خصائص الوحى المبين

شمس الدين يحيى بن الحسن الأسدي الربعي الحلّي [ الحافظ ابن البطريق ]

خصائص الوحى المبين

المؤلف:

شمس الدين يحيى بن الحسن الأسدي الربعي الحلّي [ الحافظ ابن البطريق ]


المحقق: الشيخ مالك المحمودي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: نگين
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٦

العقائد الحديث وعلومه

١
٢

٣
٤

كلمة المحقق

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم وعلى اهل بيته الطيبين الطاهرين.

يعد دعم العمل التحقيقي من الضرورات التي لا غنى عنها في عصرنا الراهن ، فنحن اليوم بأمس الحاجة إلى إحياء تراثنا الدفين لتمكين الجيل المعاصر من الاطلاع على تراثه الغني المعطاء ، والتعرف على الاعلام والعظماء من أركان الامة الاسلامية التي كانت ولا تزال تقدم للعالم نماذج حية نابضة بالحياة في جميع حقول المعرفة.

ونحن إذ نحاول تقديم هذا العمل لابناء الامة الاسلامية نبتغي من ذلك ـ والله من وراء القصد ـ الاشادة بجهود العلماء الابرار وإحياء آثارهم وأسمائهم لانهم لم يدخروا وسعا في سبيل الحفاظ على معالم الدين ونقلها إلى الاجيال

٥

اللاحقة بأمانة وصدق ، على الرغم من ضآلة الامكانات ، وتواضع العدة ، وصعوبة العثور على المعلومات ، ولكنهم صبروا وادوا ما عليهم ، فجزاهم الله خير جزاء المحسنين.

ومن فضل الله الرؤوف اللطيف علي ـ ومنذ أمد ـ استهديت إلى التعرف على السيرة العلمية للعلامة الحافظ شمس الدين يحيى بن الحسن الحلي المعروف ب‍ «ابن البطريق» ومؤلفاته القيمة ، فلله الحمد على مننه وآلائه.

والكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ أعنى «خصائص الوحي المبين في مناقب أمير المؤمنين» هو من أهم وأشهر كتب الحافظ «ابن البطريق» بعد كتابه «عمدة عيون صحاح الاخبار في مناقب إمام الابرار».

وقد بحثنا كثيرا عن نسخ خطية لهذا الكتاب ولكننا مع الاسف الشديد لم نعثر حتى الآن على اية نسخة خطية منه سوى نسخة مطبوعة في تبريز بالطبعة الحجرية مؤرخة بسنة ١٣١١ ه‍ وعلى ضوئها قمنا بتحقيق الكتاب وتصحيحه. ولذا فإني أرجو من كافة القراء الكرام ممن يمتلكون نسخة خطية له ان يسعفونا بصورتها مشكورين لغرض الاستعانة والاستفادة منها مستقبلا إن شاء الله.

ومن محاسه الصدف ان الكتاب يشترك في كثير من مباحثه مع كتب المؤلف الاخرى ، ولا سيما كتاب «العمدة» ، ونسخ «العمدة» الخطية متوفرة لدينا.

ـ ولله الحمد ـ وبهذا تجاوزنا الكثير من صعوبات العمل في هذا المجال ، وحسبك الرجوع إليها عند الحاجة.

٦

ونظرا لاهمية الكتاب وخصائصه التي امتاز بها عن غيره واحتياج المكتبة الاسلامية إليه ـ حتى قال مؤلفه في حقه : وكتابنا هذا سيدكتاب صنف وشيد وجمع والف ، إذ هو من يراع الوحي المبين وبلاغ الروح الامين ـ فقد اختارته اللجنة التحضيرية للمؤتمر السادس لعلوم ومفاهيم القرآن الذي تعقده سنويا دار القرآن الكريم ليكون ضمن منشوراتها لهذا العام ـ شكر الله مساعيها ـ هذا ولا يفوتنا أن نتقدم بالشكر والثناء لكل من :

١ ـ الاستاذ العلامة الشيخ السبحاني الذي ما فتئ يشملني برعايته ويحثني على الاستمرار في هذا العمل التحقيقي.

٢ ـ العلامة المحقق السيد عبد العزيز الطباطبائي الذي منحني من وقته وعلمه ما نفعني كثيرا ، وفتح لي باب مكتبته الخاصة.

٣ ـ العالم الجليل الشيخ محمود البغدادي على مراجعته لكثير من فصول الكتاب ورفعه الاشكالات الواقعة فيه وحله المعضلات العلمية لي في مختلف شؤون التحقيق في هذا الكتاب والكتب الاخرى. فجزاهم الله خير جزاء المحسنين.

ومما يجدر ذكره أن هذا الكتاب القيم قد طبع مرتين :

مرة بالطبعة الحجرية في تبريز وهي النسخة التي اعتمدت عليها في تحقيقنا هذا كما نوهنا آنفا.

ومرة اخرى بتحقيق العلامة الشيخ محمد باقر المحمودي دام بقاؤه.

وفي الختام نود التنويه إلى أننا اكتفينا ـ مع تصرف يسير ـ بإيراد جميع

٧

ما كتبه العلامة الاستاذ السبحاني حول كتاب «العمدة» وحياة المؤلف ، لشموله ووفائه بكل ما أردنا ذكره.

نسأل الله الذي وفقنا لهذا العمل وما قبله أن يجزل الثواب لي ولوالدي ولمن وجب حقه علينا.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

مالك المحمودي

الحوزة العلمية ـ قم المقدسة

رجب المرجب ١٤١٤ ه‍

٨

٩

١٠

تقديم جعفر السبحاني

بسم الله الرحمن الرحيم

أهل البيت هم القدوة والاسوة التقريب بين الطوائف الاسلامية من الاماني العزيزة التي يتمناها كل مسلم واع بصير ، خصوصا في الاوضاع الراهنة والاجواء السائدة على المسلمين ، والظروف المحيطة بهم في شتى النواحي والاقطار ولا يشك في ضرورته إلا إثنان : جاهل مغفل ، وجاحد معاند ماكر ، إذ لا يمر على المسلمين يوم إلا وفيه مجازر رهيبة ، وحروب دامية طاحنة ، فرضتها عليهم القوى الكافرة ، التي تخاف من سيادة الاسلام في ربوع العالم ، وانتشاره فيها ، فعادت تؤجج نار الحرب بين آونة واخرى ، فتضرب المسلم بالمسلم تارة وبالكافر اخرى لتحقق أمنيتها الكبرى.

وليس ببعيد عنا المجازر التي يرتكبها اليوم الكفار «الارمن» ضد المسلمين الآذريين في آسيا الوسطى ، والتي أبرزت ما تكنه صدورهم من العداء والبغض لهم طوال القرون ، فمن أجل السيطرة والتسلط يقتل الارمن الرجال والنساء والاطفال ، ويمثلون بهم ، ويجهزون على الجريح ، وليس هناك دولة تحمي المسلمين ولا مغيث يغيثهم ، ولا قوة تدفع عنهم كارثة الحرب ، وتجزي المسيئ بالجزاء الذي يستحقه وغاية ما نسمعه من وسائل الاعلام هو الاستنكار والمفاوضات والمذاكرات ، إلى غيرذلك من الاساليب الدبلوماسية غير الناجعة ، التي لا تفيد شيئا سوى اعطاء الفرص للعدو وزيادة جرأته.

واعطف على ذلك المجازر الاخرى التي ترتكبها القوى الكافرة في

١١

يوغوسلافيا ضد المسلمين في «البوسنه والهرسك» فقد أججت نارا ضد المواطنين بحجة أنهم مسلمون ، وراحت تقتلهم وتبعدهم عن أوطانهم وتذبحهم في عقر دارهم وتدمر مشاريعهم إلى غير ذلك من الاعمال الاجرامية التي كانت ترتكبها القوى الشريرة في القرون الوسطى ، وليس هناك من يداوي جروحهم ولا من يسعفهم بشئ سوى الاستنكارات والخطب الرنانة في وسائل الاعلام وفوق المنابر.

ولا نتكلم عن المجازر الدامية في فلسطين المحتلة التي يرتكبها الصهاينة ، لانها بمرأى ومسمع من عامة المسلمين.

إن هذه الحوادث والوقائع الاليمة وعشرات من أمثالها ، تدفع المسلم الحر الذي يجري في عروقه دم الغيرة والحمية إلى التفكير في داء مجتمعة ودوائه ، وفي اعادة مجده التالد وكيانه السابق ، فلا يجد دواء ناجعا سوى التمسك بالاسلام في مجالي العقيدة والشريعة ، ومن أبرز اصوله ما دعا إليه الذكر الحكيم في قوله سبحانه : (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) (١) وقوله تعالى : (إنما المؤمنون إخوة) (٢) إلى غير ذلك من الآيات التي تحث على الوحدة والوئام ، والابتعاد عن التمزق والتفرق ، وقد أكد الرسول الكريم ما دعا إليه القرآن بقوله : «مثل المؤمنين في تراحمهم وتواددهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الاعضاء بالسهر والحمى» (٣).

وقال الامام علي ـ عليه‌السلام ـ : «والزموا السواد الاعظم فان يد الله مع الجماعة وإياكم والفرقة ، فان الشاذ من الناس للشيطان كما أن الشاذ من الغنم للذئب ألا من دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه ولو كان تحت عمامتي هذه» (٤).

وفي ضوء هذه الدراسة القصيرة نخاطب المسلمين وفي مقدمتهم الرؤساء والمشايخ وقادة الفكر وأرباب القلم بقولنا : «قاربوا الخطى أيها المسلمون ، وقللوا

__________________

(١) آل عمران / ١٠٣.

(٢) الحجرات / ١٠.

(٣) مسند أحمد ٤ / ٢٧٠.

(٤) نهج البلاغة ، طبعة عبده ، ص ٢٦١.

١٢

الخلاف واكثروا الوئام ، وتمسكوا بالاصول المشتركة المتوفرة في مجالي العقيدة والشريعة ، وابتعدوا عن التنافر والتناكر حتى تكونوا صفا واحدا في وجه الاعداء لا يزعزعكم مكر الشياطين وحيلة أعدائهم في المناطق كلها».

ويطيب لي في المقام أن أركز على أمرين ، ربما يكون لهما أثر بارز في حصول التقريب ، وهما :

١ ـ ما هو المراد من التقريب

ليس المراد من التقريب بين المذاهب والطوائف الاسلامية ، هو ذوب طائفة في اخرى أو جعل جميع المذاهب مذهبا واحدا حتى لا يبقى من المذاهب المختلفة عين ولا أثر ويصبح المسلمون على مذهب واحدا ، فإن ذلك أمر عسير جدا إن لم يكن محالا عادة ولا يتفوه به ذو مسكة ولا يدعو إليه أحد من القادة أعني الذين يحملون لواء التقريب فإن معنى ذلك أن يصير الاشعري معتزليا أو بالعكس ويصبح السني شيعيا أو بالعكس. ومثله المذاهب الفقهية المتوفرة السائدة في العالم الاسلامي.

وإنما المراد هو التقريب بين القادة للمذاهب وبالتالي بين القادة واتباعهم وذلك من خلال رسم الخطوط العريضة المشتركة التي تجمع المذاهب الاسلامية في مجالي العقيدة والشريعة ، وانه لو كان هناك خلاف فيهما فهو بالنسبة إلى الامور المتفق عليها قليل جدا. فالله سبحانه ربنا ، والقرآن كتابنا ، ومحمد نبينا ، والكعبة قبلتنا ، وسنة الرسول قدوتنا ، وأئمة أهل البيت خيارنا إلى غير ذلك من الخطوط التي لا يحيد عنها أي مسلم قيد شعرة ، ومن أنكر أحدها خرج من ريقة الاسلام وهذا هو الذي يو حد المسلمين ويجمعهم تحت راية واحدة ويجعل شعار الجميع قول الشاعر المخلص الداعي إلى تقريب الخطى الذي يقول :

إنا لتجمعنا العقيدة أمة

ويضمنا دين الهدى أتباعا

ويؤلف الاسلام بين قلوبنا

مهما ذهبنا في الهوى أشياعا

فإذا كان النبي الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقبل إسلام من نطق بالشهادتين ، وأقام الصلاة ،

١٣

وآتى الزكاة ، وصام شهر رمضان وحج البيت (١) ويتلقاه أخا لعامة المسلمين ، ويجعلهم صفا واحدا في مقابل المشركين والطغاة من اليهود والنصارى ، فلماذا لا نقبل إيمان من آمن بأزيد مما جاء في تلك الرواية. ولو كان هناك اختلاف فإنما هو اختلافات كلامية أوجدها الجدل وصقلها البحث طوال القرون ، مثلا الاختلاف في كون التكلم والارادة من صفات الذات أو من صفات الفعل. وإن كان اختلافا حقيقيا وجديا لكنه اختلاف كلامي لا يتوقف عليه الاسلام والايمان ومثله سائر البحوث الكلامية التي أوجدت الانشقاق بين علماء المسلمين من حدوث كلامه وقدمه ، وخلود مرتكب الكبيرة وعدمه.

ومثل ذلك الاختلاف في الفروع الفقهية من الطهارة إلى الديات فإنها اختلافات أوجدها البحث والاجتهاد من خلال الاستنباط من الكتاب والسنة والغاية هي الوصول إلى واقع الكتاب والسنة وإن كان المصيب واحدا والمخطئ متعددا.

فاللازم على المسلمين في هذه اللحظات الحاسمة التمسك بالعروة الوثقى وبحبل الله المتين والانظواء تحت المشتركات وارجاع الاختلافات إلى المدارس والمحافل العلمية التي يكثر فيها البحث والجدال وفي النهاية يخرجون منها أخوة متحابين.

٢ ـ الالتفات حول أهل البيت من أواصر الوحدة

إن من وسائل التقريب بل من أواصر الوحدة الاسلامية التمسك بأهل البيت ، والاقتداء بهم في أقوالهم وأفعالهم وتقريراتهم ، فإن المسلمين مهما اختلفوا في شئ لم يختلفوا في طهارتهم وتنزيههم ، وبالتالي حجية كلامهم لانهم أحد الثقلين الذين أوصى الرسول بالتمسك بهما في غير موقف من مواقف حياته ، وقد تكلم الذكر الحكيم في عدة مواضع عنهم وأشاد بفضلهم وكرامتهم ، وإليك البيان بوجه موجز.

__________________

(١) لاحظ جامع الاصول لابن الاثير ١ / ١٥٨ ـ ١٥٩ فقد جمع ما رواه البخاري ومسلم في ذلك المجال.

١٤

قد ورد لفظ «أهل البيت» في الذكر الحكيم مرتين قال سبحانه : (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (الاحزاب / ٣٣).

وقال سبحانه : (قالوا أتعجبين من أمر الله * رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد) (هود / ٧٣).

واللفظة مركبة من كلمتين وهما «الاهل» و «البيت».

اما «الاهل» فلا يحتاج إلى مزيد تحقيق في تحديد معناه في الكتاب والسنة واللغة ، فإن تلك اللفظة تستعمل فيمن كان له علاقة قوية بما أضيف إليه ذلك اللفظ ، فأهل الامر والنهي هم الذين يمارسون الحكم والبعث والزجر ، وأهل الانجيل هم الذين لهم اعتقاد به ويصدرون عن حكمه ، وأهل الاسلام لمن له علاقة به وعنه يأخذون الحلال والحرام ، وبذلك يعلم معنى أهل الرجل وأهل الماء وأهل الحل والعقد وإنما المهم في المقام الذي يترتب عليه الاثر المهم ، تحديد معنى البيت لغة واستعمالا ، وإليك البيان :

ما معنى «البيت» لغة واستعمالا؟

أجمعت المعاجم على أن البيت يطلق ويراد منه دار الرجل ومسكنه.

قال سبحانه : (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم ...) (النور / ٢٩).

فإذا كان البيت هوالمأوى والمنزل ، فله مراتب ودرجات ، فالقصر الشاهق بيت كما أن الخبأ المصنوع من الصوف والشعر أيضا بيت ، إلى أن عد القرآن نسيج العنكبوت بيتا له قال سبحانه : (إن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون) (العنكبوت / ٤١).

هذا ما يركز عليه اللغة ، ولكن له معنى آخر يستعمل فيه حقيقة أو مجازا ، وهو أنه يطلق البيت ويراد منه مكامن الشرف وجماعه ، فيقال «بيت العرب» أي شرفها.

قال ابن منظور : وبيت العرب شرفها ، والجمع : البيوت ، ثم يجمع بيوتات ،

١٥

جمع الجمع ، وقال ابن سيدة : والبيت من بيوتات العرب الذي يضم شرف القبيلة كآل حصن : القزاريين ، وآل الجدين : الشيبانيين ، وكان ابن الكلبي يزعم أن هذه البيوتات أعلى بيوت العرب ، ويقال بيت تميم في بني حنظلة أي شرفها.

وقال العباس يمدح سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

حتى احتوى بيتك المهيمن من

خندف علياء تحتها النطق

أراد ببيته شرفه العالي.

وعلى ذلك فالبيت يكون كناية عن الشرف والنسب والعائلة والاسرة.

قال الشاعر :

ألا يا بيت بالعلياء بيت

ولولا حب أهلك ما أتيت

ألا يا بيت أهلك أوعدوني

كأني كل ذنبهم جنيت (١)

فعلى ذلك فالبيت الوارد في الآية يحتمل وجهين :

١ ـ البيت : هو مأوى الرجل ومسكنه ومنزله وداره.

٢ ـ البيت : مركز الشرف ومجمع السيادة والعز وما أشبه ذلك.

وعلى كل تقدير ، فالآية لا تنطبق إلا على بيت خاص وبيت معين ولا تنطبق على جميع البيوت المنوسبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإليك البيان :

أما الاول أعني ما إذا اريد منه المسكن والمأوى ، فاللام لا تخلو عن احتمالات ثلاث :

الف : أن يكون اللام للجنس ، وهو غير مناسب في المقام وإنما يراد منه إذا كان الحكم متعلقا بالطبيعة ، يقال : التمرة خير من جرادة ، وفي قوله تعالى : (إن الانسان خلق هلوعا) (المعارج / ١٩).

ومن المعلوم أن الآية الكريمة ليست بصدد بيان حكم طبيعة أهل البيت.

__________________

(١) لاحظ : لسان العرب لابن منظور مادة «بيت» بتلخيص يسير.

١٦

ب : أن يحمل على العموم والاستغراق ، وهو أيضا غير مناسب ، سواء أريد منه جميع البيوت في المدينة أو بيوت النبي ، وإلا لكان اللازم الاتيان بصيغة الجمع كما جاء بها في قوله سبحانه :

(وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية ...) (الاحزاب / ٣٣).

ج : أن يراد منها البيت المعهود والمسكن المعين بيت المتكلم والمخاطب ، وعندئذ يقع الكلام في تعيين هذا البيت ، فما هذا البيت الواحد والمسكن المعين ، لا سبيل إلى أن المراد بيت أزواجه لانه لم يكن لازواجه بيت واحد معهود ، بل كان لكل منها بيت خاص ، كما أنه لا سبيل إلى القول بأن المراد بيت واحد من بيوتهن. إذ لا قرينة على ذلك ، على انه خلاف ما اتفقت عليه الامة ، فتعين أن يكون بيت خاص وهو ليس إلا بيت فاطمة (عليها‌السلام) إذ لم يكن في جانب بيوت أزواج النبي بيت سوى بيتها وهو بيت علي ـ عليه‌السلام ـ صهر النبي.

إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة :

إذا كان المراد من البيت هو البيت المعين فلا سبيل إلى تطبيقه على جميع بيوت أزواج النبي ولا على واحدة معينة منهن ، إذ لم يكن للجميع بيت خاص كما أنه لم يكن هناك بيت معين لزوجة من زوجاته فلم يبق من اليبوت التي تمت إلى النبي بصلة إلا بيت واحد وهو بيت فاطمة (سلام الله عليها) المتميز من بيوت أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ويؤيده نزول الآية في بيت فاطمة (سلام الله عليها) وجمع النبي إياها وزوجها وابنيها تحت الكساء.

أما الثاني بأن يكون المراد منه هو مركز الشرف ومجمع السيادة والعز وما يناسب ذلك اللفظ ، وإن شئت قلت إذا اريد منه بيت النبوة وبيت الوحي ومركز أنوارهما فلا يصح أن يراد منه إلا المنتمون إلى النبوة والوحي بوشائج معنوية خاصة على وجه يصح مع ملاحظتها ، عدهم أهلا لذلك البيت ، وتلك الوشائج عبارة عن النزاهة في الروح والفكر.

ولا يشمل كل من يرتبط ببيت النبوة عن طريق السبب أو النسب فحسب ،

١٧

وفي الوقت نفسه يفتقد الاواصر المعنوية الخاصة ، ولقد تفطن العلامة الزمخشري صاحب التفسير لهذه النكتة ، فهو يقول في تفسير قوله تعالى : (أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت) (هود / ٧٠) :

لانها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والامور الخارقة للعادات فكان عليها أن تتوقر ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء الناشئات في غير بيوت النبوة ، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب ، وإلى ذلك أشارت الملائكة في قولها (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ...) أرادوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة ويخصكم بالانعام به يا أهل بيت النبوة (١).

وعلى ذلك لا يصح تفسير الآية بكل المنتمين عن طريق الاواصر الجسمانية إلى بيت خاص حتى بيت فاطمة إلا أن تكون هناك الوشائج المشار إليها.

ولقد جرى بين قتادة ذلك المفسر المعروف وبين أبي جعفر محمد بن علي الباقر ـ عليه‌السلام ـ محادثة لطيفة أرشده الامام فيها إلى هذا المعنى الذي أشرنا إليه قال عند ما جلس الامام الباقر ـ عليه‌السلام ـ : لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدام ابن عباس فما اضطرب قلبي قدام واحد منهم ما اضطرب قدامك. قال له أبو جعفر الباقر عليه‌السلام ـ : ويحك أتدري أين أنت؟ أنت بين يدي (بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكوة) (النور / ٣٦ ـ ٣٧) فأنت ثم ونحن اولئك. فقال قتادة : صدقت والله جعلني الله فداك ، والله ما هي بيوت حجارة ولا طين (٢).

وما جاء في كلام باقر الامة ـ عليه‌السلام ـ يحض المفسر على التحقيق عن الافراد الذين برتبطون بالبيت الرفيع بأواصر معينة وبذلك يسقط القول بأن المراد منه أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لانه لم تكن تلك الوشائج الخاصة ـ باتفاق المسلمين ـ بينهن ، وأقصى ما عندهن أنهن كن مسلمات مؤمنات.

__________________

(١) الكشاف ٢ / ١٠٧.

(٢) الكافي ٦ / ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

١٨

القرينة المتصلة في الآية

إن إمعان النظر في ضمائر الآية ، والروايات الواردة حولها يعطي بأن المراد من أهل البيت غير أزواجه (صلوات الله عليه) ، وذلك لانا نرى أنه سبحانه عندما يخاطب أزواج النبي يخاطبهن حسب المعتاد ، بضمائر التأنيث ، ولكنه عندما يصل إلى قوله : (إنما يريد الله ليذهب ...) يغير الصيغة الخطابية إلى صيغة التذكير ، فما هو السر في تبديل الضمائر لو كان المراد أزواج النبي؟!

وإليك الآيات الثلاث الواردة حول أزواجه يقول :

(يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذى في قلبه مرض وقلن قولا معروفا) (الاحزاب / ٣٢).

(وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى وأقمن الصلوة وآتين الزكوة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت).

(واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا) (الاحزاب / ٣٤) نرى أنه سبحانه يخاطبهن في الآية الاولى بهذه الخطابات :

١ ـ لستن ٢ ـ اتقيتن ٣ ـ فلا تخضعن ٤ ـ وقلن.

ويخاطبهن في الآية الثانية بهذه الخطابات :

١ ـ قرن ٢ ـ بيوتكن ٣ ـ تبرجن ٤ ـ أقمن ٥ ـ آتين ٦ ـ أطعن.

كما يخاطبهن في الآية الثالثة بقوله :

١ ـ واذكرن ٢ ـ بيوتكن.

وفي الوقت نفسه يتخذ في ثنايا الآية الثانية موقفا خاصا في الخطاب ويقول :

١ ـ عنكم ٢ ـ يطهركم.

فما وجه هذا العدول إذا كان المراد نساء النبي ، أو ليس هذا دليلا على

١٩

أن المراد ليس نساءه؟!

وروى السيوطي في تفسير قوله سبحانه : (في بيوت اذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه) قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية فقام إليه رجل فقال : أي بيوت هذه يا رسول الله؟ قال : بيوت الانبياء. فقام إليه أبو بكر فقال : يا رسول الله هذا البيت منها ـ أي : بيت علي وفاطمة ـ؟ قال : نعم من أفاضلها (١).

قال الامام الشافعي :

يا أهل بيت رسول الله حبكم

فرض من الله في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم القدر أنكم

من لم يصل عليكم لا صلاة له (٢).

وقال أيضا :

ولما رأيت الناس قد ذهبت بهم

مذاهبهم في أبحر الغي والجهل

ركبت على اسم الله في نفس النجا

وهم أهل بيت المصطفى خاتم الرسل

وأمسكت حبل الله وهو ولاؤهم

كما قد امرنا بالتمسك بالحبل (٣)

وقال أيضا :

يا راكبا قف بالمحصب من منى

واهتف بساكن خيفها والناهض

سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى

فيضا كملتطم الفرات الفائض

إن كان رفضا حب آل محمد

فليشهد الثقلان اني رافضي

هذا كله يرجع إلى أهل البيت بصورة عامة ويطيب لنا البحث عن سيدهم وعظيمهم الامام علي بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ بصورة خاصة.

__________________

(١) الدر المنثور ٥ / ٥٠٥.

(٢) الصواعق المحرقة ١٥٧.

(٣) رشفة الصادي للامام أبي بكر بن شهاب الدين ـ المراجعات ٣٤.

٢٠