مغنى اللبيب - ج ١

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري

مغنى اللبيب - ج ١

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات مكتبة الصادق للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٦
الجزء ١ الجزء ٢

للكوفيين ، ويردّه جواز كسر همزته ، وفتح ميمه ، ولا يجوز مثل ذلك فى الجمع من نحو أفلس وأكلب ، وقول نصيب :

١٤٠ ـ فقال فريق القوم لمّا نشدتهم :

نعم ، وفريق : ليمن الله ما ندرى

فحذف ألفها فى الدّرج ، ويلزمه الرفع بالابتداء ، وحذف الخبر ، وإضافته إلى اسم الله سبحانه وتعالى : خلافا لابن درستويه فى إجازة جرّه بحرف القسم ، ولابن مالك فى جواز إضافته إلى الكعبة ولكاف الضمير ، وجوّز ابن عصفور كونه خبرا والمحذوف مبتدأ ، أى قسمى أيمن الله.

حرف الباء

الباء المفردة ـ حرف جر لأربعة عشر معنى :

أولها : الإلصاق ، قيل : وهو معنى لا يفارقها ، فلهذا اقتصر عليه سيبويه ، ثم الإلصاق حقيقىّ كـ «أمسكت بزيد» إذا قبضت على شىء من جسمه أو على ما يحبسه من يد أو ثوب ونحوه ، ولو قلت «أمسكته» احتمل ذلك وأن تكون منعته من التصرف ، ومجازىّ نحو «مررت بزيد» أى ألصقت مرورى بمكان يقرب من زيد ، وعن الأخفش أن المعنى مررت على زيد ، بدليل (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ) وأقول : إن كلا من الإلصاق والاستعلاء إنما يكون حقيقيا إذا كان مفضيا إلى نفس المجرور كـ «أمسكت بزيد ، وصعدت على السّطح» فإن أفضى إلى ما يقرب منه فمجاز كـ «مررت بزيد» فى تأويل الجماعة ، وكقوله :

١٤١ ـ تشبّ لمقرورين يصطليانها

وبات على النّار النّدى والمحلق

ص ١٤٣

١٠١

فإذا استوى التقديران فى المجازية ، فالأكثر استعمالا أولى بالتخريج عليه ، كـ «مررت بزيد ، ومررت عليه» وإن كان قد جاء كما فى (لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ) (يَمُرُّونَ عَلَيْها).

١٤٢ ـ ولقد أمرّ على اللئيم يسبّنى

[فمضيت ثمّة قلت : لا يعنينى] [ص ٤٢٩ و ٦٤٥]

إلا أنّ «مررت به» أكثر ، فكان أولى بتقديره أصلا ، ويتخرج على هذا الخلاف خلاف فى المقدّر فى قوله :

١٤٣ ـ تمرّون الدّيار ولم تعوجوا

[كلامكم علىّ إذا حرام] [ص ٤٧٣]

أهو الباء أم على؟

الثانى : التعدية ، وتسمّى باء النقل أيضا ، وهى المعاقبة للهمزة فى تصيير الفاعل مفعولا ، وأكثر ما تعدّى الفعل القاصر ، تقول فى ذهب زيد : ذهبت بزيد ، وأذهبته ، ومنه (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) وقرئ (أذهب الله نورهم) وهى بمعنى القراءة المشهورة ، وقول المبرد والسهيلى «إن بين التعديتين فرقا ، وإنك إذا قلت ذهبت بزيد كنت مصاحبا له فى الذهاب» مردود بالآية ، وأما قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) فيحتمل أن الفاعل ضمير البرق.

ولأن الهمزة والباء متعاقبتان لم يجز أقمت بزيد ، وأما (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) فيمن ضم أوله وكسر ثالثه ، فخرج على زيادة الباء ، أو على أنها للمصاحبة ؛ فالظرف حال من الفاعل ، أى مصاحبة للدهن ، أو المفعول ، أى تنبت الثمر مصاحبا للدهن ، أو أن أنبت يأتى بمعنى نبت كقول زهير :

١٤٤ ـ رأيت ذوى الحاجات حول بيوتهم

قطينا لها حتّى إذا أنبت البقل

ومن وردوها مع المتعدّى قوله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) وصككت الحجر بالحجر ، والأصل دفع بعض الناس بعضا ، وصك الحجر الحجر.

١٠٢

الثالث : الاستعانة ، وهى الداخلة على آلة الفعل ، نحو «كتبت بالقلم» و «نجرت بالقدوم» قيل : ومنه [باء] البسملة ؛ لأن الفعل لا يتأتّى على الوجه الأكمل إلا بها.

الرابع : السببية ، نحو (إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) ومنه : لقيت بزيد الأسد ، أى بسبب لقائى إياه ، وقوله :

١٤٥ ـ قد سقيت آبالهم بالنّار

[والنّار قد تشفى من الأوار]

أى أنها بسبب ما وسمت به من أسماء أصحابها يخلّى بينها وبين الماء.

الخامس : المصاحبة ، نحو (اهْبِطْ بِسَلامٍ) أى معه (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ) الآية.

وقد اختلف فى الباء من قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) فقيل : للمصاحبة ، والحمد مضاف إلى المفعول ، أى فسبحه حامدا له ، أى نزّهه عما لا يليق به ، وأثبت له ما يليق به ، وقيل : للاستعانة ، والحمد مضاف إلى الفاعل ، أى سبّحه بما حمد به نفسه ؛ إذ ليس كل تنزيه بمحمود ، ألا ترى أن تسبيح المعتزلة افتضى تعطيل كثير من الصفات.

واختلف فى «سبحانك اللهمّ وبحمدك» فقيل : جملة واحدة على أن الواو زائدة ، وقيل : جملتان على أنها عاطفة ، ومتعلّق الباء محذوف ، أى وبحمدك سبّحتك ، وقال الخطّابى : المعنى وبمعونتك التى هى نعمة توجب علىّ حمدك سبّحتك ، لا بحولى وقوتى ، يريد أنه مما أقيم فيه المسبّب مقام السبب ، وقال ابن الشّجرى فى (فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) : هو كقولك «أجبته بالتّلبية» أى فتجيبونه بالثناء ؛ إذ الحمد الثناء ، أو الباء للمصاحبة متعلقة بحال محذوفة ، أى معلنين بحمده ، والوجهان فى (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ).

١٠٣

والسادس : الظرفية نحو (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) (نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ)

والسابع : البدل ، كقول الحماسى :

١٤٦ ـ فليت لى بهم قوما إذا ركبوا

شنّوا الإغارة فرسانا وركبانا (١)

وانتصاب «الإغارة» على أنه مفعول لأجله.

والثامن : المقابلة ، وهى الداخلة على الأعواض ، نحو «اشتريته بألف» و «كافأت إحسانه بضعف» وقولهم «هذا بذاك» ومنه (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وإنما لم نقدرها باء السببية كما قالت المعتزلة وكما قال الجميع فى «لن يدخل أحدكم الجنّة بعمله» لأن المعطى بعوض قد يعطى مجانا ، وأما المسبب فلا يوجد بدون السبب ، وقد تبين أنه لا تعارض بين الحديث والآية ، لاختلاف محملى الباءين جمعا بين الأدلة.

والتاسع : المجاوزة كعن ، فقيل : تختص بالسؤال ، نحو (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) بدليل (يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) وقيل : لا تختص به ، بدليل قوله تعالى : (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) وجعل الزمخشرى هذه الباء بمنزلتها فى «شققت السّنام بالشّفرة» على أن الغمام جعل كالآلة التى يشق بها ، قال : ونظيره (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) وتأول البصريون (فسئل به خبير) على أن الباء للسببية ، وزعموا أنها لا تكون بمعنى عن أصلا ، وفيه بعد ، لأنه لا يقتضى قولك «سألت بسببه» أن المجرور هو المسئول عنه.

العاشر : الاستعلاء ، نحو (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ) الآية ، بدليل (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) ونحو (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) بدليل (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ) وقد مضى البحث فيه ، وقوله :

__________________

(١) انظر الشاهد رقم ٢٠

١٠٤

١٤٧ ـ *أربّ يبول الثّعلبان برأسه؟*

بدليل تمامه :

*لقد هان من بالت عليه الثّعالب*

الحادى عشر : التبعيض ، أثبت ذلك الأصمعىّ والفارسىّ والقتبىّ وابن مالك ، قيل : والكوفيون ، وجعلوا منه (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) وقوله :

١٤٨ ـ شربن بماء البحر ثم ترفّعت

متى لجج خضر لهنّ نئيج

[ص ١١١ و ٣٣٥]

وقوله :

١٤٩ ـ [فلثمت فاها آخذا بقرونها]

شرب النّزيف ببرد ماء الحشرج

قيل : ومنه (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) والظاهر أن الباء فيهن للالصاق ، وقيل : هى فى آية الوضوء للاستعانة ، وإن فى الكلام حذفا وقلبا ؛ فإنّ «مسح» يتعدّى إلى المزال عنه بنفسه ، وإلى المزيل بالباء ؛ فالأصل امسحوا رؤسكم بالماء ، ونظيره بيت الكتاب :

١٥٠ ـ كنواح ريش حمامة نجديّة

ومسحت باللّثتين عصف الإثمد

يقول : إن لثاتك تضرب إلى سمرة ، فكأنك مسحتها بمسحوق الإثمد ؛ فقلب معمولى مسح ، وقيل فى شربن : إنه ضمن معنى روين ، ويصح ذلك فى (يَشْرَبُ بِها) ونحوه ، وقال الزمخشرى فى (يَشْرَبُ بِها) : المعنى يشرب بها الخمر كما تقول «شربت الماء بالعسل».

الثانى عشر : القسم ، وهو أصل أحرفه ؛ ولذلك خصّت بجواز ذكر الفعل

١٠٥

معه نحو «أقسم بالله لتفعلنّ» ودخولها على الضمير نحو «بك لأفعلنّ» واستعمالها فى القسم الاستعطافى نحو «بالله هل قام زيد» أى أسألك بالله مستحلفا.

الثالث عشر : الغاية ، نحو (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) أى إلىّ ، وقيل : ضمن أحسن معنى لطف.

الرابع عشر : التوكيد وهى الزائدة ، وزيادتها فى ستة مواضع.

أحدها : الفاعل ، وزيادتها فيه : واجبة ، وغالبة ، وضرورة.

فالواجبة فى نحو «أحسن بزيد» فى قول الجمهور : إن الأصل أحسن زيد بمعنى ذا حسن ، ثم غيرت صيغة الخبر إلى الطلب ، وزيدت الباء إصلاحا للفظ ، وأما إذا قيل بأنه أمر لفظا ومعنى وإن فيه ضمير المخاطب مستترا فالباء معدّية مثلها فى «امرر بزيد».

والغالبة فى فاعل كفى ، نحو (كَفى بِاللهِ شَهِيداً) وقال الزجاج : دخلت لتضمن كفى معنى اكتف ، وهو من الحسن بمكان ، ويصححه قولهم «اتّقى الله امرؤ فعل خيرا يثب عليه» أى ليتّق وليفعل ، بدليل جزم «يثب» ويوجبه قولهم «كفى بهند» بترك التاء ، فإن احتج بالفاصل فهو مجوز لا موجب ، بدليل (وما نسقط من ورقة وما تخرج من ثمرة) فإن عورض بقولك «أحسن بهند» فالتاء لا تلحق صيغ الأمر ، وإن كان معناها الخبر ، وقال ابن السراج : الفاعل ضمير الاكتفاء ، وصحة قوله موقوفة على جواز تعلق الجار بضمير المصدر ، وهو قول الفارسى والرمانىّ ، أجازا «مرورى بزيد حسن وهو بعمرو قبيح» وأجاز الكوفيون إعماله فى الظرف وغيره ، ومنع جمهور البصريين إعماله مطلقا ، قالوا : ومن مجىء فاعل كفى هذه مجردا عن الباء قول سحيم :

١٥١ ـ [عميرة ودّع إن تجهّزت غازيا]

كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا

١٠٦

ووجه ذلك ـ على ما اخترناه ـ أنه لم يستعمل كفى [هنا] بمعنى اكتف.

ولا تزاد الباء فى فاعل كفى التى بمعنى أجزأ وأغنى ، ولا التى بمعنى وقى ، والأولى متعدية لواحد كقوله :

١٥٢ ـ قليل منك يكفينى ، ولكن

قليلك لا يقال له قليل [ص ٦٧٥]

والثانية متعدية لاثنين كقوله تعالى : (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) ووقع فى شعر المتنبى زيادة الباء فى فاعل كفى المتعدية لواحد ، قال :

١٥٣ ـ كفى ثعلا فخرا بأنّك منهم

ودهر لأن أمسيت من أهله أهل

ولم أر من انتقد عليه ذلك ؛ فهذا إما لسهو عن شرط الزيادة ، أو لجعلهم هذه الزيادة من قبيل الضرورة كما سيأتى ، أو لتقدير الفاعل غير مجرور بالباء ، وثعل : رهط الممدوح وهم بطن من طيىء ، وصرفه للضرورة إذ فيه العدل والعلمية كعمر ، ودهر : مرفوع عند ابن جنى بتقدير : وليفخر دهر ، وأهل : صفة له بمعنى مستحق ، واللام متعلقة بأهل ، وجوز ابن الشجرى فى دهر ثلاثة أوجه ، أحدها أن يكون مبتدأ حذف خبره ، أى يفتخر بك ، وصح الابتداء بالنكرة لأنه قد وصف بأهل ، والثانى كونه معطوفا على فاعل كفى ، أى أنهم فخروا بكونه منهم وفخروا بزمانه لنضارة أيامه ، وهذا وجه لا حذف فيه ، والثالث أن تجره بعد أن ترفع فخرا ، على تقدير كونه فاعل كفى والباء متعلقة بفخر ، لا زائدة ، وحينئذ تجر الدهر بالعطف ، وتقدر أهلا خبرا لهو محذوفا ، وزعم المعرى أن الصواب نصب دهر بالعطف على ثعلا ، أى وكفى دهرا هو أهل لأن أمسيت من أهله أنه أهل لكونك من أهله ، ولا يخفى ما فيه من التعسف وشرحه أنه عطف على المفعول المتقدم ، وهو ثعلا ، والفاعل المتأخر وهو «أنك منهم» منصوبا ومرفوعا وهما دهرا وأنّ ومعمولاها وما تعلق بخبرها ، ثم حذف المرفوع المعطوف اكتفاء بدلالة المعنى ،

١٠٧

وزعم الرّبعى أن النصب بالعطف على اسم أن وأن «أهل» عطف على خبرها ، ولا معنى للبيت على تقديره.

والضرورة كقوله :

١٥٤ ـ ألم يأتيك والأنباء تنمى

بما لاقت لبون بنى زياد [ص ٣٨٧]

وقوله :

١٥٥ ـ مهما لى اللّيلة مهما ليه

أودى بنعلىّ وسرباليه [ص ٣٣٢]

وقال ابن الضائع فى الأول : إن الباء متعلقة بتنمى ، وإن فاعل يأتى مضمر ، فالمسألة من باب الإعمال.

وقال ابن الحاجب فى الثانى : الباء معدّية كما تقول «ذهب بنعلى» ولم يتعرض لشرح الفاعل ، وعلام يعود إذا قدر ضميرا فى «أودى»؟ ويصح أن يكون التقدير : أودى هو ، أى مود ، أى ذهب ذاهب ، كما جاء فى الحديث «لا يزنى الزّانى حين يزنى وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» أى ولا يشرب هو ، أى الشارب ؛ إذ ليس المراد ولا يشرب الزانى.

والثانى مما تزاد فيه الباء : المفعول ، نحو (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ) (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ) (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ) أى يمسح السوق مسحا ، ويجوز أن يكون صفة : أى مسحا واقعا بالسوق ، وقوله :

١٥٦ ـ [نحن بنوضبة أصحاب الفلج]

نضرب بالسّيف ونرجو بالفرج

الشاهد فى الثانية ، فأما الأولى فللاستعانة ، وقوله :

١٠٨

[هنّ الحرائر لاربّات أخمرة]

سود المحاجر لا يقرأن بالسّور [٣٢]

وقيل : ضمن تلقوا معنى تفضوا ، ويريد معنى يهمّ ، ونرجو معنى نطمع ، ويقرأن معنى يرقين ويتبركن ، وأنه يقال «قرأت بالسورة» على هذا المعنى ، ولا يقال «قرأت بكتابك» لفوات معنى التبرك فيه ، قاله السهيلى ، وقيل : المراد لا تلقو أنفسكم إلى التهلكة بأيديكم ، فحذف المفعول به ، والباء للآلة كما فى قولك «كتبت بالقلم» أو المراد بسبب أيديكم ، كما يقال : لا تفسد أمرك برأيك.

وكثرت زيادتها فى مفعول «عرفت» ونحوه ، وقلت فى مفعول ما يتعدّى إلى اثنين كقوله :

١٥٧ ـ تبلت فؤادك فى المنام خريدة

تسقى الضّجيع ببارد بسّام

وقد زيدت فى مفعول كفى المتعدية لواحد ، ومنه الحديث «كفى بالمرء إنّما أن يحدّث بكل ما سمع».

وقوله :

١٥٨ ـ فكفى بنا فضلا على من غيرنا

حبّ النّبىّ محمّد إيّانا (١) [ص ٣٢٨ و ٣٢٩]

وقيل : إنها هى فى البيت زائدة فى الفاعل ، وحب : بدل اشتمال على المحل ، وقال المتنبى

١٥٩ ـ كفى بحسمى نحولا أنّنى رجل

لو لا مخاطبتى إيّاك لم ترنى [ص ٦٦٧]

والثالث : المبتدأ ، وذلك فى قولهم «بحسبك درهم» و «خرجت فإذا بزيد» و «كيف بك إذا كان كذا» ومنه عند سيبويه (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) وقال أبو الحسن

__________________

(١) الرواية برفع (غيرنا) وهو خبر مبتدأ محذوف ، والجملة صلة من ، والتقدير : الذى هو غيرنا.

١٠٩

بأيكم متعلق باستقرار محذوف مخبر به عن المفتون ، ثم اختلف ، فقيل : المفتون مصدر بمعنى الفتنة ، وقيل : الباء ظرفيّة ، أى فى أىّ طائفة منكم المفتون.

تنبيه ـ من الغريب أنها زيدت فيما أصله المبتدأ وهو اسم ليس ، بشرط أن يتأخر إلى موضع الخبر كقراءة بعضهم (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا) بنصب البر ، وقوله :

١٦٠ ـ أليس عجيبا بأنّ الفتى

يصاب ببعض الّذى فى يديه

والرابع : الخبر ، وهو ضربان : غير موجب فينقاس نحو «ليس زيد بقائم» (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ) وقولهم «لا خير بخير بعده النار» إذا لم تحمل على الظرفية ، وموجب فيتوقف على السماع ، وهو قول الأخفش ومن تابعه ، وجعلوا منه قوله تعالى (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) وقول الحماسى :

١٦١ ـ [فلا تطمع ، أبيت اللّعن ، فيها]

ومنعكها بشىء يستطاع

والأولى تعليق (بِمِثْلِها) باستقرار محذوف هو الخبر ، وبشىء بمنعكها والمعنى ومنعكها بشىء ما يستطاع ، وقال ابن مالك فى «بحسبك زيد» إن زيدا مبتدأ مؤخر ، لأنه معرفة وحسب نكرة.

والخامس : الحال المنفى عاملها ، كقوله :

١٦٣ ـ فما رجعت بخائبة ركاب

حكيم بن المسيّب منتهاها

وقوله :

١٦٣ ـ [كائن دعيت إلى بأساء داهمة]

فما انبعثت بمزءود ولا وكل

ذكر ذلك ابن مالك ، وخالفه أبو حيان ، وخرّج البيتين على أن التقدير بحاجة خائبة ، وبشخص مزءود أى مذعور ، ويريد بالمزءود نفسه ، على حد قولهم «رأيت

١١٠

منه أسدا» وهذا التخريج ظاهر فى البيت الأول دون الثانى ؛ لأن صفات الذم إذا نفيت على سبيل المبالغة لم ينتف أصلها ؛ ولهذا قيل فى (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) إن فعّالا ليس للمبالغة بل للنسب كقوله :

١٦٤ ـ [وليس بذى رمح فيطعننى به]

وليس بذى سيف وليس بنبّال

أى وما ربك بذى ظلم ؛ لأنّ الله لا يظلم الناس شيئا ، ولا يقال لقيت منه أسدا أو بحرا أو نحو ذلك إلا عند قصد المبالغة فى الوصف بالإقدام أو الكرم.

والسادس : التوكيد بالنفس والعين ، وجعل منه بعضهم قوله تعالى (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) وفيه نظر ؛ إذ حق الضمير المرفوع المتصل المؤكد بالنفس أو بالعين أن يؤكد أولا بالمنفصل نحو «قمتم أنتم أنفسكم» ولأن التوكيد هنا ضائع ؛ إذ المأمورات بالتربص لا يذهب الوهم إلى أن المأمور غيرهن ، بخلاف قولك «زارنى الخليفة نفسه» وإنما ذكر الأنفس هنا لزيادة البعث على التربص ؛ لإشعاره بما يستنكفن منه من طموح أنفسهن إلى الرجال.

تنبيه ـ مذهب البصريين أن أحرف الجر لا ينوب بعضها عن بعض بقياس ، كما أن أحرف الجزم وأحرف النصب كذلك ، وما أوهم ذلك فهو عندهم إما مؤوّل تأويلا يقبله اللفظ ، كما قيل فى (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) : إن «فى» ليست بمعنى على ، ولكن شبه المصلوب لتمكنه من الجذع بالحالّ فى الشىء ، وإما على تضمين الفعل معنى فعل يتعدى بذلك الحرف ، كما ضمن بعضهم شربن فى قوله *شر بن بماء البحر* [١٤٨] معنى روين ، وأحسن فى (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) معنى لطف ، وإما على شذوذ إنابة كلمة عن أخرى ، وهذا الأخير هو محمل الباب كله عند [أكثر] الكوفيين وبعض المتأخرين ، ولا يجعلون ذلك شاذا ومذهبهم أقلّ تعسفا.

(بجل) على وجهين : حرف بمعنى نعم ، واسم ، وهى على وجهين : اسم

١١١

فعل بمعنى يكفى ، واسم مرادف لحسب ، ويقال على الأول «بجلنى» وهو نادر ، وعلى الثانى «بجلى» قال :

١٦٥ ـ [ألا إنّنى أشربت أسود حالكا]

ألا بجلى من ذا الشّراب ألا بجل

(بل) حرف إضراب ، فإن تلاها جملة كان معنى الإضراب إما الإبطال نحو (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ ، بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) أى بل هم عباد ، ونحو (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ، بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ) وإما الانتقال من غرض إلى آخر ، ووهم ابن مالك إذ زعم فى شرح كافيته أنها لا تقع فى التنزيل إلا على هذا الوجه ، ومثاله (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ، بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) ونحو (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ، بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ) وهى فى ذلك كله حرف ابتداء ، لا عاطفة ، على الصحيح ومن دخولها على الجملة قوله :

١٦٦ ـ بل بلد ملء الفجاج قتمه

[لا يشترى كتّانه وجهرمه]

إذ التقدير بل ربّ بلد موصوف بهذا الوصف قطعته ، ووهم بعضهم فزعم أنها تستعمل جارة

وإن تلاها مفرد فهى عاطفة ، ثم إن تقدّمها أمر أو إيجاب «كاضرب زيدا بل عمرا ، وقام زيد بل عمرو» فهى تجعل ما قبلها كالمسكوت عنه ؛ فلا يحكم عليه بشىء ، وإثبات الحكم لما بعدها ، وإن تقدّمها نفى أو نهى فهى لتقرير ما قبلها على حالته ، وجعل ضده لما بعده ، نحو «ما قام زيد بل عمرو ، ولا يقم زيد بل عمرو» وأجاز المبرد وعبد الوارث أن تكون ناقلة معنى النفى والنهى إلى ما بعدها وعلى قولهما فيصح «ما زيد قائما بل قاعدا ، وبل قاعد» ويختلف المعنى ، ومنع الكوفيون أن يعطف بها بعد غير النفى وشبهه ، قال هشام : محال «ضربت زيدا بل إياك» اه. ومنعهم ذلك مع سعة روايتهم دليل على قلّته.

١١٢

وتزاد قبلها «لا» لتوكيد الإضراب بعد الإيجاب ، كقوله :

١٦٧ ـ وجهك البدر ، لا ، بل الشّمس لو لم

يقض للشّمس كسفة أو أفول

ولتوكيد تقرير ما قبلها بعد النفى ، ومنع ابن درستويه زيادتها بعد النفى ، وليس بشىء ، لقوله :

١٦٨ ـ وما هجرتك ، لا ، بل زادنى شغفا

هجر وبعد تراخى لا إلى أجل

(بلى) حرف جواب أصلى الألف ، وقال جماعة : الأصل بل ، والألف زائدة ، وبعض هؤلاء يقول : إنها للتأنيث ؛ بدليل إمالتها. وتختص بالنفى ، وتفيد إبطاله. سواء كان مجردا نحو (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي) أم مقرونا بالاستفهام ، حقيقيا كان نحو «أليس زيد بقائم» فتقول : بلى ، أو توبيخيّا نحو (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى) (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى) أو تقرير يا نحو (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى) (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) أجروا النفى مع التقرير مجرى النفى المجرد فى ردّه ببلى ، ولذلك قال ابن عباس وغيره : لو قالوا نعم لكفروا ، ووجهه أن نعم تصديق للمخبر بنفى أو إيجاب ولذلك قال جماعة من الفقهاء : لو قال «أليس لى عليك ألف» فقال «بلى» لزمته ، ولو قال «نعم» لم تلزمه ، وقال آخرون : تلزمه فيهما ، وجروا فى ذلك على مقتضى العرف لا اللغة ، ونازع السهيلى وغيره فى المحكى عن ابن عباس وغيره فى الآية مستمسكين بأن الاستفهام التقريرىّ خبر موجب ، ولذلك امتنع سيبويه من جعل أم متصلة فى قوله تعالى (أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ) لأنها لا تقع بعد الإيجاب ، وإذا ثبت أنه إيجاب فنعم بعد الإيجاب تصديق [له] ، انتهى.

١١٣

ويشكل عليهم أن بلى لا يجاب بها [عن] الإيجاب ، وذلك متفق عليه ، ولكن وقع فى كتب الحديث ما يقتضى أنها يجاب بها الاستفهام [المجرّد] ؛ ففى صحيح البخارى فى كتاب الإيمان أنه عليه الصلاة والسّلام قال لأصحابه «أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟» قالوا : بلى ، وفى صحيح مسلم فى كتاب الهبة «أيسرك أن يكونوا لك فى البر سواء؟» قال : بلى ، قال «فلا إذن» وفيه أيضا أنه قال «أنت الذى لقيتنى بمكة؟» فقال له المجيب : بلى ، وليس لهؤلاء أن يحتجوا بذلك ؛ لأنه قليل فلا يتخرج عليه التنزيل.

واعلم أن تسمية الاستفهام فى الآية تقريرا عبارة جماعة ، ومرادهم أنه تقرير بما بعد النفى كما مرّ فى صدر الكتاب ، وفى الموضع بحث أوسع من هذا فى باب النون.

(بيد) ويقال : ميد ، بالميم ، وهو اسم ملازم للإضافة إلى أنّ وصلتها ، وله معنيان :

أحدهما : غير ، إلا أنه لا يقع مرفوعا ولا مجرورا ، بل منصوبا ، ولا يقع صفة ولا استثناء متصلا ، وإنما يستثنى به فى الانقطاع خاصة ، ومنه الحديث «نحن الآخرون السابقون ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا» وفى مسند الشافعى رضى الله عنهم «بائد أنهم» وفى الصحاح «بيد بمعنى غير ، يقال : إنه كثير المال بيد أنه بخيل» اه ، وفى المحكم أن هذا المثال حكاه ابن السكيت ، وأن بعضهم فسّرها فيه بمعنى على ، وأن تفسيرها بغير أعلى.

والثانى : أن تكون بمعنى من أجل ، ومنه الحديث «أنا أفصح من نطق بالضّاد بيد أنّى من قريش واسترضعت فى بنى سعد بن بكر» وقال ابن مالك وغيره : إنها هنا بمعنى غير ، على حد قوله :

١٦٩ ـ ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

١١٤

وأنشد أبو عبيدة على مجيئها بمعنى من أجل قوله :

١٧٠ ـ عمدا فعلت ذاك بيد أنّى

أخاف إن هلكت أن ترنّى

وقوله ترنّى : من الرنين ، وهو الصوت

(بله) على ثلاثة أوجه : اسم لدع ، ومصدر بمعنى الترك ، واسم مرادف لكيف ، وما بعدها منصوب على الأول ، ومخفوض على الثانى ، ومرفوع على الثالث ، وفتحها بناء على الأول والثالث ، وإعراب على الثانى ، وقد روى بالأوجه الثلاثة قوله يصف السيوف :

١٧١ ـ تذر الجماجم ضاحيا هاماتها

بله الأكفّ كأنّها لم تخلق

وإنكار أبى على أن يرتفع ما بعدها مردود بحكاية أبى الحسن وقطرب له ، وإذا قيل «بله الزيدين ، أو المسلمين ، أو أحمد ، أو الهندات» احتملت المصدرية واسم الفعل.

ومن الغريب أن فى البخارى فى تفسير ألم السجدة : يقول الله تعالى «أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ذخرا من بله ما اطلعتم عليه» (١).

واستعملت معربة مجرورة بمن خارجة عن المعانى الثلاثة ، وفسّرها بعضهم بغير ، وهو ظاهر ، وبهذا يتقوّى من يعدّها فى ألفاظ الاستثناء.

حرف التاء

التاء المفردة ـ محركة فى أوائل الأسماء ، ومحركة فى أواخرها ، ومحركة فى أواخر الأفعال ، ومسكنة فى أواخرها.

فالمحركة فى أوائل الأسماء حرف جر معناه القسم ، وتختص بالتعجب ، وباسم الله تعالى ، وربما قالوا «تربّى» و «تربّ الكعبة» و «تالرّحمن» قال الزمخشرى

__________________

(١) انظر صحيح البخارى (٦ / ١١٦ السلطانية) ثم انظر فتح البارى (٨ / ٣٩٦ بولاق)

١١٥

فى (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) : الباء أصل حروف القسم ، والواو بدل منها ، والتاء بدل من الواو ، وفيها زيادة معنى التعجب ، كأنه تعجب من تسهيل الكيد على يده وتأتّيه مع عتو نمروذ وقهره ، ه

والمحرّكة فى أواخرها حرف خطاب نحو أنت وأنت.

والمحركة فى أواخر الأفعال ضمير نحو قمت وقمت وقمت ، ووهم ابن خروف فقال فى قولهم فى النسب «كنتى» : إن التاء هنا علامة كالواو فى «أكلونى البراغيث» ولم يثبت فى كلامهم أن هذه التاء تكون علامة.

ومن غريب أمر التاء الاسمية أنها جردب عن الخطاب ، والتزم فيها لفظ التذكير والإفراد فى «أرأيتكما» و «أرأيتكم» و «أرأيتك» و «أرأيتك» و «أرأيتكنّ» إذ لو قالوا «أرأيتما كما» جمعوا بين خطابين ، وإذا امتنعوا من اجتماعهما فى «يا غلامكم» فلم يقولوه كما قالوا «يا غلامنا» و «يا غلامهم» ـ مع أن الغلام طار عليه الخطاب بسبب النداء ، وإنه خطاب لاثنين لا لواحد ؛ فهذا أجدر ، وإنما جاز «وا غلامكيه» لأن المندوب ليس بمخاطب فى الحقيقة ، ويأتى تمام القول فى «أرأيتك» فى حرف الكاف إن شاء الله تعالى.

والتاء الساكنة فى أواخر الأفعال حرف وضع علامة للتأنيث كقامت ، وزعم الجلولى أنها اسم ، وهو خرق لإجماعهم ، وعليه فيأتى فى الظاهر بعدها أن يكون بدلا ، أو مبتدأ ، والجملة قبله خبر ، ويردّه أن البدل صالح للاستغناء به عن المبدل منه ، وأن عود الضمير على ما هو بدل منه نحو «اللهمّ صلّ عليه الرءوف الرحيم» قليل ، وأن تقدّم الخبر الواقع جملة قليل أيضا ، كقوله :

١٧٢ ـ إلى ملك ما أمّه من محارب

أبوه ، ولا كانت كليب تصاهره

وربما وصلت هذه التاء بثم وربّ ، والأكثر تحريكها معهما بالفتح.

١١٦

حرف الثاء

(ثمّ) ويقال فيها : فمّ ، كقولهم فى جدث : جدف ـ حرف عطف يقتضى ثلاثة أمور : التشريك فى الحكم ، والترتيب ، والمهلة ، وفى كل منها خلاف.

فأما التشريك فزعم الأخفش والكوفيون أنه قد يتخلّف ، وذلك بأن تقع زائدة ؛ فلا تكون عاطفة البتة ، وحملوا على ذلك قوله تعالى : (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) وقول زهير :

١٧٣ ـ أرانى إذا أصبحت أصبحت ذا هوى

فثمّ إذا أمسيت أمسيت غاديا

وخرّجت الآية على تقدير الجواب ، والبيت على زيادة الفاء.

وأما الترتيب فخالف قوم فى اقتضائها إياه ، تمسكا بقوله تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) وقول الشاعر

١٧٤ ـ إنّ من ساد ثم ساد أبوه

ثمّ قد ساد قبل ذلك جدّه

والجواب عن الآية الأولى من خمسة أوجه :

أحدها : أن العطف على محذوف ، أى من نفس واحدة ، أنشأها ، ثم جعل منها زوجها.

الثانى : أن العطف على (واحِدَةً) على تويلها بالفعل ، أى من نفس توحّدث ، أى انفردت ، ثم جعل منها زوجها.

١١٧

الثالث : أن الذّريّة أخرجت من ظهر آدم عليه‌السلام كالذّرّ ، ثم خلقت حوّاء من قصيراه.

الرابع : أن خلق حواء من آدم لما لم تجر العادة بمثله جىء بثم إيذانا بترتّبه وتراخيه فى الإعجاب وظهور القدرة ، لا لترتيب الزمان وتراخيه.

الخامس : أن «ثمّ» لترتيب الإخبار لا لترتيب الحكم ، وأنه يقال «بلغنى ما صنعت اليوم ثمّ ما صنعت أمس أعجب» أى ثم أخبرك أن الذى صنعته أمس أعجب.

والأجوبة السابقة أنفع من هذا الجواب ، لأنها تصحّح الترتيب والمهلة ، وهذا يصحح الترتيب فقط ؛ إذ لا تراخى بين الإخبارين ، ولكن الجواب الأخير أعم ؛ لأنه يصح أن يجاب به عن الآية الأخيرة والبيت.

وقد أجيب عن الآية الثانية أيضا بأنّ (سَوْأَةَ) عطف على الجملة الأولى ، لا الثانية.

وأجاب ابن عصفور عن البيت بأن المراد أن الجد أتاه السؤدد من قبل الأب ، والأب من قبل الأبن ، كما قال ابن الرومى :

١٧٥ ـ قالوا : أبو الصّقر من شيبان ، قلت لهم :

كلّا لعمرى ، ولكن منه شيبان

وكم أب قد علا بابن ذرى حسب

كما علت برسول الله عدنان

وأما المهملة فزعم الفراء أنها [قد] تتخلّف ، بدليل قولك : «أعجبنى ما صنعت اليوم ثمّ ما صنعت أمس أعجب» لأن ثم فى ذلك لترتيب الإخبار ، ولا تراخى بين الإخبارين ، وجعل منه ابن مالك (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) الآية ، وقد مر البحث فى ذلك ، والظاهر أنها واقعة موقع الفاء فى قوله :

١١٨

١٧٦ ـ كهزّ الرّدينىّ تحت العجاج

جرى فى الأنابيب ثمّ اضطرب

إذ الهزّ متى جرى فى أنابيب الرّمح يعقبه الاضطراب ، ولم يتراخ عنه.

مسألة ـ أجرى الكوفيون ثمّ مجرى الفاء والواو ، فى جواز نصب المضارع المقرون بها بعد فعل الشرط ، واستدلّ لهم بقراءة الحسن (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) بنصب (يُدْرِكُ) وأجراها ابن مالك مجراهما بعد الطلب ؛ فأجاز فى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يبولنّ أحدكم فى الماء الدّائم الذى لا يجرى ثمّ يغتسل منه» ثلاثة أوجه : الرفع بتقدير ثم هو يغتسل ، وبه جاءت الرواية ، والجزم بالعطف على موضع فعل النهى ، والنصب قال : بإعطاء ثم حكم واو الجمع ؛ فتوهّم تلميذه الإمام أبو زكريا النووى رحمه‌الله أن المراد إعطاؤها حكمها فى إفادة معنى الجمع ، فقال : لا يجوز النصب ؛ لأنه يقتضى أن المنهىّ عنه الجمع بينهما ، دون إفراد أحدهما ، وهذا لم يقله أحد ، بل البول منهىّ عنه ، سواء أراد الاغتسال فيه أو منه أم لا ، انتهى. وإنما أراد ابن مالك إعطاءها حكمها فى النصب ، لا فى المعية أيضا ، ثم ما أورده إنما جاء من قبل المفهوم ، لا المنطوق ، وقد قام دليل آخر على عدم إرادته ، ونظيره إجازة الزجاج والزمخشرىّ فى (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ) كون (تَكْتُمُوا) مجزوما ، وكونه منصوبا مع أن النصب معناه النهى عن الجمع.

تنبيه ـ قال الطبرى فى قوله تعالى (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) : معناه أهنالك ، وليست ثم التى تأتى للعطف ، انتهى. وهذا وهم ، اشتبه عليه ثمّ المضمومة الثاء بالمفتوحتها.

(ثمّ) بالفتح ـ اسم يشار به إلى المكان البعيد ، نحو (وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) وهو ظرف لا يتصرف ؛ فلذلك غلّط من أعربه مفعولا لرأيت فى قوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ) ولا يتقدمه حرف التنبيه [ولا يتأخر عنه كاف الخطاب].

١١٩

حرف الجيم

(جير) بالكسر على أصل التقاء الساكنين كأمس ، وبالفتح للتخفيف كأين وكيف ـ حرف جواب بمعنى نعم ، لا اسم بمعنى حقّا فتكون مصدرا ، ولا بمعنى أبدا فتكون ظرفا ، وإلّا لأعربت ودخلت عليها أل ، ولم تؤكّد أجل بجير فى قوله :

١٧٧ ـ [وقلن على الفردوس أوّل مشرب]

أجل جير إن كانت أبيحت دعاثره

ولا قوبل بها «لا» فى قوله :

١٧٨ ـ إذا تقول لا ابنة العجير

تصدق ، لا إذا تقول جير

وأما قوله :

١٧٩ ـ وقائلة : أسيت ، فقلت : جير

أسىّ إنّنى من ذاك إنّه

فخرج على وجهين ؛ أحدهما : أن الأصل جير إنّ ، بتأكيد جير بإنّ التى بمعنى نعم ، ثم حذفت همزة إنّ وخففت. الثانى : أن يكون شبّه آخر النصف بآخر البيت ، فنونه تنوين الترنم ، وهو غير مختص بالاسم ، ووصل بنية الوقف.

(جلل) حرف بمعنى نعم ، حكاه الزجاج فى كتاب الشّجرة ، واسم بمعنى عظيم أو يسير أو أجل.

فمن الأول قوله :

١٨٠ ـ قومى هم قتلوا ـ أميم ـ أخى

فإذا رميت يصيبنى سهمى

فلين عفوت لأعفون جللا

ولئن سطوت لأوهنن عظمى

ومن الثانى قول امرئ القيس وقد قتل أبوه :

١٨١ ـ *ألا كلّ شىء سواه جلل*

ومن الثالث قولهم «فعلت كذا من جلك» وقال جميل :

١٢٠