الامامة والحكومة في الأسلام

الشيخ محمد حسين الأنصاري

الامامة والحكومة في الأسلام

المؤلف:

الشيخ محمد حسين الأنصاري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مطبوعات مكتبة النجاح
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٢

قال : نقلت من خط الصولي قال : الجاحظ ...

(ولست ألوم العرب ، لا سيما قريشا في بغضها له (١) ، وانحرافها عنه ، فإنه وترها ، وسفك دمأها ، وكشف القناع في منابذتها ، ونفوس العرب واكبادها كما تعلم.

وليس الاسلام بمانع من بقأ الاحقاد في النفوس ، كما نشاهده اليوم عيانا ، والناس كالناس الاول ، والطبائع واحدة.

فاحسب أنك كنت من سنتين أو ثلاث جاهليا أو من بعض الروم وقد قتل واحد من المسلمين ابنك واخاك ، ثم اسلمت أكان اسلامك يذهب عنك ما تجده من بغض ذلك القاتل وشنانه؟!!

كلا. إن ذلك لغير ذاهب ، هذا إذا كان الاسلام صحيحا ، والعقيدة محققة ، لا كأسلام كثير من العرب ، فبعضهم أسلم تقليدا ، وبعضهم للطمع والكسب وبعضهم خوفا من السيف ، وبعضهم على طريق الحمية والانتصار ، أو لعداوة قوم آخرين من أضداد الاسلام واعدائه.

وأعلم أن كل دم أراقه رسول الله صلى الله عليه وآله بسيف علي عليه السلام وبسيف غيره ، فإن العرب بعد وفاته صلى الله عليه وآله عصبت تلك الدمأ بعلي بن أبي طالب عليه السلام وحده ، لانه لم يكن في رهطه من يستحق في شرعهم وسنتهم وعادتهم أن يعصب به تلك الدمأ إلا بعلي وحده.

وهذه عادة العرب إذا قتل منها قتلى طالبت بتلك الدمأ القاتل ، فإن مات ، أو تعذرت عليها مطالبته ، طالبت بها أمثل الناس من أهله) (٢).

فإذا علم ذلك الجاحظ أجهله رسول الله صلى الله عليه وآله!؟

__________________

(١) يقصد بذلك عليا عليه السلام.

(٢) المصدر السابق / المجلد الرابع / ص ١٣٠ ـ ١٣١.

٦١

ولذا لا نعجب من سؤال ابن أبي الحديد حيث يقول : ـ

(سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن زيد ، فقلت له : إني لاعجب من علي عليه السلام كيف بقي تلك المدة الطويلة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله؟! وكيف ما اغتيل ، وفتك به في جوف منزله ، مع تلظي الاكباد عليه؟!

فقال : لولا أنه أرغم أنفه بالتراب ، ووضع خده في حضيض الارض لقتل.

ولكنه أخمل نفسه ، واشتغل بالعبادة والصلاة والنظر في القرآن ، وخرج عن ذلك الزي الاول ، وذلك الشعار ونسي السيف ، وصار كالفاتك يتوب ويصير سائحا في الارض ، أو راهبا في الجبال.

ولما أطاع القوم الذين ولوا الامر ، ـ ويصعب علي أن أنقل كلمته ولكن أذكرها لابين مدى الجرأة منهم على الله ورسوله وأوليأه ـ وصار أذل لهم من الحذأ (١) تركوه وسكتوا عنه.

ولم تكن العرب لتقدم عليه إلا بمواطأة من متولي الامر ، وباطن في السر منه.

فلما لم يكن لولاة الامر باعث وداع إلى قتله وقع الامساك عنه.

ولولا ذلك لقتل ، ثم أجل بعد معقل حصين).

وهم كادوا يفعلون ولما ، فها هو يتم حديثه قائلا (فقلت له : أحق ما يقال في حديث خالد؟!

فقال : إن قوما من العلوية يذكرون ذلك.

ثم قال : وقد روي أن رجلا جأ إلى زفر بن الهذيل صاحب أبي حنيفة فسأل

__________________

(١) وقد نقل هذه العبارة مع ضخامة وقعها على السمع والفؤاد والروح والجسد ابن ابي الحديد في شرحه لنهج البلاغة بلا تعليق أو تعقيب مع انه يرد ابسط الكلمات ويوجهها إذا اتت موجهة للخلفاء ، وقد نقلتها لرد اولئك الذين يدعون ان ابن ابى الحديد المعتزلي من الشيعة.

فهذا اوضح دليل وانصعه ، لانه لو كان من شيعته لما نقلها ، وإذا فعل لعلق بما يشفي الغليل ..

٦٢

عما يقول أبو حنيفة في جواز الخروج من الصلاة بأمر غير التسليم ، نحو الكلام والفعل الكثير والحدث.

فقال : إنه جائز ، قد قال أبو بكر في تشهده ما قال ..) (١).

فبنأا على ذلك نستبعد من شخص كريم ، كرسول الله صلى الله عليه وآله أن يترك من نصره وآواه على وجه العموم ، وأهل بيته بالخصوص ، وأقرب الناس إليه بالاخص غرضا لكل تلك الدواهي العظيمة .. فهيهات ثم هيهات.

رابعا : أكان حرص أبي بكر على الاسلام أشد من حرص رسول الله صلى عليه وآله (أحضر أبو بكر عثمان ـ وهو يجود بنفسه فأمره أن يكتب عهدا ، وقال : ـ

أكتب : بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد عبد الله بن عثمان (وهو اسم أبي بكر واسم أبيه) إلى المسلمين ، أما بعد. ثم أغمي عليه ..

وكتب عثمان قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب.

وأفاق أبو بكر ، فقال : اقرأ.

فقرأه ، فكبر أبو بكر ، وسر.

وقال : أراك خفت أن يختلف الناس إن مت في غشيتي!

قال : نعم.

قال : جزاك الله خيرا عن الاسلام وأهله.

ثم أتم العهد.

وأمر أن يقرأ على الناس فقرئ عليهم.) (٢).

فإذا خاف أن يختلف الناس إن مات في غشيته ، فكيف لا يخاف رسول الله

__________________

(١) شرح النهج / المجلد الرابع / ص ١٣١.

(٢) راجع كتب الاخبار والسير ومنها / شرح النهج / ج ١ / ص ٨٢ ، تاريخ الطبري / ج ٣ / ص ٤٢٩ ، سيرة عمر / ابن الجوزى / ص ٣٧ ، تاريخ ابن خلدون / ج ٢ / ص ١٢٠.

٦٣

صلى الله عليه وآله ، وهو أولى بذلك.

وأقف أخيرا مذهولا ، وأزداد تعجبا ممن لا يقر بالنص وهو يقرأ هذا في التاريخ!!!

أكان أبو بكر أوعى من محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله؟!

أم كان أحرص على إلا يختلف الناس؟!

أم كانت الشورى واضحة لدى الخليفة ، ولم يعرها أي أهمية ، ونصب عمر على المسلمين فخالف الله ورسوله بذلك؟!

ثم لاحظ عبد الله بن عمر حين دخل على أبيه وهو يلفظ انفاسه الاخيرة قائلا له : ـ (يا أمير المؤمنين ، استخلف على امة محمد ، فإنه لو جأك راعي إبلك أو غنمك وترك إبله وغنمه ولا راعي لها للمته وقلت له : كيف تركت أمانتك ضائعة؟!

فكيف يا أمير المؤمنين بأمة محمد؟!) (١).

أتراه وضح له من الامر ما لم يتضح لنبي الله صلى الله عليه وآله؟!

أو لاحظ قول عائشة قبل ذلك حين خاطبت عبد الله بن عمر هذا (يا بني أبلغ عمر سلامي ، وقل له : لا تدع أمة محمد بلا راع ، إستخلف عليهم ، ولا تدعهم بعدك هملا ، فإني اخشى عليهم الفتنة) (٢).

فلاحظ قولها ولا تدعهم بعدك هملا ..

وقولها فإني اخشى عليهم الفتنة.

فهل الرسول صلى الله عليه وآله يا ـ أم المؤمنين ـ ويا ـ مؤمنون ـ ويا ـ عقلا ـ قد ترك امته بعده هملا ..

__________________

(١) الامامة والسياسة / ص ٢٣ ، تاريخ الطبري / ص ٣٤ ، مروج الذهب للمسعودي / ج ٢ / ص ٣٥٣.

(٢) المصدر السابق نفسه

٦٤

وهل لم يخش عليهم الفتنة ..

مالكم كيف تحكمون؟!

وهل ينادي الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ من بعد ـ وحاشاه ثم حاشاه ـ مثل ما نادى خليفة خليفة المسلمين وآخذ الامور من بعده عمر بن الخطاب (كل الناس افقه منك يا عمر حتى المحجلات في البيوت.)؟!

خامسا : إن كتب التاريخ والسير تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله ما ترك المدينة في أيام حياته يوما ، إلا وعين فيها واليا عليها من قبله ، حتى يرجع ، فكيف يتركها بلا تعيين من عنده ، وهو يعلم بأنه سيفارق الدنيا.

سادسا : الناس العاديون حتى البسطأ منهم يفعلون ذلك ، فضلا عن القادة والملوك والرؤسأ ، فكيف مالا يخفى على هؤلا خفي على رسول الله صلى الله عليه وآله وهو القائد النبيه ، وبالاخص أن الامة لم تنضج بعد.

سابعا : الامبراطورية الكسروية من جهة ، والامبراطورية القيصرية من جهة ثانية وهما أقوى قوتين في عالم ذاك اليوم تراقبان بقلق كل ما يجري في الجزيرة العربية ، كيف يترك القائد المحنك امته الفتية لسبب مهم للانقسام والفرقة مع وجود هاتين القوتين الضاربتين ، مع وجود الاعوان لهم من الداخل المتمثلين بالمنافقين ، وهي فرصة عظيمة للدخول في هذا الامر الخطير والتأثير على مجريات أحداث المنطقة كلها.

٦٥
٦٦

دواعي التعيين

٦٧
٦٨

دواعي التعيين : ـ

كل ما مر عليك سابقا يستدعي التعيين ، مع الحفاظ على كلمة الامة الفتية ، وعدم نضوجها لاختيار القائد من بينها ، وعدم توضيح الامر لهم وخصوصياته لا من سابق ولا من لاحق كما عرفت.

وعدم ترك أي سبب للانقسام حتى وإن كان بسيطا في مجتمع لا زالت العصبية تلعب دورا مهما فيه ، ووجود المنافقين والذين يتربصون الدوائر به.

وكما هو ديدن العقلا في التعيين ، والشارع رأسهم وأميرهم.

ولذا حتى اعمدة الفكر الامني قد أقر بهذا ومنهم ابن خلدون حيث يقول (أن الامام ينظر للناس في حال حياته ، ويتبع ذلك أن ينظر لهم بعد وفاته.) (١).

فهل هذه الخصوصية لكل نبي الائمة ، وإمام الانبياء؟!

مالكم كيف تحكمون؟!

وكما هو مقتضى كون الرسالة هي الرسالة الخاتمة ، كما سيمر عليك.

أو يشك فضلا على أن يقطع وحتى أن يظن بان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مات ولم يعين؟!!

(فإذا قال المسلمون أنه لم يعين المرجع من بعده ، ولم يحدد من الذي سيقوم بوظائفه ، ولا حدد من سيبين للناس أحكام العقيدة ، ولامن الذي يحدد لهم دائرة

__________________

(١) ابن خلدون المقدمة.

٦٩

الشرعية والمشروعية ، ولا بين من هو ولي الامة من بعده ، ولا من هو ركن مجدها القائم مقامه ، ولا من هو ثقلها ، ولا من هو مثلها الاعلى ولا من هو الذي سيقود معركة تحرير البشرية وإنقاذها.

فإذا قال المسلمون ذلك ، فإن قولهم هذا يناقض كمال الدين وتمام النعمة ، لان هذه الامور من صلب الدين ومن صميم النعمة ، ومن المحال أن تغفلها العقيدة الالهية ، ثم أنهم لو اصروا على ذلك لوجدوا أن العقيدة الالهية تتحدى إصرارهم هذا وتعيبه ولا تقره ، وان هذا الاصرار يتعارض مع المنطق ، والعقل ، واساسيات الحياة ، فضلا عن تناقضه الصارخ مع قواعد العقيدة الالهية.) (١)

التعيين : ـ

الذي يمكن أن نستشف منه التعيين أمران : ـ

الاول منهما : كلي له مصاديق كثيرة ، قد لا يتحقق في بعض موارده إلا بمصداق واحد ، وقد يذكر هذا المصداق في موارد أخر ، وسنتعرض لبعضها على سعة المجال.

والثاني : واقعة واحدة قد تكون نافعة في المقام عند بعض.

ونقدم الحديث عن الواقعة الثانية أولا.

__________________

(١) نظرية عدالة الصحابة / احمد حسين يعقوب / ص ١٥٨.

٧٠

الواقعة اليتيمة في التعيين على الخليفة الاول : ـ وهو المورد الاول : ـ فأمر النبي صلى الله عليه وآله أبا بكر بالصلاة بالمسلمين عندما اشتد به المرض ، وجعله بذلك إماما في الصلاة يقتضي هذا الامر وهذا الفعل تقديمه على كافة المسلمين بمقدمة مفادها أن المقدم فيها مقدم في غيرها.

فهل هذه الواقعة أولا ومقدماتها ثانيا ونتائجها ثالثا تتحمل الصمود أمام ما يأتيها من نقاش وتبقى على ثباتها ، أم يكون حالها حال رماد اشتدت به الريح ، لاقرار لها ولا اعتبار؟!!!

والمناقشة تتم من وجوه : ـ

١ ـ في نفس الواقعة

٢ ـ في مقدمات ما جعلوه نصا.

٣ ـ في النتائج بالاضافة إلى المقدمة.

٤ ـ في الكل كمجموع.

إن ذلك لو كان تاما فهو نص منه صلى الله عليه وآله ، ولو كان كذلك لاحتج به هو نفسه وأنصاره يوم السقيفة فيما احتجوا به على الانصار.

فكيف ما لم يكن حجة عندهم وعند الصحابة نجعله حجة وأصلا نبني عليه.

٣ ـ في النتائج : ـ

التقديم حتى لو ثبت فهو لا يعني شيئا ، وإلا لو كان يعني لكان صهيب الرومي أولى من الستة الذين عينهم عمر بن الخطاب لاختيار من يلي المسلمين ، لانه عين صهيبا ليصلي بالناس.

٢ ـ في مقدمات الاستدلال : ـ

إن التقديم في الصلاة لا يعني أنه مقدم في غيرها ، ولا في الامامة بالخصوص أصلا وذلك : ـ

٧١

ألف ـ لان الصلاة أمر خاص ، والامامة أمر عام ، وما يدل على الخاص لا يمكن أن يدل على العام بأي وجه من الوجوه.

ب ـ على مذهب القائل والمائل لهذا الرأي يجوز تقديم الفاسق في الصلاة جزما إذا كان يحسن القرأة ، ولا يشترط العدالة فيها.

أما من جهة الامامة فقد قام الاجماع على اشتراط العدالة في الامام بحيث لو فسق وجب على الامة عزله.

فإذا كان كذلك بطل ما بنوا عليه الاستدلال من أن ، كل مقدم في الصلاة مقدم في غيرها.

لانه قد يتقدم من كان حاله الفسق فلا يتم الاستدلال.

١ ـ في نفس الواقعة : ـ

هذا التقديم باطل عند الكل ، لانه قد وردت روايات عند الخاصة والعامة توضح بإن ذلك لم يكن بامر من الرسول صلى الله عليه وآله.

فإذا لم يكن منه صلى الله عليه وآله بطل الاستدلال من أصله.

وأما من يدعي أن ذلك حصل بامر منه صلى الله عليه وآله فيمكن المناقشة بدعواه لما يلي : ـ

أولا : إن ما جأ به بلال من الامر لم يكن مشافهة من رسول الله صلى الله عليه وآله ، بل كان بواسطة.

ولم يعلم مدى صدق الواسطة بذلك ، مع وجود لغط في كذبها ، وهي ـ أي الواسطة ـ لم تكن معصومة باي حال من الاحوال ، وإذا وجد احتمال ذلك لم تبق حجة في هذا الاخبار أصلا.

بالاضافة إلى أن خروجه صلى الله عليه وآله وهو على تلك الحالة من المرض ، وتنحيته لابي بكر من الصلاة ، وصلاته هو بالناس يدل على ذلك بصورة واضحة جدا ، هذا ثانيا.

٧٢

وثالثا : إذا كان الامر منه صلى الله عليه وآله ، فكيف خرج ونحاه وأتم الصلاة بنفسه الشريفة على ما اتفق روايته من الجميع ، وما هما إلا عملان ينقض أحدهما الاخر ، وحاشا لرسول الله صلى الله عليه وآله أن يفعل ذلك.

ورابعا : لو ثبت ما قلتم أولا لثبت النسخ أخيرا ، إذ أن تنحيته عن ذلك بمنزلة نسخه لذلك الامر الاول.

وأخيرا نقول : ـ

لو كان أمر إمامة الصلاة صالحا للدلالة على الامامة ، لصلح أمر إمرة الجيش المبعوث ـ إمام الصلاة ـ فيه في الحملة الاخيرة بطريق أولى وأوضح ، فهو تابع لا متبوع ، فإذا تقدم هو تقدم ذاك عليه ، لانه من مجموعته وهو الذي يعين من يتقدم بالصلاة ممن يتأخر.

فكان من نصب أميرا جزما على من نصب لامامة الصلاة فقط أولى بالامامة قطعا ، لانه أحد جنوده بامر صريح منه صلى الله عليه وآله.

وبذا يكون اسامة بن زيد أولى بالامامة من أبي بكر أو أي فرد في حملته ، فبهذا نرى بطلان هذا التقديم.

لانه إما غير واقع أصلا ، أو قد وقع إلا أنه لا يصلح أبدا لانه خاص والامامة أمر عام ، أولا يدل على مزية ، ولو كان ذا مزية فمزية الامر تقتضي التقديم على الجندي ، أو أنه قد نسخ.

وهذا الامر لما فيه لا يناسب أهمية التعيين وعظمته ، فيسقط من الاعتبار.

ولا يدفع كثيرا من مضار عدم التعيين التي سبق وذكرناها خاصة مع وجود قول غيره أوضح منه وأقرب.

٧٣

المورد الثاني : ـ

الذي هو كلي له مصاديق كثيرة ، بعضها صريح في ذلك ، وبعضها يستشف منها ذلك ، وبعضها كلي والذي صرح به أحد المصاديق ، وبعضها على شخص ذلك المصداق تنطبق أنطباقا ، ولو لم يكن كل واحد منها دليلا قائما بنفسه ، فعلى الاقل بعضها ، ولو لم يكن هذا البعض كذلك فمجموعها يولد الاطمئنان بل الجزم بهذا الامر.

النص في شريعتنا له طريقان لا ثالث لهما : ـ

١ ـ الكتاب.

٢ ـ السنة.

ونتعرض لذلك بحسب خطة الكتاب ، وهو مطلب دقيق لا يمكن استيعابه بصورة شاملة وتامة ، ومن أراد الاستزادة فعليه بكتب العقائد المطولة ، وبالمناظرات التاريخية المنقولة.

٧٤

الدليل الاول : ـ

الكتاب الكريم

بما أن الحاكمية لها طرفان طرف مرتبط بالحاكم ذي السلطة ، وطرف مرتبط بالمحكوم.

فيكون في الطرف الاول سلطه وسلطنة الحاكم التي معناها ولاية الحاكم على المحكوم ، وإلا لما استطاع الحاكم أن يحكم الطرف الثاني فيصدر حكمه عليه أوله ولا أن ينفذ حكمه فيه.

وهذا واضح لا لبس فيه.

ومقابل هذا حتى يجري ما قرر الحاكم وينفذ يجب أن يكون هناك خضوع لتلك السلطة والسلطنة من الطرف الثاني وهذا ما يسمي بالاطاعة.

فمن جانب هناك ولاية ، ومن الجانب الاخر تكون إطاعة ، ليتم الامر ، وتجري الامور بالشكل المطلوب.

وإذا أردنا أن نتبع كتاب الله المجيد لنجد هذه النقطة المهمة فيه ، لرأينا آياته موافقة لحكم العقل الذي اثبت خالقية الباري عزوجل ، وافتقار الممكن له ، فثبتت سلطنته عليه باجلى صور السلطة والسلطنة ، وهذا يظهر في الامور التكوينية باتم صورة واوضحها.

قال تعالى : ـ

(ثم استوى إلى السمأ وهي دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو

٧٥

كرها قالتا أتينا طائعين) (١).

فالسلطة الحقيقية ، وأولا وبالذات له سبحانه وتعالى كما كررنا ذلك مرارا.

إلا أنه لو أرادها لاحد فمقتضى سلطنته ونفوذها أنها تثبت له بالحدود التي حددها هو سبحانه وتعالى.

فهل أشار القرآن الكريم إلى غير الباري عزوجل بهذا الامر الخطير؟!

لو تتبعنا آياته كاملة لرأينا أن ذلك ثابت لاشخاص معينين بأوضح صور التعيين وأدقها.

ألف ـ الرسل والانبيأ.

ب ـ الرسول الكريم صلى الله عليه وآله بالتعيين.

وعن هذه الصورة التي نبحث عنها بالخصوص يتجلى الامر واضحا للنبي الكريم صلى الله عليه وآله الطرف الاول قال تعالى فيه : ـ

(النبي أوى بالمؤمنين من أنفسهم ..) (٢).

فثبتت له هذه الولاية وهي الطرف الاول ..

أما الطرف الثاني الذي هو الاطاعة فقد برز في كثير من آياته منها قوله تعالى : (واطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) (٣).

ومنها (يا أيها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول ..) (٤).

إلى ما شأ الله من الايات الكثيرة التي تبين بعضها أن إطاعته إطاعته قال تعالى : (من يطع الرسول فقد أطاع الله) (٥).

__________________

(١) الاية «١١» سورة فصلت ـ ٤١ ـ

(٢) الاية «٦» سورة الاحزاب ـ ٣٣ ـ

(٣) الاية «١٣٢» سورة ال عمران ـ ٣ ـ

(٤) الاية «٣٣» سورة محمد ـ ٤٧ ـ

(٥) الاية «٨٠» سورة النساء ـ ٤ ـ.

٧٦

فهل هذان الجانبان موجودان لاحد غيره ..

ومن عجيب المقادير ، ودقة الخلق ، واتقان الامر ، (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (١).

نرى أن ذلك لم يثبت إلا لبعضهم باعلى مراتب الاثبات وانصعها ..

فولايتهم جأ إثباتها وقد حصرت مع ولاية الله ورسوله باداة حصر ، فلا ولاية لاحد بهذه السعة إلا للمحصورين بها ، وقد أوضح ذلك الطرف الاخر الذي تذكر فيه الطاعة وقد جأت كذلك مقرونة مع إطاعة الله ورسوله فانظره وتفكر واغتنم.

قال تعالى : (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون).

وإنما في لغة العرب تفيد الحصر ، فنستفيد منها حصر الولاية بالله وبرسوله وبالذين آمنوا الذين لهم صفة خاصة قد وضحت وقد تعينت بالروايات المتضافرة أن لم تكن المتواترة بإنها مخصوصة بأفراد معينين ، وجأ ذلك وله الحمد من طرق الفريقين.

ولو أدعيت لاحد ، فعلينا أن نبحث عن الطرف الاخر هل هو ثابت له من الكتاب المجيد ، فإن وجد فالامر تام وإلا تبقى الدعوى لا رصيد لها ولا بقأ ، تحتاج إلى تصريح من صاحب السلطة والسلطنة الحقيقية.

فليس لاحد على أحد سلطه وسلطنة ، وخاصة بهذه القوة إلا لمن قام الدليل القطعي عليه ، وتمت الحجة على الناس به.

فهل الاطاعة موجودة لاحد أدعى تلك المنزلة ، وكان مصداقا للاية؟!

__________________

(١) الاية «٨٢» سورة النساء ـ ٤ ـ

٧٧

لو تتبعنا القرآن الكريم لشاهدنا أن الاطاعة قد وردت فيه لكل من : ـ

١ ـ الباري عزوجل. وهذا لا حديث فيه.

٢ ـ الرسل والانبيأ. وهذا قد تم.

٣ ـ رسولنا بالخصوص. وهو قد ثبت.

٤ ـ إطاعة الشيطان ، والسادات. الخ وهو ما عاب عليهم الله به.

٥ ـ إطاعة الزوجة لزوجها.

قال تعالى : ـ

(الرجال قوامون على النسأ بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللا تي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن اطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا) (١).

فهي مخصوصة في النسأ فقط ، وليس كلهن بل النسأ المتزوجات فالمورد خارج عن الحديث هذا أولا.

ولدفع كثير من الالتباس والشبه نقول إن الطاعة هنا ليست مطلقة ، بل جأت مقابل النشوز ، فهي مخصصة المورد بلا ريب ولا شك.

فإن اطعنكم في عدم النشوز فلا تبغوا عليهن سبيلا.

والنشوز وعدمه قد بين في كتب الفقه بالمقدار الذي يعرفه كل مسلم تقريبا وعدمه التمكين.

فالاطاعة ليست مطلقة على كل حال.

وهذه المنزلة بينها الباري عزوجل بهذا المقدار لاهميتها.

__________________

(١) الاية «٣٤» سورة النساء ـ ٤ ـ

٧٨

ولاهمية البيت الاسلامي وتمشية أموره أمر بها ، لكن بحدود عدم النشوز وقد ثبت بمالا مجال للشك فيه أن الاطاعة ليست مطلقة.

فهذا بهذا يخرج من حديثنا لمحدوديته ولان الطرف الاول فيه عليه محدد بحدود قد بينته الروايات ، ولم يشر إليه في كتاب الله المجيد ، وقد ذكرناه دفعا للشبهة ، ورفع اللبس ، دفعا لمن يقول بإن الاطاعة قد وردت لغير من ذكرت.

٦ ـ إطاعة قوم معينين :

قال تعالى : ـ (يا أيها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول وأولي الامر منكم ..) (١).

أولا نقول بدأ الباري عزوجل هذه الاية المباركة بخطاب الذين آمنوا وهو مزيد اعتنأ بالامر الذي سيصدر ، وثانيا تنبيه على أن إطاعة ذلك الامر هو من صفات الذين آمنوا.

وثالثا : إذا لاحظنا الاية المباركة لشاهدنا ، إن هناك إطاعة وبجانبها إطاعة أخرى ، ولو كانت إطاعة الله وبجانبها إطاعة الرسول صلى الله عليه وآله فقط لما كان ذلك مستغربا ، إذ ورد ذلك في كثير من آياته ، إلا أن هناك إطاعة وبجانبها إطاعة الرسول منظمة لها إطاعة قوم آخرين.

وإطاعة الله معلومة وهو صاحب الحق الازلي.

وإطاعة رسوله ثابتة ومفصلة وهي مترشحة منها.

فتكون إطاعة أولئك أيضا بهذه القوة.

وقد تعرضنا في كتابنا (المدخل إلى سنن التاريخ في القران الكريم) لتفصيل ما تؤدي إليه هذه الاية المباركة من الاطاعة المطلقة لله ولرسوله ولاولي الامر.

__________________

(١) الاية «٥٩» النساء ـ ٤ ـ

٧٩

وبما أن الله سبحانه وتعالى قد أمر الذين آمنوا بذلك مطلقا ، والله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ، فيجب أن يكون الرسول محض نور وأولوا الامر نورا مثله كذلك ، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا إذا كانوا معصومين.

فباضافة هذا إلى ذاك نعلم من أن الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ، والذين حصر الباري عزوجل ولاية المؤمنين بالله وبرسوله صلى الله عليه وآله وبهم ، ما هم إلا أولوا الامر الذين أمر الذين آمنوا أن يطيعوهم كما يطيعون الله ورسوله.

وبهذا تكتمل الصورة ، الطرف الاول الولاية لهؤلا والاخر الاطاعة لهم.

ولو تتبعنا تفاسير المسلمين قاطبة وأسباب النزول لعلمنا من هم أولئك القوم.

بالاضافة إلى ورود سنة متظافرة من رسول الله صلى الله عليه وآله إن لم تكن متواترة توضح هذه الولاية بصورة أوضح واصرح ، بظروف مناسبة لذلك جدا ، وبهذا يتبين أنه حتى لو وجدت تفاسير أخر لقوم آخرين ستكون محكومة بالخيبة والكذب ، لتوافق الكتاب في أكثر من مورد ، مع الروايات لكلا الطرفين وهما ما اجتمعا عليه على أن ذلك لهؤلا وليس لاولئك ، وقد تمت الحجة.

ومن هنا نرى وضوح يوم الغدير وضوحا تاما.

وقد ذكر المفسرون وعلمأ الفريقين أن هاتين الايتين المباركتين آية الولاية الاطاعة نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام ، حتى أنه نقل الاجماع من بعضهم في ذلك كالقوشجي في مبحث الامامة من كتاب شرح التجريد (١).

__________________

(١) ومن اراد معرفة المصادر الكثيرة لذلك فليراجع كتاب نظريه عدالة الصحابة للاستاذ احمد حسين يعقوب / ص ١٩٠ وص ١٩١ ففيه ما يبغى. وقد اخترنا هذا الكتاب بالذات لانه اثبت للقلب واكثر اطمئنانا لان مؤلفه كان من مفكري ومثقفي اخواننا السنة والذين زادوا هدى اخيرا فاتبعوا الصراط المستقيم فنطق بالحق وبه جاء.

٨٠