مغنى اللبيب - ج ١

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري

مغنى اللبيب - ج ١

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات مكتبة الصادق للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٦
الجزء ١ الجزء ٢

١٨٢ ـ رسم دار وقفت فى طلله

كدت أقضى الحياة من جلله (١)

[ص ١٣٦]

فقيل : أراد من أجله ، وقيل : أراد من عظمه فى عينى.

حرف الحاء المهملة

(حاشا) على ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون فعلا متعديا متصرفا ؛ تقول «حاشيته» بمعنى استثنيته ، ومنه الحديث أنه عليه الصلاة والسّلام قال : «أسامة أحبّ النّاس إلىّ» ما حاشى فاطمة ، ما : نافية ، والمعنى أنه عليه الصلاة والسّلام لم يستثن فاطمة ، وتوهّم ابن مالك أنها ما المصدرية ، وحاشا الاستثنائية ، بناء على أنه من كلامه عليه الصلاة والسّلام ، فاستدلّ به على أنه قد يقال «قام القوم ما حاشا زيدا» كما قال :

١٨٣ ـ رأيت النّاس ما حاشا قريشا

فإنّا نحن أفضلهم فعالا

ويردّه أن فى معجم الطبرانى «ما حاشا فاطمة ولا غيرها» ودليل تصرفه قوله :

١٨٤ ـ ولا أرى فاعلا فى النّاس يشبهه

ولا أحاشى من الأقوام من أحد

وتوهّم المبرد أن هذا مضارع حاشا التى يستثنى بها ، وإنما تلك حرف أو فعل جامد لتضمنه معنى الحرف.

الثانى : أن تكون تنزيهية ، نحو (حاشَ لِلَّهِ) وهى عند المبرد وابن جنى والكوفيين فعل ، قالوا : لتصرفهم فيها بالحذف ، ولإدخالهم إياها على الحرف ، وهذان الدليلان ينفيان الحرفية ، ولا يثبتان الفعلية ، قالوا : والمعنى فى الآية جانب يوسف المعصية لأجل الله ، ولا يتأتى هذا التأويل فى مثل (حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً)

__________________

(١) يروى*كدت أقضى الغداة من جلله*

١٢١

والصحيح أنها اسم مرداف للبراءة [من كذا] ؛ بدليل قراءة بعضهم (حاشا لله) بالتنوين ، كما يقال «براءة لله من كذا» وعلى هذا فقراءة ابن مسعود رضى الله عنه (حاش الله) كمعاذ الله ليس جارا ومجرورا كما وهم ابن عطية ، لأنها إنما تجر فى الاستثناء ، ولتنوينها فى القراءة الأخرى ، ولدخولها على اللام فى قراءة السبعة ، والجار لا يدخل على الجار ، وإنما ترك التنوين فى قراءتهم لبناء حاشا لشبهها بحاشا الحرفية ، وزعم بعضهم أنها اسم فعل ماض بمعنى أتبرّأ(١) ، أو برئت ، وحامله على ذلك بناؤها ، ويرده إعرابها فى بعض اللغات.

الثالث : أن تكون للاستثناء ؛ فذهب سيبويه وأكثر البصريين إلى أنها حرف دائما بمنزلة إلا ، لكنها تجرّ المستثنى ، وذهب الجرمىّ والمازنى والمبرد والزجاج والأخفش وأبو زيد والفراء وأبو عمرو الشيبانى إلى أنها تستعمل كثيرا حرفا جارا وقليلا فعلا متعديا جامدا لتضمنه معنى إلّا ، وسمع «اللهمّ اغفر لى ولمن يسمع حاشا الشّيطان وأبا الأصبغ» وقال :

١٨٥ ـ حاشا أبا ثوبان ؛ إنّ به

ضنّا على الملحاة والشّتم

ويروى أيضا «حاشا أبى» بالياء ، ويحتمل أن تكون رواية الألف على لغة من قال :

إنّ أباها وأبا أباها

[قد بلغا فى المجد غايتاها] [٥١]

وفاعل حاشا ضمير مستتر عائد على مصدر الفعل المتقدم عليها ، أو اسم فاعله ، أو البعض المفهوم من الاسم العام ، فإذا قيل «قام القوم حاشا زيدا» فالمعنى جانب هو ـ أى قيامهم ، أو القائم منهم ، أو بعضهم ـ زيدا.

(حتى) حرف يأتى لأحد ثلاثة معان : انتهاء الغاية ، وهو الغالب ، والتعليل ، وبمعنى إلّا فى الاستثناء ، وهذا أقلها ، وقلّ من يذكره.

__________________

(١) لعل الصواب «بمعنى تبرأت».

١٢٢

وتستعمل على ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون حرفا جارا بمنزلة إلى فى المعنى والعمل ، ولكنها تخالفها فى ثلاثة أمور :

أحدها : أن لمخفوضها شرطين ، أحدهما عام ، وهو أن يكون ظاهرا لا مضمرا ، خلافا للكوفيين والمبرد ، فأما قوله :

١٨٦ ـ أتت حتّاك تقصد كلّ فجّ

ترجّى منك أنها لا تخيب

فضرورة ، واختلف فى علة المنع ، فقيل : هى أنّ مجرورها لا يكون إلا بعضا مما قبلها أو كبعض منه ، فلم يمكن عود ضمير البعض على الكل ، ويردّه أنه قد يكون ضميرا حاضرا كما فى البيت فلا يعود على ما تقدم ، وأنه قد يكون ضميرا غائبا عائدا على ما تقدم غير الكل ، كقولك «زيد ضربت القوم حتّاه» وقيل : العلة خشية التباسها بالعاطفة ، ويرده أنها لو دخلت عليه لقيل فى العاطفة «قاموا حتى أنت ، وأكرمتهم حتى إياك» بالفصل ؛ لأن الضمير لا يتصل إلّا بعامله ، وفى الخافضة «حتاك» بالوصل كما فى البيت ، وحينئذ فلا التباس ، ونظيره أنهم يقولون فى توكيد الضمير المنصوب «رأيتك أنت» وفى البدل منه «رأيتك إيّاك» فلم يحصل لبس ، وقيل : لو دخلت عليه قلبت ألفها ياء كما فى إلى ، وهى فرع عن إلى ؛ فلا تحتمل ذلك ، والشرط الثانى خاص بالمسبوق بذى أجزاء ، وهو أن يكون المجرور آخرا نحو «أكلت السّمكة حتّى رأسها» أو ملاقيا لآخر جزء نحو (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) ولا يجوز سرت البارحة حتى ثلثها أو نصفها ، كذا قال المغاربة وغيرهم ، وتوهم ابن مالك أن ذلك لم يقل به إلا الزمخشرى ، واعترض عليه بقوله :

١٨٧ ـ عيّنت ليلة ؛ فما زلت حتى

نصفها راجيا ؛ فعدت يؤوسا

١٢٣

وهذا ليس محلّ الاشتراط ؛ إذ لم يقل فما زلت فى تلك الليلة حتى نصفها ، وإن كان المعنى عليه ، ولكنه لم يصرح به.

الثانى : أنها إذا لم يكن معها قرينة تقتضى دخول ما بعدها كما فى قوله :

١٨٨ ـ ألقى الصّحيفة كى يخفّف رحله

والزّاد ، حتّى نعله ألقاها [ص ١٢٧ و ١٣٠]

أو عدم دخوله كما فى قوله :

١٨٩ ـ سقى الحيا الأرض حتّى أمكن عزيت

لهم ؛ فلا زال عنها الخير مجدودا

حمل على الدخول ، ويحكم فى مثل ذلك لما بعد إلى بعدم الدخول ، حملا على الغالب فى البابين ، هذا هو الصحيح فى البابين ، وزعم الشيخ شهاب الدين القرافى أنه لا خلاف فى وجوب دخول ما بعد حتى ، وليس كذلك ، بل الخلاف فيها مشهور ، وإنما الاتفاق فى حتى العاطفة ، لا الخافضة ، والفرق أن العاطفة بمعنى الواو.

والثالث : أن كلّا منهما قد ينفرد بمحل لا يصلح للآخر.

فما انفردت به «إلى» أنه يجوز «كتبت إلى زيد وأنا إلى عمرو» أى هو غايتى ، كما جاء فى الحديث «أنا بك وإليك» و «سرت من البصرة إلى الكوفة» ولا يجوز : حتى زيد ، وحتى عمرو ، وحتى الكوفة ، أما الأولان فلأنّ حتى موضوعة لإفادة تقضّى الفعل قبلها شيئا فشيئا إلى الغاية ، وإلى ليست كذلك وأما الثالث فلضعف حتى فى الغاية ؛ فلم يقابلوا بها ابتداء الغاية.

ومما انفردت به «حتى» أنه يجوز وقوع المضارع المنصوب بعدها نحو «سرت حتى أدخلها» [وذلك] بتقدير حتى أن أدخلها ، وأن المضمرة والفعل فى تأويل مصدر مخفوض

١٢٤

بحتى ، ولا يجوز : سرت إلى أدخلها ، وإنما قلنا إن النصب بعد حتى بأن مضمرة لا بنفسها كما يقول الكوفيون لأن حتى قد ثبت أنها تخفض الأسماء ، وما يعمل فى الأسماء لا يعمل فى الأفعال ، وكذا العكس.

ولحتى الداخلة على المضارع المنصوب ثلاثة معان : مرادفة إلى نحو (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) ومرادفة كى التعليلية نحو (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ) (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) وقولك «أسلم حتّى تدخل الجنّة» ويحتملها (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) ومرادفة إلّا فى الاستثناء ، وهذا المعنى ظاهر من قول سيبويه فى تفسير قولهم «والله لا أفعل إلّا أن تفعل» المعنى حتى أن تفعل ، وصرح به ابن هشام الخضراوى وابن مالك ، ونقله أبو البقاء عن بعضهم فى (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا) والظاهر فى هذه الآية [خلافه ، و] أن المراد معنى الغاية ، نعم هو ظاهر فيما أنشده ابن مالك فى قوله :

١٩٠ ـ ليس العطاء من الفضول سماحة

حتّى تجود وما لديك قليل

وفى قوله :

١٩١ ـ والله لا يذهب شيخى باطلا

حتّى أبير مالكا وكاهلا

لأن ما بعدهما ليس غاية لما قبلهما ولا مسببا عنه ، وجعل ابن هشام من ذلك الحديث «كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه هما اللّدان يهوّدانه أو ينصّرانه» إذ زمن الميلاد لا يتطاول فتكون حتى فيه للغاية ، ولا كونه يولد على الفطرة علته اليهودية والنصرانية فتكون فيه للتعليل ، ولك أن تخرجه على أن فيه حذفا ، أى يولد على الفطرة ويستمر على ذلك حتى يكون.

١٢٥

ولا ينتصب الفعل بعد «حتّى» إلا إذا كان مستقبلا ، ثم إن كان استقباله بالنظر إلى زمن التكلم فالنصب واجب ، نحو (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) وإن كان بالنسبة إلى ما قبلها خاصة فالوجهان ، نحو (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) الآية ؛ فإن قولهم إنما هو مستقبل بالنظر إلى الزلزال ، لا بالنظر إلى زمن فصّ ذلك علينا.

وكذلك لا يرتفع الفعل بعد «حتى» إلا إذا كان حالا ، ثم إن كانت حاليته بالنسبة إلى زمن التكلم فالرفع واجب ، كقولك «سرت حتّى أدخلها» إذا قلت ذلك وأنت فى حالة الدخول ، وإن كانت حاليته ليست حقيقية ـ بل كانت محكية ـ رفع ، وجاز نصبه إذا لم تقدر الحكاية نحو (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) قراءة نافع بالرفع بتقدير حتى حالتهم حينئذ أن الرسول والذين آمنوا معه يقولون كذا وكذا.

واعلم أنه لا يرتفع الفعل بعد حتى إلا بثلاثة شروط : أحدها أن يكون حالا أو مؤولا بالحال كما مثلنا ، والثانى أن يكون مسببا عما قبلها. فلا يجوز «سرت حتّى تطلع الشمس» ولا «ما سرت حتى أدخلها ، وهل سرت حتى تدخلها» أما الأول فلأن طلوع الشمس لا يتسبب عن السير ، وأما الثانى فلأن الدخول لا يتسبب عن عدم السير ، وأما الثالث فلأن السبب لم يتحقق وجوده ، ويجوز «أيّهم سار حتّى يدخلها» و «متى سرت حتّى تدخلها» لأن السير محقق ، وإنما الشك فى عين الفاعل وفى عين الزمان ، وأجاز الأخفش الرفع بعد النفى على أن يكون أصل الكلام إيجابا ثم أدخلت أداة النفى على الكلام بأسره ، لا على ما قبل حتى خاصة ، ولو عرضت هذه المسألة بهذا المعنى على سيبويه لم يمنع الرفع فيها ، وإنما منعه إذا كان النفى مسلطا على السبب خاصة ، وكل أحد يمنع ذلك ، والثالث أن يكون فضلة ، فلا يصح فى نحو «سيرى حتى أدخلها» لئلا يبقى المبتدأ بلا خبر ،

١٢٦

ولا فى نحو «كان سيرى حتى أدخلها» إن قدرت كان ناقصة ، فإن قدرتها تامة أو قلت «سيرى أمس حتى أدخلها» جاز الرفع ، إلا إن علّقت أمس بنفس السير ، لا باستقرار محذوف.

الثانى من أوجه حتى : أن تكون عاطفة بمنزلة الواو ، إلا أن بينهما فرقا من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن لمعطوف حتى ثلاثة شروط ، أحدها أن يكون ظاهرا لا مضمرا كما أن ذلك شرط مجرورها ، ذكره ابن هشام الخضراوى ، ولم أقف عليه لغيره ، والثانى أن يكون إما بعضا من جمع قبلها كـ «قدم الحاجّ حتّى المشاة» أو جزأ من كل نحو «أكلت السّمكة حتّى رأسها» أو كجزء نحو أعجبتنى الجارية حتّى حديثها ويمتنع أن تقول «حتّى ولدها» والذى يضبط لك ذلك أنها تدخل حيث يصح دخول الاستثناء ، وتمتنع حيث يمتنع ، ولهذا لا يجوز «ضربت الرجلين حتى أفضلهما» وإنما جاز *حتّى نعله ألقاها [١٨٨]* لأن إلقاء الصحيفة والزاد فى معنى ألقى ما يثقله ، والثالث : أن يكون غاية لما قبلها إما فى زيادة أو نقص ، فالأول نحو «مات الناس حتى الأنبياء» والثانى نحو «زارك الناس حتّى الحجّامون» وقد اجتمعا فى قوله :

١٩٢ ـ قهرناكم حتّى الكماة فأنتم

تهابوننا حتّى بنينا الأصاغرا

الفرق الثانى : أنها لا تعطف الجمل ، وذلك لأن شرط معطوفها أن يكون جزأ مما قبلها أو كجزء منه ، كما قدمناه ، ولا يتأتى ذلك إلا فى المفردات ، هذا هو الصحيح ، وزعم ابن السيّد فى قول مرىء القيس :

١٩٣ ـ سريت بهم حتّى تكلّ مطيّهم

[وحتّى الجياد ما يقدن بأرسان] [ص ١٣٠]

فيمن رفع «تكل» أن جملة «تكل مطيهم» معطوفة بحتى على سريت بهم

الثالث : أنها إذا عطفت على مجرور أعيد الخافض ، فرقا بينها وبين الجارة ،

١٢٧

فنقول «مررت بالقوم حتى بزيد» ذكر ذلك ابن الخباز وأطلقه ، وقيده ابن مالك بأن لا يتعين كونها للعطف نحو «عجبت من القوم حتّى بنيهم» وقوله :

١٩٤ ـ جود يمناك فاض فى الخلق حتّى

بائس دان بالإساءة دينا

وهو حسن ، وردّه أبو حيان ، وقال فى المثال : هى جارة ، إذ لا يشترط فى تالى الجارة أن يكون بعضا أو كبعض ، بخلاف العاطفة ، ولهذا منعوا «أعجبتنى الجارية حتى ولدها» قال : وهى فى البيت محتملة ، انتهى. وأقول : إن شرط الجارة التالية ما يفهم الجمع أن يكون مجرورها بعضا أو كبعض ، وقد ذكر ذلك ابن مالك فى باب حروف الجر ، وأقره أبو حيان عليه ، ولا يلزم من امتناع «أعجبتنى الجارية حتى ابنها» امتناع «عجبت من القوم حتى بنيهم» لأن اسم القوم يشمل أبناءهم ، واسم الجارية لا يشمل ابنها ، ويظهر لى أن الذى لحظه ابن مالك أن الموضع الذى يصحّ أن تحل فيه إلى محل حتى العاطفة فهى فيه محتملة للجارة ، فيحتاج حينئذ إلى إعادة الجار عند قصد العطف نحو «اعتكفت فى الشّهر حتى فى آخره» بخلاف المثال والبيت السابقين ، وزعم ابن عصفور أن إعادة الجار مع حتى أحسن ، ولم يجعلها واجبة.

تنبيه ـ العطف بحتى قليل ، وأهل الكوفة ينكرونه البتة ، ويحملون نحو «جاء القوم حتى أبوك ، ورأيتهم حتى أباك ، ومررت بهم حتى أبيك» على أن حتى فيه ابتدائية ، وأن ما بعدها على إضمار عامل.

الثالث من أوحه حتى : أن تكون حرف ابتداء ، أى حرفا تبتدأ بعده الجمل ، أى تستأنف ؛ فيدخل على الجملة الاسمية ، كقول جرير :

١٩٥ ـ فما زالت القتلى تمجّ دماءها

بدجلة حتّى ماء دجلة أشكل [ص ٣٨٦]

١٢٨

وقال الفروزق :

١٩٦ ـ فواعجبا حتّى كليب تسبّنى

كأنّ أباها نهشل أو مجاشع

ولا بد من تقدير محذوف قبل حتى فى هذا البيت يكون ما بعد حتى غاية له ، أى فواعجبا يسبنى الناس حتى كليب تسبنى ، وعلى الفعلية التى فعلها مضارع كقراءة نافع رحمه‌الله (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) برفع يقول ، وكقول حسان :

١٩٧ ـ يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم

لا يسألون عن السّواد المقبل [ص ٦٩١]

وعلى الفعلية التى فعلها ماض نحو (حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا) وزعم ابن مالك أن حتى هذه جارة ، وأنّ بعدها أن مضمرة ، ولا أعرف له فى ذلك سلفا ، وفيه تكلف إضمار من غير ضرورة ، وكذا قال فى حتى الداخلة على إذا فى نحو (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ) إنها الجارة ، وإن إذا فى موضع جربها. وهذه المقالة سبقه إليها الأخفش وغيره ، والجمهور على خلافها وأنها حرف ابتداء ، و [أن] إذا فى موضع نصب بشرطها أو جوابها ، والجواب فى الآية محذوف ، أى امتحنتم ، أو انقسمتم قسمين ، بدليل (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) ونظيره حذف جواب لمّا فى قوله تعالى (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) أى انقسموا قسمين فمنهم مقتصد ومنهم غير ذلك ، وأما قول ابن مالك إن (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) هو الجواب فمبنى على صحة مجىء جواب لمّا مقرونا بالفاء ، ولم يثبت ، وزعم بعضهم أن الجواب فى الآية الأولى مذكور وهو (عَصَيْتُمْ) أو (صَرَفَكُمْ) وهذا مبنى على زيادة الواو وثم ، ولم يثبت ذلك.

وقد دخلت «حتى» الابتدائية على الجملتين الاسمية والفعلية فى قوله :

١٢٩

سريت بهم حتّى تكلّ مطيّهم

وحتّى الجياد ما يقدن بأرسان [١٩٣]

فيمن رواه برفع تكل ، والمعنى حتى كلّت ، ولكنه جاء [بلفظ المضارع] على حكاية الحال الماضية كقولك «رأيت زيدا أمس وهو راكب» وأما من نصب فهى حتى الجارة كما قدمنا ، ولا بد على النصب من تقدير زمن مضاف إلى تكلّ ، أى إلى زمان كلال مطيهم

وقد يكون الموضع صالحا لأقسام «حتى» الثلاثة ، كقولك «أكلت السّمكة حتّى رأسها» فلك أن تخفض على معنى إلى ، وأن تنصب على معنى الواو ، وأن ترفع على الابتداء ، وقد روى بالأوجه الثلاثة قوله :

١٩٨ ـ عممتهم بالنّدى حتّى غواتهم

فكنت مالك ذى غىّ وذى رشد

[ص ٦١١]

وقوله :

[ألقى الصحيفة كى يخفف رحله

والزّاد] حتّى نعله ألقاها [١٨٨]

إلّا أن بينهما فرقا من وجهين :

أحدهما : أن الرفع فى البيت الأول شاذ ، لكون الخبر غير مذكور ، ففى الرفع تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه ، وهذا قول البصريين ، وأوجبوا إذا قلت «حتى رأسها» بالرفع أن تقول «مأكول»

والثانى : أن النصب فى البيت الثانى من وجهين ، أحدهما : العطف ، والثانى إضمار العامل على شريطة التفسير ، وفى البيت الأول من وجه واحد.

وإذا قلت «قام القوم حتى زيد قام» جاز الرفع والخفض دون النصب (١) ، وكان لك فى الرفع أوجه ، أحدها : الابتداء ، والثانى العطف ، والثالث إضمار الفعل ،

__________________

(١) لم يجز النصب لأن الناصب بعد حتى هو أن مضمرة ، وأن المصدرية لا تدخل على الأسماء

١٣٠

والجملة التى بعدها خبر على الأول ، ومؤكدة على الثانى ، كما أنها كذلك مع الخفض ، وأما على الثالث فتكون الجملة مفسّرة ، وزعم بعض المغاربة أنه لا يجوز «ضربت القوم حتى زيد ضربته» بالخفض ، ولا بالعطف ، بل بالرفع أو بالنصب بإضمار فعل ، لأنه يمتنع جعل «ضربته» توكيدا لضربت القوم ، قال : وإنما جاز الخفض فى *حتى نعله* [١٨٨] لأن ضمير «ألقاها» للصحيفة ، ولا يجوز على هذا الوجه أن يقدر أنه للنعل.

ولا محل للجملة الواقعة بعد حتى الابتدائية ، خلافا للزجاج وابن درستويه ، زعما أنها فى محل جر بحتى ، ويرده أن حروف الجر لا تعلّق عن العمل ، وإنما تدخل على المفردات أو ما فى تأويل المفردات ، وأنهم إذا أوقعوا بعدها إنّ كسروها فقالوا «مرض زيد حتى إنهم لا يرجونه» والقاعدة أن حرف الجر إذا دخل على أنّ فتحت همزتها نحو (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ)

(حيث) وطيىء تقول : حوث ، وفى الثاء فيهما : الضمّ تشبيها بالغايات ؛ لأن الإضافة إلى الجملة كلا إضافة ؛ لأن أثرها ـ وهو الجر ـ لا يظهر ، والكسر على أصل التقاء الساكنين ، والفتح للتخفيف.

ومن العرب من يعرب حيث ، وقراءة من قرأ (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) بالكسر تحتملها وتحتمل لغة البناء على الكسر.

وهى للمكان اتفاقا ، قال الأخفش : وقد ترد للزمان ، والغالب كونها فى محل نصب على الظرفية أو خفض بمن ، وقد تخفض بغيرها كقوله :

١٩٩ ـ [فشدّ ولم ينظر بيوتا كثيرة]

لدى حيث ألقت رحلها أمّ قشعم (١)

وقد تقع [حيث] مفعولا به وفاقا للفارسى ، وحمل عليه (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) إذ المعنى أنه تعالى يعلم نفس المكان المستحقّ لوضع الرسالة فيه ، لا شيئا فى المكان

__________________

(١) ويروى*فشد ولم تفزع بيوت كثيرة*

١٣١

وناصبها يعلم محذوفا مدلولا عليه بأعلم ، لا بأعلم نفسه ؛ لأن أفعل التفضيل لا ينصب للمفعول به ، فإن أولته بعالم جاز أن ينصبه فى رأى بعضهم ، ولم تقع اسما لأنّ ، خلافا لابن مالك ، ولا دليل له فى قوله :

٢٠٠ إن حيث استقرّ من أنت راعي

ه حمّى فيه عزّة وأمان

لجواز تقدير حيث خبرا ، وحمى اسما ، فإن قيل : يؤدى إلى جعل المكان حالا فى المكان ، قلنا : هو نظير قولك «إنّ فى مكّة دار زيد» ونظيره فى الزمان «إنّ فى يوم الجمعة ساعة الإجابة».

وتلزم حيث الإضافة إلى جملة ، اسمية كانت أو فعلية ، وإضافتها إلى الفعلية أكثر ، ومن ثمّ رجح النصب فى نحو «جلست حيث زيد أراه» وندرت إضافتها إلى المفرد كقوله :

٢٠١ ـ [ونطعنهم تحت الكلى بعد ضربهم

ببيض المواضى] حيث لىّ العمائم

[أنشده ابن مالك] والكسائى يقيسه ، ويمكن أن يخرج عليه قول الفقهاء «من حيث أن كذا». وأندر من ذلك إضافتها إلى جملة محذوفة كقوله :

٢٠٢ ـ إذا ريدة من حيث ما نفحت له

أتاه بريّاها خليل يواصله (١)

أى إذا ريدة نفحت له من حيث هبّت ، وذلك لأن ريدة فاعل بمحذوف يفسره نفحت ، فلو كان نفحت مضافا إليه حيث لزم بطلان التفسير ؛ إذ المضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف ، وما لا يعمل لا يفسر عاملا ، قال أبو الفتح فى كتاب التمام : ومن أضاف حيث إلى المفرد أعربها ، انتهى ، ورأيت بخط الضابطين :

__________________

(١) ريدة : أى ريح لينة الهبوب ، و «ما» زائدة ، ونفحت : فاحت

١٣٢

٢٠٣ ـ أما ترى حيث سهيل طالعا

[نجما يضئ كالشّهاب لامعا]

بفتح الثاء من حيث وخفض سهيل ، وحيث بالضم وسهيل بالرفع ، أى موجود ، فحذف الخبر.

وإذا اتّصلت بها «ما» الكافة ضمّنت معنى الشرط وجزمت الفعلين كقوله :

٢٠٤ ـ حيثما تستقم يقدّر لك الله

نجاحا فى غابر الأزمان

وهذا البيت دليل عندى على مجيئها للزمان.

حرف الخاء المعجمة

(خلا) على وجهين :

أحدهما : أن تكون حرفا جار للمستثنى ، ثم قيل : موضعها نصب عن تمام الكلام ، وقيل : تتعلق بما قبلها من فعل أو شبهه على قاعدة أحرف الجر ، والصواب عندى الأول ؛ لأنها لا تعدّى الأفعال إلى الأسماء ، أى لا توصّل معناها إليها ، بل تزيل معناها عنها ؛ فأشبهت فى عدم التعدية الحروف الزائدة ، ولأنها بمنزلة إلا وهى غير متعلقة.

والثانى : أن تكون فعلا متعديا ناصبا له ، وفاعلها على الحد المذكور فى فاعل حاشا (١) ، والجملة مستأنفة أو حالية ، على خلاف فى ذلك ، وتقول «قاموا خلا زيدا» وإن شئت خفضت إلا فى نحو قول لبيد :

٢٠٥ ـ ألا كلّ شىء ما خلا الله باطل

[وكلّ نعيم ـ لا محالة ـ زائل [ص ٩٦]

وذلك لأن «ما» [فى] هذه مصدرية ؛ فدخولها يعين الفعلية ، وموضع ما خلا نصب

__________________

(١) انظر كلام المؤلف فى ذلك (صفحة ١٢٢).

١٣٣

فقال السيرافى : على الحال كما يقع المصدر الصريح فى نحو «أرسلها العراك» وقيل : على الظرف لنيابتها وصلتها عن الوقت (١) ؛ فمعنى «قاموا ما خلا زيدا» على الأول : قاموا خالين عن زيد ، وعلى الثانى : قاموا وقت خلوهم عن زيد ، وهذا الخلاف المذكور فى محلها خافضة وناصبة ثابت فى حاشا وعدا ، وقال ابن خروف : على الاستثناء كانتصاب غير فى «قاموا غير زيد» وزعم الجرمى والربعى والكسائى والفارسى وابن جنى أنه قد يجوز الجر على تقدير ما زائدة ، فإن قالوا ذلك بالقياس ففاسد ؛ لأن مالا تزاد قبل الجار والمجرور ، بل بعده ، نحو (عَمَّا قَلِيلٍ) (فَبِما رَحْمَةٍ) وإن قالوه بالسماع فهو من الشذوذ بحيث لا يقاس عليه.

حرف الراء

(ربّ) حرف جر ، خلافا للكوفيين فى دعوى اسميته ، وقولهم إنه أخبر عنه فى قوله :

إن يقتلوك فإنّ قتلك لم يكن

عارا عليك ، وربّ قتل عار [٣١]

ممنوع ، بل «عار» خبر لمحذوف ، والجملة صفة للمجرور ، أو خبر للمجرور ؛ إذ هو فى موضع مبتدأ كما سيأتى.

وليس معناها التقليل دائما ، خلافا للأكثرين ، ولا التكثير دائما ، خلافا لابن درستويه وجماعة ، بل ترد للتكثير كثيرا وللتقليل قليلا.

فمن الأول (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) وفى الحديث «يا ربّ كاسية فى الدّنيا عارية يوم القيامة» وسمع أعرابى يقول بعد انقضاء رمضان «يا ربّ صائمه لن يصومه ، ويا ربّ قائمه لن يقومه» وهو مما تمسك به الكسائى على إعمال اسم الفاعل المجرد بمعنى الماضى. وقال الشاعر.

__________________

(١) فى نسخة «قيل : على الظرف ، على نيابتها وصلتها عن الوقت».

١٣٤

٢٠٦ ـ فيا ربّ يوم قد لهوت وليلة

بآنسة كأنّها خطّ تمثال [ص ٥٨٧]

وقال آخر :

٢٠٧ ـ ربّما أوفيت فى علم

ترفعن ثوبى شمالات [ص ١٣٧ و ٣٠٩]

ووجه الدليل أن الآية والحديث والمثال مسوقة للتخويف ، والبيتين مسوقان للافتخار ، ولا يناسب واحدا منهما التقليل.

ومن الثانى قول أبى طالب [فى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم] :

٢٠٨ ـ وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل [ص ١٣٦]

وقول الآخر :

٢٠٩ ـ ألا ربّ مولود وليس له أب

وذى ولد لم يلده أبوان

وذى شامة غرّاء فى حرّ وجهه

مجلّلة لا تنقضى لأوان

ويكمل فى تسع وخمس شبابه

ويهرم فى سبع معا وثمان

أراد عيسى وآدم عليهما‌السلام والقمر ، ونظير ربّ فى إفادة التكثير «كم» الخبرية ، وفى إفادته تارة وإفادة التقليل أخرى «قد» ، على ما سيأتى إن شاء الله تعالى فى حرف القاف ، وصيغ التصغير ، تقول : حجير ورجيل ، فتكون للتقليل ، وقال :

٢١٠ ـ فويق جبيل شامخ لن تناله

بقنّته حتّى تكلّ وتعملا

١٣٥

وقال لبيد :

[وكل أناس سوف تدخل بينهم]

دويهية تصفرّ منها الأنامل [٦٢]

إلا أن الغالب فى قد والتصغير إفادتهما التقليل ، وربّ بالعكس.

وتنفرد رب بوجوب تصديرها ، وجو تنكير مجرورها ، ونعته إن كان ظاهرا ، وإفراده ، وتذكيره ، وتمييزه بما يطابق المعنى إن كان ضميرا ، وغلبة حذف معدّاها ، ومضيه ، وإعمالها محذوفة بعد الفاء كثيرا ، وبعد الواو أكثر ، وبعد بل قليلا ، وبدونهنّ أقل ، كقوله :

٢١١ ـ فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع

[فألهيتها عن ذى تمائم محول] [ص ١٦١]

وقوله :

*وأبيض يستسقى الغمام بوجهه* [٢٠٨]

وقوله :

٢١٢ ـ *بل بلد ذى ضعد وآكام*

وقوله :

*رسم دار وقفت فى طلله* [١٨٢]

وبأنها زائدة فى الإعراب دون المعنى ؛ فمحلّ مجرورها فى نحو «رب رجل صالح عندى» رفع على الابتدائية ، وفى نحو «ربّ رجل صالح لقيت» نصب على المفعولية ، وفى نحو «ربّ رجل صالح لقيته» رفع أو نصب ، كما فى قولك «هذا لقيته» ويجوز مراعاة محله كثيرا وإن لم يجز نحو «مررت بزيد وعمرا» إلا قليلا ، قال

٢١٣ ـ وسنّ كسنّيق سناء وسنّما

ذعرت بمدلاح الهجير نهوض (١)

__________________

(١) ذعرت : أخفت ، ومدلاح الهجير : أراد به فرسا كثير العرق فى وقت الهاجرة.

١٣٦

فعطف «سنّما» على محل سنّ ، والمعنى ذعرت بهذا الفرس ثورا وبقرة عظيمة ، وسنيق : اسم جبل بعينه ، وسناء : ارتفاعا.

وزعم الزجاج وموافقوه أن مجرورها لا يكون إلا فى محل نصب ، والصواب ما قدمناه.

وإذا زيدت «ما» بعدها فالغالب أن تكفها عن العمل ، وأن تهيّئها للدخول على الجمل الفعلية ، وأن يكون الفعل ماضيا لفظا ومعنى ، كقوله :

ربّما أوفيت فى علم

ترفعن ثوبى شمالات [٢٠٧]

ومن إعمالها قوله :

٢١٤ ـ ربّما ضربة بسيف صقيل

بين بصرى وطعنة نجلاء [ص ٣١٢]

ومن دخولها على [الجملة] الاسمية قول أبى دواد :

٢١٥ ـ ربّما الجامل المؤبّل فيهم

وعناجيج بينهنّ المهار [ص ٣١٠]

وقيل : لا تدخل المكفوفة على الاسمية أصلا ، وإن «ما» فى البيت نكرة موصوفة ، والجامل : خبر لهو محذوفا ، والجملة صفة لما.

ومن دخولها على الفعل المستقبل قوله تعالى : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقيل : هو مؤول بالماضى ، على حد قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) وفيه تكلف ؛ لافتضائه أن الفعل المستقبل عبّر به عن ماض متجوز به عن المستقبل ، والدليل على صحة استقبال ما بعدها قوله :

٢١٦ ـ فإن أهلك فربّ فتى سيبكى

علىّ مهذّب رخص البنان

وقوله :

٢١٧ ـ يا ربّ قائلة غدا

يا لهف أمّ معاويه

١٣٧

وفى ربّ ست عشرة لغة : ضم الراء ، وفتحها ، وكلاهما مع التشديد والتخفيف ، والأوجه الأربعة مع تاء التأنيث ساكنة أو محركة ومع التجرد منها : فهذه اثنتا عشرة ، والضم والفتح مع إسكان الباء ، وضم الحرفين مع التشديد ومع التخفيف.

حرف السين المهملة

السين المفردة : حرف يختصّ بالمضارع ، ويخلّصه للاستقبال ، وينزل منه منزلة الجزء ؛ ولهذا لم يعمل فيه مع اختصاصه به ، وليس مقتطعا من «سوف» خلافا للكوفيين ، ولا مدّة الاستقبال معه أضيق منها مع سوف خلافا للبصريين ، ومعنى قول المعربين فيها «حرف تنفيس» حرف توسيع ، وذلك أنها نقلت (١) المضارع من الزمن الضيق ـ وهو الحال ـ إلى الزمن الواسع وهو الاستقبال ، وأوضح من عبارتهم قول الزمخشرى وغيره «حرف استقبال» وزعم بعضهم أنها قد تأتى للاستمرار لا للاستقبال ، ذكر ذلك فى قوله تعالى : (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ) الآية ، واستدلّ عليه بقوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ) مدعيا أن ذلك إنما نزل بعد قولهم (ما وَلَّاهُمْ) قال : فجاءت السين إعلاما بالاستمرار لا بالاستقبال ، انتهى. وهذا الذى قاله لا يعرفه النحويّون ، وما استند إليه من أنها نزلت بعد قولهم (ما وَلَّاهُمْ) غير موافق عليه ، قال الزمخشرى : فإن قلت : أى فائدة فى الإخبار بقولهم قبل وقوعه؟ قلت : فائدته أن المفاجأة للمكروه أشدّ ، والعلم به قبل وقوعه أبعد عن الاضطراب إذا وقع ، انتهى. ثم لو سلّم فالاستمرار إنما استفيد من المضارع ، كما تقول «فلان يقرى الضيف ويصنع الجميل» تريد أن ذلك دأبه ، والسين مفيدة للاستقبال ؛ إذ الاستمرار إنما يكون فى المستقبل ، وزعم الزمخشرى أنها إذا دخلت على فعل محبوب أو مكروه أفادت أنه واقع لا محالة ، ولم أر من فهم وجه ذلك ، ووجهه أنها تفيد الوعد

__________________

(١) فى عدة نسخ «تقلب»

١٣٨

بحصول الفعل ؛ فدخولها غلى ما يفيد الوعد أو الوعيد مقتض لتوكيده وتثبيت معناه ، وقد أومأ إلى ذلك فى سورة البقرة فقال فى (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) : ومعنى السين أن ذلك كائن لا محالة وإن تأخّر إلى حين ، وصرح به فى سورة براءة فقال فى (أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) : السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة ؛ فهى تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد إذا قلت «سأنتقم منك».

(سوف) مرادفة للسين ، أو أوسع منها ، على الخلاف (١) ، وكأن القائل بذلك نظر إلى أنّ كثرة الحروف تدل على كثرة المعنى ، وليس بمطّرد ، ويقال فيها «سف» بحذف الوسط ، و «سو» بحذف الأخير ، و «سى» بحذفه وقلب الوسط ياء مبالغة فى التخفيف ، حكاها صاحب المحكم.

وتنفرد عن السين بدخول اللام عليها نحو (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) وبأنها قد تفصل بالفعل الملغى ، كقوله :

وما أدرى وسوف إخال أدرى

أقوم آل حصن أم نساء؟ [٥١]

(سىّ) من «لا سيّما» ـ اسم بمنزلة مثل وزنا ومعنى ، وعينه فى الأصل واو ، وتثنيته سيّان ، وتستغنى حينئذ عن الإضافة كما استغنت عنها مثل فى قوله :

*والشّرّ بالشرّ عند الله مثلان* [٨١]

واستغنوا بتثنيته عن تثنية سواء ، فلم يقولوا سواآن إلا شاذا كقوله :

٢١٨ ـ فيا ربّ إن لم تقسم الحبّ بيننا

سواءين فاجعلنى على حبّها جلدا

وتشديد يائه ودخول «لا» عليه ودخول الواو على «لا» واجب ، قال ثعلب : من استعمله على خلاف ما جاء فى قوله :

__________________

(١) يريد خلاف البصريين الذين يقولون : إن المدة مع سوف أوسع منها مع السين ، والكوفيين الذين يقولون : إنهما مترادفان وليست المدة مع سوف أوسع ، بل هما مستويان.

١٣٩

٢١٩ ـ [ألا ربّ يوم صالح لك منهما]

ولا سيما يوم بدارة جلجل [ص ٣١٣ و ٤٢١]

فهو مخطئ ، اه.

وذكر غيره أنه قد يخفّف ، وقد تحذف الواو ، كقوله :

٢٢٠ ـ فه بالعقود وبالأيمان ، لا سيما

عقد وفاء به من أعظم القرب

وهى عند الفارسى نصب على الحال ؛ فإذا قيل «قاموا لا سيما زيد» فالناصب قام ، ولو كان كما ذكر لامتنع دخول الواو ، ولوجب تكرار «لا» كما تقول «رأيت زيدا لا مثل عمرو ولا مثل خالد» وعند غيره هو اسم للا التبرئة ، ويجوز فى الاسم الذى بعدها الجرّ والرفع مطلقا ، والنصب أيضا إذا كان نكرة ، وقد روى بهن *ولا سيّما يوم* [٢١٩] والجر أرجحها ، وهو على الإضافة ، وما زائدة بينهما مثلها فى (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) والرفع على أنه خبر لمضمر محذوف ، وما موصولة أو نكرة موصوفة بالجملة ، والتقدير : ولا مثل الذى هو يوم ، أو لا مثل شىء هو يوم ، ويضعفه فى نحو «ولا سيّما زيد» حذف العائد المرفوع مع عدم الطّول ، وإطلاق «ما» على من يعقل ، وعلى الوجهين ففتحة سىّ إعراب ؛ لأنه مضاف ، والنصب على التمييز كما يقع التمييز بعد مثل فى نحو (وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) وما كافة عن الإضافة ، والفتحة بناء مثلها فى «لا رجل» وأما انتصاب المعرفة نحو «ولا سيما زيدا» فمنعه الجمهور ، وقال ابن الدهّان : لا أعرف له وجها ، ووجّهه بعضهم بأن ما كافة ، وأن لا سيما نزلت منزلة إلا فى الاستثناء ، وردّ بأن المستثنى مخرج ، وما بعدها داخل من باب أولى ، وأجيب بأنه مخرج مما أفهمه الكلام السابق من مساواته لما قبلها ، وعلى هذا فيكون استثناء منقطعا.

(سواء) تكون بمعنى مستو [ويوصف به المكان بمعنى أنه نصف بين مكانين](١)

__________________

(١) هذه العبارة ساقطة من النسخة التى شرح عليها الدسوقى.

١٤٠