مغنى اللبيب - ج ١

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري

مغنى اللبيب - ج ١

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات مكتبة الصادق للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٦
الجزء ١ الجزء ٢

فى الأصل عمل إنّ ثم ألغيت لتكرارها ، فيكون ما بعدها مرفوعا بالابتداء ، وأن تكون عاملة عمل ليس ، فيكون ما بعدها مرفوعا بها ، وعلى الوجهين فالظرف خبر عن الاسمين إن قدرت لا الثانية تكرارا للأولى وما بعدها معطوفا ، فإن قدرت الأولى مهملة والثانية عاملة عمل ليس أو بالعكس فالظرف خبر عن أحدهما ، وخبر الآخر محذوف كما فى قولك «زيد وعمرو قائم» ولا يكون خبرا عنهما ، لئلا يلزم محذوران : كون الخبر الواحد مرفوعا ومنصوبا ، وتوارد عاملين على معمول واحد.

وإذا قيل «ما فيها من زيت ولا مصابيح» بالفتح ـ احتمل كون الفتحة بناء مثلها فى «لا رجال» وكونها علامة لتخفض بالعطف ولا مهملة ، فإن قلته بالرفع احتمل كون لا عاملة عمل ليس ، وكونها مهملة والرفع بالعطف على المحل.

فأما قوله تعالى (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ) فظاهر الأمر جواز كون أصغر وأكبر معطوفين على لفظ مثقال أو على محله ، وجواز كون لامع الفتح تبرئة ، ومع الرفع مهملة أو عاملة عمل ليس ، ويقوّى العطف أنه لم يقرأ فى سورة سبأ فى قوله سبحانه وتعالى (عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ) الآية إلا بالرفع لما لم يوحد الخفض فى لفظ مثقال ، ولكن يشكل عليه أنه يفيد ثبوت العزوب عند ثبوت الكتاب ، كما أنك إذا قلت «ما مررت برجل إلا فى الدّار» كان إخبارا بثبوت مرورك برجل فى الدار ، وإذا امتنع هذا تعيّن [أن] الوقف على (فِي السَّماءِ) وأن ما بعدها مستأنف ، وإذا ثبت ذلك فى سورة يونس قلنا به فى سورة سبأ وأن الوقف على (الْأَرْضِ) وأنه إنما لم يجىء فيه الفتح اتباعا للنقل ، وجوز بعضهم العطف فيهما على أن لا يكون معنى يعزب يخفى ، بل يخرج إلى الوجود.

الوجه الثالث : أن تكون عاطفة ، ولها ثلاثة شروط ، أحدها : أن يتقدمها إثبات كجاء زيد لا عمرو ، أو أمر كاضرب زيدا لا عمرا ، قال سيبويه : أو نداء نحو

٢٤١

يا ابن أخى لا ابن عمى ، وزعم ابن سعدان أن هذا ليس من كلامهم. الثانى : أن لا تقترن بعاطف ، فإذا قيل «جاءنى زيد لا بل عمرو» فالعاطف بل ، ولا ردّ لما قبلها ، وليست عاطفة ، وإذا قلت «ما جاءنى زيد ولا عمرو» فالعاطف الواو ، ولا توكيد للنفى ، وفى هذا المثال مانع آخر من العطف بلا ، وهو تقدم النفى ، وقد اجتمعا أيضا فى (وَلَا الضَّالِّينَ) والثالث : أن يتعاند متعاطفاها ، فلا يجوز «جاءنى رجل لا زيد» لأنه يصدق على زيد اسم الرجل ، بخلاف «جاءنى رجل لا امرأة» ولا يمتنع العطف بها على معمول الفعل الماضى خلافا للزجاجى ، أجاز «يقوم زيد لا عمرو» ومنع «قام زيد لا عمرو» وما منعه مسموع ، فمنعه مدفوع ، قال امرؤ القيس :

٣٩٨ ـ كأن دثارا حلّقت بلبونه

عقاب تنوفى لا عقاب القواعل

دثار : اسم راع ، وحلقت : ذهبت ، واللّبون : نوق ذوات لبن ، وتنوفى : جبل عال ، والقواعل : جبال صغار ، وقوله إن العامل مقدّر بعد العاطف ، ولا يقال «لا قام عمرو» إلا على الدعاء مردود بأنه لو توقفت صحة العطف على صحة تقدير العامل بعد العاطف لامتنع «ليس زيد قائما ولا قاعدا».

الوجه الرابع : أن تكون جوابا مناقضا لنعم ، وهذه تحذف الجمل بعدها كثيرا ، يقال «أجاءك زيد؟» فتقول «لا» والأصل : لا لم يجىء.

والخامس : أن تكون على غير ذلك ، فإن كان ما بعدها جملة اسمية صدرها معرفة أو نكرة ولم تعمل فيها ، أو فعلا ماضيا لفظا وتقديرا ، وجب تكرارها.

مثال المعرفة (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) وإنما لم تكرر فى «لا نولك أن تفعل» لأنه بمعنى لا ينبغى لك ، فحملوه على ما هو

٢٤٢

بمعناه ، كما فتحوا فى «يذر» حملا على «يدع (١)» لأنهما بمعنى ، ولو لا أن الأصل فى يذر الكسر لما حذفت الواو كما لم تحذف فى يوجل

ومثال النكرة التى لم تعمل فيها لا (لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) فالتكرار هنا واجب ، بخلافه فى (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ).

ومثال الفعل الماضى (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) وفى الحديث «فإنّ المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» وقول الهذلى : كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ، ولا نطق ولا استهلّ ، وإنما ترك التكرار فى «لا شلّت يداك» و «لا فضّ الله فاك» وقوله :

٣٩٩ ـ [ألا يا اسلمى يا دارمىّ على البلى]

ولا زال منهلّا بجرعائك القطر

وقوله :

٤٠٠ ـ لا بارك الله في الغوانى هل

يصبحن إلّا لهنّ مطّلب؟

لأن المراد الدعاء ، فالفعل مستقبل فى المعنى ، ومثله فى عدم وجوب التكرار بعدم قصد المضى إلا أنه ليس دعاء قولك «والله لا فعلت كذا» وقول الشاعر :

٤٠١ ـ حسب المحبّين فى الدّنيا عذابهم

تالله لا عذّبتهم بعدها سقر

وشذ ترك التكرار فى قوله :

٤٠٢ ـ لاهمّ إنّ الحارث بن جبله

زنى على أبيه ثمّ قتله

وكان فى جاراته لا عهد له

وأىّ أمر سىّء لا فعله

زنى : بتخفيف النون ، كذا رواه يعقوب ، وأصله زنا بالهمز بمعنى سيّى وروى

__________________

(١) أصل الدال فى «يدع مكسورة» ، بدليل حذف الواو ، وفتحت الدال لأجل حرف الحلق وهو العين ، ومثله يهب ، وحمل «يذر» على يدع لأن معناهما واحد.

٢٤٣

بتشديدها ، والأصل زنى بامرأة أبيه ، فحذف المضاف وأناب على عن الباء ، وقال أبو خراش الهذلى وهو يطوف بالبيت :

٤٠٣ ـ إن تغفر اللهمّ تغفر جمّا

وأىّ عبد لك لا ألمّا

وأما قوله سبحانه وتعالى (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) فإن لا فيه مكررة فى المعنى ؛ لأن المعنى فلا فكّ رقبة ولا أطعم مسكينا ؛ لأن ذلك تفسير للعقبة ، قاله الزمخشرى. وقال الزجاج : إنما جاز لأن (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) معطوف عليه وداخل فى النفى فكأنه قيل : فلا اقتحم ولا آمن ، انتهى. ولو صح لجاز «لا أكل زيد وشرب» وقال بعضهم : لا دعائية ، دعاء عليه أن لا يفعل خيرا ، وقال آخر : تحضيض ، والأصل فألا اقتحم ، ثم حذفت الهمزة ، وهو ضعيف.

وكذلك يجب تكرارها إذا دخلت على مفرد خبر أو صفة أو حال نحو «زيد لا شاعر ولا كاتب» و «جاء زيد لا ضاحكا ولا باكيا» ونحو (إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) (مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ).

وإن كان ما دخلت عليه فعلا مضارعا لم يجب تكرارها نحو (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ) (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) وإذا لم يجب أن تكرر فى «لا نولك أن تفعل» لكون الاسم المعرفة فى تأويل المضارع فأن لا يجب فى المضارع أحقّ.

ويتخلّص المضارع بها للاستقبال عند الأكثرين ، وخالفهم ابن مالك ؛ لصحة قولك «جاء زيد لا يتكلم» بالاتفاق ، مع الاتفاق على أن الجملة الحالية لا تصدّر بدليل استقبال.

٢٤٤

تنبيه ـ من أقسام «لا» النافية المعترضة بين الخافض والمخفوض ، نحو «جئت بلا زاد» و «غضبت من لا شىء» وعن الكوفيين أنها اسم ، وأن الجار دخل عليها نفسها ، وأن ما بعدها خفض بالإضافة ، وغيرهم يراها حرفا ، ويسميها زائده كما يسمون كان فى نحو «زيد كان فاضل» زائدة وإن كانت مفيدة لمعنى وهو المضى والانقطاع ؛ فعلم أنهم قد يريدون بالزائد المعترض بين شيئين متطالبين وإن لم يصحّ أصل المعنى بإسقاطه كما فى مسألة لا فى نحو «غضبت من لا شىء» وكذلك إذا كان يفوت بفواته معنى كما فى مسألة كان ، وكذلك لا المقترنة بالعاطف فى نحو «ما جاءنى زيد ولا عمرو» ويسمونها زائدة ، وليست بزائدة البتة ، ألا ترى أنه إذا قيل «ما جاءنى زيد وعمرو» احتمل أن المراد نفى مجىء كل منهما على كل حال ، وأن يراد نفى اجتماعهما فى وقت المجىء ؛ فإذا جىء بلا صار الكلام نصّا فى المعنى الأول ، نعم هى فى قوله سبحانه (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) لمجرد التوكيد ، وكذا إذا قيل «لا يستوى زيد ولا عمرو».

تنبيه ـ اعتراض لا بين الجار والمجرور فى نحو «غضبت من لا شىء» وبين الناصب والمنصوب فى نحو (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ) وبين الجازم والمجزوم فى نحو (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) وتقدّم معمول ما بعدها عليها فى نحو (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها) الآية دليل على أنها ليس لها الصّدر ، بخلاف ما ، اللهم إلا أن تقع فى جواب القسم ؛ فإن الحروف التى يتلقّى بها القسم كلها لها الصّدر ، ولهذا قال سيبويه فى قوله :

آليت حبّ العراق الدّهر أطعمه

[والحبّ يأكله فى القرية السّوس] [١٣٩]

إن التقدير على حب العراق ؛ فحذف الخافض ونصب ما بعده بوصول الفعل إليه ، ولم يجعله من باب «زيدا ضربته» لأن التقدير لا أطعمه ، وهذه الجملة جواب لآليت فإن معناه حلفت ، وقيل : لها الصدر مطلقا ، وقيل : لا مطلقا ، والصواب الأول

٢٤٥

الثانى من أوجه «لا» أن تكون موضوعة لطلب التّرك ، وتختص بالدخول على المضارع ، وتقتضى جزمه واستقباله ، سواء كان المطلوب منه مخاطبا نحو (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) أو غائبا نحو (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) أو متكلما نحو «لا أرينّك ههنا» وقوله :

٤٠٤ ـ لا أعرفن ربربا حورا مدامعها

[مردّفات على أعجاز أكوار]

وهذا النوع مما أقيم فيه المسبب مقام السبب ، والأصل لا تكن ههنا فأراك ، ومثله فى الأمر (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) أى وأغلظوا عليهم ليجدوا ذلك ، وإنما عدل إلى الأمر بالوجدان تنبيها على أنه المقصود بالذات (١) ، وأما الإغلاظ فلم يقصد لذاته ، بل ليجدوه ، وعكسه (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) أى لا تفتتنوا بفتنة الشيطان.

واختلف فى لا من قوله تعالى (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) على قولين ؛ أحدهما : أنها ناهية ، فتكون من هذا ، والأصل لا تتعرضوا للفتنة فتصيبكم ، ثم عدل عن النهى عن التعرض إلى النهى عن الإصابة لأن الإصابة مسببة عن التعرض ، وأسند هذا المسبب إلى فاعله ، وعلى هذا فالإصابة خاصة بالمتعرضين وتوكيد الفعل بالنون واضح لاقترانه بحرف الطلب مثل (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً) ولكن وقوع الطلب صفة للنكرة ممتنع ؛ فوجب إضمار القول ، أى واتقوا فتنة مقولا فيها ذلك ، كما قيل فى قوله :

٤٠٥ ـ حتّى إذا جنّ الظّلام واختلط

[جاؤا بمذق هل رأيت الذّئب قط]

[ص ٥٨٥]

الثانى : أنها نافية ، واختلف القائلون بذلك على قولين ؛ أحدهما : أن الجملة صفة لفتنة ، ولا حاجة إلى إضمار قول ؛ لأن الجملة خبرية ، وعلى هذا فيكون دخول النون شاذا ، مثله فى قوله :

__________________

(١) فى نسخة «المقصود لذاته».

٢٤٦

٤٠٦ ـ فلا الجارة الدّنيا بها تلحينّها

[ولا الضّيف عنها إن أناح محوّل]

بل هو فى الآية أسهل ؛ لعدم الفصل ، وهو فيهما سماعى ، والذى جوزه تشبيه لا النافية بلا الناهية ، وعلى هذا الوجه تكون الإصابة عامة للظالم وغيره ، لا خاصة بالظالمين كما ذكره للزمخشرى ؛ لأنها قد وصفت بأنها لا تصيب الظالمين خاصة ، فكيف تكون مع هذا خاصة بهم؟ والثانى أن الفعل جواب الأمر ، وعلى هذا فيكون التوكيد أيضا خارجا عن القياس شاذا ، وممن ذكر هذا الوجه الزمخشرى ، وهو فاسد ؛ لأن المعنى حينئذ فإنكم إن تتقوها لا تصيب الذين ظلموا منكم خاصة ، وقوله إن التقدير إن أصابتكم لا تصيب الظالم خاصة مردود ؛ لأن الشرط إنما يقدر من جنس الأمر ، لا من جنس الجواب ، ألا ترى أنك تقدر فى «ائتنى أكرمك» إن تأتنى أكرمك ، نعم يصح الجواب فى قوله (ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) الآية ؛ إذ يصح : إن تدخلوا لا يحطمنكم ، ويصح أيضا النهى على حد «لا أرينّك ههنا» وأما الوصف فيأتى مكانه هنا أن تكون الجملة حالا ، أى ادخلوها غير محطومين ، والتوكيد بالنون على هذا الوجه وعلى الوجه الأول سماعى ، وعلى النهى قياسى.

ولا فرق فى اقتضاء لا الطلبية للجزم بين كونها مفيدة للنهى سواء كان للتحريم كما تقدم ، أو للتنزيه نحو (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) وكونها للدعاء كقوله تعالى (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا) وقول الشاعر :

٤٠٧ ـ يقولون لا تبعدوهم يدفنوننى

وأين مكان البعد إلّا مكانيا؟

وقول الآخر :

٤٠٨ ـ فلا تشلل يد فتكت بعمرو

فإنّك لن تذلّ ولن تضاما

ويحتمل النهى والدعاء قول الفرزدق :

٤٠٩ ـ إذا ما خرجنا من دمشق فلا نعد

لها أبدا ما دام فيها الجراضم

أى العظيم البطن ، وكونها للالتماس كقولك لنظيرك غير مستعل عليه

٢٤٧

«لا تفعل كذا» وكذا الحكم إذا خرجت عن الطلب إلى غيره كالتهديد فى قولك لولدك أو عبدك «لا تطعنى».

وليس أصل «لا» التى يجزم الفعل بعدها لام الأمر فزيدت عليها ألف خلافا لبعضهم ، ولا هى النافية والجزم بلام [أمر] مقدرة خلافا للسهيلى.

والثالث : لا الزائدة الداخلة فى الكلام لمجرد تقويته وتوكيده ، نحو (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ) (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) ويوضحه الآية الأخرى (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) ومنه (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) أى ليعلموا ، وقوله :

٤١٠ ـ وتلحيننى فى اللهو أن لا أحبّه

وللهو داع دائب غير غافل (١)

وقوله :

٤١١ ـ أبى جوده لا البخل واستعجلت به

نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله

وذلك فى رواية من نصب البخل ؛ فأما من خفض فلا حينئذ اسم مضاف ؛ لأنه أريد به اللفظ. وشرح هذا المعنى أن كلمة «لا» تكون للبخل ، وتكون للكرم ، وذلك أنها إذا وقعت بعد قول القائل أعطنى أو هل تعطينى كانت للبخل ، فإن وقعت بعد قوله أتمنعنى عطاءك أو أتحرمنى نوالك كانت للكرم ، وقيل : هى غير زائدة أيضا فى رواية النصب ، وذلك على أن تجعل اسما مفعولا ، والبخل بدلا منها ، قاله الزجاج ، وقال آخر : لا مفعول به ، والبخل مفعول لأجله ، أى كراهية البخل مثل (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) أى كراهية أن تضلوا ، وقال أبو على فى الحجة : قال أبو الحسن : فسّرته العرب أبى جوده البخل ، وجعلوا لا حشوا ، اه.

وكما اختلف فى لا فى هذا البيت أنافية أم زائدة كذلك اختلف فيها فى مواضع من التنزيل ؛ أحدها : قوله تعالى (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) فقيل : هى نافية ، واختلف

__________________

(١) وقع البيت رقم ٤١٠ فى النسخة التى شرح عليها الدسوقى متأخرا عن ٤١١

٢٤٨

هؤلاء فى منفيها على قولين ؛ أحدهما : أنه شىء تقدم ، وهو ما حكى عنهم كثيرا من إنكار البعث ، فقيل لهم : ليس الأمر كذلك ثم استؤنف القسم ، قالوا : وإنما صح ذلك لأن القرآن كله كالسورة الواحدة ، ولهذا يذكر الشىء فى سورة وجوابه فى سورة أخرى ، نحو (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) وجوابه (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) والثانى : أن منفيها أقسم ، وذلك على أن يكون إخبارا لا إنشاء ، واختاره الزمخشرى ، قال : والمعنى فى ذلك أنه لا يقسم بالشىء إلا إعظاما له ؛ بدليل (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) فكأنه قيل : إن إعظامه بالإقسام به كلا إعظام ، أى أنه يستحق إعظاما فوق ذلك ، وقيل : هى زائدة. واختلف هؤلاء فى فائدتها على قولين ؛ أحدهما : أنها زيدت توطئة وتمهيدا لنفى الجواب ، والتقدير لا أقسم بيوم القيامة لا يتركون سدى ، ومثله (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) ، وقوله :

٤١٢ ـ فلا وأبيك ابنة العامرىّ

لا يدّعى القوم أنّى أفرّ

ورد بقوله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) الآيات ؛ فإن جوابه مثبت وهو (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) ومثله (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) الآية ، والثانى : أنها زيدت لمجرد التوكيد وتقوية الكلام ، كما فى (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) ورد بأنها لا تزاد لذلك صدرا ، بل حشوا ، كما أن زيادة ما وكان كذلك نحو (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) ونحو «زيد كان فاضل» وذلك لأن زيادة الشىء تفيد اطراحه ، وكونه أول الكلام يفيد الاعتناء به ، قالوا : ولهذا نقول بزيادتها فى نحو (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) لوقوعها بين الفاء ومعطوفها ، بخلاف هذه ، وأجاب أبو على مما تقدم من أن القرآن كالسورة الواحدة.

٢٤٩

الموضع الثانى : قوله تعالى (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) فقيل : إن لا نافية ، وقيل : ناهية ، وقيل : زائدة ، والجميع محتمل.

وحاصل القول فى الآية أن (ما) خبرية بمعنى الذى منصوبة بأتل ، و (حَرَّمَ رَبُّكُمْ) صلة ، و (عَلَيْكُمْ) متعلقة بحرّم ، هذا هو الظاهر ، وأجاز الزجّاج كون (ما) استفهامية منصوبة بحرّم ، والجملة محكية بأتل ؛ لأنه بمعنى أقول ، ويجوز أن يعلّق عليكم بأتل ، ومن رجح إعمال أول المتنازعين ـ وهم الكوفيون ـ رجّحه على تعلقه بحرّم ، وفى أن وما بعدها أوجه :

أحدها : أن يكونا فى موضع نصب بدلا من (ما) ، وذلك على أنها موصولة لا استفهامية ؛ إذ لم يقترن البدل بهمزة الاستفهام.

الثانى : أن يكونا فى موضع رفع خبرا لهو محذوفا.

أجازهما بعض المعربين. وعليهما فلا زائدة ، قاله ابن الشجرى ، والصواب أنها نافية على الأول ، وزائدة على الثانى.

والثالث : أن يكون الأصل أبين لكم ذلك لئلا تشركوا ، وذلك لأنهم إذا حرّم عليهم رؤساؤهم ما أحلّه الله سبحانه وتعالى فأطاعوهم أشركوا ؛ لأنهم جعلوا غير الله بمنزلته.

والرابع : أن الأصل أوصيكم بأن لا تشركوا ، بدليل أنّ (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) معناه وأوصيكم بالوالدين ، وأن فى آخر الآية (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ)

وعلى هذين الوجهين فحذفت الجملة وحرف الجر.

والخامس : أن التقدير أتل عليكم أن لا تشركوا ، فحذف مدلولا عليه بما تقدم ، وأجاز هذه الأوجه الثلاثة الزجاج.

والسادس : أن الكلام تمّ عند (حَرَّمَ رَبُّكُمْ) ثم ابتدىء : عليكم أن لا تشركوا ، وأن تحسنوا بالوالدين إحسانا ، وأن لا تقتلوا ، ولا تقربوا ؛ فعليكم

٢٥٠

على هذا اسم فعل بمعنى الزموا.

و «أن» فى الأوجه الستة مصدرية ، و «لا» فى الأوجه الأربعة الأخيرة نافية.

والسابع : أن «أن» مفسرة بمعنى أى ، ولا : ناهية ، والفعل مجزوم لا منصوب ، وكأنه قيل : أقول لكم لا تشركوا به شيئا ، وأحسنوا بالوالدين إحسانا ، وهذان الوجهان الأخيران أجازهما ابن الشجرى.

الموضع الثالث : قوله سبحانه وتعالى : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) فيمن فتح الهمزة ؛ فقال قوم منهم الخليل والفارسى : لا زائدة ، وإلا لكان عذرا للكفار ، وردّه الزجاج بأنها نافية فى قراءة الكسر ، فيجب ذلك فى قراءة الفتح ، وقيل : نافية ، واختلف القائلون بذلك ، فقال النحاس : حذف المعطوف ، أى أو أنهم يؤمنون ، وقال الخليل فى قول [له] آخر : أنّ بمعنى لعلّ مثل «ائت السّوق أنّك تشترى لنا شيئا» ورجّحه الزجاج وقال : إنهم أجمعوا عليه ، وردّه الفارسى فقال : التوقع الذى فى لعلّ ينافيه الحكم بعدم إيمانهم ، يعنى فى قراءة الكسر ، وهذا نظير ما رجّح به الزجاج كون لا غير زائدة ، وقد انتصروا لقول الخليل بأن قالوا : يؤيده أن (يُشْعِرُكُمْ) و (يدريكم) بمعنى ، وكثيرا ما تأتى لعلّ بعد فعل الدّراية نحو (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) وأن فى مصحف أبىّ (وما أدراكم لعلها) وقال قوم : أنّ مؤكدة ، والكلام فيمن حكم بكفرهم وبئس من إيمانهم ، والآية عذر للمؤمنين ، أى أنكم معذورون لأنكم لا تعلمون ما سبق لهم من القضاء (١) من أنهم لا يؤمنون حينئذ ، ونظيره (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) وقيل : التقدير لأنهم ، واللام متعلقة بمحذوف ، أى لأنهم لا يؤمنون امتنعنا من الإتيان بها ، ونظيره (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) واختاره الفارسى.

__________________

(١) فى نسخة «ما سيق لهم به القضاء ـ إلخ».

٢٥١

واعلم أن مفعول (يُشْعِرُكُمْ) الثانى ـ على هذا القول ، وعلى القول بأنها بمعنى لعل ـ محذوف ، أى إيمانهم ، وعلى بقية الأقوال أنّ وصلتها.

الموضع الرابع : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) فقيل : لا زائدة ، والمعنى ممتنع على أهل قرية قدرنا إهلاكهم أنهم يرجعون عن الكفر إلى قيام الساعة ، وعلى هذا فحرام خبر مقدم وجوبا ؛ لأن المخبر عنه أن وصلتها ، ومثله (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ) لا مبتدأ وأن وصلتها فاعل أغنى عن الخبر كما جوزه أبو البقاء ؛ لأنه ليس بوصف صريح ، ولأنه لم يعتمد على نفى ولا استفهام ، وقيل : لا نافية ، والإعراب إمّا على ما تقدم ، والمعنى ممتنع عليهم أنهم لا يرجعون إلى الآخرة ، وإما على أن حرام مبتدأ حذف خبره ، أى قبول أعمالهم ، وابتدىء بالنكرة لتقييدها بالمعمول ، وإما على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أى والعمل الصالح حرام عليهم ، وعلى الوجهين فأنّهم لا يرجعون تعليل على إضمار اللام ، والمعنى لا يرجعون عما هم فيه ، ودليل المحذوف ما تقدم من قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ) ويؤيدهما تمام الكلام قبل مجىء أن فى قراءة بعضهم بالكسر.

الموضع الخامس : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ ، وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ، وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) قرىء فى السبعة برفع (يَأْمُرَكُمْ) ونصبه ، فمن رفعه قطعه عما قبله ، وفاعله ضميره تعالى أو ضمير الرسول ، ويؤيد الاستئناف قراءة بعضهم (ولن يأمركم) و (لا) على هذه القراءة نافية لا غير ، ومن نصبه فهو معطوف على (يُؤْتِيَهُ) كما أن (يَقُولَ) كذلك ، و (لا) على هذه زائدة مؤكّدة لمعنى النفى السابق ، وقيل : على (يَقُولَ) ولم يذكر الزمخشرى غيره ، ثم جوز فى (لا) وجهين ، أحدهما : الزيادة ، فالمعنى ما كان

٢٥٢

لبشر أن ينصبه الله للدعاء إلى عبادته وترك الأنداد ، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عبادا له ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا ، والثانى : أن تكون غير زائدة ، ووجّهه بأن النبىّ عليه الصلاة والسّلام كان ينهى قريشا عن عباده الملائكة ، وأهل الكتاب عن عبادة عزيز وعيسى ، فلما قالوا له : أنتخذك ربا؟ قيل لهم : ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادته وينهاهم عن عبادة الملائكة والأنبياء ، هذا ملخص كلامه ، وإنما فسر لا يأمر بينهى لأنها حالته عليه الصلاة والسّلام ، وإلا فانتفاء الأمر أعمّ من النهى والسكوت ، والمراد الأول وهى الحالة التى يكون بها البشر متناقضا ؛ لأن نهيه عن عبادتهم لكونهم مخلوقين لا يستحقون أن يعبدوا ، وهو شريكهم فى كونه مخلوقا ، فكيف يأمرهم بعبادته؟ والخطاب فى (وَلا يَأْمُرَكُمْ) على القراءتين التفات.

تنبيه ـ قرأ جماعة (واتقوا فتنة لتصيبن الذين ظلموا) وخرجها أبو الفتح على حذف ألف (لا) تخفيفا ، كما قالوا «أم والله» ولم يجمع بين القراءتين بأن تقدر لا فى قراءة الجماعة زائدة ؛ لأن التوكيد بالنون يأبى ذلك.

(لات) : اختلف فيها فى أمرين :

أحدهما : فى حقيقتها ، وفى ذلك ثلاثة مذاهب :

أحدها : أنها كلمة واحدة فعل ماض ، ثم اختلف هؤلاء على قولين ؛ أحدهما : أنها فى الأصل بمعنى نقص من قوله تعالى (لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً) فإنه يقال : لات يليت ، كما يقال : ألت بألت ، وقد قرىء بهما ، ثم استعملت للنفى كما أن قلّ كذلك ، قاله أبو ذر الخشنى. والثانى : أن أصلها ليس بكسر الياء ، فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وأبدلت السين تاء.

والمذهب الثانى : أنها كلمتان : لا النافية ، والتاء لتأنيث اللفظة كما فى قمّت وربّت ، وإنما وجب تحريكها لالتقاء الساكنين ، قاله الجمهور.

٢٥٣

والثالث : أنها كلمة وبعض كلمة ، وذلك أنها لا النافية والتاء زائدة فى أول الحين ، قاله أبو عبيدة وان الطراوة.

واستدل أبو عبيدة بأنه وجدها فى الإمام ـ وهو مصحف عثمان رضى الله عنه ـ مخلطة بحين فى الخط ، ولا دليل فيه ، فكم فى خط المصحف من أشياء خارجة عن القياس؟.

ويشهد للجمهور أنه يوقف عليها بالتاء والهاء ، وأنها رسمت منفصلة عن الحين ، وأن التاء قد تكسر على أصل حركة التقاء الساكنين ، وهو معنى قول الزمخشرى «وقرىء بالكسر على البناء كجير» اه ، ولو كانت فعلا ماضيا لم يكن للكسر وجه.

الأمر الثانى : فى عملها ، وفى ذلك أيضا ثلاثة مذاهب :

أحدها : أنها لا تعمل شيئا ؛ فإن وليها مرفوع فمبتدأ حذف خبره ، أو منصوب فمفعول لفعل محذوف ، وهذا قول للأخفش ، والتقدير عنده فى الآية لا أرى حين مناص ، وعلى قراءة الرفع ولا حين مناص كائن لهم.

والثانى : أنها تعمل عمل إنّ ؛ فتنصب الاسم وترفع الخبر ، وهذا قول آخر للأخفش.

والثالث : أنها تعمل عمل ليس ، وهو قول الجمهور.

وعلى كل قول فلا يذكر بعدها إلا أحد المعمولين ، والغالب أن يكون المحذوف هو المرفوع.

واختلف فى معمولها ؛ فنص الفراء على أنها لا تعمل إلا فى لفظة الحين ، وهو ظاهر قول سيبويه ، وذهب الفارسى وجماعة إلى أنها تعمل فى الحين وفيما رادفه ، قال الزمخشرى : زيدت التاء على لا ، وخصّت بنفى الأحيان.

٢٥٤

تنبيه ـ قرىء (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) بخفض الحين ، فزعم الفراء أن لات تستعمل حرفا جارا لأسماء الزمان خاصة كما أن مذ ومنذ كذلك ، وأنشد :

٤١٣ ـ طلبوا صلحا ولات أوان

[فأجبنا أن لات حين بقاء] [ص ٦٨١]

وأجيب عن البيت بجوابين ، أحدهما : أنه على إضمار من الاستغراقية ، ونظيره فى بقاء عمل الجار مع حذفه وزيادته قوله :

ألا رجل جزاه الله خيرا

[يدلّ على محصّلة تبيت] [١٠٣]

فيمن رواه بجر رجل ، والثانى : أن الأصل «ولات أوان صلح» ثم بنى المضاف لقطعه عن الإضافة ، وكان بناؤه على الكسر لشبهه بنزال وزنا ، أو لأنه قدر بناؤه على السكون ثم كسر على أصل التقاء الساكنين كأمس ، وجير ، ونوّن للضرورة ، وقال لزمخشرى : للتعويض كيومئذ ، ولو كان كما زعم لأعرب لأن العوض ينزل منزلة المعوض منه ، وعن القراءة بالجواب الأول وهو واضح ، وبالثانى وتوجيهه أن الأصل (حين مناصهم) ثم نزل قطع المضاف إليه من مناص منزلة قطعه من حين لاتحاد المضاف والمضاف إليه ، قاله الزمخشرى ، وجعل التنوين عوضا عن المضاف إليه ، ثم بنى الحين لإضافته إلى غير متمكن ، اه والأولى أن يقال : إن التنزيل المذكور اقتضى بتاء الحين ابتداء ، وإن المناص معرب وإن كان قد قطع عن الإضافة بالحقيقة لكنه ليس بزمان ؛ فهو ككل وبعض.

(لو) على خمسة أوجه :

أحدها : لو المستعملة فى نحو «لو جاءنى لأكرمته» وهذه تفيد ثلاثة أمور :

أحدها : الشرطية ، أعنى عقد السببية والمسببيّة بين الجملتين بعدها.

والثانى : تقييد الشرطية بالزمن الماضى ، وبهذا الوجه وما يذكر بعده فارقت إن ، فإنّ تلك لعقد السببية والمسببية فى المستقبل ، ولهذا قالوا : الشرط بإن سابق

٢٥٥

على الشرط باو ، وذلك لأن الزمن المستقبل سابق على الزمن الماضى ، عكس ما يتوهم المبتدئون ، ألا ترى أنك تقول «إن جئتنى غدا أكرمتك» فإذا انقضى الغد ولم يجىء قلت «لو جئتنى [أمس] أكرمتك».

الثالث الامتناع ، وقد اختلف النحاة فى إفادتها له ، وكيفية إفادتها إياه على ثلاثة أقوال :

أحدها : أنها لا تفيده بوجه ، وهو قول الشّلوبين ، زعم أنها لا تدل على امتناع الشرط ، ولا على امتناع الجواب ، بل على التعليق فى الماضى ، كما دلت إن على التعليق فى المستقبل ، ولم تدلّ بالإجماع على امتناع ولا ثبوت ، وتبعه على هذا القول ابن هشام الخضراوى.

وهذا الذى قالاه كانكار الضروريات ؛ إذ فهم الامتناع منها كالبديهى ، فإنّ كل من سمع «لو فعل» فهم عدم وقوع الفعل من غير تردد ، ولهذا يصح فى كل موضع استعملت فيه أن تعقبه بحرف الاستدراك داخلا على فعل الشرط منفيا لفظا أو معنى ، تقول «لو جاءنى أكرمته ، ولكنه لم يجىء» ومنه قوله :

٤١٤ ـ ولو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة

كفانى ـ ولم أطلب قليل ـ من المال [ص ٥٠٨]

ولكنّما أسعى لمجد مؤثّل

وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالى [ص ٢٦٩]

وقوله :

٤١٥ ـ فلو كان حمد يخلد النّاس لم تمت

ولكنّ حمد النّاس ليس بمخلد

ومنه قوله تعالى (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ، وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) أى : ولكن لم أشأ ذلك فحق القول منى ، وقوله تعالى :

٢٥٦

(وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) أى فلم يريكموهم كذلك ، وقول الحماسى :

لو كنت من مازن لم تستبح إبلى

بنو اللّقيطة من ذهل بن شيبانا [٢٠]

ثم قال :

لكنّ قومى وإن كانوا ذوى عدد

ليسوا من الشرّ فى شىء وإن هانا

إذ المعنى لكننى لست من مازن ، بل من قوم ليسوا فى شىء من الشر وإن هان وإن كانوا ذوى عدد.

فهذه المواضع ونحوها بمنزلة قوله تعالى (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى).

والثانى : أنها تفيد امتناع الشرط وامتناع الجواب جميعا ، وهذا هو القول الجارى على ألسنة المعربين ، ونص عليه جماعة من النحويين ، وهو باطل بمواضع كثيرة ، منها قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) وقول عمر رضى الله عنه «نعم العبد صهيب ، لو لم يخف الله لم يعصه» وبيانه أن كل شىء امتنع ثبت نقيضه ، فإذا امتنع ما قام ثبت قام ، وبالعكس ، وعلى هذا فيلزم على هذا القول فى الآية الأولى ثبوت إيمانهم مع عدم نزول الملائكة وتكليم الموتى لهم وحشر كل شىء عليهم ، وفى الثانية نفاد الكلمات مع عدم كون كل ما فى الأرض من شجرة أقلاما تكتب الكلمات وكون البحر الأعظم بمنزلة الدواة وكون السبعة الأبحر مملوءة

٢٥٧

مدادا وهى تمد ذلك البحر ، ويلزم فى الأثر ثبوت المعصية مع ثبوت الخوف ، وكلّ ذلك عكس المراد.

والثالث : أنها تفيد امتناع الشرط خاصة ، ولا دلالة لها على امتناع الجواب ولا على ثبوته ، ولكنه إن كان مساويا للشرط فى العموم كما فى قولك «لو كانت الشّمس طالعة كان النّهار موجودا» لزم انتفاؤه ؛ لأنه يلزم من انتفاء السبب المساوى انتفاء مسببه ، وإن كان أعم كما فى قولك «لو كانت الشّمس طالعة كان الضّوء موجودا» فلا يلزم انتفاؤه ، وإنما يلزم انتفاء القدر المساوى منه للشرط ، وهذا قول المحققين.

ويتلخص على هذا أن يقال : إن «لو» تدل على ثلاثة أمور : عقد السببية والمسببية ، وكونهما فى الماضى ، وامتناع السبب ، ثم تارة يعقل بين الجزأين ارتباط مناسب وتارة لا يعقل.

فالنوع الأول على ثلاثة أقسام : ما يوجب فيه الشرع أو العقل انحصار مسببية الثانى فى سببية الأول نحو (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) ونحو «لو كانت الشّمس طالعة كان النّهار موجودا» وهذا يلزم فيه من امتناع الأول امتناع الثانى قطعا وما وجب أحدهما فيه عدم الانحصار المذكور نحو «لو نام لانتقض وضوءه» ونحو «لو كانت الشّمس طالعة كان الضّوء موجودا» وهذا لا يلزم فيه من امتناع الأول امتناع الثانى كما قدمنا ، وما يجوّز فيه العقل ذلك نحو «لو جاءنى أكرمته» فإن العقل يجوز انحصار سبب الإكرام فى المجىء ، ويرجحه أن ذلك هو الظاهر من ترتيب الثانى على الأول ، وأنه المتبادر إلى الذهن ، واستصحاب الأصل ، وهذا النوع يدل فيه العقل على انتفاء المسبب المساوى لانتفاء السبب ، لا على الانتفاء مطلقا ، ويدل الاستعمال والعرف على الانتفاء المطلق.

والنوع الثانى قسمان ؛ أحدهما : ما يراد فيه تقرير الجواب وجد الشرط أو فقد ، ولكنه مع فقده أولى ، وذلك كالأثر عن عمر ؛ فإنه يدلّ على تقرير عدم العصيان على كل حال ، وعلى أن انتفاء المعصية مع ثبوت الخوف أولى ، وإنما لم تدل

٢٥٨

على انتفاء الجواب لأمرين ؛ أحدهما : أن دلالتها على ذلك إنما هو من باب مفهوم المخالفة ، وفى هذا الأثر دلّ مفهوم الموافقة على عدم المعصية ، لأنه إذا انتفت المعصية عند عدم الخوف فعند الخوف أولى ، وإذا تعارض هذان المفهومان قدّم مفهوم الموافقة ، الثانى : أنه لما فقدت المناسبة انتفت العليّة ، فلم يجعل عدم الخوف علة عدم المعصية ، فعلمنا أن عدم المعصية معلل بأمر آخر ، وهو الحياء والمهابة والإجلال والإعظام ، وذلك مستمرّ مع الخوف ، فيكون عدم المعصية عند عدم الخوف مستندا إلى ذلك السبب وحده ، وعند الخوف مستندا إليه فقط أو إليه وإلى الخوف معا ، وعلى ذلك تتخرج آية لقمان ؛ لأن العقل يجزم بأن الكلمات إذا لم تنفد مع كثرة هذه الأمور فلأن لا تنفد مع قلتها وعدم بعضها أولى ، وكذا (وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) لأن عدم الاستجابة عند عدم السماع أولى ، وكذا (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا) فإن التولى عند عدم الإسماع أولى ، وكذا (لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) فإن الإمساك عند عدم ذلك أولى.

والثانى : أن يكون الجواب مقررا على كل حال من غير تعرض لأولوية نحو (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا) فهذا وأمثاله يعرف ثبوته بعلة أخرى مستمرة على التقديرين ، والمقصود فى هذا القسم تحقيق ثبوت الثانى ، وأما الامتناع فى الأول فإنه وإن كان حاصلا لكنه ليس المقصود.

وقد اتضح أن أفسد تفسير للوقول من قال : حرف امتناع لامتناع ، وأن العبارة الجيدة قول سيبويه رحمه‌الله : حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، وقول ابن مالك : حرف يدل على انتفاء تال ، ويلزم لثبوته ثبوت تاليه ، ولكن قد يقال : إن فى عبارة سيبويه إشكالا ونقضا.

فأما الإشكال فإن اللام من قوله «لوقوع غيره» فى الظاهر لام التعليل ، وذلك فاسد ، فإن عدم نفاد الكلمات ليس معللا بأن ما فى الأرض من شجرة أقلام وما بعده ، بل بأن صفاته سبحانه لا نهاية لها ، والإمساك خشية الإشفاق

٢٥٩

ليس معللا بملكهم خزائن رحمة الله ، بل بما طبعوا عليه من الشّحّ ، وكذا التولّى وعدم الاستجابة ليس معللين بالسماع ، بل بما هم عليه من العتو والضلال ، وعدم معصية صهيب ليست معللة بعدم الخوف بل بالمهابة ، والجواب أن تقدر اللام للتوقيت ، مثلها فى (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) أى أن الثانى يثبت عند ثبوت الأول.

وأما النقض فلأنها لا تدلّ على أنها دالة على امتناع شرطها ، والجواب أنه مفهوم من قوله «ما كان سيقع» فإنه دليل على أنه لم يقع.

نعم فى عبارة ابن مالك نقص ؛ فإنها لا تفيد أن اقتضاءها للامتناع فى الماضى ، فإذا قيل «لو حرف يقتضى فى الماضى امتناع ما يليه واستلزامه لتاليه» كان ذلك أجود العبارات.

تنبيهان : الأول ـ اشتهر بين الناس السؤال عن معنى الأثر المروى عن عمر رضى الله عنه ، وقد وقع مثله فى حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفى كلام الصديق رضى الله عنه ؛ وقلّ من يتنبه لهما ؛ فالأول قوله عليه الصلاة والسّلام فى بنت أبى سلمة «إنها لو لم تكن ربيبتى فى حجرى ما حلّت لى ، إنّها لابنة أخى من الرّضاعة» فإن حلّها له عليه الصلاة والسّلام منتف [عنه] من جهتين : كونها ربيبته فى حجره ، وكونها ابنة أخيه من الرضاعة ، كما أن معصية صهيب منتفية من جهتى المخافة والإجلال ، والثانى قوله رضى الله عنه لما طول فى صلاة الصبح وقيل له كادت الشمس تطلع «لو طلعت ما وجدتنا غافلين» لأن الواقع عدم غفلتهم وعدم طلوعها ، وكل منهما يقتضى أنها لم تجدهم غافلين ؛ أما الأول فواضح ، وأما الثانى فلأنها إذا لم تطلع لم تجدهم البتة لا غافلين ولا ذاكرين.

الثانى ـ لهجت الطلبة بالسؤال عن قوله تعالى (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) وتوجيهه أن الجملتين يتركب منهما قياس ، وحينئذ فينتح : لو علم الله فيهم خيرا لتولوا ، وهذا مستحيل ، والجواب من ثلاثة

٢٦٠