مغنى اللبيب - ج ١

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري

مغنى اللبيب - ج ١

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات مكتبة الصادق للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٦
الجزء ١ الجزء ٢

٢٩٧ ـ ما يرتجى وما يخاف جمعا

فهو الذى كاللّيث والغيث معا

خلافا لابن مالك فى إجازته أن يكون مضافا ومضافا إليه على إضمار مبتدأ ، كما فى قراءة بعضهم (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) وهذا تخريج للفصيح على الشاذ ، وأما قوله :

٢٩٨ ـ [لم يبق من آى بها يحلّين

غير رماد وخطام كنفين

وغير ودّ جازل أو ودّين]

وصاليات ككما يؤثفين

فيحتمل أن الكافين حرفان أكد أولهما بثانيهما كما قال :

٢٩٩ ـ [فلا والله لا يلفى لمابى

ولا للمابهم أبدا دواء [ص ١٨٣ و ٣٥٣]

وأن يكونا اسمين أكد أيضا أولهما بثانيهما ، وأن تكون الأولى حرفا والثانية اسما.

وأما الكاف غير الجارة فنوعان : مضمر منصوب أو مجرور نحو (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) وحرف معنى لا محل له ومعناه الخطاب ، وهى اللاحقة لاسم الإشارة نحو «ذلك ، وتلك» وللضمير المنفصل المنصوب فى قولهم «إياك ، وإياكما» ونحوهما ، هذا هو الصحيح ، ولبعض أسماء الأفعال نحو «حيهلك ، ورويدك ، والنّجاءك» ولأرأيت بمعنى أخبرنى نحو (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ) فالتاء فاعل ، والكاف حرف خطاب هذا هو الصحيح ، وهو قول سيبويه ، وعكس ذلك الفراء فقال : التاء حرف خطاب ، والكاف فاعل ، لكونها المطابقة للمسند إليه ، ويردّه صحة الاستغناء عن الكاف ، وأنها لم تقع قطّ مرفوعة ، وقال الكسائى : التاء فاعل ، والكاف مفعول ، ويلزمه أن يصح الاقتصار على المنصوب فى نحو «أرأيتك زيدا ما صنع» لأنه المفعول الثانى ، ولكن الفائدة لا يتم عنده ، وأما (أرأيتك هذا الّذى كرّمت علىّ) فالمفعول الثانى محذوف ، أى لم كرّمته على وأنا خير منه؟ وقد تلحق ألفاظا أخر شذوذا ، وحمل على ذلك الفارسىّ قوله :

١٨١

٣٠٠ ـ لسان السّوء تهديها إلينا

وحنت ، وما حسبتك أن تحينا

لئلا يلزم الإخبار عن اسم العين بالمصدر ، وقيل : يحتمل كون أن وصلتها بدلا من الكاف سادا مسد المفعولين كقراءة حمزة (ولا تحسبن الذين كفروا أنما نملى لهم) بالخطاب.

(كى) على ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون اسما مختصرا من كيف كقوله :

٣٠١ ـ كى تجنحون إلى سلم وما ثئرت

قتلاكم ، ولظى الهيجاء تضطرم؟ [ص ٠٥]

أراد كيف ، فحذف الفاء كما قال بعضهم «سو أفعل» يريد سوف.

الثانى : أن تكون بمنزلة لام التعليل معنى وعملا وهى الداخلة على ما الاستفهامية فى قولهم فى السؤال عن العلة «كيمه» بمعنى لمه ، وعلى «ما» المصدرية فى قوله :

٣٠٢ ـ إذا أنت لم تنفع فضرّ ، فإنّما

يرجّى الفتى كيما يضرّ وينفع

وقيل : ما كافة ، وعلى «أن» المصدرية مضمرة نحو «جئتك كى تكرمنى» إذا قدرت النّصب بأن.

الثالث : أن تكون بمنزلة أن المصدرية معنى وعملا ، وذلك فى نحو (لِكَيْلا تَأْسَوْا) ويؤيده صحة حلول أن محلّها ، ولأنها لو كانت حرف تعليل لم يدخل عليها حرف تعليل ، ومن ذلك «جئتك كى تكرمنى» وقوله تعالى (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً) إذا قدرت اللام قبلها ، فإن لم تقدر فهى تعليلية جارة ، ويجب حينئذ إضمار أن بعدها ، ومثله فى الاحتمالين قوله :

٣٠٣ ـ أردت لكيما أن تطير بقربتى

[فتتركها شنّا ببيداء بلقع]

١٨٢

فكى إما تعليلية مؤكّدة للام ، أو مصدرية مؤكّدة بأن ، ولا تظهر أن بعد كى إلا فى الضرورة كقوله :

٣٠٤ ـ فقالت : أكلّ النّاس أصبحت مانحا

لسانك كيما أن تغرّ وتخدعا؟

وعن الأخفش أن كى جارة دائما ، وأن النصب بعدها بأن ظاهرة أو مضمرة ، ويردّه نحو (لِكَيْلا تَأْسَوْا) فإن زعم أن كى تأكيد للام كقوله :

*ولا للما بهم أبدا دواء* [٢٩٩]

ردّ بأن الفصيح المقيس لا يخرّج على الشاذ ، وعن الكوفيين أنها ناصبة دائما ، ويرده قولهم «كيمه» كما يقولون لمه ، وقول حاتم :

٣٠٥ ـ وأوقدت نارى كى ليبصر ضوؤها

وأخرجت كلبى وهو فى البيت داخله

لأن لام الجر لا تفصل بين الفعل وناصبه ، وأجابوا عن الأول بأن الأصل «كى يفعل ما ذا» ويلزمهم كثرة الحذف ، وإخراج ما الاستفهامية عن الصّدر ، وحذف ألفها فى غير الجر ، وحذف الفعل المنصوب مع بقاء عامل النصب ، وكل ذلك لم يثبت ، نعم وقع فى صحيح البخارى فى تفسير (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) «فيذهب كيما فيعود ظهره طبقا واحدا» أى كيما يسجد ، وهو غريب جدا لا يحتمل القياس عليه.

تنبيه ـ إذا قيل «جئت لتكرمنى» بالنصب فالنصب بأن مضمرة ، وجوّز أبو سعيد كون المضمر كى ، والأول أولى ؛ لأنّ أن أمكن فى عمل النصب من غيرها ؛ فهى أقوى على التجوز فيها بأن تعمل مضمرة.

(كم) على وجهين : خبرية بمعنى كثير ، واستفهامية بمعنى أى عدد. ويشتركان فى خمسة أمور : الاسمية ، والإبهام ، والافتقار إلى التمييز ، والبناء ، ولزوم التصدير ، وأما قول بعضهم فى (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ

١٨٣

أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) : أبدلت أنّ وصلتها من كم فمردود ، بأن عامل البدل هو عامل المبدل منه ، فإن قدر عامل المبدل منه يروا فكم لها الصّدر فلا يعمل فيها ما قبلها ، وإن قدر أهلكنا فلا تسلط له فى المعنى على البدل ، والصواب أن كم مفعول لأهلكنا ، والجملة إما معمولة ليروا على أنه علّق عن العمل فى اللفظ ، وأنّ وصلتها مفعول لأجله ، وإما معترضة بين يروا وما سدّ مسدّ مفعوليه وهو أنّ وصلتها ، وكذلك قول ابن عصفور فى (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا) : إن كم فاعل مردود بأن كم لها الصدر ، وقوله إن ذلك جاء على لغة رديئة حكاها الأخفش عن بعضهم أنه يقول «ملكت كم عبيد» فيخرجها عن الصدرية خطأ عظيم ؛ إذ خرّج كلام الله سبحانه على هذه اللغة ، وإنما الفاعل ضمير اسم الله سبحانه ، أو ضمير العلم أو الهدى المدلول عليه بالفعل ، أو جملة (أَهْلَكْنا) على القول بأن الفاعل يكون جملة إما مطلقا أو بشرط كونها مقترنة بما يعلق عن العمل والفعل قلبى نحو «ظهر لى أقام زيد» وجوز أبو البقاء كونه ضمير الإهلاك المفهوم من الجملة ، وليس هذا من المواطن التى يعود الضمير فيها على المتأخر.

ويفترقان فى خمسة أمور :

أحدها : أن الكلام مع الخبرية محتمل للتصديق والتكذيب ، بخلافه مع الاستفهامية.

الثانى : أن المتكلم بالخبرية لا يستدعى من مخاطبه جوابا لأنه مخبر ، والمتكلم بالاستفهامية يستدعيه لأنه مستخبر.

الثالث : أن الاسم المبدل من الخبرية لا يقترن بالهمزة ، بخلاف المبدل من الاستفهامية ، يقال فى الخبرية «كم عبيد لى خمسون بل ستون» وفى الاستفهامية «كم مالك أعشرون أم ثلاثون».

١٨٤

الرابع : أن تمييزكم الخبرية مفرد أو مجموع ، تقول «كم عبد ملكت» و «كم عبيد ملكت» قال :

٣٠٦ ـ كم ملوك باد ملكهم

ونعيم سوقة بادوا

وقال الفرزدق :

٣٠٧ ـ كم عمّة لك يا جرير وخالة

فدعاء قد حلبت علىّ عشارى

ولا يكون تمييز الاستفهامية إلا مفردا ، خلافا للكوفيين.

الخامس : أن تمييز الخبرية واجب الخفض ، وتمييز الاستفهامية منصوب ، ولا يجوز جره مطلقا خلافا للفراء والزجاج وابن السراج وآخرين ، بل يشترط أن تجركم بحرف جر ؛ فحينئذ يجوز فى التمييز وجهان : النصب وهو الكثير ، والجر خلافا لبعضهم ، وهو بمن مضمرة وجوبا ، لا بالإضافة خلافا للزجاج.

وتلخص أن فى جر تمييزها أقوالا : الجواز ، والمنع ، والتفصيل فإن جرّت هى بحرف جر نحو «بكم درهم اشتريت» جاز ، وإلا فلا.

وزعم قوم أن لغة تميم جواز نصب تمييزكم الخبرية إذا كان الخبر مفردا ، وروى قول الفرزدق :

كم عمّة لك يا جرير وخالة

فدعاء قد حلبت علىّ عشارى [٣٠٧]

بالخفض على قياس تمييز الخبرية ، وبالنصب على اللغة التميمية ، أو على تقديرها استفهامية استفهام تهكم ، أى أخبرنى بعدد عماتك وخالاتك اللّاتى كن يخدمننى فقد نسيته ، وعليهما فكم : مبتدأ خبره «قد حلبت» وأفرد الضمير حملا على لفظ كم ، وبالرفع على أنه مبتدأ وإن كان نكرة لكونه قد وصف بلك وبفدعاء محذوفة مدلول عليها بالمذكورة ؛ إذ ليس المراد تخصيص الخالة بوصفها بالفدع كما حذف «لك» من صفة خالة استدلالا عليها بلك الأولى ، والخبر «قد حلبت» ولا بد من

١٨٥

تقدير قد حلبت أخرى ؛ لأن المخبر عنه فى هذا الوجه متعدد لفظا ومعنى ، ونظيره «زينب وهند قامت» وكم على هذا الوجه : ظرف أو مصدر ، والتمييز محذوف ، أى كم وقت أو حلبة.

(كأىّ) : اسم مركب من كاف التشبيه وأىّ المنونة ، ولذلك جاز الوقف عليها بالنون ؛ لأن التنوين لما دخل فى التركيب أشبه النون الأصلية ، ولهذا رسم فى المصحف نونا ، ومن وقف عليها يحذفه اعتبر حكمه فى الأصل وهو الحذف فى الوقف.

وتوافق كأى كم فى خمسة أمور : الإبهام ، والافتقار إلى التمييز ، والبناء ، ولزوم التصدير ، وإفادة التكثير تارة وهو الغالب ، نحو (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) والاستفهام أخرى ، وهو نادر ولم يثبته إلا ابن قتيبة وابن عصفور وابن مالك ، واستدل عليه بقول أبى بن كعب لابن مسعود رضى الله عنهما «كأىّ تقرأ سورة الأحزاب آية» فقال : ثلاثا وسبعين.

وتخالفها فى خمسة أمور :

أحدها : أنها مركبة ، وكم بسيطة على الصحيح ، خلافا لمن زعم أنها مركبة من الكاف وما الاستفهامية ، ثم حذفت ألفها لدخول الجار ، وسكنت ميمها للتخفيف لثقل الكلمة بالتركيب.

والثانى : أن مميزها مجرور بمن غالبا ، حتى زعم ابن عصفور لزوم ذلك ، ويردّه قول سيبويه «وكأى رجلا رأيت» زعم ذلك يونس ، و «كأى قد أتانا رجلا» إلا أن أكثر العرب لا يتكلمون به إلا مع من ، انتهى. ومن الغالب قوله تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ) و (كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ) و (كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ) ومن النصب قوله :

٣٠٨ ـ اطرد اليأس بالرّجا ؛ فكأىّ

آلما حمّ يسره بعد عسر

١٨٦

وقوله :

٣٠٩ ـ وكائن لنا فضلا عليكم ومنّة

قديما ، ولا تدرون ما منّ منعم

والثالث : أنها لا تقع استفهاميّة (١) عند الجمهور ، وقد مضى.

والرابع : أنها لا تقع مجرورة ، خلافا لابن قتيبة وابن عصفور ، أجازا «بكأىّ تبيع هذا الثوب».

والخامس : أن خبرها لا يقع مفردا.

(كذا) ترد على ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون كلمتين باقيتين على أصلهما ، وهما كاف التشبيه وذا الإشارية كقولك «رأيت زيدا فاضلا ورأيت عمرا كذا» وقوله :

٣١٠ ـ وأسلمنى الزّمان كذا

فلا طرب ولا أنس

وتدخل عليها ها التنبيه كقوله تعالى (أَهكَذا عَرْشُكِ)

الثانى : أن تكون كلمة واحدة مركبة من كلمتين مكنيابها عن غير عدد كقول أئمة اللغة «قيل لبعضهم : أما بمكان كذا وكذا وجذ؟ فقال : بلى وجاذا» فنصب بإضمار أعرف ، وكما جاء فى الحديث «أنه يقال للعبد يوم القيامة : أتذكر يوم كذا وكذا؟ فعلت فيه كذا وكذا».

الثالث : أن تكون كلمة واحدة مركبة مكنيا بها عن العدد فتوافق كأى فى أربعة أمور : التركيب ، والبناء ، والإبهام ، والافتقار إلى التمييز.

وتخالفها فى ثلاثة أمور :

أحدها : أنها ليس لها الصّدر ، تقول «قبضت كذا وكذا درهما»

الثانى : أن تمييزها واجب النصب ؛ فلا يجوز جره بمن اتفاقا ، ولا بالإضافة ،

__________________

(١) فى نسخة «لا تقع إلا استفهامية» وهو فاسد

١٨٧

خلافا للكوفيين ، أجازوا فى غير تكرار ولا عطف أن يقال «كذا ثوب ، وكذا أثواب» قياسا على العدد الصريح ، ولهذا قال فقهاؤهم : إنه يلزم بقول القائل «له عندى كذا درهم» مائة ، وبقوله «كذا دراهم» ثلاثة ، وبقوله «كذا كذا درهما» أحد عشر ، وبقوله «كذا درهما» عشرون ، وبقوله «كذا وكذا درهما» أحد وعشرون ، حملا على المحقّق من نظائرهن من العدد الصريح ووافقهم على هذه التفاصيل ـ غير مسألتى الإضافة ـ المبرد والأخفش وابن كيسان والسيرافى وابن عصفور ، ووهم ابن السّيد فنقل اتفاق النحويين على إجازة ما أجازه المبرد ومن ذكر معه.

الثالث : أنها لا تستعمل غالبا إلا معطوفا عليها ، كقوله :

٣١١ ـ عد النّفس نعمى بعد بؤساك ذاكرا

كذا وكذا لطفا به نسى الجهد

وزعم ابن خروف أنهم لم يقولوا «كذا درهما» ولا «كذا كذا درهما» وذكر ابن مالك أنه مسموع ولكنه قليل.

(كلّا) مركبة عند ثعلب من كاف التشبيه ولا النافية ، قال وإنما شدّدت لامها لتقوية المعنى ، ولدفع توهم بقاء معنى الكلمتين ، وعند غيره هى بسيطة.

وهى عند سيبويه والخليل والمبرد والزجاج وأكثر البصريين حرف معناه الرّدع والزّجر ، لا معنى لها عندهم إلا ذلك ، حتى إنهم يجيزون أبدا الوقف عليها ، والابتداء بما بعدها ، وحتى قال جماعة منهم ، متى سمعت كلّا فى سورة فاحكم بأنها مكية ؛ لأن فيها معنى التهديد والوعيد ، وأكثر ما نزل ذلك بمكة ؛ لأن أكثر العتو كان بها ، وفيه نظر ؛ لأن لزوم المكية إنما يكون عن اختصاص العتو بها ، لا عن غلبته ، ثم لا تمتنع الإشارة إلى عتو سابق ، ثم لا يظهر معنى الزبر فى كلّا المسبوقة بنحو (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) وقولهم : المعنى انته عن ترك الإيمان بالتصوير فى أى صورة

١٨٨

ما شاء الله ، وبالبعث ، وعن العجلة بالقرآن ، تعسّف ؛ إذ لم يتقدم فى الأولين حكاية نفى ذلك عن أحد ، ولطول الفصل فى الثالثة بين كلّا وذكر العجلة ، وأيضا فإن أول ما نزل خمس آيات من أول سورة العلق ثم نزل (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) فجاءت فى افتتاح الكلام ، والوارد منها فى التنزيل ثلاثة وثلاثون موضعا كلّها فى النصف الأخير.

ورأى الكسائى وأبو حاتم ومن وافقهما أنّ معنى الرّدع والزّجر ليس مستمرا فيها ، فزادوا فيها معنى ثانيا يصح عليه أن يوقف دونها ويبتدأ بها ، ثم اختلفوا فى تعيين ذلك المعنى على ثلاثة أقوال ، أحدها للكسائى ومتابعيه ، قالوا : تكون بمعنى حقّا ، والثانى لأبى حاتم ومتابعيه ، قالوا : تكون بمعنى ألا الاستفتاحية ، والثالث للنّضر بن شميل والفراء ومن وافقهما ، قالوا : تكون حرف جواب بمنزلة إى ونعم ، وحملوا عليه (كَلَّا وَالْقَمَرِ) فقالوا : معناه إى والقمر.

وقول أبى حاتم عندى أولى من قولهما ؛ لأنه أكثر اطرادا ؛ فإنّ قول النّضر لا يتأتى فى آيتى المؤمنين والشعراء على ما سيأتى ، وقول الكسائى لا يتأتى فى نحو (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ) ، (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ) ، (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) لأن أنّ تكسر بعد ألا الاستفتاحية ، ولا تكسر بعد حقا ولا بعد ما كان بمعناها ، ولأن تفسير حرف بحرف أولى من تفسير حرف باسم ، وأما قول مكى إن كلّا على رأى الكسائى اسم إذا كانت بمعنى حقا فبعيد ؛ لأن اشتراك اللفظ بين الاسمية والحرفية قليل ، ومخالف للأصل ، ومحوج لتكلف دعوى علة لبنائها ، وإلا فلم لا نوّنت؟

وإذا صلح الموضع للردع ولغيره جاز الوقف عليها والابتداء بها على اختلاف التقديرين ، والأرجح حملها على الردع لأنه الغالب فيها ، وذلك نحو (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ

١٨٩

أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ؛ كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ) (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ).

وقد تتعين للردع أو الاستفتاح نحو (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ، كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ) لأنّها لو كانت بمعنى حقا لما كسرت همزة إنّ ، ولو كانت بمعنى نعم لكانت للوعد بالرجوع لأنها بعد الطلب كما يقال «أكرم فلانا» فتقول «نعم» ونحو (قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ، قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) وذلك لكسر إن ، ولأن نعم بعد الخبر للتصديق.

وقد يمتنع كونها للزجر نحو (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ ، كَلَّا وَالْقَمَرِ) إذ ليس قبلها ما يصح ردّه

وقول الطبرى وجماعة إنه لما نزل فى عدد خزنة جهنم (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) قال بعضهم : اكفونى اثنين وأنا أكفيكم سبعة عشر ؛ فنزل (كَلَّا) زجرا له قول متعسف ؛ لأن الآية لم تتضمن ذلك.

تنبيه ـ قرىء (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) بالتنوين ، إما على أنه مصدر كلّ إذا أعيا ، أى كلّوا فى دعواهم وانقطعوا ، أو من الكل وهو الثقل ، أى حملوا كلّا ، وجوز الزمخشرى كونه حرف الردع ونوّن كما فى (السَّلاسِلُ) وردّه أبو حيان بأن ذلك إنما صحّ فى (السَّلاسِلُ) لأنه اسم أصله التنوين فرجع به إلى أصله للتناسب ، أو على لغة من يصرف مالا ينصرف مطلقا ، أو بشرط كونه مفاعل أو مفاعيل ، اه.

وليس التوجيه منحصرا عند الزمخشرى فى ذلك ، بل جوز كون التنوين بدلا من حرف الإطلاق المزيد فى رأس الآية ، ثم إنه وصل بنية الوقف ، وجزم بهذا الوجه فى (قَوارِيرَا) وفى قراءة بعضهم (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) بالتنوين ، وهذه القراءة مصحّحة لتأويله فى كلا ، إذ الفعل ليس أصله التنوين.

١٩٠

(كأنّ) : حرف مركب عند أكثرهم ، حتى ادّعى ابن هشام وابن الخباز الإجماع عليه ، وليس كذلك ، قالوا : والأصل فى «كأنّ زيدا أسد» إن زيدا كأسد ، ثم قدّم حرف التشبيه اهتماما به ، ففتحت همزة أنّ لدخول الجار عليه ، ثم قال الزجاج وابن جنى : ما بعد الكاف جرّ بها.

قال ابن جنى : وهى حرف لا يتعلق بشىء ، لمفارقته الموضع الذمى تتعلق فيه بالاستقرار ، ولا يقدر له عامل غيره ، لتمام الكلام بدونه ، ولا هو زائد ، لإفادته التشبيه.

وليس قوله بأبعد من قول أبى الحسن : إن كاف التشبيه لا تتعلق دائما.

ولما رأى الزجاج أن الجارّ غير الزائد حقّه التعلق قدّر الكاف هنا اسما بمنزلة مثل ، فلزمه أن يقدر له موضعا ، فقدّره مبتدأ ، فاضطر إلى أن قدّر له خبرا لم ينطق به قطّ ، ولا المعنى مفتقر إليه ، فقال : معنى «كأنّ زيدا أخوك» مثل أخوّة زيد إياك كائن.

وقال الأكثرون : لا موضع لأنّ وما بعدها ، لأن الكاف وأنّ صارا بالتركيب كلمة واحدة ، وفيه نظر ، لأن ذاك فى التركيب الوضعى ، لا فى التركيب الطارىء فى حال التركيب الإسنادى.

والمخلّص عندى من الإشكال أن يدّعى أنها بسيطة ، وهو قول بعضهم.

وفى شرح الإيضاح لابن الخباز : ذهب جماعة إلى أن فتح همزتها لطول الحرف بالتركيب ، لا لانها معمولة للكاف كما قال أبو الفتح ، وإلا لكان الكلام غير تام ، والإجماع على أنه تامّ ، اه وقد مضى أن الزجاج يراه ناقصا.

وذكروا لكأنّ أربعة معان :

أحدها ـ وهو الغالب عليها ، والمتفق عليه ـ التشبيه ، وهذا المعنى أطلقه الجمهور

١٩١

لكأنّ ، وزعم جماعة منهم ابن السيّد البطليوسىّ أنه لا يكون إلا إذا كان خبرها اسما جامدا نحو «كأنّ زيدا أسد» بخلاف «كأنّ زيدا قائم ، أو فى الدار ، أو عندك ، أو يقوم» فإنها فى ذلك كله للظّنّ.

والثانى : الشك والظن ، وذلك فيما ذكرنا ، وحمل ابن الأنبارى عليه «كأنّك بالشتاء مقبل» أى أظنه مقبلا.

والثالث : التحقيق ، ذكره الكوفيون والزجاجى ، وأنشدوا عليه :

٣١٢ ـ فأصبح بطن مكّة مقشعرّا

كأنّ الأرض ليس بها هشام

أى لأن الأرض ؛ إذ لا يكون تشبيها ، لأنه ليس فى الأرض حقيقة.

فإن قيل : فإذا كانت للتحقيق فمن أين جاء معنى التعليل؟

قلت : من جهة أن الكلام معها فى المعنى جواب عن سؤال عن العلّة مقدر ؛ ومثله (اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ).

وأجيب بأمور ، أحدها : أن المراد بالظرفية الكون فى بطنها ، لا الكون على ظهرها ، فالمعنى أنه كان ينبغى أن لا يقشعر بطن مكة مع دفن هشام فيه ، لأنه لها كالغيث.

الثانى : أنه يحتمل أن هشاما قد خلف من يسدّ مسدّه ، فكانه لم يمت.

الثالث : أن الكاف للتعليل ، وأنّ للتوكيد ، فهما كلمتان لا كلمة ، ونظيره (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) أى أعجب لعدم فلاح الكافرين.

والرابع : التقريب ، قاله الكوفيون ، وحملوا عليه «كأنك بالشتاء مقبل ، وكأنك بالفرج آت ، وكأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل» وقول الحريرى (١) :

٣١٣ ـ كأنّى بك تنحّط

[إلى اللّحد وتنغّط]

__________________

(١) فى المقامة الحادية عشرة (الساوية)

١٩٢

وقد اختلف فى إعراب ذلك ؛ فقال الفارسى : الكاف حرف خطاب ، والباء زائدة فى اسم كأنّ ، وقال بعضهم : الكاف اسم كأن ، وفى المثال الأول حذف مضاف ، أى كأن زمانك مقبل بالشتاء ، ولا حذف فى «كأنك بالدنيا لم تكن» بل الجملة الفعلية خبر ، والباء بمعنى فى ، وهى متعلقة بتكن ، وفاعل تكن ضمير المخاطب ، وقال ابن عصفور : الكاف والياء فى كأنك وكأنّى زائدتان كافّتان لكأنّ عن العمل كما تكفها ما ، والباء زائدة فى المبتدأ ، وقال ابن عمرون : المتصل بكأنّ اسمها ، والظرف خبرها ، والجملة بعده حال ، بدليل قولهم «كأنّك بالشّمس وقد طلعت» بالواو ، ورواية بعضهم «ولم تكن ، ولم تزل» بالواو ، وهذه الحال متممة لمعنى الكلام كالحال فى قوله تعالى (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) وكحتى وما بعدها فى قولك «ما زلت بزيد حتى فعل» وقال المطرزى : الأصل كأنى أبصرك تنحط ، وكأنى أبصر الدنيا لم تكن ، ثم حذف الفعل وزيدت الباء.

مسألة ـ زعم قوم أن كأنّ قد تنصب الجزأين ، وأنشدوا :

٣١٤ ـ كأنّ أذنيه إذا تشوّفا

قادمة أو قلما محرّفا

فقيل : الخبر محذوف ، أى يحكيان ، وقيل : إنما الرواية «تخال أذنيه» وقيل : الرواية «قادمتا أو قلما محرّفا» بألفات غير منونة ، على أن الأسماء مثنّاة ، وحذفت النون للضرورة ، وقيل : أخطأ قائله ، وهو أبو نخيلة ، وقد أنشده بحضرة الرشيد فلحّنه أبو عمرو والأصمعى ، وهذا وهم ؛ فإن أبا عمرو توفى قبل الرشيد.

(كلّ) : اسم موضوع لاستغراق أفراد المنكّر ، نحو (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) والمعرف المجموع نحو (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) وأجزاء المفرد المعرف نحو «كلّ زيد حسن» فإذا قلت «أكلت كلّ رغيف لزيد» كانت لعموم الأفراد ، فإن أضفت الرغيف إلى زيد صارت لعموم أجزاء فرد واحد.

ومن هنا وجب فى قراءة غير أبى عمرو وابن ذكوان كذلك يطبع الله

١٩٣

عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) بترك تنوين (قَلْبِ) تقدير كل بعد قلب ليعم أفراد القلوب كما عم أجزاء القلب.

وترد كل ـ باعتبار كل واحد مما قبلها وما بعدها ـ على ثلاثة أوجه.

فأما أوجهها باعتبار ما قبلها ؛

فأحدها : أن تكون نعتا لنكرة أو معرفة ؛ فتدل على كماله ، وتجب إضافتها إلى اسم ظاهر يماثله لفظا ومعنى ، نحو «أطعمنا شاة كلّ شاة» وقوله :

٣١٥ ـ وإنّ الّذى حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد [ص ٥٥٢]

والثانى : أن تكون توكيدا لمعرفة ، قال الأخفش والكوفيون : أو لنكرة محدودة ، وعليهما ففائدتها العموم ، وتجب إضافتها إلى اسم مضمر راجع إلى المؤكد نحو (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ) قال ابن مالك : وقد يخلفه الظاهر كقوله :

٣١٦ ـ كم قد ذكرتك لو أجزى بذكركم

يا أشبه النّاس كلّ النّاس بالقمر

وخالفه أبو حيان ، وزعم أن «كل» فى البيت نعت مثلها فى «أطعمنا شاة كل شاة» وليست توكيدا ، وليس قوله بشىء ؛ لأن التى ينعت بها دالة على الكمال ، لا على عموم الأفراد.

ومن توكيد النكرة بها قوله :

٣١٧ ـ نلبث حولا كاملا كلّه

لا نلتقى إلّا على منهج

وأجاز الفراء والزمخشرى أن نقطع كل المؤكد بها عن الإضافة لفظا تمسكا بقراءة بعضهم (إنا كلا فيها) وخرّجها ابن مالك على أن «كلا» حال من ضمير الظرف وفيه ضعف من وجهين : تقديم الحال على عامله الظرف ، وقطع كل عن الإضافة لفظا

١٩٤

وتقديرا لتصير نكرة فيصح كونه حالا ، والأجود أن تقدر كلا بدلا من اسم إنّ ، وإنما جاز إبدال الظاهر من ضمير الحاضر بدل كل لأنه مفيد للاحاطة مثل «قمتم ثلاثتكم».

والثالث : أن لا تكون تابعة ، بل تالية للعوامل ؛ فتقع مضافة إلى الظاهر نحو (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) وغير مضافة نحو (وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) وأما أوجهها الثلاثة التى باعتبار ما بعدها فقد مضت الإشارة إليها.

الأول : أن تضاف إلى الظاهر ، وحكمها أن يعمل فيها جميع العوامل نحو «أكرمت كلّ بنى تميم».

والثانى : أن تضاف إلى ضمير محذوف ، ومقتضى كلام النحويين أن حكمها كالتى قبلها ، ووجهه أنهما سيان فى امتناع التأكيد بهما ، وفى تذكرة أبى الفتح أن تقديم كل فى قوله تعالى (كُلًّا هَدَيْنا) أحسن من تأخيرها ؛ لأن التقدير كلهم ، فلو أخرت لباشرت العامل مع أنها فى المعنى منزّلة منزلة ما لا يباشره ، فلما قدمت أشبهت المرتفعة بالابتداء فى أن كلا منهما لم يسبقها عامل فى اللفظ.

الثالث : أن تضاف إلى ضمير ملفوظ به ، وحكمها أن لا يعمل فيها غالبا إلا الابتداء ، نحو (إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) فيمن رفع كلا ، ونحو (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ) لأن الابتداء عامل معنوى ، ومن القليل قوله :

٣١٨ ـ [يميد إذا مادت عليه دلاؤهم]

فيصدر عنه كلّها وهو ناهل

ولا يجب أن يكون منه قول على رضى الله عنه :

٣١٩ ـ فلمّا تبيّنّا الهدى كان كلّنا

على طاعة الرّحمن والحقّ والنّقى

حل الأولى تقدير كان شأنية.

١٩٥

فصل

واعلم أن لفظ «كل» حكمه الإفراد والتذكير ، وأن معناها بحسب ما تضاف إليه ؛ فإن كانت مضافة إلى منكر وجب مراعاة معناها ؛ فلذلك جاء الضمير مفردا مذكرا فى نحو (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ) وقول أبى بكر وكعب ولبيد رضى الله عنهم :

٣٢٠ ـ كلّ امرىء مصبّح فى أهله

والموت أدنى من شراك نعله

٣٢١ ـ كلّ ابن أنثى وإن طالت سلامته

يوما على آلة حدباء محمول

ألا كلّ شىء ما خلا الله باطل

وكلّ نعيم لا محالة زائل [٢٠٥]

وقول السموأل :

٣٢٢ ـ إذا المرء لم يدنس من الّلؤم عرضه

فكلّ رداء يرتديه جميل

ومفردا مؤنثا فى قوله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) ومثنى فى قول الفرزدق :

٣٢٣ ـ وكلّ رفيقى كلّ رحل ـ وإن هما

تعاطى القنا قوماهما ـ أخوان

وهذا البيت من المشكلات لفظا ومعنى وإعرابا ، فلنشرحه.

قوله «كل رحل» كل هذه زائدة ، وعكسه حذفها فى قوله تعالى (عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) فيمن أضاف ، ورحل : بالحاء المهملة ، وتعاطى : أصله «نعاطيا» فحذف لامه للضرورة ، وعكسه إثبات اللام للضرورة فيمن قال :

١٩٦

٣٢٤ ـ لها متنتان خظاتا [كما

أكبّ على ساعديه النّمر]

إذا قيل : إن خظاتا فعل وفاعل ، أو الألف من «تعاطى» لام الفعل ، ووحّد الضمير لأن الرفيقين ليس باثنين معينين ، بل هما كثير كقوله تعالى (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) ثم حمل على اللفظ ، إذ قال «هما أخوان» كما قيل (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) وجملة «هما أخوان» خبر كل ، وقوله «قوما» إمّا بدل من القنا لأن قومهما من سببهما إذ معناها تقاومهما ، فحذفت الزوائد ، فهو بدل اشتمال ، أو مفعول لأجله ، أى تعاطيا القنا لمقاومة كل منهما الآخر ، أو مفعول مطلق من باب (صُنْعَ اللهِ) لأن تعاطى القنا يدل على تقاومهما.

ومعنى البيت أن كل الرفقاء فى السفر إذا استقروا رفيقين رفيقين فهما كالأخوين لاجتماعهما فى السفر والصحبة ، وإن تعاطى كل واحد منهما مغالبة الآخر.

ومجموعا مذكرا فى قوله تعالى : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) وقول لبيد :

وكلّ أناس سوف تدخل بينهمّ

دويهية تصفرّ منها الأنامل [٦٢]

ومؤنثا فى قول الآخر :

٣٢٥ ـ وكلّ مصيبات الزّمان وجدتها

سوى فرقة الأحباب هيّنة الخطب

ويروى :

*وكل مصيبات تصيب فإنها*

وعلى هذا فالبيت مما نحن فيه.

وهذا الذى ذكرناه ـ من وجوب مراعاة المعنى مع النكرة ـ نصّ عليه ابن مالك ، وردّه أبو حيان بقول عنترة :

١٩٧

٣٢٦ ـ جادت عليه كلّ عين ثرّة

فتركن كلّ حديقة كالدّرهم

فقال «تركن» ولم يقل تركت ؛ فدل على جواز «كلّ رجل قائم ، وقائمون»

والذى يظهر لى خلاف قولهما ، وأن المضافة إلى المفرد إن أريد نسبة الحكم إلى كل واحد وجب الإفراد نحو «كلّ رجل يشبعه رغيف» أو إلى المجموع وجب الجمع كبيت عنترة ؛ فإنّ المراد أن كل فرد من الأعين جاد ، وأن مجموع الأعين تركن ، وعلى هذا فتقول «جاد علىّ كلّ محسن فأغنانى» أو «فأغنونى» بحسب المعنى الذى تريده.

وربما جمع الضمير مع إرادة الحكم على كل واحد ، كقوله :

٣٢٧ ـ *من كلّ كوماء كثيرات الوبر*

وعليه أجاز ابن عصفور فى قوله :

٣٢٨ ـ وما كلّ ذى لبّ بمؤتيك نصحه

وما كلّ مؤت نصحه بلبيب

أن يكون «مؤتيك» جمعا حذفت نونه للاضافة ، ويحتمل ذلك قول فاطمة الخزاعية تبكى إخوتها :

٣٢٩ ـ إخوتى لا تبعدوا أبدا

وبلى والله قد بعدوا

كلّ ما حىّ وإن أمروا

وارد الحوض الّذى وردوا

وذلك فى قولها «أمروا» فأما قولها «وردوا» فالضمير لإخوتها ، هذا إن حملت الحىّ على نقيض الميت وهو ظاهر ، فإن حملته على مرادف القبيلة فالجمع فى «أمروا» واجب

١٩٨

مثله فى (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) وليس من ذلك (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) لأن القرآن لا يخرّج على الشاذ ، وإنما الجمع باعتبار معنى الأمة ، ونظيره الجمع فى قوله تعالى (أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ) ومثل ذلك فى قوله تعالى (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ) فليس الضامر مفردا فى المعنى لأنه قسيم الجمع وهو (فَرِجالاً) بل هو اسم جمع كالجامل والباقر ، أو صفة لجمع محذوف أى كل نوع ضامر ونظيره (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) فإن (كافِرٍ) نعت لمحذوف مفرد لفظا مجموع معنى أى أول فريق كافر ، ولو لا ذلك لم بقل (كافِرٍ) بالإفراد.

وأشكل من الآيتين قوله تعالى (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ) ولو ظفر بها أبو حيان لم يعدل إلى الاعتراض ببيت عنترة.

والجواب عنها أن جملة (لا يَسَّمَّعُونَ) مستأنفة أخبربها عن حال المسترقين ، لا صفة لكل شيطان ، ولا حال منه ؛ إذ لا معنى للحفظ من شيطان لا يسمع ، وحينئذ فلا يلزم عود الضمير إلى كل ، ولا إلى ما أضيفت إليه ، وإنما هو عائد إلى الجمع المستفاد من الكلام.

وإن كانت «كل» مضافة إلى معرفة فقالوا : يجوز مراعاة لفظها ومراعاة معناها ، نحو «كلهم قائم ، أو قائمون» وقد اجتمعتا فى قوله تعالى (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً ، لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) والصواب أن الضمير لا يعود إليها من خبرها إلا مفردا مذكرا على لفظها نحو (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الآية ، وقوله تعالى فيما يحكيه عنه نبيه عليه الصلاة والسّلام «يا عبادى كلّكم جائع إلّا من أطعمته» الحديث وقوله عليه الصلاة والسّلام «كلّ النّاس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» و «كلّكم راع ، وكلّكم مسئول عن رعيّته» «وكلّنا لك عبد» ومن ذلك

١٩٩

(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) وفى الآية حذف مضاف ، وإضمار لما دلّ عليه المعنى لا اللفظ ، أى أن كل أفعال هذه الجوارح كان المكلف مسؤلا عنه ، وإنما قدّرنا المضاف لأن السؤال عن أفعال الحواس ، لا عن أنفسها ، وإنما لم يقدر ضمير (كانَ) راجعا لكل لئلا يخلو (مَسْؤُلاً) عن ضمير فيكون حينئذ مسندا إلى (عَنْهُ) كما توهّم بعضهم ، ويردّه أن الفاعل ونائبه لا يتقدمان على عاملهما ، وأما (لَقَدْ أَحْصاهُمْ) فجملة أجيب بها القسم ، وليست خبرا عن كل ، وضميرها راجع لمن ، لا لكل ، ومن معناها الجمع.

فإن قطعت عن الإضافة لفظا ؛ فقال أبو حيان : يجوز مراعاة اللفظ نحو (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) ومراعاة المعنى نحو (وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) والصواب أن المقدر يكون مفردا نكرة ؛ فيجب الإفراد كما لو صرح بالمفرد ، ويكون جمعا معرفا فيجب الجمع ، وإن كانت المعرفة لو ذكرت لوجب الإفراد ، ولكن فعل ذلك تنبيها على حال المحذوف فيهما ؛ فالأول نحو (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) (كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) إذ التقدير كل أحد ، والثانى نحو (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) (وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) أى كلهم.

مسألتان ـ الأولى ، قال البيانيون : إذا وقعت «كل» فى حيّز النفى كان النفى موجها إلى الشمول خاصة ، وأفاد بمفهومه ثبوت الفعل لبعض الأفراد ، كقولك «ما جاء كلّ القوم ، ولم آخذ كلّ لدراهم ، وكل الدراهم لم آخذ» وقوله :

٣٣٠ ـ *ما كلّ رأى الفتى يدعو إلى رشد*

وقوله :

٣٣١ ـ ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه

[تأتى الرّياح بما لا تشتهى السّفن]

٢٠٠