أفيلا على الحكاية ؛ لأنهم يكتبون «أدى فلان أفيلا» وأنكر قوم مجىء من للبدل

٣٢٠