مغنى اللبيب - ج ١

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري

مغنى اللبيب - ج ١

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات مكتبة الصادق للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٦
الجزء ١ الجزء ٢

حرف الفاء

الفاء المفردة : حرف مهمل خلافا لبعض الكوفيين فى قولهم : إنها ناصبة فى نحو «ما تأتينا فتحدّثنا» والمبرد فى قوله : إنها خافضة فى نحو :

فمثلك حبلى قد رقت ومرضع

[فألهيتها عن ذى تمائم محول] [٢١١]

فيمن جر «مثلا» والمعطوف ، والصحيح أن النصب بأن مضمرة كما سيأتى وأن الجر بربّ مضمرة كما مر.

وترد على ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون عاطفة ، وتفيد ثلاثة أمور :

أحدها : للترتيب ، وهو نوعان : معنوى كما فى «قام زيد فعمرو» وذكرى وهو عطف مفصّل على مجمل ، نحو (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) ونحو (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) ونحو (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) الآية ، ونحو «توضّأ فغسل وجهه ويديه ومسح رأسه ورجليه» وقال الفراء : إنها لا تفيد الترتيب مطلقا ، وهذا ـ مع قوله إن الواو تفيد الترتيب ـ غريب ، واحتجّ بقوله تعالى : (أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) وأجيب بأن المعنى أردنا إهلاكها أو بأنها للترتيب الذكرى ، وقال الجرمى : لا تفيد الفاء الترتيب فى البقاع ولا فى الأمطار ، بدليل قوله :

٢٦٦ ـ [قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى] بين الدّخول فحومل [ص ٣٥٦]

وقولهم «مطرنا مكان كذا فمكان كذا» وإن كان وقوع المطر فيهما فى وقت واحد.

الأمر الثانى : التعقيب ، وهو فى كل شىء بحسبه ، ألا ترى أنه يقال «تزوج

١٦١

فلان فولد له» إذا لم يكن بينهما إلا مدّة الحمل ، وإن كانت متطاولة ، و «دخلت البصرة فبغداد» إذا لم تقم فى البصرة ولا بين البلدين ، وقال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) وقيل : الفاء فى هذه الآية للسببية ، وفاء السببية لا تستلزم التّعقيب ، بدليل صحة قولك «إن يسلم فهو يدخل الجنة» ومعلوم ما بينهما من المهلة ، وقيل : تقع الفاء تارة بمعنى ثمّ ، ومنه الآية ، وقوله تعالى (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) فالفاءات فى فخلقنا العلقة مضغة ، وفى فخلقنا المضغة ، وفى فكسونا بمعنى ثمّ ؛ لتراخى معطوفاتها ، وتارة بمعنى الواو ، كقوله

*بين الدّخول فحومل* [٢٦٦]

وزعم الأصمعىّ أن الصواب روايته بالواو ؛ لأنه لا يجوز «جلست بين زيد فعمرو» وأجيب بأن التقدير : بين مواضع الدخول فمواضع حومل ، كما يجوز «جلست بين العلماء فالزهّاد» وقال بعض البغداديين : الأصل «ما بين» فحذف «ما» دون بين ، كما عكس ذلك من قال :

٢٦٧ ـ *يا أحسن النّاس ما قرنا إلى قدم (١)*

أصله ما بين قرن ؛ فحذف بين وأقام قرتا مقامها ، ومثله (ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) قال : والفاء نائبة عن إلى ، ويحتاج على هذا القول إلى أن يقال : وصحت إضافة بين إلى الدخول لاشتماله على مواضع ، أو لأن التقدير بين مواضع الدخول ، وكون الفاء للغاية بمنزلة إلى غريب ، وقد يستأنس له عندى بمجىء عكسه فى نحو قوله :

٢٦٨ ـ وأنت الّتى حبّبت شغبا إلى بدا

إلىّ ، وأوطانى بلاد سواهما

إذ المعنى شغبا فبدا ، وهما موضعان ، ويدل على إرادة الترتيب قوله بعده :

__________________

(١) جعل ابن الملا هذا الشاهد صدر بيت ؛ وروى عجزه هكذا :

يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم

ولا حبال محب واصل تصل

١٦٢

حللت بهذا حلّة ، ثمّ حلّة

بهذا ، فطاب الواديان كلاهما

وهذا معنى غريب ، لأنى لم أر من ذكره.

والأمر الثالث : السببية ، وذلك غالب فى العاطفة جملة أو صفة ؛ فالأول نحو (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) ونحو (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) والثانى نحو (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ) وقد تجىء فى ذلك لمجرد الترتيب نحو (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) ونحو (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) ونحو (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها) ونحو (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً ، فَالتَّالِياتِ ذِكْراً)

وقال الزمخشرى : للفاء مع الصفات ثلاثة أحوال :

أحدها : أن تدل على ترتيب معانيها فى الوجود ، كقوله :

٢٦٩ ـ يا لهف زيّابة للحارث فال

صّابح فالغانم فالآيب

أى الذى صبح فغنم فآب.

والثانى : أن تدل على ترتيبها فى التفاوت من بعض الوجوه ، نحو قولك : «خذ الأكمل فالأفضل ، واعمل الأحسن فالأجمل».

والثالث : أن تدل على ترتيب موصوفاتها فى ذلك نحو «رحم الله المحلّقين فالمقصّرين» اه.

البيت لابن زيّابة ، يقول : يا لهف أبى على الحارث إذ صبح قومى بالغارة فغنم فآب سليما أن لا أكون لقيته فقتلته ، وذلك لأنه يريد يا لهف نفسى.

والثانى : من أوجه الفاء : أن تكون رابطة للجواب ، وذلك حيث لا يصلح لأن يكون شرطا ، وهو منحصر فى ست مسائل :

١٦٣

إحداها : أن يكون الجواب جملة اسمية نحو (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ونحو (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)

الثانية : أن تكون فعلية كالاسمية ، وهى التى فعلها جامد ، نحو (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ) (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً) (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ).

الثالثة : أن يكون فعلها إنشائيا ، نحو (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) ونحو (فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) ونحو (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) فيه أمران : الاسمية والإنشائية ، ونحو «إن قام زيد فو الله لأقومنّ» ونحو «إن لم يتب زيد فيا خسره رجلا».

والرابعة : أن يكون فعلها ماضيا لفظا ومعنى ، إما حقيقة نحو (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) ونحو (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ ، وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) وقد هنا مقدرة ، وإما مجازا نحو (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) نزل هذا الفعل لتحقق وقوعه منزلة ما وقع.

الخامسة أن تقترن بحرف استقبال نحو (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) ونحو (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ)

السادسة : أن تقترن بحرف له الصّدر ، كقوله :

٢٧٠ ـ فإن أهلك فذى لهب لظاه

علىّ تكاد تلتهب التهابا

١٦٤

لما عرفت من أن ربّ مقدرة ، وأنها لها الصّدر ، وإنما دخلت فى نحو (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) لتقدير الفعل خبرا لمحذوف ؛ فالجملة اسمية.

وقد مر أن إذا الفجائية قد تنوب عن الفاء نحو (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) وأن الفاء قد تحذف للضرورة كقوله :

*من يفعل الحسنات الله يشكرها* [٨١]

وعن المبرد أنه منع ذلك حتى فى الشعر ، وزعم أن الرواية :

*من يفعل الخير فالرّحمن يشكره*

وعن الأخفش أن ذلك واقع فى النثر الفصيح ، وأن منه قوله تعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ) وتقدم تأويله.

وقال ابن مالك : يجوز فى النثر نادرا ، ومنه حديث اللّقطة «فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها».

تنبيه ـ كما تربط الفاء الجواب بشرطه كذلك تربط شبه الجواب بشبه الشرط ، وذلك فى نحو «الذى يأتينى فله درهم» وبدخولها فهم ما أراده المتكلم من ترتّب لزوم الدرهم فى الإتيان ، ولو لم تدخل احتمل ذلك وغيره.

وهذه الفاء بمنزلة لام التوطئة فى نحو (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ) فى إيذانها بما أراده المتكلم من معنى القسم ، وقد قرىء بالإثبات والحذف قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ).

الثالث : أن تكون زائدة دخولها فى الكلام كخروجها ، وهذا لا يثبته سيبويه ، وأجاز الأخفش زيادتها فى الخبر مطلقا ، وحكى «أخوك فوجد» وقيد الفراء والأعلم وجماعة الجواز بكون الخبر أمرا أو نهيا ؛ فالأمر كقوله :

٢٧١ ـ وقائلة : خولان فانكح فتاتهم

[وأكرومة الحيّين خلو كماهيا] [ص ٤٨٣]

١٦٥

وقوله :

٢٧٢ ـ أرواح مودع أم بكور

أنت فانظر لأىّ ذاك تصير

وحمل عليه الزجاج (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ) والنهى نحو «زيد فلا تضربه» وقال ابن برهان : تزاد الفاء عند أصحابنا جميعا كقوله :

٢٧٣ ـ [لا تجزعى إن منفس أهلكته](١)

فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعى [ص ٤٠٣]

انتهى ، وتأول المانعون قوله «خولان فانكح» على أن التقدير هذه خولان ، وقوله «أنت فانظر» على أن التقدير : انظر فانظر ، ثم حذف انظر الأول وحده فبرز ضميره ، فقيل : أنت فانظر ، والبيت الثالث ضرورة ، وأما الآية فالخبر (حَمِيمٌ) وما بينهما معترض ، أو هذا منصوب بمحذوف يفسره فليذوقوه مثل (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) وعلى هذا فحميم بتقدير : هو حميم.

ومن زيادتها قوله :

٢٧٤ ـ لمّا اتّقى بيد عظيم جرمها

فتركت ضاحى جلدها يتذبذب

لأن الفاء لا تدخل فى جواب لما ، خلافا لابن مالك ، وأما قوله تعالى (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) فالجواب محذوف ، أى انقسموا قسمين فمنهم مقتصد ومنهم غير ذلك ، وأما قوله تعالى (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) فقيل : جواب لما الأولى لما الثانية وجوابها ، وهذا مردود لاقترانه بالفاء ، وقيل (كَفَرُوا بِهِ) جواب لهما ؛ لأن الثانية تكرير للأولى ، وقيل : جواب الأولى محذوف : أى أنكروه.

مسألة ـ الفاء فى نحو (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) جواب لأمّا مقدرة عند بعضهم ، وفيه إجحاف ، وزائدة عند الفارسى ، وفيه بعد ، وعاطفة عند غيره ، والأصل تنبّه

__________________

(١) ويروى «إن منفسا أهلكته».

١٦٦

فاعبد الله ، ثم حذف تنبه ، وقدم المنصوب على الفاء إصلاحا للفظ كيلا تقع الفاء صدرا ، كما قال الجميع فى [الفاء فى] نحو «أمّا زيدا فاضرب» إذ الأصل مهما يكن من شىء فاضرب زيدا ، وقد مضى شرحه فى حرف الهمزة.

مسألة ـ الفاء فى نحو «خرجت فإذا الأسد» زائدة لازمة عند الفارسى والمازنى وجماعة ، وعاطفة عند مبرمان وأبى الفتح ، وللسببية المحضة كفاء الجواب عند أبى إسحاق ، ويجب عندى أن يحمل على ذلك مثل (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ) ونحو «ائتنى فإنى أكرمك» ، إذ لا يعطف الإنشاء على الخبر ولا العكس ، ولا يحسن إسقاطها ليسهل دعوى زيادتها.

مسألة ـ (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) قدر أنهم قالوا بعد الاستفهام : لا ، فقيل لهم : فهذا كرهتموه ، يعنى والغيبة مثله فاكرهوها ، ثم حذف المبتدأ وهو هذا ، وقال الفارسى : التقدير فكما كرهتموه فاكرهوا الغيبة ، وضعفه ابن الشجرى بأن فيه حذف الموصول ـ وهو ما المصدرية ـ دون صلتها ، وذلك ردىء ، وجملة (وَاتَّقُوا اللهَ) عطف على (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) على التقدير الأول ، وعلى «فاكرهوا الغيبة» على تقدير الفارسى ، وبعد فعندى أن ابن الشجرى لم يتأمل كلام الفارسى ، فإنه قال : كأنهم قالوا فى الجواب لا فقيل لهم فكرهتموه فاكرهوا الغيبة واتقوا الله ، فاتقوا عطف على فاكرهوا ، وإن لم يذكر كما فى (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) والمعنى فكما كرهتموه فاكرهوا الغيبة وإن لم تكن كما مذكورة ، كما أن «ما تأتينا فتحدّثنا» معناه فكيف تحدثنا وإن لم تكن كيف مذكورة ، اه. وهذا يقتضى أن كما ليست محذوفة ، بل أن المعنى يعطيها ؛ فهو تفسير معنى ، لا تفسير إعراب.

تنبيه ـ قيل : الفاء تكون للاستئناف ، كقوله :

١٦٧

٢٧٥ ـ ألم تسأل الرّبع القوا ، فينطق

[وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق]

أى فهو ينطق ، لأنها لو كانب للعطف لجزم ما بعدها ، ولو كانت للسببية لنصب ، ومثله (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) بالرفع ، أى فهو يكون حينئذ ، وقوله :

٢٧٦ ـ الشّعر صعب وطويل سلّمه

إذا ارتقى فيه الّذى لا يعلمه

زلّت به إلى الحضيض قدمه

يريد أن يعربه فيعجمه

أى فهو يعجمه ، ولا يجوز نصبه بالعطف ، لأنه لا يريد أن يعجمه.

والتحقيق أن الفاء فى ذلك كله للعطف ، وأن المعتمد بالعطف الجملة ، لا الفعل ، والمعطوف عليه فى هذا الشّعر قوله يريد ، وإنما يقدر النحويون كلمة هو ليبينوا أن الفعل ليس المعتمد بالعطف.

(فى) : حرف جر ، له عشرة معان :

أحدها : الظرفية ، وهى إما مكانية أو زمانية ، وقد اجتمعتا فى قوله تعالى (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) أو مجازيّة نحو (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) ومن المكانية «أدخلت الخاتم فى أصبعى ، والقلنسوة فى رأسى» إلا أن فيهما قلبا.

الثانى : المصاحبة نحو (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ) أى معهم ، وقيل : التقدير ادخلوا فى جملة أمم ، فحذف المضاف (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ).

والثالث : التعليل نحو (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) (لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ) وفى الحديث «أن امرأة دخلت النار فى هرّة حبستها».

الرابع : الاستعلاء نحو (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ). وقال :

٢٧٧ ـ هم صلبوا العبدىّ فى جذع نخلة

[فلا عطست شيبان إلّا بأجدعا]

١٦٨

وقال آخر :

٢٧٨ ـ بطل كأنّ ثيابه فى سرحة

[يحذى نعال السّبت ليس بتوأم]

والخامس : مرادفة الباء

كقوله :

٢٧٩ ـ ويركب يوم الرّوع منّا فوارس

بصيرون فى طعن الأباهر والكلى

وليس منه قوله تعالى (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) خلافا لزاعمه ، بل هى للسببية (١) ، أى يكثركم بسبب هذا الجعل ، والأظهر قول الزمخشرى إنها للظرفية المجازية ، قال : جعل هذا التدبير كالمنبع أو المعدن للبث والتكثير مثل (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ).

السادس : مرادفة إلى نحو (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ).

السابع : مرادفة من كقوله :

٢٨٠ ـ ألا عم صباحا أيّها الطّلل البالى

وهل يعمن من كان فى العصر الخالى؟

وهل يعمن من كان أحدث عهده

ثلاثين شهرا فى ثلاثة أحوال؟

وقال ابن جنى : التقدير فى عقب ثلاثة أحوال ، ولا دليل على هذا المضاف ، وهذا نظير إجازته «جلست زيدا» بتقدير «جلوس زيد» مع احتماله لأن يكون أصله إلى زيد ، وقيل : الأحوال جمع حال لا حول ، أى فى ثلاث حالات : نزول المطر ، وتعاقب الرياح ، ومرور الدهور ، وقيل : يريد أن أحدث عهده خمس سنين ونصف ؛ ففى بمعنى مع.

الثامن : المقايسة ـ وهى الداخلة بين مفضول سابق وفاضل لاحق ـ نحو (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ)

__________________

(١) فى نسخة «للتعليل».

١٦٩

التاسع : التعويض ، وهى الزائدة عوضا من [فى] أخرى محذوفة كقولك «ضربت فيمن رغبت» أصله : ضربت من رغبت فيه ، أجازه ابن مالك وحده بالقياس على نحو قوله *فانظر بمن تثق* [٢٢٧] على حمله على ظاهره ، وفيه نظر.

العاشر : التوكيد ، وهى الزائدة لغير التعويض ، أجازه الفارسى فى الضرورة ، وأنشد :

٢٨١ ـ أنا أبو سعد إذا الليل دجا

يخال فى سواده يرندجا

وأجازه بعضهم فى قوله تعالى : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها)

حرف القاف

(قد) على وجهين : حرفية وستأتى ، واسمية ، وهى على وجهين : اسم فعل وسيأتى ، واسم مرادف لحسب ، وهذه تستعمل على وجهين : مبنية وهو الغالب لشبهها بقد الحرفية فى لفظها ولكثير من الحروف فى وضعها ، ويقال فى هذا «قد زيد درهم» بالسكون ، و «قدنى» بالنون ، حرصا على بقاء السكون لأنه الأصل فيما يبنون ، ومعربة وهو قليل ، يقال : قد زيد درهم ، بالرفع ، كما يقال : حسبه درهم ، بالرفع ، و «قدى درهم» بغير نون كما يقال : حسبى ، والمستعملة اسم فعل مرادفة ليكفى ، يقال : قد زيدا درهم ، وقدنى درهم ، كما يقال : يكفى زيدا درهم ، ويكفينى درهم.

وقوله :

٢٨٢ ـ قدنى من نصر الخبيببن قدى

[ليس الإمام بالشّحيح الملحد]

تحتمل قد الأولى أن تكون مرادفة لحسب على لغة البناء ، وأن تكون

١٧٠

اسم فعل ، وأما الثانية فتحتمل الأول وهو واضح ، والثانى على أن النون حذفت للضرورة كقوله :

٢٨٣ ـ [عددت قومى كعديد الطّيس]

إذ ذهب القوم الكرام ليسى [ص ٣٤٤]

ويحتمل أنها اسم فعل لم يذكر مفعوله فالياء للإطلاق ، والكسرة للساكنين وأما الحرفية فمختصة بالفعل المتصرف الخبرى المثبت المجرد من جازم وناصب وحرف تنفيس ، وهى معه كالجزء ؛ فلا تفصل منه بشىء ، اللهم إلا بالقسم كقوله :

٢٨٤ ـ أخالد قد والله أوطأت عشوة

وما قائل المعروف فينا يعنّف [ص ٣٩٣]

وقول آخر :

٢٨٥ ـ فقد والله بيّن لى عنائى

بوشك فراقهم صرد يصيح

وسمع «قد لعمرى بتّ ساهرا» و «قد والله أحسنت».

وقد يحذف [الفعل] بعدها لدليل كقول النابغة :

٢٨٦ ـ أفد الترحّل ، غير أنّ ركابنا

لمّا تزل برحالنا ، وكأن قد [ص ٣٤٢]

أى وكأن قد زالت.

ولها خمسة معان :

أحدها : التوقع ، وذلك مع المضارع واضح كقولك «قد يقدم الغائب اليوم» إذا كنت تتوقّع قدومه.

وأما مع الماضى فأثبته الأكثرون ، قال الخليل : يقال «قد فعل» لقوم ينتظرون الخبر ، ومنه قول المؤذن : قد قامت الصلاة ؛ لأن الجماعة منتظرون لذلك ،

١٧١

وقال بعضهم : تقول «قد ركب الأمير» لمن ينتظر ركوبه ، وفى التنزيل (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ) لأنها كانت تتوقّع إجابة الله سبحانه وتعالى لدعائها.

وأنكر بعضهم كونها للتوقع مع الماضى ، وقال : التوقّع انتظار الوقوع ، والماضى قد وقع.

وقد تبين بما ذكرنا أن مراد المثبتين لذلك أنها تدلّ على أن الفعل الماضى كان قبل الإخبار به متوقّعا ، لا أنه الآن متوقع ، والذى يظهر لى قول ثالث ، وهو أنها لا تفيد التوقع أصلا ، أما فى المضارع فلأن قولك «يقدم الغائب» يفيد التوقع بدون قد ؛ إذا الظاهر من حال المخبر عن مستقبل أنه متوقّع له ، وأما فى الماضى فلأنه لو صح إثبات التوقع لها بمعنى أنها تدخل على ما هو متوقع لصحّ أن يقال فى «لا رجل» بالفتح إن لا للاستفهام لأنها لا تدخل إلا جوابا لمن قال : هل من رجل ، ونحوه ، فالذى بعد «لا» مستفهم عنه من جهة شخص آخر ، كما أن الماضى بعد قد متوقّع كذلك ، وعبارة ابن مالك فى ذلك حسنة ، فإنه قال : إنها تدخل على ماض متوقع ، ولم يقل إنها تفيد التوقع ، ولم يتعرض للتوقع فى الداخلة على المضارع البتة ، وهذا هو الحق.

الثانى : تقريب الماضى من الحال ، تقول «قام زيد» فيحتمل الماضى القريب والماضى البعيد ، فإن قلت «قد قام» اختصّ بالقريب.

وانبنى على إفادتها ذلك أحكام :

أحدها : أنها لا تدخل على ليس وعسى ونعم وبئس لأنبهن للحال ؛ فلا معنى لذكر ما يقرّب ما هو حاصل ، ولذلك علة أخرى ، وهى أن صيغهنّ لا يفدن الزمان ، ولا يتصرفن ؛ فأشبهن الاسم ، وأما قول عدىّ :

١٧٢

٢٨٧ ـ لو لا الحياء وأنّ رأسى قد عسى

فيه المشيب لزرت أمّ القاسم

فعسى هنا بمعنى اشتدّ ، وليست عسى الجامدة

الثانى : وجوب دخولها عند البصريين إلا الأخفش على الماضى الواقع حالا إما ظاهرة نحو (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) أو مقدّرة نحو (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) ونحو (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) وخالفهم الكوفيون والأخفش ؛ فقالوا : لا تحتاج لذلك ؛ لكثرة وقوعها حالا بدون قد ، والأصل عدم التقدير ، لا سيما فيما كثر استعماله.

الثالث : ذكره ابن عصفور ، وهو أن القسم إذا أجيب بماض متصرف مثبت فإن كان قريبا من الحال جىء باللام وقد جميعا نحو (تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) وإن كان بعيدا جىء باللام وحدها كقوله :

٢٨٨ ـ حلفت لها بالله حلفة فاجر

لناموا ؛ فما إن من حديث ولاصالى [ص ٦٢٦]

اه ، والظاهر فى الآية والبيت عكس ما قال ؛ إذ المراد فى الآية لقد فضلك الله علينا بالصبر وسيرة المحسنين ، وذلك محكوم له به فى الأزل ، وهو متصف به مذعقل ، والمراد فى البيت أنهم ناموا قبل مجيئه.

ومقتضى كلام الزمخشرى أنها فى نحو «والله لقد كان كذا» للتوقع لا للتقريب ؛ فإنه قال فى تفسير قوله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً) فى سورة الأعراف فإن قلت : فما بالهم لا يكادون ينطقون بهذه اللام إلا مع قد ، وقلّ عنهم نحو قوله *حلفت لها بالله ـ البيت* قلت : لأن الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيدا للجملة المقسم عليها التى هى جوابها ؛ فكانت مظنّة لمعنى التوقع الذى هو معنى قد عند استماع المخاطب كلمة القسم ، اه.

١٧٣

ومقتضى كلام ابن مالك أنها مع الماضى إنما تفيد التقريب كما ذكره ابن عصفور ، وأن من شرط دخولها كون الفعل متوقعا كما قدمنا ؛ فإنه قال تسهيله : وتدخل على فعل ماض متوقّع لا يشبه الحرف لقربه من الحال اه.

الرابع : دخول لام الابتداء فى نحو «إنّ زيدا لقد قام» وذلك لأن الأصل دخولها على الاسم نحو «إنّ زيدا لقائم» وإنما دخلت على المضارع لشبهه بالاسم نحو (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) فإذا قرب الماضى من الحال أشبه المضارع الذى هو شبيه بالاسم ؛ فجاز دخولها عليه.

المعنى الثالث : التقليل ، وهو ضربان : تقليل وقوع الفعل نحو «قد يصدق الكذوب» و «قد يجود البخيل (١)» وتقليل متعلقه نحو قوله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أى ما هم عليه هو أقل معلوماته سبحانه ، وزعم بعضهم أنها فى هذه الأمثلة ونحوها للتحقيق ، وأن التقليل فى المثالين الأولين لم يستفد من قد ، بل من قولك : البخيل يجود ، والكذوب يصدق ، فإنه إن لم يحمل على أن صدور ذلك منهما قليل كان فاسدا ، إذ آخر الكلام يناقض أوله.

الرابع ، التكثير ، قاله سيبويه فى قول الهذلى :

٢٨٩ ـ قد أترك القرن مصفرّا أنامله

[كأنّ أثوابه مجّت بفرصاد]

وقال الزمخشرى فى (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) أى ربما نرى ، ومعناه تكثير الرؤية ، ثم استشهد بالبيت ، واستشهد جماعة على ذلك ببيت العروص :

٢٩٠ ـ قد أشهد الغارة الشّعواء تحملنى

جرداء معروقة اللّحيين سرحوب

الخامس : التحقيق ، نحو (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) وقد مضى أن بعضهم حمل عليه قوله تعالى (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) قال الزمخشرى : دخلت لتوكيد العلم ، ويرجع ذلك إلى توكيد الوعيد ، وقال غيره فى (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا) قد

__________________

(١) فى نسخة «قد يعثر الجواد» بدل «قد يجود البخيل».

١٧٤

فى الجملة الفعلية المجاب بها القسم مثل إنّ واللام فى الجملة الاسمية المجاب بها فى إفادة التوكيد ، وقد مضى نقل القول بالتقليل فى الأولى والتقريب والتوقع فى مثل الثانية ، ولكنّ القول بالتحقيق فيهما أظهر.

والسادس : النفى ، حكى ابن سيده «قد كنت فى خير فتعرفه» بنصب تعرف ، وهذا غريب ، وإليه أشار فى التسهيل بقوله : وربما نفى بقد فنصب الجواب بعدها ، اه. ومحمله عندى على خلاف ما ذكر ، وهو أن يكون كقولك للكذوب : هو رجل صادق ، ثم جاء النصب بعدها نظرا إلى المعنى ، وإن كانا إنما حكما بالنفى لثبوت النصب فغير مستقيم ، لمجىء قوله :

٢٩١ ـ [سأترك منزلى لبنى تميم]

وألحق بالحجاز فأستريحا

وقراءة بعضهم (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ).

مسألة ـ قيل : يجوز النصب على الاشتغال فى نحو «خرجت فإذا زيد يضربه عمرو» مطلقا ، وقيل : يمتنع مطلقا ، وهو الظاهر ؛ لأن إذا الفجائية لا يليها إلا الجمل الاسمية ، وقال أبو الحسن وتبعه ابن عصفور : يجوز فى نحو «فإذا زيد قد ضربه عمرو» ويمتنع بدون قد ، ووجهه عندى أن التزام الاسميه مع إذا هذه إنما كان للفرق بينها وبين الشرطية المختصة بالفعلية ، فإذا اقترنت بقد حصل (١) الفرق بذلك ؛ إذ لا تقترن الشرطية بها.

(قطّ) ـ على ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون ظرف زمان لاستغراق ما مضى ، وهذه بفتح القاف وتشديد الطاء مضمومة فى أفصح اللغات ، وتختص بالنفى ، يقال «ما فعلته قط» والعامة يقولون : لا أفعله قطّ ، وهو لحن ، واشتقاقه من قططته ، أى قطعته ، فمعنى ما فعلته قطّ ما فعلته فيما انقطع من عمرى ؛ لأن الماضى منقطع عن الحال والاستقبال ، وبنيت لتضمنها معنى مذ وإلى ؛ إذ المعنى مذ أن خلقت [أو مذ خلقت] إلى الآن ،

__________________

(١) فى نسخة «يحصل الفرق».

١٧٥

وعلى حركة لئلا يلتقى ساكنان ، وكانت الضمة تشبيها بالغايات ، وقد تكسر على أصل التقاء الساكنين ، وقد تتبع قافه طاءه فى الضم ، وقد تخفف طاؤه مع ضمها أو إسكانها.

والثانى : أن تكون بمعنى حسب ، وهذه مفتوحة القاف ساكنة الطاء ، يقال «قطى ، وقطك ، وقط زيد درهم» كما يقال : حسبى ، وحسبك ، وحسب زيد درهم ، إلا أنها مبنية لأنها موضوعة على حرفين ، وحسب معربة.

والثالث : أن تكون اسم فعل بمعنى يكفى ، فيقال : قطنى ـ بنون الوقاية ـ كما يقال : يكفينى.

وتجوز نون الوقاية على الوجه الثانى ، حفظا للبناء على السكون ، كما يجوز فى لدن ومن وعن كذلك.

حرف الكاف

الكاف المفردة ـ جارة ، وغيرها ، والجارة حرف واسم.

والحرف له خمسة معان :

أحدها : التشبيه ، نحو «زيد كالأسد».

والثانى : التعليل ، أثبت ذلك قوم ، ونفاه الأكثرون ، وقيّد بعضهم جوازه بأن تكون الكاف مكفوفة بما ، كحكاية سيبويه «كما أنه لا يعلم فتجاوز الله عنه» والحق جوازه فى المجرّدة من ما ، نحو (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) أى أعجب لعدم فلاحهم ، وفى المقرونة بما الزائدة كما فى المثال ، وبما المصدرية نحو (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ) ـ الآية) قال الأخفش : أى لأجل إرسالى فيكم رسولا منكم فاذكرونى ، وهو ظاهر فى قوله تعالى : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) وأجاب بعضهم بأنه من وضع الخاص موضع العام ؛ إذ الذكر والهداية يشتركان فى أمر واحد وهو

١٧٦

الإحسان ؛ فهذا فى الأصل بمنزلة (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) والكاف للتشبيه ، ثم عدل عن ذلك للاعلام بخصوصية المطلوب ، وما ذكرناه فى الآيتين من أنّ ما مصدرية قاله جماعة ، وهو الظاهر ، وزعم الزمخشرى وابن عطية وغيرهما أنها كافة ، وفيه إخراج الكاف عما ثبت لها من عمل الجر لغير مقتض.

واختلف فى نحو قوله :

٢٩٢ ـ وطرفك إمّا جئتنا فاحبسنّه

كما يحسبوا أنّ الهوى حيث تنظر

فقال الفارسى : الأصل كيما فحذف الياء ، وقال ابن مالك : هذا تكلف ، بل هى كاف التعليل وما الكافة ، ونصب الفعل بها لشبهها بكى فى المعنى ، وزعم أبو محمد الأسود فى كتابه المسمى «نزهة الأديب» أن أبا على حرّف هذا البيت ، وأن الصواب فيه :

إذا جئت فامنح طرف عينيك غيرنا

لكى يحسبوا ، البيت ...

والثالث : الاستعلاء ، ذكره الأخفش والكوفيون ، وأن بعضهم قيل له : كيف أصبحت؟ فقال : كخير ، أمرا على خير ، وقيل : المعنى بخير ، ولم يثبت مجىء الكاف بمعنى الباء ، وقيل هى للتشبيه على حذف مضاف ، أى كصاحب خير.

وقيل فى «كن كما أنت» : إن المعنى على ما أنت عليه ، والنحويين فى هذا المثال أعاريب :

أحدها : هذا ، وهو أن ما موصولة ، وأنت : مبتدأ حذف خبره.

والثانى : أنها موصولة ، وأنت خبر حذف مبتدؤه ، أى كالذى هو أنت ، وقد قيل بذلك فى قوله تعالى (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) أى كالذى هو لهم آلهة.

والثالث أن ما زائدة ملغاة ، والكاف أيضا جارة كما فى قوله :

١٧٧

وننصر مولانا ونعلم أنّه

كما النّاس مجروم عليه وجارم [٩٥]

وأنت : ضمير مرفوع أنيب عن المجرور ، كما فى قولهم : ما أنا كأنت ، والمعنى كن فيما يستقبل مماثلا لنفسك فيما مضى.

والرابع : أن ما كافة ، وأنت : مبتدأ حذف خبره ، أى عليه أو كائن ، وقد قيل فى (كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) : إن ما كافة ، وزعم صاحب المستوفى أن الكاف لا تكفّ بما ، وردّ عليه بقوله :

٢٩٣ ـ وأعلم أنّنى وأبا حميد

كما النّشوان والرّجل الحليم (١)

وقوله :

٢٩٤ ـ أخ ماجد لم يخزنى يوم مشهد

كما سيف عمرو لم تخنه مضاربه

[ص ٣١٠]

وإنما يصحّ الاستدال بهما إذا لم يثبت أنّ «ما» المصدرية توصل بالجملة الاسمية.

الخامس : أن ما كافة أيضا ، وأنت : فاعل ، والأصل كما كنت ، ثم حذف كان فانفصل الضمير ، وهذا بعيد ، بل الظاهر أن ما على هذا التقدير مصدرية.

تنبيه ـ تقع «كما» بعد الجمل كثيرا صفة فى المعنى ؛ فتكون نعتا لصدر أو حالا ، ويحتملهما قوله تعالى (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) فإن قدّرته نعتا لمصدر فهو إما معمول لنعيده ، أى نعيد أول خلق إعادة مثل ما بدأناه ، أو لنطوى ، أى نفعل هذا الفعل العظيم كفعلنا هذا الفعل ، وإن قدرته حالا فذو الحال مفعول نعيده ، أى نعيده مماثلا للذى بدأنا ، وتقع كلمة «كذلك» أيضا كذلك.

فإن قلت : فكيف اجتمعت مع مثل فى قوله تعالى (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ ، كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) ومثل فى المعنى نعت لمصدر (قالَ) المحذوف ، [أى] كما أن كذلك نعت له ، ولا يتعدّى

__________________

(١) الكاف لا عمل لها ، والنشوان : مبتدأ ، والرجل معطوف عليه ، وخبر هذا المبتدأ محذوف ، والجملة خبر أن.

١٧٨

عامل واحد لمتعلقين بمعنى واحد ، لا تقول : ضربت زيدا عمرا ، ولا يكون «مثل» تأكيدا لكذلك ، لأنه أبين منه ، كما لا يكون زيد من قولك «هذا زيد يفعل كذا» توكيدا لهذا لذلك ، ولا خبرا لمحذوف بتقدير : الأمر كذلك ؛ لما يؤدّى إليه من عدم ارتباط ما بعده بما قبله.

قلت : مثل بدل من كذلك ، أو بيان ، أو نصب بيعلمون ، أى لا يعلمون اعتقاد اليهود والنصارى ، فمثل بمنزلتها فى «مثلك لا يفعل كذا» أو نصب بقال (١) ، أو الكاف مبتدأ والعائد محذوف ، أى قاله ، وردّ ابن الشجرى ذلك على مكى بأن قال : قد استوفى معموله وهو مثل ، وليس بشىء ؛ لأن مثل حينئذ مفعول مطلق أو مفعول به ليعلمون ، والضمير المقدّر مفعول به لقال.

والمعنى الرابع : المبادرة ، وذلك إذا اتصلت بما فى نحو «سلّم كما تدخل» و «صلّ كما يدخل الوقت» ذكره ابن الخبّاز فى النهاية ، وأبو سعيد السيرافى ، وغيرهما ، وهو غريب جداً.

والخامس : التوكيد ، وهى الزائدة نحو (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) قال الأكثرون : التقدير ليس شىء مثله ؛ إذ لو لم تقدّر زائدة صار المعنى ليس شىء مثل مثله ؛ فيلزم المحال. وهو إثبات المثل ، وإنما زيدت لتوكيد نفى المثل ؛ لأن زيادة الحرف بمنزلة إعادة الجملة ثانيا ، قاله ابن جنى ، ولأنهم إذا بالغوا فى نفى الفعل عن أحد قالوا : «مثلك لا يفعل كذا» ومرادهم إنما هو النفى عن ذاته ، ولكنهم إذا نفوه عمن هو على أخصّ أوصافه فقد نفوه عنه.

وقيل : الكاف فى الآية غير زائدة ، ثم اختلف ؛ فقيل : الزائد مثل ، كما زيدت فى (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) قالوا : وإنما زيدت هنا لتفصل الكاف من الضمير ، اه.

__________________

(١) قال : المراد لفظ قال الأول ، أى وقال الذين لا يعلمون مثل قول اليهود ، ويكون قوله كذلك معمولا لقال الثانى على هذا

١٧٩

والقول بزيادة الحرف أولى من القول بزيادة الاسم ، بل زيادة الاسم لم تثبت ، وأما (بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) فقد يشهد للقائل بزيادة «مثل» فيها قراءة ابن عبّاس (بما آمنتم به) وقد تؤوّلت قراءة الجماعة على زيادة الباء فى [المفعول] المطلق أى إيمانا مثل إيمانكم به ، أى بالله سبحانه ، أو بمحمد عليه الصلاة والسّلام ، أو بالقرآن ، وقيل : مثل للقرآن ، وما للتوراة ، أى فإن آمنوا بكتابكم كما آمنتم بكتابهم ، وفى الآية الأولى قول ثالث ، وهو أن الكاف ومثلا لا رائد منهما ، ثم اختلف ، فقيل : مثل بمعنى الذات ، وقيل : بمعنى الصفة ، وقيل : الكاف اسم مؤكد بمثل ، كما عكس ذلك من قال :

٢٩٥ ـ [ولعبت طير بهم أبابيل]

فصيّروا مثل كعصف مأكول

وأما الكاف الاسمية الجارة فمرادفة لمثل ، ولا تقع كذلك عند سيبويه والمحققين إلا فى الضرورة ، كقوله :

٢٩٦ ـ [بيض ثلاث كنعاج جمّ]

يضحكن عن كالبرد المنهمّ

وقال كثير منهم الأخفش والفارسى : يجوز فى الاختيار ، فجوزوا فى نحو «زيد كالأسد» أن تكون الكاف فى موضع رفع ، والأسد مخفوضا بالإضافة.

ويقع مثل هذا فى كتب المعربين كثيرا ، قال الزمخشرى فى (فَأَنْفُخُ فِيهِ) : إن الضمير راجع للكاف من (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) أى فأنفخ فى ذلك الشىء المماثل فيصير كسائر الطيور ، انتهى.

ووقع مثل ذلك فى كلام غيره ، ولو كان كما زعموا لسمع فى الكلام مثل «مررت بكالأسد».

وتتعين الحرفية فى موضعين (١) ؛ أحدهما : أن تكون زائدة ، خلافا لمن أجاز زيادة الأسماء ، والثانى : أن تقع هى ومخفوضها صلة كقوله :

__________________

(١) إنما تتعين فى الموضع الأول عند الذين لا يجيزون زيادة الاسم ، وتتعين فى الثانى لأنها لو كانت اسما لما صلح لأن يكون صلة ، لأنه حينئذ مفرد ، والصلة لا تكون إلا جملة

١٨٠