مغنى اللبيب - ج ١

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري

مغنى اللبيب - ج ١

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات مكتبة الصادق للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٦
الجزء ١ الجزء ٢

إذ لا مجازاة هنا ضرورة».

والأكثر أن تكون جوابا لإن أو لو مقدرتين أو ظاهرتين ؛ فالأول كقوله :

١٩ ـ لئن عادلى عبد العزيز بمثلها

وأمكننى منها إذا لا أقيلها

وقول الحماسى :

٢٠ ـ لو كنت من مازن لم تستبح إبلى

بنو اللّقيطة من ذهل بن شيبانا [ص ٢٥٧]

إذا لقام بنصرى معشر خشن

عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا

فقوله «إذا لقام بنصرى» بدل من «لم تستبح» وبدل الجواب جواب ، والثانى نحو أن يقال : آتيك ، فتقول : «إذن أكرمك» أى : إن أتيتنى إذن أكرمك ، وقال الله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ ، إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) قال الفراء : حيث جاءت بعدها اللام فقبلها لو مقدرة ، إن لم تكن ظاهرة.

المسألة الثالثة : فى لفظها عند الوقف عليها ، والصحيح أن نونها تبدل ألفا ، تشبيها لها بتنوين المنصوب ، وقيل : يوقف بالنون ، لأنها كنون لن وإن ، روى عن المازنى والمبرد ، وينبنى على الخلاف فى الوقف عليها خلاف فى كتابتها ؛ فالجمهور يكتبونها بالألف ، وكذا رسمت فى المصاحف ، والمازنىّ والمبرد بالنون ، وعن الفراء إن عملت كتبت بالألف ، وإلّا كتبت بالنون ؛ للفرق بينها وبين إذا ، وتبعه ابن خروف.

المسألة الرابعة : فى عملها ، وهو نصب المضارع ، بشرط تصديرها ، واستقباله ، واتصالهما أو انفصالهما بالقسم أو بلا النافية ، يقال : آتيك ، فتقول «إذن أكرمك» ولو قلت «أنا إذن» قلت «أكرمك» بالرفع ؛ لفوات التصدير ، فأما قوله :

٢١

٢١ ـ لا تتركنّى فيهم شطيرا

إنّى إذا أهلك أو أطيرا

فمؤول على حذف خبر إنّ ، أى إنّى لا أقدر على ذلك ، ثم استأنف ما بعده ، ولو قلت «إذا يا عبد الله» قلت : «أكرمك» بالرفع ؛ للفصل بغير ما ذكرنا ، وأجاز ابن عصفور الفصل بالظرف ، وابن بابشاذ الفصل بالنداء وبالدعاء ، والكسائى وهشام الفصل بمعمول الفعل ، والأرجح حينئذ عند الكسائى النصب ، وعند هشام الرفع ، ولو قيل لك «أحبك» فقلت «إذن أظنك صادقا» رفعت ؛ لأنه حال.

تنبيه ـ قال جماعة من النحويين : إذا وقعت إذن بعد الواو أو الفاء جاز فيها الوجهان ، نحو (وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) (فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) وقرىء شاذا بالنصب فيهما ، والتحقيق أنه إذا قيل : «إن تزرنى أزرك وإذن أحسن إليك» فإن قدّرت العطف على الجواب جزمت وبطل عمل إذن لوقوعها حشوا ، أو على الجملتين جميعا جاز الرفع والنصب لتقدم العاطف ، وقيل : يتعين النصب ؛ لأن ما بعدها مستأنف ، أو لأن المعطوف على الأول أول ومثل ذلك «زيد يقوم وإذن أحسن إليه» إن عطفت على الفعلية رفعت ، أو على الاسمية فالمذهبان.

(إن) المكسورة الخفيفة ـ ترد على أربعة أوجه :

أحدها : أن تكون شرطية ، نحو (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ) (وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ) وقد تقترن بلا النافية فيظنّ من لا معرفة له أنها إلّا الاستثنائية ، نحو (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ) (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ) وقد بلغنى أن بعض من يدّعى الفضل سئل فى (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) فقال : ما هذا الاستثناء؟ أمتصل أم منقطع؟.

الثانى : أن تكون نافية ، وتدخل على الجملة الاسمية ، نحو (إِنِ الْكافِرُونَ

٢٢

إِلَّا فِي غُرُورٍ) (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) ومن ذلك (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) أى : وما أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به ؛ فحذف المبتدأ ، وبقيت صفته ، ومثله (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) وعلى الجملة الفعلية نحو (إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً).

وقول بعضهم : لا تأتى إن النافية إلا وبعدها إلّا كهذه الآيات ، أو لمّا المشددة التى بمعناها كقراءة بعض السبعة (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) بتشديد الميم ، أى ما كل نفس إلا عليها حافظ ، مردود بقوله تعالى : (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ)

وخرّج جماعة على إن النافية قوله تعالى : (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) ، (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) وعلى هذا فالوقف هنا ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) أى فى الذى ما مكناكم فيه ، وقيل : زائدة ، ويؤيد الأول (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) وكأنه إنما عدل عن ما لئلا يتكرر فيثقل اللفظ ، قيل : ولهذا لما زادوا على ما الشرطية ما قلبوا ألف ما الأولى هاء فقالوا : مهما ، وقيل : بل هى فى الآية بمعنى قد ، وإنّ من ذلك (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) وقيل فى هذه الآية : إن التقدير وإن لم تنفع ، مثل (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) أى والبرد ، وقيل : إنما قيل ذلك بعد أن عمّهم بالتذكير ولزمتهم الحجة ، وقيل : ظاهره الشرط ومعناه ذمّهم واستبعاد لنفع التذكير فيهم ، كقولك : عظ الظالمين إن سمعوا منك ، تريد بذلك الاستبعاد ، لا الشرط.

وقد اجتمعت الشرطية والنافية فى قوله تعالى (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) الأولى شرطية ، والثانية نافية ، جواب للقسم الذى اذنت به اللام الداخلة على الأولى ، وجواب الشرط محذوف وجوبا.

وإذا دخلت على الجملة الأسمية لم تعمل عند سيبويه والفراء ، وأجاز الكسائى

٢٣

والمبرد إعمالها عمل ليس ، وقرأ سعيد بن جبير (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) بنون مخففة مكسورة لالتقاء الساكنين ، ونصب عبادا وأمثالكم ، وسمع من أهل العالية «إن أحد خيرا من أحد إلّا بالعافية» و «إن ذلك نافعك ولا ضارّك» ومما يتخرج على الإهمال الذى هو لغة الأكثرين قول بعضهم : «إنّ قائم» وأصله إن أنا قائم ؛ فحذفت همزة أنا اعتباطا ، وأدغمت نون إن فى نونها ، وحذفت ألفها فى الوصل ، وسمع «إنّ قائما» على الإعمال ، وقول بعضهم نقلت حركة الهمزة إلى النون ثم أسقطت على القياس فى التخفيف بالنقل ثم سكنت النون وأدغمت مردود ؛ لأن المحذوف لعلة كالثابت ، ولهذا تقول «هذا قاض» بالكسر لا بالرفع ؛ لأن حذف الياء لالتقاء الساكنين ؛ فهى مقدّرة الثبوت ، وحينئذ فيمتنع الإدغام ؛ لأن الهمزة فاصلة فى التقدير ، ومثل هذا البحث فى قوله تعالى : (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي).

الثالث : أن تكون مخففة من الثقيلة ، فتدخل على الجملتين : فإن دخلت على الأسمية جاز إعمالها خلافا للكوفيين ، لنا قراءة الحرميين وأبى بكر (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) وحكاية سيبويه «إن عمرا لمنطلق» ويكثر إهمالها ، نحو (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) وقراءة حفص (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) وكذا قرأ ابن كثير إلا أنه شدد نون هذان ، ومن ذلك (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) فى قراءة من خفف لما وإن دخلت على الفعل أهملت وجوبا ، والأكثر كون الفعل ماضيا ناسخا ، نحو (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) ودونه أن يكون مضارعا ناسخا ، نحو (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ) (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) ويقاس على النوعين اتفاقا ، ودون هذا أن يكون ماضيا غير ناسخ ، نحو قوله :

١٢ ـ شلّت يمينك إن قتلت لمسلما

جلّت عليك عقوبة المتعمّد

٢٤

ولا يقاس عليه خلافا للأخفش ، أجاز «إن قام لأنا ، وإن قعد لأنت» ودون هذا أن يكون مضارعا غير ناسخ كقول بعضهم «إن يزينك لنفسك ، وإن يشينك لهيه» ولا يقاس عليه إجماعا ، وحيث وجدت إن وبعدها اللام المفتوحة كما فى هذه المسألة فاحكم عليها بأن أصلها التشديد ، وفى هذه اللام خلاف يأتى فى باب اللام ، إن شاء الله تعالى.

الرابع : أن تكون زائدة ، كقوله :

٢٣ ـ ما إن أتيت بشىء أنت تكرهه

[إذن فلا رفعت سوطى إلىّ يدى]

وأكثر ما زيدت بعد «ما» النافية إذا دخلت على جملة فعلية كما فى البيت ، أو اسمية كقوله :

٢٤ ـ فما إن طبّنا جبن ولكن

منايانا ودولة آخرينا

وفى هذه الحالة تكفّ عمل «ما» الحجازية كما فى البيت ، وأما قوله :

٢٥ ـ بنى غدانة ما إن أنتم ذهبا

ولا صريفا ولكن أنتم الخزف

فى رواية من نصب ذهبا وصريفا ، فخرج على أنها نافية مؤكدة لما.

وقد تزاد بعد ما الموصولة الأسمية كقوله :

٢٦ ـ يرجّى المرء ما إن لا براه

وتعرض دون أدناه الخطوب [ص ٦٧٩]

وبعد ما المصدرية كقوله :

٢٧ ـ ورجّ الفتى للخير ما إن رأيته

على السّنّ خيرا لا يزال بزيد

[ص ٣٨ و ٣٠٤ و ٦٧٩]

وبعد ألا الاستفتاحية كقوله :

٢٨ ـ ألا إن سرى ليلى فبتّ كئيبا

أحاذر أن تنأى النّوى بغضوبا

وقبل مدّة الإنكار ، سمع سيبويه رجلا يقال له : أتخرج إن أخصبت البادية؟ فقال : أأنا إنيه؟ منكرا أن يكون رأيه على خلاف ذلك ، وزعم ابن الحاجب أنها تزاد بعد لما الإيجابية ، وهو سهو ، وإنما تلك أن المفتوحة.

٢٥

وزيد على هذه المعانى الأربعة معنيان آخران ؛ فزعم قطرب أنها قد تكون بمعنى قد كما مر فى (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) وزعم الكوفيون أنها تكون بمعنى إذ ، وجعلوا منه (وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) وقوله عليه الصلاة والسّلام «وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون» ونحو ذلك مما الفعل فيه محقّق الوقوع ، وقوله :

٢٩ ـ أتغضب إن أذنا قتيبة حزّنا

جهارا ولم تغضب لقتل ابن خازم؟

[ص ٣٥ و ٣٦]

قالوا : وليست شرطية ؛ لأن الشرط مستقبل ، وهذه القصة قد مضت.

وأجاب الجمهور عن قوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بأنه شرط جىء به للتهييج والإلهاب ، كما تقول لابنك : إن كنت ابنى فلا تفعل كذا.

وعن آية المشيئة بأنه تعليم للعباد كيف يتكلمون إذا أخبروا عن المستقبل ، أو بأن أصل ذلك الشرط ، ثم صار يذكر للتبرك ، أو أن المعنى لتدخلنّ جميعا إن شاء الله أن لا يموت منكم أحد قبل الدخول ، وهذا الجواب لا يدفع السؤال ، أو أن ذلك من كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه حين أخبرهم بالمنام ، فحكى ذلك لنا ، أو من كلام الملك الذى أخبره فى المنام.

وأما البيت فمحمول على وجهين :

أحدهما : أن يكون على إقامة السبب مقام المسبّب ، والأصل أتغصب إن افتخر مفتخر بسبب حزّ أذنى قتيبة ؛ إذ الافتخار بذلك يكون سببا للغضب ومسببا عن الحزّ.

الثانى : أن يكون على معنى التبين ، أى أتغضب إن تبيّن فى المستقبل أن أذنى قتيبة حزّتا فيما مضى ، كما قال الآخر :

٣٠ ـ إذا ما انتسبنا لم تلدنى لئيمة

ولم تجدى من أن تقرّى به بدّا

أى يتبين أنى لم تلدنى لئيمة.

٢٦

وقال الخليل والمبرد : الصواب «أن أذنا» بفتح الهمزة من أن ، أى لأن أذنا ، ثم هى عند الخليل أن الناصبة ، وعند المبرد أنها أن المخففة من النقيلة.

ويردّ قول الخليل أنّ أن الناصبة لا يليها الاسم على إضمار الفعل ، وإنما ذلك لإن المكسورة ، نحو (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ).

وعلى الوجهين يتخرّج قول الآخر :

٣١ ـ إن يقتلوك فإنّ قتلك لم يكن

عارا عليك ، وربّ قتل عار [ص ١٣٤ و ٥٠٣]

أى إن يفتخروا بسبب قتلك ، أو إن يتبين أنهم قتلوك.

(أن) لمفتوحة الهمزة الساكنة النون ـ على وجهين : اسم ، وحرف.

والاسم على وجهين : ضمير المتكلم فى قول بعضهم «أن فعلت» بسكون النون ، والأكثرون على فتحها وصلا ، وعلى الإتيان بالألف وقفا ، وضمير المخاطب فى قولك «أنت ، وأنت ، وأنتما ، وأنتم ، وأنتنّ» على قول الجمهور : إن الضمير هو أن والتاء حرف خطاب.

والحرف على أربعة أوجه :

أحدها : أن تكون حرفا مصدريا ناصبا للمضارع ، وتقع فى موضعين ؛ أحدهما : فى الابتداء ، فتكون فى موضع رفع نحو (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) وزعم الزحاج أن منه (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) أى خير لكم ؛ فحذف الخبر ، وقيل : التقدير مخافة أن تبروا ، وقيل فى (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) إن أحق خبر عما بعده ، والجملة خبر عن اسم الله سبحانه ، وفى (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) كذلك ؛ والظاهر فيهما أن الأصل أحقّ بكذا. والثانى : بعد لفظ دال

٢٧

على معنى غير اليقين ؛ فتكون فى موضع رفع نحو (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ) (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) الآية ، ونحو «يعجبنى أن تفعل» ونصب نحو (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى) (يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) وخفض نحو (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا) (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ) ومحتملة لهما نحو (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي) أصله فى أن يغفر لى ، ومثله (أَنْ تَبَرُّوا) إذا قدر فى أن تبروا أو لئلا تبروا ، وهل المحلّ بعد حذف الجار جر أو نصب؟ فيه خلاف ، وسيأتى ، وقيل : التقدير مخافة أن تبروا ، واختلف فى المحل من نحو «عسى زيد أن يقوم» فالمشهور أنه نصب على الخبرية ، وقيل : على المفعولية ، وإنّ معنى «عسيت أن تفعل» قاربت أن تفعل ، ونقل عن المبرد ، وقيل : نصب بإسقاط الجار أو بتضمين الفعل معنى قارب ، نقله ابن مالك عن سيبويه ، وإن المعنى دنوت من أن تفعل أو قاربت أن تفعل ، والتقدير الأول بعيد ، إذ لم يذكر هذا الجار فى وقت ، وقيل : رفع على البدل سدّ مسدّ الجزأين كما سدّ فى قراءة حمزة (ولا تحسبن الذين كفروا أنما نملى لهم خير لأنفسهم) مسدّ المفعولين.

وأن هذه موصول حرفى ، وتوصل بالفعل المتصرف ، مضارعا كان كما مر ، أو ماضيا نحو (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) أو أمرا كحكاية سيبويه «كتبت إليه بأن قم». هذا هو الصحيح.

وقد اختلف من ذلك فى أمرين :

أحدهما : كون الموصولة بالماضى والأمر هى الموصولة بالمضارع ، والمخالف فى ذلك ابن طاهر ، زعم أنها غيرها ، بدليلين ؛ أحدهما : أن الداخلة على المضارع تخلّصه للاستقبال ، فلا تدخل على غيره كالسين وسوف ، والثانى : أنها لو كانت الناصبة لحكم على موضعهما بالنصب كما حكم على موضع الماضى بالجزم بعد إن الشرطية ، ولا قائل به.

٢٨

والجواب عن الأول أنه منتقض بنون التوكيد ؛ فإنها تخلص المضارع للاستقبال وتدخل على الأمر باطراد واتفاق ، وبأدوات الشرط فإنها أيضا تخلّصه مع دخولها على الماضى باتفاق.

وعن الثانى أنه إنما حكم على موضع الماضى بالجزم بعد إن الشرطية لأنها أثرت القلب إلى الاستقبال فى معناه فأثرت الجزم فى محلّه ، كما أنها لما أثرت التخليص إلى الاستقبال فى معنى المضارع أثرت النصب فى لفظه.

الأمر الثانى : كونها توصل بالأمر ، والمخالف فى ذلك أبو حيان ، زعم أنها لا توصل به ، وأن كل شىء سمع من ذلك فأن فيه تفسيرية ، واستدل بدليلين ؛ أحدهما : أنهما إذا قدّرا بالمصدر فات معنى الأمر ، الثانى : أنهما لم يقعا فاعلا ولا مفعولا ، لا يصح «أعجبنى أن قم» ولا «كرهت أن قم» كما يصح ذلك مع الماضى ومع المضارع.

والجواب عن الأول أن فوات معنى الأمرية فى الموصولة بالأمر عند التقدير بالمصدر كفوات معنى المضى والاستقبال فى الموصولة بالماضى والموصولة بالمضارع عند التقدير المذكور ، ثم إنه يسلّم مصدرية أن المخففة من المشددة مع لزوم مثل ذلك فيها فى نحو (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها) إذ لا يفهم الدعاء من المصدر إلا إذا كان مفعولا مطلقا نحو سقيا ورعيا.

وعن الثانى أنه إنما امتنع ما ذكره لأنه لا معنى لتعليق الإعجاب والكراهية بالإنشاء ، لا لما ذكر ، ثم ينبغى له أن لا يسلم مصدرية كى ، لأنها لا تقع فاعلا ولا مفعولا ، وإنما تقع مخفوضة بلام التعليل.

ثم مما يقطع به على قوله بالبطلان حكاية سيبويه «كتبت إليه بأن قم» وأجاب عنها بأن الباء محتملة للزيادة مثلها فى قوله :

٣٢ ـ [هنّ الحرائر لا ربّات أخمرة

سود المحاجر] لا يقرأن بالسّور

[ص ١٠٩ و ٦٧٥]

٢٩

وهذا وهم فاحش ، لأن حروف الجر ـ زائدة كانت أو غير زائدة ـ لا تدخل إلا على الاسم أو ما فى تأويله.

تنبيه ـ ذكر بعض الكوفيين وأبو عبيدة أنّ بعضهم يجزم بأن ، ونقله اللّحيانى عن بعض بنى صباح من ضبة ، وأنشدوا عليه قوله :

٣٣ ـ إذا ما غدونا قال ولدان أهلنا

تعالوا إلى أن يأتنا الصّيد نحطب

وقوله :

٣٤ ـ أحاذر أن تعلم بها فتردّها

فتتركها ثقلا علىّ كما هيا

وفى هذا نظر ، لأن عطف المنصوب عليه يدلّ على أنه مسكن للضرورة ، لا مجزوم.

وقد يرفع الفعل بعدها كقراءة ابن محيصن (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) ، وقول الشاعر :

٣٥ ـ أن تقرآن على أسماء ويحكما

منّى السّلام وأن لا تشعرا أحدا

[ص ٦٩٧]

وزعم الكوفيون أنّ أن هذه هى المخففة من الثقيلة شذّ اتصالها بالفعل ، والصواب قول البصريين : إنها أن الناصبة أهملت حملا على «ما» أختها المصدرية ، وليس من ذلك قوله :

٣٦ ـ ولا تدفننّى فى الفلاة ؛ فإنّنى

أخاف إذا مامتّ أن لا أذوقها

كما زعم بعضهم ، لأن الخوف هنا يقين ، فأن مخففة من الثقيلة.

الوجه الثانى : أن تكون مخففة من الثقيلة فتقع بعد فعل اليقين أو ما نزل منزلته نحو (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً) (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ) (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ) فيمن رفع تكون ، وقوله :

٣٧ ـ زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا

أبشر بطول سلامة يا مربع

٣٠

وأن هذه ثلاثية الوضع ، وهى مصدرية أيضا ، وتنصب الاسم وترفع الخبر ، خلافا للكوفيين ، زعموا أنها لا تعمل شيئا ، وشرط اسمها أن يكون ضميرا محذوفا ؛ وربما ثبت كقوله :

٣٨ ـ فلو أنك فى يوم الرّخاء سألتنى

طلاقك لم أبخل وأنت صديق

وهو مختص بالضرورة على الأصح ، وشرط خبرها أن يكون جملة ، ولا يجوز إفراده ، إلا إذا ذكر الاسم فيجوز الأمران ، وقد اجتمعا فى قوله :

٣٩ ـ بأنك ربيع وغيث مربع

وأنك هناك تكون الثّمالا

الثالث : أن تكون مفسّرة بمنزلة أى ، نحو (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ) (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) وتحتمل المصدرية بأن يقدّر قبلها حرف الجر ، فتكون فى الأول أن الثنائية لدخولها على الأمر ، وفى الثانية المخففة من الثقيلة لدخولها على الأسمية.

وعن الكوفيين إنكار أن التفسيرية البتّة ، وهو عندى متّجه ؛ لأنه إذا قيل «كتبت إليه أن قم» لم يكن تم نفس كتبت كما كان الذهب نفس المسجد فى قولك : هذا عسجد أى ذهب ؛ ولهذا لو جئت بأى مكان «أن» فى المثال لم تجده مقبولا فى الطبع.

ولها عند مثبتها شروط :

أحدها : أن تسبق بجملة ؛ فلذلك غلّط من جعل منها (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ).

والثانى : أن تتأخّر عنها جملة ؛ فلا يجوز «ذكرت عسجدا أن ذهبا» بل يجب الإتيان بأى أو ترك حرف التفسير ، ولا فرق بين الجملة الفعلية كما مثّلنا والاسمية نحو «كتبت إليه أن ما أنت وهذا».

والثالث : أن يكون فى الجملة السابقة معنى القول كما مر ، ومنه (وَانْطَلَقَ

٣١

الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا) إذ ليس المراد بالانطلاق المشى ، بل انطلاق ألسنتهم بهذا الكلام ، كما أنه ليس المراد بالمشى المشى المتعارف ، بل الاستمرار على الشىء.

وزعم الزمخشرى أنّ التى فى قوله تعالى : (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) مفسرة ، وردّه أبو عبد الله الرازى بأنّ قبله (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) والوحى هنا إلهام باتفاق ، وليس فى الإلهام معنى القول ، قال : وإنما هى مصدرية ، أى باتخاذ الجبال بيوتا.

والرابع : أن لا يكون فى الجملة السابقة أحرف القول ؛ فلا يقال «قلت له أن أفعل» وفى شرح الجمل الصغير لابن عصفور أنها قد تكون مفسّرة بعد صريح القول ، وذكر الزمخشرى فى قوله تعالى (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) أنه يجوز أن تكون مفسرة للقول على تأويله بالأمر ، أى ما أمرتهم إلا بما أمرتنى به أن اعبدوا الله ، وهو حسن ، وعلى هذا فيقال فى هذا الضابط : أن لا يكون فيها حروف القول إلا والقول مؤوّل بغيره ، ولا يجوز فى الآية أن تكون مفسرة لأمرتنى ؛ لأنه لا يصح أن يكون (اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) مقولا لله تعالى ؛ فلا يصح أن يكون تفسيرا لأمره ؛ لأن المفسّر عين تفسيره ، ولا أن تكون مصدرية وهى وصلتها عطف بيان على الهاء فى به ، ولا بدلا من ما ، أما الأول فلأن عطف البيان فى الجوامد بمنزلة النعت فى المشتقات ، فكما أن الضمير لا ينعت كذلك لا يعطف عليه عطف بيان ، ووهم الزمخشرى فأجاز ذلك ذهولا عن هذه النكتة ، وممن نص عليها من المتأخرين أبو محمد بن السيّد وابن مالك ، والقياس معهما فى ذلك ، وأما الثانى فلأن العبادة لا يعمل فيها فعل القول ، نعم إن أوّل القول بالأمر كما فعل الزمخشرى فى وجه التفسيرية جاز ، ولكنه قد فاته هذا الوجه هنا فأطلق المنع.

فإن قيل : لعل امتناعه من إجازته لأن «أمر» لا يتعدّى بنفسه إلى الشىء المأمور به إلا قليلا ؛ فكذا ما أول به.

٣٢

قلنا : هذا لازم له على توجيهه التفسيرية ؛ ويصح أن يقدّر بدلا من الهاء فى «به» ووهم الزمخشرىّ فمنع ذلك ؛ ظنّا منه أن المبدل منه فى قوة الساقط فتبقى الصلة بلا عائد ، والعائد موجود حسّا فلا مانع.

والخامس : أن لا يدخل عليها جار ؛ فلو قلت «كتبت إليه بأن أفعل» كانت مصدرية.

مسألة ـ إذا ولى أن الصالحة للتفسير مضارع معه لا نحو «أشرت إليه أن لا تفعل» جاز رفعه على تقدير لا نافية ، وجزمه على تقديرها ناهية ، وعليهما فأن مفسّرة ، ونصبه على تقدير لا نافية وأن مصدرية ، فإن فقدت «لا» أمتنع الجزم ، وجاز الرفع والنصب.

والوجه الرابع : أن تكون زائدة ، ولها أربعة مواضع :

أحدها ـ وهو الأكثر ـ أن تقع بعد لمّا التوقيتية نحو (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ).

والثانى : أن تقع بين لو وفعل القسم ، مذكورا كقوله :

٤٠ ـ فأقسم أن لو التقينا وأنتم

لكان لكم يوم من الشّرّ مظلم

أو متروكا كقوله :

٤١ ـ أما والله أن لو كنت حرّا

وما بالحرّ أنت ولا العتيق

هذا قول سيبويه وغيره ، وفى مقرب ابن عصفور أنها فى ذلك حرف جىء به لربط الجواب بالقسم ، ويبعده أن الأكثر تركها ، والحروف الرابطة ليست كذلك

والثالث ـ وهو نادر ـ أن تقع بين الكاف ومخفوضها كقوله :

٤٢ ـ ويوما توافينا بوجه مقسّم

كأن ظبية تعطو إلى وارق السّلم

فى رواية من جر الظبية.

٣٣

والرابع : بعد إذا ، كقوله :

٤٣ ـ فأمهله حتّى إذا أن كأنّه

معاطى يد فى لجّة الماء غامر (١)

وزعم الأخفش أنها تزاد فى غير ذلك ، وأنها تنصب المضارع كما تجر من والباء الزائدتان الاسم ، وجعل منه (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ) (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ) وقال غيره : هى فى ذلك مصدرية ، ثم قيل : ضمن ما لنا معنى ما منعنا ، وفيه نظر ؛ لأنه لم يثبت إعمال الجار والمجرور فى المفعول به ، ولأن الأصل أن لا تكون لا زائدة ، والصواب قول بعضهم : إن الأصل وما لنا فى أن لا نفعل كذا ، وإنما لم يجز للزائدة أن تعمل لعدم أختصاصها بالأفعال ؛ بدليل دخولها على احرف وهو لو وكأنّ فى البيتين (٢) ، وعلى الاسم وهو ظبية فى البيت السابق (٣) بخلاف حرف الجر الزائد ؛ فإنه كالحرف المعدّى فى الاختصاص بالاسم ؛ فلذلك عمل فيه.

مسألة ـ ولا معنى لأن الزائدة غير التوكيد كسائر الزوائد ، قال أبو حيان : وزعم الزمخشرى أنه ينجر مع التوكيد معنى آخر ، فقال فى قوله تعالى (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) : دخلت أن فى هذه القصة ولم تدخل فى قصة إبراهيم فى قوله تعالى (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً) تنبيها وتأكيدا على أن الإساءة كانت تعقب المجىء ؛ فهى مؤكدة فى قصة لوط للاتصال واللزوم ، ولا كذلك فى قصة إبراهيم ؛ إذ ليس الجواب فيها كالأول ، وقال الشلوبين : لما كانت أن للسبب فى «جئت أن أعطى» أى للاعطاء أفادت هنا أن الإساءة كانت لأجل المجىء وتعقبه ، وكذلك فى قولهم «أما والله أن لو فعلت لفعلت» أكدت أن ما بعد لو وهو السبب فى الجواب ، وهذا لذى ذكراه لا يعرفه كبراء النحويين ، انتهى.

والذى رأيته فى كلام الزمخشرى فى تفسير سورة العنكبوت ما نصه : أن صلة أكدت وجود الفعلين مرتبا أحدهما على الآخر فى وقتين متجاورين لا فاصل بينهما ،

__________________

(١) حقيقة القافية «غارف»

(٢) هما الشاهدان ٤١ و ٤٣

(٣) هو الشاهد رقم ٤٢

٣٤

كأنها وجدا فى جزء واحد من الزمان ، كأنه قيل : لما أحسّ بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ريث ، انتهى. والرّيث : البطء ، وليس فى كلامه تعرض للفرق بين القصتين كما نقل عنه ، ولا كلامه مخالف لكلام النحويين ؛ لإطباقهم على أن الزائد يؤكد معنى ما جىء به لتوكيده ، ولمّا تفيد وقوع الفعل الثانى عقب الأول وترتبه عليه ، فالحرف الزائد يؤكد ذلك ، ثم إن قصة الخليل التى فيها (قالُوا سَلاماً) ليست فى السورة التى فيها (سِيءَ بِهِمْ) ، بل فى سورة هود ، وليس فيها لمّا ، ثم كيف يتخيل أن التحية تقع بعد المجىء ببطء؟ وإنما يحسن أعتقادنا تأخّر الجواب فى سورة العنكبوت إذ الجواب فيها (قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) ثم إن التعبير بالإساءة لحن ؛ لأن الفعل ثلاثى كما نطق به التنزيل ، والصواب المساءة ، وهى عبارة الزمخشرى.

وأما ما نقله عن الشلوبين فمعترض من وجهين :

أحدهما : أن المفيد للتعليل فى مثاله إنما هو لام العلة المقدرة ، لا أن.

والثانى : أنّ أن فى المثال مصدرية ، والبحث فى الزائدة.

تنبيه ـ وقد ذكر لأن معان أربعة أخر :

أحدها. الشرطية كان المكسورة ، وإليه ذهب الكوفيون ، ويرجّحه عندى أمور

أحدها : توارد المفتوحة والمكسورة على المحل الواحد ، والأصل التوافق ، فقرى بالوجهين قوله تعالى (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ) (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) وقد مضى أنه روى بالوجهين قوله :

*أتغضب إن أذن قتيبة حزّتا* [٢٩]

الثانى : مجىء الفاء بعدها كثيرا ، كقوله :

٤٤ ـ أبا خراشة أمّا أنت ذا نفر

فإنّ قومى لم تأكلهم الضّبع

[ص ٥٩ ، ٤٣٧ ، ٦٩٤]

الثالث : عطفها على إن المكسورة فى قوله :

٣٥

٤٥ ـ إمّا أقمت وأمّا أنت مرتحلا

فالله يكلأ ما تأتى وما تذر

الرواية بكسر إن الأولى وفتح الثانية ؛ فلو كانت المفتوحة مصدرية لزم عطف المفرد على الجملة ، وتعسّف ابن الحاجب فى توجيه ذلك ، فقال : لما كان معنى قولك «إن جئتنى أكرمتك» وقولك «أكرمك لإتيانك إياى» واحدا صحّ عطف التعليل على الشرط فى البيت ، ولذلك تقول «إن جئتنى وأحسنت إلى أكرمتك» ثم تقول «إن جئتنى ولإحسانك إلى أكرمتك» فتجعل الجواب لهما ، انتهى.

وما أظن أن العرب فاهت بذلك يوما ما.

المعنى الثانى : النفى كإن المكسورة أيضا ، قاله بعضهم فى قوله تعالى (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) وقيل : إن المعنى ولا تؤمنوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب إلا لمن تبع دينكم ، وجملة القول اعتراض.

والثالث : معنى إذ كما تقدم عن بعضهم فى إن المكسورة ، وهذا قاله بعضهم فى (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا) وقوله :

*أتغضب أن أذنا قتيبة حزّتا* [٢٩]

والصواب أنها فى ذلك كله مصدرية ، وقبلها لام العلة مقدرة.

والرابع : أن تكون بمعنى لئلّا ، قيل به فى (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) وقوله :

٤٦ ـ نزلتم منزل الأضياف منّا

فعجّلنا القرى أن تشتمونا

والصواب أنها مصدرية ، والأصل كراهية أن تضلّوا ، ومخافة أن تشتمونا ، وهو قول البصريين. وقيل : هو على إضمار لام قبل أن ولا بعدها ، وفيه تعسف.

٣٦

(إن) ـ المكسورة المشدّدة ، على وجهين :

أحدهما : أن تكون حرف توكيد ، تنصب الاسم وترفع الخبر ، قيل : وقد تنصبهما فى لغة ، كقوله :

٤٧ ـ إذا اسودّ جنح اللّيل فلتأت ولتكن

خطاك خفافا ؛ إنّ حرّاسنا أسدا

وفى الحديث «إنّ قعر جهنّم سبعين خريفا» وقد خرّج البيت على الحالية وأنّ الخبر محذوف ، أى تلقاهم أسدا ، والحديث على أن القعر مصدر «قعرت البئر» إذا بلغت قعرها ، وسبعين ظرف ، أى إن بلوغ قعرها يكون فى سبعين عاما.

وقد يرتفع بعدها المبتدأ فيكون اسمها ضمير شأن محذوفا كقوله عليه الصلاة السّلام : «إنّ من أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة المصوّرون» الأصل إنّه أى الشأن كما قال :

٤٨ ـ إنّ من يدخل الكنيسة يوما

يلق فيها جآذرا وظباء [ص ٥٨٩]

وإنما لم تجعل «من» اسمها لأنها شرطية ، بدليل جزمها الفعلين ، والشرط له الصّدر ؛ فلا يعمل فيه ما قبله.

وتخريج الكسائى الحديث على زيادة من فى اسم إنّ يأباه غير الأخفش من البصريين ، لأن الكلام إيجاب ، والمجرور معرفة على الأصح ، والمعنى أيضا يأباه ، لأنهم ليسوا أشدّ عذابا من سائر الناس.

وتخفّف فتعمل قليلا ، وتهمل كثيرا ، وعن الكوفيين أنها لا تخفف ، وأنه إذا قيل «إن زيد لمنطلق» فإن نافية ، واللام بمعنى إلّا ، ويردّه أن منهم من يعملها مع التخفيف ، حكى سيبويه «إن عمرا لمنطلق» وقرأ الحرميان وأبو بكر (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ).

الثانى : أن تكون حرف جواب بمعنى نعم ، خلافا لأبى عبيدة ، استدلّ المثبتون بقوله :

٣٧

٤٩ ـ ويقلن : شيب قد علا

ك ، وقد كبرت ، فقلت : إنّه [ص ٦٤٩]

وردّ بأنا لا نسلّم أن الهاء للسكت ، بل هى ضمير منصوب بها ، والخبر محذوف ، أى إنه كذلك ، والجيد الاستدلال بقول ابن الزّبير رضى الله عنه لمن قال له لعن الله ناقة حملتنى إليك «إنّ وراكبها» أى نعم ولعن راكبها ، إذ لا يجوز حذف الاسم والخبر جميعا.

وعن المبرد أنه حمل على ذلك قراءة من قرأ (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) واعترض بأمرين ، أحدهما : أن مجىء إنّ بمعنى نعم شاذ ، حتى قيل : إنه لم يثبت ، والثانى : أن اللام لا تدخل فى خبر المبتدأ ، وأجيب عن هذا بأنها لام زائدة ، وليست للابتداء ، أو بأنها داخلة على مبتدأ محذوف ، أى لهما ساحران ، أو بأنها دخلت بعد إنّ هذه لشبهها بإن المؤكدة لفظا كما قال :

ورجّ الفتى للخير ما إن رأيته

على السّنّ خيرا لا يزال يزيد [٢٧]

فزاد «إن» بعد ما المصدرية لشبهها فى اللفظ بما النافية ، ويضعف الأول أن زيادة اللام فى الخبر خاصّة بالشعر ، والثانى أن الجمع بين لام التوكيد وحذف المبتدأ كالجمع بين متنافيين ، وقيل : اسم إنّ ضمير الشأن ، وهذا أيضا ضعيف ؛ لأن الموضوع لتقوية الكلام لا يناسبه الحذف ، والمسموع من حذفه شاذ إلا في باب أنّ المفتوحة إذا خففت ، فاستسهلوه لوروده فى كلام بنى على التخفيف ، فحذف تبعا لحذف النون ، ولأنه لو ذكر لوجب التشديد ، إذ الضمائر تردّ الأشياء إلى أصولها ، ألا ترى أن من يقول لد ولم يك وو الله يقول لدنك ولم يكنه وبك لأفعلن ، ثم يرد إشكال دخول اللام ، وقيل : هذان اسمها ، ثم اختلف ؛ فقيل : جاءت على لغة بلحرث بن كعب فى إجراء المثنى بالألف دائما ، كقوله :

٥٠ ـ [إنّ أباها وأبا أباها]

قد بلغا في المجد غايتاها

[ص ١٢٢ ، ٢١٦]

واختار هذا الوجه ابن مالك ، وقيل : هذان مبنىّ لدلالته على [معنى] الإشارة ،

٣٨

وإن قول الأكثرين «هذين» جرا ونصبا ليس إعرابا أيضا ، واختاره ابن الحاجب ، قلت : وعلى هذا فقراءة (هذانِ) أقيس ، إذ الأصل فى المبنى أن لا تختلف صيغه ، مع أن فيها مناسبة لألف ساحران ، وعكسه الياء فى (إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) فهى هنا أرجح لمناسبة ياء (ابْنَتَيَّ) وقيل : لما اجتمعت ألف هذا وألف التثنية فى التقدير قدّر بعضهم سقوط ألف التثنية فلم تقبل ألف هذا التغيير.

تنبيه ـ تأتى «إنّ» فعلا ماضيا مسندا لجماعة المؤنث من الأين ـ وهو التّعب تقول «النساء إنّ» أى تعبن ، أو من آن بمعنى قرب ، أو مسندا لغيرهن على أنه من الأنين وعلى أنه مبنى للمفعول على لغة من قال فى ردّ وحبّ : ردّ وحبّ ، بالكسر تشبيها له بقيل وبيع ، والأصل مثلا «أنّ زيد يوم الخميس» ثم قيل «إنّ يوم الخميس» أو فعل أمر للواحد من الأنين ، أو لجماعة الإناث من الأين أو من آن بمعنى قرب ، أو للواحدة مؤكدا بالنون من وأى بمعنى وعد كقوله :

*إن هند المليحة الحسناء* [١٣]

وقد مر ، ومركبة من إن النافية وأنا كقول بعضهم «إنّ قائم» والأصل إن أنا قائم ، ففعل فيه ماضى شرحه (١).

فالأقسام إذن عشرة : هذه الثمانية ، والمؤكدة ، والجوابية.

تنبيه ـ فى الصحاح الأين الإعياء ، وقال أبو زيد : لا يبنى منه فعل ، وقد خولف فيه ، انتهى ، فعلى قول أبى زيد يسقط بعض الأقسام.

(أنّ) ـ المفتوحة المشددة النون ، على وجهين :

أحدهما : أنّ تكون حرف توكيد ، تنصب الاسم وترفع الخبر ، والأصح أنها فرع عن إن المكسورة ، ومن هنا صح للزمخشرى أن يدعى أن أنما بالفتح تفيد الحصر كإنما ، وقد اجتمعتا فى قوله تعالى (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) فالأولى لقصر الصفة [على الموصوف] ، والثانية بالعكس ، وقول أبى حيان «هذا شىء

__________________

(١) قد بينه واضحا فى ص ٢٤

٣٩

انفرد به ، ولا يعرف القول بذلك إلا فى إنما بالكسر» مردود بما ذكرت وقوله «إن دعوى الحصر هنا باطلة لاقتضائها أنه لم يوح إليه غير التوحيد» مردود أيضا بأنه حصر مقيد (١) ، إذ الخطاب مع المشركين ، فالمعنى ما أوحى إلىّ فى أمر الربوبية إلا التوحيد ، لا الإشراك ، ويسمى ذلك قصر قلب ، لقلب اعتقاد المخاطب ، وإلا فما الذى يقول هو فى نحو (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ)؟ فإنّ ما للنفى وإلا للحصر قطعا ، وليست صفته عليه الصلاة والسّلام منحصرة فى الرسالة ، ولكن لما استعظموا موته جعلوا كأنهم أثبتوا له البقاء الدائم ، فجاء الحصر باعتبار ذلك ، ويسمى قصر إفراد.

والأصح أيضا أنها موصول حرفى مؤول مع معموليه بالمصدر ، فإن كان الخبر مشتقا فالمصدر المؤول به من لفظه ، فتقدير «بلغنى أنك تنطلق» أو «أنك منطلق» بلغنى الانطلاق ، ومنه «بلغنى أنك فى الدار» التقدير استقرارك فى الدار ، لأن الخبر فى الحقيقة هو المحذوف من استقر أو مستقر ، وإن كان جامدا قدّر بالكون نحو «بلغنى أن هذا زيد» تقديره بلغنى كونه زيدا ، لأن كل خبر جامد يصح نسبته إلى المخبر عنه بلفظ الكون ، تقول «هذا زيد» وإن شئت «هذا كائن زيدا» إذ معناهما واحد ، وزعم السهيلى أن الذى يؤوّل بالمصدر إنما هو أن الناصبة للفعل لأنها أبدا مع الفعل المتصرف ، وأنّ المشددة إنما تؤول بالحديث ، قال : وهو قول سيبويه ، ويؤيده أن خبرها قد يكون اسما محضا نحو «علمت أن الليث الأسد» وهذا لا يشعر بالمصدر ، انتهى. وقد مضى أن هذا يقدر بالكون.

وتخفّف أنّ بالاتفاق ، فيبقى عملها على الوجه الذى تقدم [شرحه] فى أن الخفيفة (٢).

الثانى : أن تكون لغة فى لعلّ كقول بعضهم «ائت السّوق أنّك تشترى لنا شيئا» وقراءة من قرأ (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) وفيها بحث سيأتى فى باب اللام.

__________________

(١) يريد أنه قصر إضافى.

(٢) انظر ص ٣٠ السابقة

٤٠