مغنى اللبيب - ج ١

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري

مغنى اللبيب - ج ١

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات مكتبة الصادق للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٦
الجزء ١ الجزء ٢

أَعْرَضْتُمْ) والثانى (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) والثالث (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) والرابع (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا) وهو مؤول يجادلنا ، وقيل فى آية الفاء : إن الجواب محذوف ، أى انقسموا قسمين فمنهم مقتصد ، وفى آية المضارع إن الجواب (جاءَتْهُ الْبُشْرى) على زيادة الواو ، أو محذوف ، أى أقبل يجادلنا.

ومن مشكل لمّا هذه قول الشاعر :

٤٥٩ ـ أقول لعبد الله لمّا سقاؤنا

ونحن بوادى عبد شمس وهاشم

فيقال : أين فعلاها؟ والجواب أن «سقاؤنا» فاعل بفعل محذوف يفسره وهى بمعنى سقط ، والجواب محذوف تقديره قلت ، بدليل قوله أقول ، وقوله «شم» أمر من قولك «شمت البرق» إذا نظرت إليه ، والمعنى لما سقط سقاؤنا قلت لعبد الله شمه.

والثالث : أن تكون حرف استثناء ؛ فتدخل على الجملة الاسمية ، نحو (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) فيمن شدد الميم ، وعلى الماضى لفظا لا معنى نحو «أنشدك الله لمّا فعلت» أى ما أسألك إلا فعلك ، قال :

٤٦٠ ـ قالت له : بالله يا ذا البردين

لمّا غنثت نفسا أو اثنين

وفيه رد لقول الجوهرى : إنّ لما بمعنى إلا غير معروف فى اللغة.

وتأتى لما مركبة من كلمات ، ومن كلمتين.

فأما المركبة من كلمات فكما تقدم فى (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ) فى قراءة ابن عامر وحمزة وحفص بتشديد نون إنّ وميم لمّا ، فيمن قال : الأصل لمن ما

٢٨١

فأبدلت النون ميما وأدغمت ، فلما كثرت الميمات حذفت الأولى ، وهذا القول ضعيف ؛ لأن حذف مثل هذه الميم استثقالا لم يثبت ، وأضعف منه قول آخر : إن الأصل لمّا بالتنوين بمعنى جمعا ، ثم حذف التنوين إجراء للوصل مجرى الوقف ، لأن استعمال لما فى هذا المعنى بعيد ، وحذف التنوين من المنصرف فى الوصل أبعد ؛ وأضعف من هذا قول آخر : إنه فعلى من اللّمم ، وهو بمعناه ؛ ولكنه منع الصرف لألف التأنيث ، ولم يثبت استعمال هذه اللفظة ، وإذا كان فعلى فهلّا كتب بالياء ، وهلّا أماله من قاعدته الإمالة ، واختار ابن الحاجب أنها لمّا الجازمة حذف فعلها ، والتقدير : لمّا يهملوا ، أو لما يتركوا ؛ لدلالة ما تقدم من قوله تعالى (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) ثم ذكر الأشقياء والسعداء ومجازاتهم ، قال : ولا أعرف وجها أشبه من هذا ، وإن كانت النفوس تستبعده من جهة أن مثله لم يقع فى التنزيل ، والحقّ أن لا يستبعد لذلك ، اه. وفى تقديره نظر ، والأولى عندى أن يقدر «لمّا يوفّوا أعمالهم» أى أنهم إلى الآن لم يوفّوها وسيوفّونها ، ووجه رجحانه أمران ؛ أحدهما : أن بعده (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) وهو دليل على أن التوفية لم تقع بعد وأنها ستقع ، والثانى : أن منفىّ لمّا متوقع الثبوت كما قدمنا ، والإهمال غير متوقع الثبوت.

وأما قراءة أبى بكر بتخفيف (إِنَّ) وتشديد (فَلَمَّا) فتحتمل وجهين ؛ أحدهما : أن تكون مخففة من الثقيلة ، ويأتى فى لما تلك الأوجه ، والثانى : أن تكون أن نافية ، و(كُلا) مفعول بإضمار أرى ، ولما بمعنى إلّا.

وأما قراءة النحويين بتشديد النون وتخفيف الميم وقراءة الحرميين بتخفيفهما فإنّ فى الأولى على أصلها من التشديد ووجوب الإعمال ، وفى الثانية مخففة من الثقيلة ، وأعملت على أحد الوجهين ، واللام من لما فيهما لام الابتداء ، وقيل : أو هى فى قراءة التخفيف الفارقة بين إن النافية والمخففة من الثقيلة ، وليس كذلك ؛ لأن تلك إنما تكون عند تخفيف إن وإهمالها ، وما زائدة للفصل بين اللامين كما زيدت الألف

٢٨٢

للفصل بين الهمزتين فى نحو (أَأَنْذَرْتَهُمْ) وبين النونات فى نحو «اضربنانّ يا نسوة» قيل : وليست موصولة بجملة القسم لأنها إنشائية ، وليس كذلك ؛ لأن الصلة فى المعنى جملة الجواب ، وإنما جملة القسم مسوقة لمجرد التوكيد ، ويشهد لذلك قوله تعالى (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) لا يقال : لعل من نكرة أى لفريق ليبطئن ؛ لأنها حينئذ تكون موصوفة ، وجملة الصفة كجملة الصلة فى اشتراط الخبرية.

وأما المركبة من كلمتين فكقوله :

٤٦١ ـ لمّا رأيت أبا يزيد مقاتلا

أدع القتال وأشهد الهيجاء [ص ٥٢٩ و ٦٩٤]

وهو لغز ، يقال فيه : أين جواب لما؟ وبم انتصب أدع؟ وجواب الأول أن الأصل «لن ما» ثم أدغمت النون فى الميم للتقارب ، ووصلا خطا للالغاز ، وإنما حقهما أن يكتبا منفصلين ، ونظيره فى الإلغاز قوله :

٤٦٢ ـ عافت الماء فى الشّتاء ، فقلنا

برّديه تصادفيه سخينا

فيقال : كيف يكون التبريد سببا لمصادفته سخينا؟ وجوابه أن الأصل «بل رديه» ثم كتب على لفظه للالغاز ، وعن الثانى أن انتصابه بلن ، وما الظرفية وصلتها ظرف له فاصل بينه وبين لن للضرورة ، فيسأل حينئذ : كيف يجتمع قوله لن أدع القتال مع قوله لن أشهد الهيجاء؟ فيجاب بأن أشهد ليس معطوفا على أدع ، بل نصبه بأن مضمرة ، وأن والفعل عطف على القتال ، أى لن أدع القتال وشهود الهيجاء على حد قول ميسون :

*ولبس عباءة وتقرّ عينى* [٤٢٥]

٢٨٣

(لن) : حرف نصب ونفى واستقبال ، وليس أصله وأصل لم لا فأبدلت الألف نونا فى لن وميما فى لم خلافا للفراء ؛ لأن المعروف إنما هو إبدال النون ألفا لا العكس نحو (لَنَسْفَعاً) و(لَيَكُوناً) ولا أصل لن «لا أن» فحذفت الهمزة تخفيفا والألف للساكين خلافا للخليل والكسائى ، بدليل جواز تقديم معمول معمولها عليها نحو «زيدا لن أضرب» خلافا للأخفش الصغير ، وامتناع نحو «زيدا يعجبنى أن تضرب» خلافا للفراء ، ولأن الموصول وصلته مفرد ، ولن أفعل كلام تام ، وقول المبرد إنه مبتدأ حذف خبره أى لا الفعل واقع مردود بأنه لم ينطق به مع أنه لم يسد شىء مسدّه ، بخلاف نحو «لو لا زيد لأكرمتك» وبأن الكلام تام بدون المقدر ، وبأنّ لا الداخلة على الجملة الاسمية واجبة التكرار إذا لم تعمل ، ولا التفات له فى دعوى عدم وجوب ذلك ؛ فإن الاستقراء يشهد بذلك.

ولا تفيد لن توكيد النفى خلافا للزمخشرى فى كشافه ، ولا تأبيده خلافا له فى أنموذجه ، وكلاهما دعوى بلا دليل ، قيل : ولو كانت للتأييد لم يقيد منفيها باليوم فى (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) ولكان ذكر الأبد فى (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) تكرارا ، والأصل عدمه.

وتأتى للدعاء كما أتت لا لذلك وفاقا لجماعة منهم ابن عصفور ، والحجة فى قوله :

٤٦٣ ـ لن تزالوا كذلكم

ثمّ لازلت لكم خالدا خلود الجبال

وأما قوله تعالى (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) فقيل : ليس منه ؛ لأن فعل الدعاء لا يسند إلى المتكلم ، بل إلى المخاطب أو الغائب ، نحو «يا ربّ لا عذّبت فلانا» ونحو «لا عذّب الله عمرا» اه ويرده قوله :

*ثم لا زلت لكم خالدا خلود الجبال* [٤٦٣]

وتلقّى القسم بها وبلم نادر حدا ، كقول أبى طالب :

٢٨٤

٤٦٤ ـ والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتّى أوسّد فى التّراب دفينا [ص ٦١٨]

وقيل لبعضهم : ألك بنون؟ فقال : نعم ، وخالقهم لم تقم عن مثلهم منجبة ، ويحتمل هذا أن يكون على حذف الجواب ، أى إنّ لى لبنين ، ثم استأنف جملة النفى.

وزعم بعضهم أنها قد تجزم كقوله :

٤٦٥ ـ [أيادى سبايا عزّما كنت بعدكم]

فلن يحل للعينين بعدك منظر

وقوله :

٤٦٦ ـ لن يخب الآن من رجائك من

حرّك من دون بابك الحلقه

[ص ٦٩٨]

والأول محتمل للاجتزاء بالفتحة عن الألف للضرورة.

(ليت) : حرف تمنّ يتعلق بالمستحيل غالبا ، كقوله :

٤٦٧ ـ فياليت الشّباب يعود يوما

فأخبره بما فعل المشيب

وبالممكن قليلا.

وحكمه أن ينصب الاسم ويرفع الخبر ، قال الفراء وبعض أصحابه : وقد ينصبهما كقوله :

٤٦٨ ـ *يا ليت أيّام الصّبا رواجعا*

وبنى على ذلك ابن المعتز قوله :

٤٦٩ ـ مرّت بنا سحرا طير ، فقلت لها :

طوباك ، يا ليتنى إيّاك ، طوباك

والأول عندنا محمول على حذف الخبر ، وتقديره أقبلت ، لا تكون ، خلافا للكسائى لعدم تقدم إن ولو الشرطيتين ، ويصح بيت ابن المعتز على إنابة ضمير النصب عن ضمير الرفع.

٢٨٥

وتقترن بها ما الحرفية فلا تزيلها عن الاختصاص بالأسماء ، لا يقال «ليتما قام زيد» خلافا لابن أبى الربيع وطاهر القزوينى ، ويجوز حينئذ إعمالها لبقاء الاختصاص ، وإهمالها حملا على أخواتها ، ورووا بالوجهين قول النابغة :

قالت : ألا ليتما هذا الحمام لنا

إلى حمامتنا أو نصفه فقد [٩٢]

ويحتمل أن الرفع على أن «ما» موصولة ، وأن الإشارة خبر لهو محذوفا ، أى ليت الذى هو هذا الحمام لنا ؛ فلا يدلّ حينئذ على الإهمال ، ولكنه احتمال مرجوح ، لأن حذف العائد المرفوع بالابتداء فى صلة غير أىّ مع عدم طول الصلة قليل ، ويجوز «ليتما زيدا ألقاه» على الإعمال ، ويمتنع على إضمار فعل على شريطة التفسير.

(لعل) : حرف ينصب الاسم ويرفع الخبر ، قال بعض أصحاب الفراء : وقد ينصبهما ، وزعم يونس أن ذلك لغة لبعض العرب وحكى «لعل أباك منطلقا» وتأويله عندنا على إضمار يوجد ، وعند الكسائى على إضمار يكون.

وقد مر أن عقيلا يخفضون بها المبتدأ كقوله :

٤٧٠ ـ [فقلت : ادع أخرى وارفع الصّوت جهرة]

لعلّ أبى المغوار منك قريب [ص ٤٤١]

وزعم الفارسى أنه لا دليل فى ذلك ؛ لأنه يحتمل أن الأصل «لعله لأبى المغوار منك جواب قريب» فحذف موصوف قريب ، وضمير الشأن ، ولام لعل الثانية تخفيفا ، وأدغم الأولى فى لام الجر ، ومن ثم كانت مكسورة ، ومن فتح فهو على لغة من يقول «المال لزيد» بالفتح ، وهذا تكلف كثير ، ولم يثبت تخفيف لعل ، ثم هو محجوج بنقل الأئمّة أن الجر بلعل لغة قوم بأعيانهم.

واعلم أن مجرور لعل فى موضع رفع بالابتداء لتنزيل لعل منزلة الجار الزائد نحو «بحسبك درهم» بجامع ما بينهما من عدم التعلق بعامل ، وقوله «قريب» هو خبر ذلك المبتدأ ، ومثله «لولاى لكان كذا» على قول سيبويه إن لو لا جارة ،

٢٨٦

وقولك «ربّ رجل يقول ذلك» ونحوه قوله :

٤٧١ ـ [فكيف إذا مررت بدار قوم]

وجيران لنا كانوا كرام

على قول سيبويه إن «كان» زائدة ، وقول الجمهور إن الزائد لا يعمل شيئا ، فقيل : الأصل «هم لنا» ثم وصل الضمير بكان الزائدة إصلاحا للفظ ؛ لئلا يقع الضمير المرفوع المنفصل إلى جانب الفعل ، وقيل : بل الضمير توكيد للمستتر فى لنا على أن لنا صفة لجيران ، ثم وصل لما ذكر ، وقيل : بل هو معمول لكان بالحقيقة ، فقيل : على أنها ناقصة ولنا الخبر ، وقيل : بل على أنها زائدة وأنها تعمل فى الفاعل كما يعمل فيه العامل الملغى نحو «زيد ظننت عالم».

وتتصل بلعل «ما» الحرفية فتكفها عن العمل ؛ لزوال اختصاصها حينئذ ، بدليل قوله :

٤٧٢ ـ [أعد نظرا يا عبد قيس] لعلّما

أضاءت لك النّار الحمار المقيّدا

[ص ٢٨٨]

وجوّز قوم إعمالها حينئذ حملا على ليت ؛ لاشتراكهما فى أنهما يغيّران معنى الابتداء ، وكذا قالوا فى كأنّ ، وبعضهم خصّ لعلّ بذلك ، لأشدّيّة التشابه لأنها وليت للانشاء ، وأما كأن فللخبر.

قيل : وأوّل لحن سمع بالبصرة «لعلّ لها عذر وأنت تلوم» وهذا محتمل لتقدير ضمير الشأن كما تقدم فى «إنّ من أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة المصوّرون».

وفيها عشر لغات مشهورة ، ولهما معان :

أحدها : التوقع ، وهو : ترجّى المحبوب والإشفاق من المكروه ، نحو «لعل الحبيب قادم (١) ، ولعل الرقيب حاصل» وتختص بالممكن ، وقول فرعون (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ) إنما قاله جهلا أو مخرقة وإفكا.

__________________

(١) فى نسخة «الحبيب يقدم».

٢٨٧

الثانى : التعليل ، أثبته جماعة منهم الأخفش والكسائى ، وحملوا عليه (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) ومن لم يثبت ذلك يحمله على الرجاء ، ويصرفه للمخاطبين ، أى اذهبا على رجائكما.

الثالث : الاستفهام ، أثبته الكوفيون ، ولهذا علّق بها الفعل فى نحو (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) ونحو (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) قال الزمخشرى : وقد أشرتها معنى ليت من قرأ (فَاطَّلَعَ) اه. وفى الآية بحث سيجىء.

ويقترن خبرها بأن كثيرا حملا على عسى كقوله :

٤٧٣ ـ لعلّك يوما أن تلمّ ملمّة

[عليك من الّلائى يدعنك أجدعا]

وبحرف التنفيس قليلا كقوله :

٤٧٤ ـ فقولا لها قولا رقيقا لعلّها

سترحمنى من زفرة وعويل

وخرج بعضهم نصب (فَاطَّلَعَ) على تقدير أن مع أبلغ كما خفص المعطوف من بيت زهير :

بدا لى أنّى لست مدرك ما مضى

ولا سابق شيئا إذا كان جائيا [١٣٥]

على تقدير الباء مع مدرك.

ولا يمتنع كون خبرها فعلا ماضيا خلافا للحريرى ، وفى الحديث «وما يدريك لعلّ الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» وقال الشاعر :

٤٧٥ ـ وبدّلت قرحا داميا بعد صحّة

لعلّ منايانا تحوّلن أبؤسا

وأنشد سيبويه :

أعد نظرا يا عبد قيس لعلّما

أضاءت لك النّار الحمار المقيّد [٤٧٢]

٢٨٨

فإن اعترض بأن لعل هنا مكفوفة بما ، فالجواب أن شبهة المانع أن لعل للاستقبال فلا تدخل على الماضى ، ولا فرق على هذا بين كون الماضى معمولا لها أو معمولا لما فى حيّزها ، ومما يوضح بطلان قوله ثبوت ذلك فى خبر ليت وهى بمنزلة لعل نحو (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ).

تنبيه ـ من مشكل باب ليت وغيره قول يزيد بن الحكم :

٤٧٦ ـ فليت كفافا كان خيرك كلّه

وشرّك عنّى ما ارتوى الماء مرتوى

وإشكاله من أوجه ، أحدها : عدم ارتباط خبر ليت باسمها ؛ إذ الظاهر أن كفافا اسم ليت ، وأنّ كان تامة ، وأنها وفاعلها الخبر ، ولا ضمير فى هذه الجملة. والثانى : تعليقه عن بمرتو. والثالث : إيقاعه الماء فاعلا بارتوى ، وإنما يقال : ارتوى الشارب.

والجواب عن الأول أن كفافا إنما هو خبر لكان مقدم عليها وهو بمعنى كافّ ، واسم ليت محذوف للضرورة ، أى فليتك أو فليته : أى فليت الشأن ، ومثله قوله :

٤٧٧ ـ فليت دفعت الهمّ عنّى ساعة

[فبتنا على ما خيّلت ناعمى بال]

وخيرك : اسم كان ، وكله : توكيد له ، والجملة خبر ليت ، وأما «وشرك» فيروى بالرفع عطفا على «خيرك» فخبره إما محذوف تقديره كفافا ، فمرتو : فاعل بارتوى ، وإما مرتو على أنه سكن للضرورة كقوله :

٤٧٨ ـ ولو أنّ واش باليمامة داره

ودارى بأعلى حضرموت اهتدى ليا

وروى بالنصب : إما على أنه اسم لليت محذوفة ، وسهل حذفها تقدم ذكرها ، كما سهل ذلك حذف كل وبقاء الخفض فى قوله :

٢٨٩

٤٧٩ ـ أكلّ امرىء تحسبين امرأ

ونار توقّد بالّليل نارا

وإما على العطف على اسم ليت المذكورة إن قدر ضمير المخاطب ، فأما ضمير الشأن فلا يعطف عليه لو ذكر فكيف وهو محذوف ، ومرتوى على الوجهين مرفوع : إما لأنه خبر ليت المحذوفة ، او لأنه عطف على خبر ليت المذكورة.

وعن الثانى بأنه ضمن مرتو معنى كافّ ؛ لأن المرتوى يكفّ عن الشرب ، كما جاء (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) لأن يخالفون فى معنى يعدلون ويخرجون ، وإن علّقته بكفافا محذوفا على وجه مرّ ذكره فلا إشكال.

وعن الثالث أنه إما على حذف مضاف أى شارب الماء ، وإما على جعل الماء مرتويا مجازا كما جعل صاديا فى قوله :

٤٨٠ ـ *وجبت هجيرا يترك الماء صاديا*

ويروى «الماء» بالنصب على تقدير من كما فى قوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) ففاعل ارتوى على هذا مرتو ، كما تقول : ما شرب الماء شارب.

(لكنّ) مشددة النون ـ حرف ينصب الاسم ويرفع الخبر ، وفى معناها ثلاثة أقوال :

أحدها ، وهو المشهور : أنه واحد ، وهو الاستدراك ، وفسّر بأن تنسب لما بعدها حكما مخالفا لحكم ما قبلها ، ولذلك لا بد أن يتقدمها كلام مناقض لما بعدها نحو «ما هذا ساكنا لكنه متحرك» أو ضد له نحو «ما هذا أبيض لكنه أسود» قيل : أو خلاف نحو «ما زيد قائما ، لكنه شارب» وقيل : لا يجوز ذلك.

والثانى : أنها ترد تارة للاستدراك وتارة للتوكيد ، قاله جماعة منهم صاحب

٢٩٠

البسيط ، وفسروا الاستدراك برفع ما يتوهّم ثبوته نحو «ما زيد شجاعا ، لكنه كريم» لأن الشجاعة والكرم لا يكادان يفترقان ؛ فنفى أحدهما يوهم انتفاء الآخر ، و «ما قام زيد ، لكنّ عمرا قام» وذلك إذا كان بين الرجلين تلابس أو تماثل فى الطريقة ، ومثلوا للتوكيد بنحو «لو جاءنى أكرمته لكنه لم يجىء» فأكدت ما أفادته لو من الامتناع.

والثالث : أنها للتوكيد دائما مثل إنّ ، ويصحب التوكيد معنى الاستدراك ، وهو قول ابن عصفور ، قال فى المقرب : إنّ وأنّ ولكنّ ، ومعناها التوكيد ، ولم يزد على ذلك ، وقال فى الشرح : معنى لكن التوكيد ، وتعطى مع ذلك الاستدراك ، اه.

والبصريون على أنها بسيطة ، وقال الفراء : أصلها لكن أنّ ، فطرحت الهمزة للتخفيف ، ونون لكن للساكنين ، كقوله :

٤٨١ ـ [فلست بآتيه ولا أستطيعه]

ولاك اسقنى إن كان ماؤك ذا فضل (١)

وقال باقى الكوفيين : مركبة من : لا ، وإنّ ، والكاف الزائدة لا التشبيهية ، وحذفت الهمزة تخفيفا

وقد يحذف اسمها كقوله :

٤٨٢ ـ فلو كنت ضبّيّا عرفت قرابتى

ولكنّ زنجىّ عظيم المشافر

أى ولكنّك زنجى ، وعليه بيت المتنبى :

٤٨٣ ـ وما كنت ممّن يدخل العشق قلبه

ولكنّ من يبصر جفونك يعشق [ص ٦٠٥]

وبيت الكتاب :

__________________

(١) أصله «ولكن اسقنى» والأصل أن يتخلص من التقاء الساكنين بكسر نون لكن ، فلما لم يتيسر ذلك له حذف أول الساكنين ، وهو نون لكن.

٢٩١

٤٨٤ ـ ولكنّ من لا يلق أمرا ينوبه

بعدّته ينزل به وهو أعزل

ولا يكون الاسم فيهما من ؛ لأن الشرط لا يعمل فيه ما قبله

ولا تدخل اللام فى خبرها خلافا للكوفيين ، احتجوا بقوله :

*ولكنّنى من حبّها لعميد* [٣٨٣]

ولا يعرف له قائل ، ولا تتمة ، ولا نظير ، ثم هو محمول على زيادة اللام ، أو على أن الأصل «لكن أننى» ثم حذفت الهمزة تخفيفا ونون لكن للساكنين.

(لكن) ساكنة النون ـ ضربان : مخففة من الثقيلة ، وهى حرف ابتداء ، لا يعمل خلافا للأخفش ويونس ؛ لدخولها بعد التخفيف على الجملتين ، وخفيفة بأصل الوضع ، فإن وليها كلام فهى حرف ابتداء لمجرد إفادة الاستدراك ، وليست عاطفة ، ويجوز أن تستعمل بالواو ، نحو (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) وبدونها نحو قول زهير :

٤٨٥ ـ إنّ ابن ورقاء لا تخشى بوادره

لكن وقائعه فى الحرب تنتظر

وزعم ابن أبى الربيع أنها حين اقترانها بالواو عاطفة جملة على جملة ، وأنه ظاهر قول سيبويه ، وإن وليها مفرد فهى عاطفة بشرطين ؛ أحدهما : أن يتقدمها نفى أو نهى ، نحو «ما قام زيد لكن عمرو ، ولا يقم زيد لكن عمرو» فإن قلت «قام زيد» ثم جئت بلكن جعلتها حرف ابتداء فجئت بالجملة فقلت «لكن عمرو لم يقم» وأجاز الكوفيون «لكن عمرو» على العطف ، وليس بمسموع. الشرط الثانى : أن لا تقترن بالواو ، قاله الفارسى وأكثر النحويين ، وقال قوم : لا تستعمل مع المفرد إلا بالواو.

واختلف فى نحو «ما قام زيد ولكن عمرو» على أربعة أقوال ؛ أحدها

٢٩٢

ليونس : إن لكن غير عاطفة ، والواو عاطفة مفردا على مفرد ، الثانى لابن مالك : إن لكن غير عاطفة والواو عاطفة لجملة حذف بعضها على جملة صرح بجميعها ، قال : فالتقدير فى نحو «ما قام زيد ولكن عمرو» ولكن قام عمرو ، وفى (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) ولكن كان رسول الله ، وعلة ذلك أن الواو لا تعطف مفردا على مفرد مخالف له فى الإيجاب والسلب ، بخلاف الجملتين المتعاطفتين فيجوز تخالفهما فيه : نحو «قام زيد ولم يقم عمرو» والثالث لابن عصفور : إن لكن عاطفة ، والواو زائدة لازمة. والرابع لابن كيسان : إن لكن عاطفة ، والواو زائدة غير لازمة.

وسمع «ما مررت برجل صالح ولكن طالح» بالخفض ، فقيل : على العطف ، وقيل : بجار مقدر ، أى لكن مررت بطالح ، وجاز إبقاء عمل الجار بعد حذفه لقوّة الدلالة عليه بتقدم ذكره.

(ليس) : كلمة دالة على نفى الحال ، وتنفى غيره بالقرينة ، نحو «ليس خلق الله مثله» وقول الأعشى :

٤٨٦ ـ له نافلات ما يغبّ نوالها

وليس عطاء اليوم مانعه غدا

وهى فعل لا يتصرف ، وزنه فعل بالكسر ، ثم التزم تخفيفه (١) ، ولم نقدره فعل بالفتح لأنه لا يخفف ، ولا فعل بالضم لأنه لم يوجد فى يائى العين إلا فى هيؤ ، وسمع «لست» بضم اللام ؛ فيكون على هذه اللغة كهيؤ.

وزعم ابن السراج أنه حرف بمنزلة ما ، وتابعه الفارسى فى الحلبيات وابن شقير وجماعة ، والصواب الأول ، بدليل لست ولستما ولستنّ وليسا وليسوا وليست ولسن.

وتلازم رفع الاسم ونصب الخبر ، وقيل : قد تخرج عن ذلك فى مواضع :

__________________

(١) تخفيفه : بتسكين عينه وهى الياء ، وإنما يخفف على هذا الوجه مكسور العين أو مضمومها.

٢٩٣

أحدها : أن تكون حرفا ناصبا للمستثنى بمنزلة إلا نحو «أتونى ليس زيدا» والصحيح أنها الناسخة ، وأن اسمها ضمير راجع للبعض المفهوم مما تقدم ، واستتاره واجب ؛ فلا يليها فى اللفظ إلا المنصوب ، وهذه المسألة كانت سبب قراءة سيبويه للنحو (١) ، وذلك أنه جاء إلى حمّاد بن سلمة لكتابة الحديث ، فاستملى منه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ليس من أصحابى أحد إلا ولو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدّوداء» فقال سيبويه : ليس أبو الدرداء ، فصاح به حماد : لحنت يا سيبويه ، إنما هذا استثناء ، فقال سيبويه : والله لأطلبنّ علما لا يلحننى معه أحد ، ثم مضى ولزم الخليل وغيره.

والثانى : أن يقترن الخبر بعدها بإلّا نحو «ليس الطّيب إلا المسك» بالرفع ، فإن بنى تميم يرفعونه حملا لها على ما فى الإهمال عند انتقاض النفى ، كما حمل أهل الحجاز ما على ليس فى الإعمال عند استيفاء شروطها ، حكى ذلك عنهم أبو عمرو بن العلاء ، فبلغ ذلك عيسى بن عمر الثقفى ، فجاءه فقال [له] : يا أبا عمرو ما شىء بلغنى عنك؟ ثم ذكر ذلك له ، فقال له أبو عمرو : نمت وأدلج الناس ، ليس فى الأرض تميمىّ إلا وهو يرفع ، ولا حجازى إلا وهو ينصب ، ثم قال لليزيدى ولخلف الأحمر : اذهبا إلى أبى مهدى فلقناه الرفع فإنه لا يرفع ، وإلى المنتجع التميمى فلقناه النصب فإنه لا ينصب ، فأتياهما وجهدا بكل منهما أن يرجع عن لغته فلم يفعل ، فأخبرا أبا عمرو وعنده عيسى ، فقال له عيسى : بهذا فقت الناس.

وخرّج الفارسىّ ذلك على أوحه :

أحدها : أن فى «ليس» ضمير الشأن ، ولو كان كما زعم لدخلت إلا على أول الجملة الاسمية الواقعة خبرا فقيل : ليس إلا الطيب المسك ، كما قال :

__________________

(١) فى نسخة «سببا فى قراءة سيبويه النحو».

٢٩٤

٤٨٧ ـ ألا ليس إلّا ما قضى الله كائن

وما يستطيع المرء نفعا ولا ضرّا

وأجاب بأن إلّا قد توضع فى غير موضعها مثل (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) وقوله :

٢٨٨ ـ *وما اغترّه الشّيب إلّا اغترارا*

أى إن نحن إلا نظن ظنا ، وما اغتره اغترارا إلا الشيب ؛ لأن الاستثناء المفرغ لا يكون فى المفعول المطلق التوكيدى ؛ لعدم الفائدة فيه. وأجيب بأن المصدر فى الآية والبيت نوعىّ على حذف الصفة ، أى إلا ظنا ضعيفا وإلا اغترارا عظيما.

والثانى : أن الطيب اسمها ، وأن خبرها محذوف ، أى فى الوجود ، وأن المسك بدل من اسمها.

الثالث : أنه كذلك ، ولكن «إلا المسك» نعت للاسم ؛ لأن تعريفه تعريف الجنس [فهو نكرة معنى] أى ليس طيب غير المسك طيبا.

ولأبى نزار الملقب بملك النحاة توجيه آخر ، وهو أن الطيب اسمها ، والمسك مبتدأ حذف خبره ، والجملة خبر ليس ، والتقدير : إلا المسك أفخره.

وما تقدم من نقل أبى عمرو أن ذلك لغة تميم يردّ هذه التأويلات.

وزعم بعضهم عن قائل ذلك أنه قدرها حرفا ، وأن من ذلك قولهم «ليس خلق الله مثله» وقوله :

٤٨٩ ـ هى الشّفاء لدائى لو ظفرت بها

وليس منها شفاء النّفس مبذول

ولا دليل فيهما : لجواز كون ليس فيهما شانية.

الموضع الثالث : أن تدخل على الجملة الفعلية ، أو على المبتدأ والخبر مرفوعين كما مثلنا ، وقد أجبنا عن ذلك.

٢٩٥

الرابع : أن تكون حرفا عاطفا ، أثبت ذلك الكوفيون أو البغداديون ، على خلاف بين النّقلة ، واستدلوا بنحو قوله :

٤٩٠ ـ أين المفرّ والإله الطّالب

والأشرم المغلوب ليس الغالب

وخرج على أن «الغالب» اسمها والخبر محذوف ؛ قال ابن مالك : وهو فى الأصل ضمير متصل عائد على الأشرم ، أى ليسه الغالب ، كما تقول «الصديق كانه زيد» ثم حذف لاتصاله. ومقتضى كلامه أنه لو لا تقديره متصلا لم يجز حذفه ، وفيه نظر.

حرف الميم

(ما) : تأتى على وجهين : اسمية ، وحرفية ، وكل منهما ثلاثة أقسام.

فأما أوجه الاسمية.

فأحدها : أن تكون معرفة ، وهى نوعان : ناقصة ، وهى الموصولة ، نحو (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) وتامة ، وهى نوعان : عامة أى مقدرة بقولك الشىء ، وهى التى لم يتقدّمها اسم تكون هى وعاملها صفة له فى المعنى نحو (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) أى فنعم الشىء هى ، والأصل فنعم الشىء إبداؤها ؛ لأن الكلام فى الإبداء لا فى الصدقات ، ثم حذف المضاف وأنيب عنه المضاف إليه ، فانفصل وارتفع وخاصة هى التى تقدمها ذلك ، وتقدر من لفظ ذلك الاسم نحو «غسلته غسلا نعمّا» و «دققته دقا نعمّا» أى نعم الغسل ونعم الدق ، وأكثرهم لا يثبت مجىء ما معرفة تامة ، وأثبته جماعة منهم ابن خروف ونقله عن سيبويه.

والثانى : أن تكون نكرة مجردة عن معنى الحرف ، وهى أيضا نوعان : ناقصة ، وتامة.

٢٩٦

فالناقصة هى الموصوفة ، وتقدر بقولك شىء كقولهم «مررت بما معجب لك» أى بشىء معجب لك ، وقوله :

٤٩١ ـ لما نافع يسعى اللبيب ؛ فلا تكن

لشىء بعيد نفعه الدّهر ساعيا

وقول الآخر :

٤٩٢ ـ ربّما تكره النّفوس من الأم

ر له فرجة كحلّ العقال

أى رب شىء تكرهه النفوس ، فحذف العائد من الصفة إلى الموصوف. ويجوز أن تكون ما كافة ، والمفعول المحذوف اسما ظاهرا ، أى قد تكره النفوس من الأمر شيئا ، أى وصفا فيه ، أو الأصل : أمرا من الأمور (١) ، وفى هذا إنابة المفرد عن الجمع ، وفيه وفى الأول إنابة الصفة غير المفردة عن الموصوف ؛ إذ الجملة بعده صفة له ، وقد قيل فى (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) : إن المعنى نعم هو شيئا يعظكم به ، فما نكرة تامة تمييز ، والجملة صفة ، والفاعل مستتر ، وقيل : ما معرفة موصولة فاعل ، والجملة صلة ، وقيل غير ذلك ، وقال سيبويه فى (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) : المراد شىء لدى عتبد ، أى معدّ أى لجهنم بإغوائى إياه ، أو حاضر ، والتفسير الأول رأى الزمخشرى ، وفيه أن «ما» حينئذ للشخص العاقل ، وإن قدرت «ما» موصولة فعتيد بدل منها ، أو خبر ثان ، أو خبر لمحذوف.

والتامة تقع فى ثلاثة أبواب :

أحدها : التعجب ، نحو «ما أحسن زيدا» المعنى شىء حسّن زيدا ، جزم بذلك جميع البصريين ، إلا الأخفش فجوزه ، وجوز أن تكون معرفة موصولة والجملة بعدها صلة لا محل لها ، وأن تكون نكرة موصوفة والجملة بعدها فى موضع رفع نعتا لها ، وعليهما فخبر المبتدأ محذوف وجوبا ، وتقديره شىء عظيم ونحوه.

__________________

(١) فى نسخة «من الأمور أمرا».

٢٩٧

الثانى : باب نعم وبئس ، نحو «غسلته غسلا نعمّا ، ودققته دقّا نعمّا» أى نعم شيئا ، فما : نصب على التمييز عند جماعة من المتأخرين منهم الزمخشرى ، وظاهر كلام سيبويه أنها معرفة تامة كامر.

والثالث : قولهم إذا أرادوا المبالغة فى الإخبار عن أحد بالإكثار من فعل كالكتابة «إنّ زيدا ممّا أن يكتب» أى أنه من أمر كتابة ، أى أنه مخلوق من أمر وذلك الأمر هو الكتابة ، فما بمعنى شىء ، وأن وصلتها فى موضع خفض بدل منها ، والمعنى بمنزلته فى (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) جعل لكثرة عجلته كأنه خلق منها ، وزعم السيرافى وابن خروف وتبعهما ابن مالك ونقله عن سيبويه أنها معرفة تامة بمعنى الشىء أو الأمر ، وأن وصلتها مبتدأ ، والظرف خبره ، والجملة خبر لإنّ ، ولا يتحصل للكلام معنى طائل على هذا التقدير.

والثالث : أن تكون نكرة مضمنة معنى الحرف ، وهى نوعان :

أحدهما : الاستفهامية ، ومعناها أى شىء ، نحو (ما هِيَ) (ما لَوْنُها) (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ) (قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) وذلك على قراءة أبى عمرو (آلسحر) بمد الألف ، فما : مبتدأ ، والجملة بعدها خبر ، وآلسحر : إما بدل من ما ، ولهذا قرن بالاستفهام ، وكأنه قيل : آلسحر جئتم به ، وإما بتقدير أهو السحر ، أو آلسحر هو ، وأما من قرأ (السِّحْرُ) على الخبر فما موصولة ، والسحر خبرها ، ويقويه قراءة عبد الله (ما جئتم به سحر).

ويجب حذف ألف ما الاستفهامية إذا جرّت وإبقاء الفتحة دليلا عليها ، نحو فيم وإلام وعلام [وبم] وقال :

٤٩٣ ـ فتلك ولاة السّوء قد طال مكثهم

فحتّام حتّام العفاء المطوّل؟

وربما تبعت الفتحة الألف فى الحذف ، وهو مخصوص بالشعر ، كقوله :

٢٩٨

٤٩٤ ـ يا أبا الأسود لم خلفتنى

لهموم طارقات وذكر

وعلة حذف الألف الفرق بين الاستفهام والخبر ؛ فلهذا حذفت فى نحو (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) وثبتت فى (لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) وكما لا تحذف الألف فى الخبر لا تثبت فى الاستفهام ، وأما قراءة عكرمة وعيسى (عما يتساءلون) فنادر ، وأما قول حسان :

٤٩٥ ـ على ما قام يشتمنى لئيم

كخنزير تمرّغ فى دمان

فضرورة ، والدمان كالرماد وزنا ومعنى ، ويروى «فى رماد» فلذلك رجحته على تفسير ابن الشجرى له بالسرجين ، ومثله قول الآخر :

٤٩٦ ـ إنّا قتلنا بقتلانا سراتكم

أهل اللّواء ففيما يكثر القيل

ولا يجوز حمل القراءة المتواترة على ذلك لضعفه ؛ فلهذا ردّ الكسائى قول المفسرين فى (بِما غَفَرَ لِي رَبِّي) إنها استفهامية ، وإنما هى مصدرية ، والعجب من الزمخشرى إذ جوز كونها استفهامية مع رده على من قال فى (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) إن المعنى بأى شىء أغويتنى بأن إثبات الألف قليل شاذ ، وأجاز هو وغيره أن تكون بمعنى الذى ، وهو بعيد ؛ لأن الذى غفر له هو الذنوب ، ويبعد إرادة الاطلاع عليها ، وإن غفرت ، وقال جماعة منهم الإمام فخر الدين فى (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) إنها للاستفهام التعجبى ، أى فبأى رحمة ، ويردّه ثبوت الألف ، وأن خفض رحمة حينئذ لايتجه ؛ لأنها لا تكون بدلا من ما ؛ إذ المبدل من اسم

٢٩٩

الاستفهام يجب اقترانه بهمزة الاستفهام نحو «ما صنعت أخيرا أم شرّا» ولأن ما النكرة الواقعة فى غير الاستفهام والشرط لا تستغنى عن الوصف ، إلا فى بابى التعجب ونعم وبئس ، وإلا فى نحو قولهم «إنّى ممّا أن أفعل» على خلاف فيهن ، وقد مرّ ، ولا عطف بيان ؛ لهذا ؛ ولأن ما الاستفهامية لا توصف ، وما لا يوصف كالضمير لا يعطف عليه عطف بيان ، ولا مضافا إليه ؛ لأن أسماء الاستفهام وأسماء الشرط والموصولات لا يضاف منها غير أىّ باتفاق ، وكم فى الاستفهام عند الزجاج فى نحو «بكم درهم اشتريت» والصحيح أن جره بمن محذوفة.

وإذا ركبت ما الاستفهامية مع ذا لم تحذف ألفها نحو «لماذا جئت» لأن ألفها قد صارت حشوا.

وهذا فصل عقدته [فى] لماذا

اعلم أنها تأتى فى العربية على أوجه :

أحدها : أن تكون ما استفهامية وذا إشارة نحو «ما ذا التّوانى؟» و «ما ذا الوقوف؟».

والثانى : أن تكون ما استفهامية وذا موصولة ، كقول لبيد :

٤٩٧ ـ ألا تسألان المرء ما ذا يحاول

أنحبّ فيقضى أم ضلال وباطل؟

فما مبتدأ ، بدليل إبداله المرفوع منها ، وذا : موصول ، بدليل افتقاره للجملة بعده ، وهو أرجح الوجهين فى (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) فيمن رفع العفو ، أى الذى ينفقونه العفو ؛ إذا الأصل أن تجاب الاسمية بالاسمية والفعلية بالفعلية.

٣٠٠