غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٥

الميرزا أبو القاسم القمّي

غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٥

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: مكتب الإعلام الإسلامي ، فرع خراسان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-590-3
الصفحات: ٤٧٢

الفقه كتاب الصوم

وفي الدروس والبيان والإرشاد والإيضاح والمسالك حكموا بالإفساد ساكتين عن الكفارة (١) ، والأقرب الأوّل.

والمسألة من مشكلات الفن ، وقد أطال الكلام في المقال السيّد في بعض مسائله (٢) ، والعِمة في المختلف (٣) ، والشهيد في غاية المراد (٤) ، وذكروا أدلّة من الطرفين لا يخلو شي‌ء منها من شي‌ء.

لنا : أنّه يصدق عليه أنّه صائم شرعاً صوماً صحيحاً قبل تلك النيّة ، فيحتاج رفعه إلى دليل ، والاستصحاب حجّة شرعيّة ، وذلك نظير قولهم «: «الصلاة على ما افتتحت عليه» (٥).

والأخبار الكثيرة الحاصرة للمفطرات ، وليس فيها ذكر هذه ، مثل صحيحة محمّد ابن مسلم ، قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام : يقول : «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال : الطعام والشراب ، والنساء ، والارتماس في الماء» (٦).

ومثل ما رواه في الخصال عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «خمسة أشياء تفطر الصائم : الأكل ، والشرب ، والجماع ، والارتماس في الماء ، والكذب على الله وعلى رسوله وعلى الأئمة» (٧).

والاستدلال بها من وجهين ، الأوّل : أنّها تفيد الحصر ، فينتفي كون غير المذكورات مفطراً.

والثاني : أنّ قصد الإفطار لو كان مفطراً لما كان نفس تلك الأشياء مفطرة ؛ لمسبوقيّة

__________________

(١) الدروس ١ : ٢٦٧ ، البيان : ٣٥٩ ، الإرشاد ١ : ٣٠٠ ، الإيضاح ١ : ٢٢٣ ، المسالك ٢ : ١٥.

(٢) جوابات المسائل الرسيّة الاولى (رسائل الشريف المرتضى) ٢ : ٣٥٦.

(٣) المختلف ٣ : ٣٨٥.

(٤) غاية المراد ١ : ٣٢٤.

(٥) عوالي اللآلي ١ : ٢٠٥ ح ٣٤.

(٦) الفقيه ٢ : ٦٧ ح ٢٧٦ ، التهذيب ٤ : ١٨٩ ح ٥٣٥ ، وص ٢٠٢ ح ٥٨٤ ، وص ٣١٨ ح ٩٧١ ، الاستبصار ٢ : ٨٠ ح ٢٤٤ ، الوسائل ٧ : ١٩ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ١ ح ١.

(٧) الخصال : ٢٨٦ ح ٣٩ ، الوسائل ٧ : ٢١ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢ ح ٦.

٦١

الفعل الاختياري بالقصد ، فلا يبقى بعد القصد صوم حتّى تكون هذه الأشياء مفطرة.

ويؤيّده أُمور :

منها : أنّ هذا مما تعمّ به البلوى ، وعدم التعرّض له في الأخبار وكلام جمهور الأصحاب مع اهتمامهم بذكر المنافيات والمكروهات والمندوبات أعظم شاهد على أنّه لا أصل له.

ومنها : أنّه لو ارتدّ بعد عقد الصوم ثمّ عاد لم يفسد صومه كما ذكره (١) ، ويظهر من المنتهي أنّه لا خلاف فيه (٢).

ومنها : أنّ قصد الإفطار قبل النيّة لا يضرّ كما في يوم الشكّ وقضاء رمضان وغيره ، فكذلك فيما بعدها.

ومنها : أنّه لا يبطل الإحرام بقصد فعل المنافي جزماً ، بل بفعله أيضاً.

ومنها : أنّ الامتثال في التروك يحصل بدون النيّة ، كترك الزنا وشرب الخمر وغيرهما ، فكذلك الصوم ، غاية الأمر ثبوت الإجماع على الاحتياج إليها في الصوم ، وهو إنّما ثبت في الجملة ، وهو في الأوّل.

احتج القائل بالفساد ونفي الكفارة : أمّا في الثاني فبالأصل ، وأمّا في الأوّل فبأنّه عبادة مشروطة بالنيّة ؛ لأنّه لأعمل إلا بنيّة ، وقد فات شرطها فتبطل ، واعتبار الاستدامة الحكميّة ؛ لعدم إمكان اعتبار النيّة في جميع الأجزاء أو تعسّرها إنّما يتمّ إذا لم ينوِ ما يخالفها ، فإذا نوى القطع أو فعل المنافي فلا تبقى نيّة ولا حكمها.

وفيه : أنّا نمنع وجوب النيّة إلا في الجملة ، وهو يتحقّق (٣) بدخوله معها فيه إذا كان المجموع عبادة واحدة ، سيّما مع تعسّر استحضارها إلى الأخر ، أو تعذّره ؛ لعدم دليل على استحالة التكليف بمثله عقلاً ونقلاً ، والأصل عدم زيادة التكليف.

__________________

(١) كذا.

(٢) المنتهي ٢ : ٦٠٢.

(٣) في «ح» : وهو لا يتحقّق ، وفي نسخة في «ح» : ويتعلّق.

٦٢

وتوهّم عدم جريان الأصل في العبادات ضعيف كما حقّقناه في الأُصول ، سيّما على القول بأنّها أسامٍ للأعمّ كما هو المختار (١).

وأمّا استمرارها حكماً بمعنى عدم قصد ما ينافيها فهو وإن كان واجباً كما في أصل الإيمان ، فإنّ العقد الخاصّ بالقلب لا يجب استحضاره دائماً ، بل يكفي فيه عدم العقد على خلافه والتردد ، لكنا نمنع شرطيّتها كما في المعتبر (٢).

سلّمنا شرطيّتها ، لكنّا نمنع منافاتها لقصد الإفطار.

والظاهر أنّ القصد إلى فعل المنافي لا يبطل الصلاة أيضاً ، بل الظاهر أنّها لا تبطل بقصد الخروج وإخراج نفسه من الصلاة أيضاً إذا عاد إليها قبل تحقّق ما يبطل الصلاة من المنافيات كما عليه الأكثر ، وكما أفتى الأصحاب بعدم بطلان الوضوء بقصد الخروج في الأثناء.

نعم هناك دقيقة تظهر من كلام المحقّق الأردبيلي رحمه‌الله وهي الفرق ما بين قصد المفطر وبين قصد الرياء بجزء من الصوم ، بل وقصد عدم الإمساك ، أو قصد غير الصوم المنوي (٣) ، بمعنى إنشاء الرياء في جزء منه ، أو جعل ذلك الجزء غير ممسك فيه أو غير المنويّ ، فإنّ ذلك بمنزلة نفس الإفطار لا قصده ، فيفوت بعض اليوم ، والصوم لا يتبعّض ، ولذلك جعلوا موضوع المسألة قصد المفطر لا الرياء ونظراءه.

أقول : والفرق حينئذٍ بين الصوم والصلاة منع كون أكوان المصلّي في حال الصلاة من أجزاء الصلاة ، بل الصلاة إنّما هي الأفعال المعهودة ، فإذا جعل نفسه في الصلاة خارجاً عنها وعاد إليها قبل فعل المنافي لا يلزم تفويت شي‌ء منها إذا لم يحصل الإخلال بشي‌ء من أفعالها الواجبة ، بخلاف الصوم ، فإنّ جميع الآنات من اليوم جزء منه ، وبتفويت بعضها يتبعّض الصوم.

__________________

(١) القوانين : ٤٤.

(٢) المعتبر ٢ : ٦٥٢.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ٥ : ١٧٣.

٦٣

والحاصل : أنّ القصد إلى فعل المفطر ليس نفس تبعيض الصوم ، إلا أنّ ينوي «أنّي الان أخرجت نفسي عن الصوم ، وأنشأت إخراج نفسي عن الطاعة» وأكل الطعام في ثاني الحال بالنسبة إلى هذا القصد ، فحينئذٍ يكون باطلاً.

وذلك لأنّ الكفّ عن المفطرات وتأديب النفس بهذا العمل مكلّف به ، إمّا بإيجاد فعل وجودي من توطين النفس وإكراهها ، أو باستمرار العدم الأزلي وإبقائه على حاله باختياره في غير حال الغفلة والنوم ، ولم يتحقّق منه شي‌ء من ذلك فيما نحن فيه ، فالقصد إلى عدم الإمساك أو إيجاد الرياء ونظرائه مفوّت لهذا المعنى فيبطل.

فإن قلت : مع القصد إلى الإفطار في ثاني الحال لا يبقى شي‌ء من الأُمور الوجوديّة ، التي ذكرتها أيضاً.

قلت : نعم ، ولكن لم يحصل ما يرفع حكم النيّة السابقة ، المجعولة بجعل الشارع ، المؤثرة في الصحّة حال الغفلة والنوم والإغماء أيضاً ، الثابتة قسراً من قِبل الشارع ، المانعة عن ارتفاعها إلا بجعل من الشارع.

ولكن يمكن (١) إجراء هذا الإشكال في الصورة التي أشار إليها المحقّق الأردبيلي رحمه‌الله أيضاً (٢) ، فإنّ انتفاء هذا الحكم القسري في أمثال ذلك أيضاً غير معلوم ؛ إذ لا مانع من حكم الشارع بصحّة عمل شَرَعَ فيه بنيّة صحيحة وإن طرأ في بعض أجزائه الفعل المنهي عنه كالرياء ونحوه ، سيّما إذا كان من قبيل التروك.

ولكن الظاهر أنّ ضرر قصد الخلاف بنفس الفعل إجماعيّ كما ادّعاه غير واحد منهم في الصلاة ، بل وفي الصوم أيضاً كما يظهر من غاية المراد (٣).

واعلم أنّهم جعلوا الخلاف في هذه المسألة متفرّع على مسألتين :

إحداهما : شرطيّة استمرار النيّة الحكميّة وعدمها ، بعد الاعتراف بكون وجوبه

__________________

(١) في «م» : ولا يمكن.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ٥ : ١٧٣.

(٣) غاية المراد ١ : ٣٢٤.

٦٤

مما لا نزاع فيه.

فوجه الشرطيّة : أنّه بدل عن النيّة ؛ لتعسّر استحضارها في الجميع أو تعذّره ، فكما أنّ النيّة في الابتداء شرط ، فكذلك بدلها.

ووجه العدم : تحقّق العبادة وانعقادها بالنيّة ابتداء ، والأصل عدم شرطيّة استمرار الحكم ، وإن كان وجوب العزم على البقاء مستفاداً من أحكام الإيمان.

وثانيتهما : أنّ إرادَتي الضدّين متضادتان بالذات أو بالعرض أو لا ، فيبطل على الأوّل دون الثاني.

فقيل بالأوّل ؛ لأنّ إرادة أحدهما مستلزمة لكراهة الاخر أو نفسها ، ولا تجامع كراهة الشي‌ء مع إرادته ، فتتنافى الإرادتان.

وقيل بمنع ذلك ؛ ولو سلّم فهو الضدّ العقلي دون الشرعي.

أقول : أمّا المسألة الأُولى : فقد عرفت أنّ التحقيق عدم ثبوت الشرطيّة ؛ لمنع البدليّة أوّلاً ، بل هو واجب على حدة ، ومنع لزوم مساواة البدل للمبدل في جميع الأحكام ، ومنع منافاة قصد الإفطار للاستمرار ، إنّما المنافي هو جعل نفسه خارجاً عن العبادات ، وإيجاد جزء منها بقصد الغير ، هذا كلّه مع المعارضة بالاستصحاب والأخبار المتقدّمة.

وقد أورد في المختلف : بأنّه لو لم تكن المنافاة ثابتة ، يلزم أن يكون من أصبح في اليوم الثاني بنيّة الإفطار ورفض الصوم صومه صحيحاً من أجل نيّة أوّل الليلة من الشهر على القول بإجزائه (١).

وردّه الشهيد رحمه‌الله بأنّ الخصم يلتزمه ؛ إذ لا يجب عنده تجديد النيّة لكلّ يوم ؛ لأنّ النيّة السابقة للصوم بأجمعه (٢).

أقول : وهو حسن إن لم يجعل نفسه في الصبح غير صائم ، أو أمسك مرائياً كما تقدّم ذكره.

__________________

(١) المختلف ٣ : ٣٩٥.

(٢) غاية المراد ١ : ٣٢٦.

٦٥

والحاصل : أنّه كما أنّ التشكيك في تحقّق الاستدامة الحكميّة يوجب الشكّ في تحقّق مجموع الصوم ، فالتشكيك في زوال حكم القطعة الصحيحة من الصوم يقيناً يوجب الحكم ببقاء حكمه.

فتأمّل في ذلك حتّى تعرف أنّ مراد بعضهم حيث حكم بأنّ قصد الإفطار وإن نافى النيّة لكن لا ينافي حكمها ، لعلّه كان ذلك يعني العمل على حكم اليقين كما يستفاد من الأخبار الدالّة على عدم جواز نقض اليقين بالشكّ ، فإنّ المراد فيها حكم اليقين ؛ لبداهة استحالة اجتماع نفس اليقين والشكّ ، وليس مراده الاستدامة الحكميّة حتّى يصير مورداً للاعتراض بثبوت التنافي ، مع أنّك قد عرفت إمكان الدفع على ذلك أيضاً.

وأمّا المسألة الثانية : فالظاهر أنّه لا يمكن القول بجواز اجتماع إرادة الضدّين للعاقل العارف المتفطّن لكونهما ضدين ، عقليين كانا أو شرعيين ، بل إنّما يمكن مع الجهل والغفلة ، أو بأن يراد من إرادة أحدهما الشهوة (١) ، ومن الأُخرى الإرادة الحقيقية ، وكلاهما خارجان عن موضوع المسألة ، فإنّ الكلام فيمن يعلم أنّه صائم وينوي الإفطار ، ويعلم تضادّ الإفطار وعدم الصوم معه.

فالمراد أنّه إذا ارتفع الجزم السابق الذي تحقّق بالنيّة بسبب العزم على الإفطار فهل يبطل أم لا؟ وهذا ليس من الاجتماع في شي‌ء حتّى يتفرّع على جواز اجتماع الإرادتين.

وأمّا صدور الإرادتين منه في الوقتين فحصوله بديهي ، فلا معنى للخلاف فيه ، إنّما الكلام في أنّ أثر الإرادة الأُولى (٢) وحكمها هل يرتفع بالثانية أم لا ، وهذا لا دخل له في اجتماع الإرادتين وعدمه ، وقد عرفت التفصيل.

إذا عرفت هذا ظهر لك الفرق بين العبادات في نيّة الخروج وقصد المبطل ، ففي شي‌ء منها لا يضرّ قصد الخروج والمبطل في ثاني الحال.

__________________

(١) في «م» : الشهرة.

(٢) في «م» : الأوّل.

٦٦

وأمّا الخروج بالفعل أو فعل بعض الأجزاء بقصد الرياء أو غير المنوي ، ففي مثل الصوم يكون مبطلاً ؛ لتفويته جزءاً منه مع عدم إمكان التدارك.

وفي الوضوء والغسل مثلاً يمكن العود بالنيّة ، ويمكن التدارك لما فعل بقصد الغير بإعادة ذلك الجزء بعينه.

وفي الصلاة يمكن العود إلى النيّة في الخروج المحض ، وبالتدارك لما غيّر نيّته فيه إذا لم يتحقّق به مبطل كزيادة الركن ، أو الفعل الكثير ؛ مع احتمال البطلان بمطلق الزيادة إذا كان من الواجبات ، سيّما إذا كانت ركناً ، والتفصيل في المندوب بالكثرة وعدمها.

ثمّ إنّ ما ذكره الفاضلان من التقييد بتجديد النيّة بعد قصد الإفطار (١) لم أتحقّق وجهه ، فإنّ قصد الإفطار والخروج إن لم يكن مضرّاً بالاستمرار فلا فرق ، وكذا لو كان مضرّاً.

تنبيه :

قد بيّنا سابقاً أنّ المتعمّد في ترك النيّة من الليل حتّى أصبح يبطل صومه ، وأولى به الناوي للإفطار ، وهو المعروف من مذهب الأصحاب ، إلا أنّ المحقّق مال إلى انعقاد الصوم لو جدّد النيّة قبل الزوال (٢) ، وهو مقتضى إطلاق كلام السيّد كما نقلنا عنه سابقاً (٣).

ومقتضى القول بكفاية النيّة الواحدة لتمام الشهر أيضاً صحّة ذلك إذا كان في غير اليوم الأوّل ؛ لتقدّم النيّة وعدم إبطال قصد الإفطار كما بيّنا ، فلا بدّ أن تقيّد فتوى القائلين بالكفاية هنا بما لو لم تسبق النيّة أوّل الشهر.

وقد أشرنا أنفاً أيضاً إلى أنّ ذلك إنّما يتمّ إذا لم يصبح خارجاً عن الإمساك ،

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٦٥٢ ، المنتهي ٢ : ٥٦٢.

(٢) المعتبر ٢ : ٦٥٢.

(٣) جوابات المسائل الرسيّة الاولى (رسائل الشريف المرتضى) ٢ : ٣٥٦.

٦٧

موجداً (١) لاعتقاد عدم الصوم أو الرياء ، وإلا فلا وجه للصحّة ، كما ذكرنا ذلك في إيجاد هذا المعنى في أثناء النهار مع سبق النيّة في الليل.

السابع : نيّة الصبيّ المميّز صحيحة وصومه شرعي.

ولو كان صائماً وبلغ قبل الزوال فيجدّد النيّة فيجزئه عن رمضان ، بخلاف ما بعد الزوال.

واعلم أنّ الكلام في هذه المسألة في مقامين :

أحدهما : كون عباداته شرعيّة أم لا ، بل تكون تمرينيّة ، والثاني : أنّه على تقدير كونها تمرينيّة هل تتصف بالصحّة أم لا ، بعد اتفاقهم على الاتصاف بها على تقدير كونها شرعيّة.

أمّا المقام الأوّل : فالأقوى عندي كونها شرعيّة ، وفاقاً للشيخ (٢) وجماعة ، منهم المحقّق في صريح كتاب الصوم من الشرائع ، في غير موضع ، ومن النافع (٣) ، والعِمة في المنتهي والتذكرة والإرشاد في كتاب الصوم (٤) ، والشهيد في الدروس واللمعة (٥) ، والمحقّق الأردبيلي رحمه‌الله (٦) ، وصاحب المدارك (٧).

وذهب جماعة منهم العلامة في المختلف (٨) والمحقّق الثاني في حاشية الإرشاد والشهيد الثاني (٩) إلى أنّها ليست بشرعيّة.

__________________

(١) في «م» : موجباً.

(٢) المبسوط ١ : ٢٧٨.

(٣) الشرائع ١ : ٢٦٩ ، المختصر النافع ١ : ٦٧.

(٤) المنتهي ٢ : ٥٨٤ ، التذكرة ٦ : ٢٠ ، الإرشاد ١ : ٣٠٣.

(٥) الدروس ١ : ٢٦٨ ، اللمعة (الروضة البهيّة) ٢ : ١٠١.

(٦) مجمع الفائدة والبرهان ٥ : ٢٨٢.

(٧) المدارك ٦ : ٤٢.

(٨) المختلف ٣ : ٣٨٦.

(٩) المسالك ٢ : ٤٩.

٦٨

ومرادهم بالشرعيّة : أنّها مستندة إلى أمر الشارع ومطلوبة له ، فتكون مندوبةً ، وبالتمرين : حمل الولي للصبيّ على العبادة ليعتادها لئلا يجد بها مشقّة بعد البلوغ.

وتظهر ثمرة النزاع في ترتّب الثواب ، وفي مثل ما تقدّم في الصوم.

وفي ظهور علامة البلوغ الغير المبطلة في أثناء الصلاة إذا جوّزنا العدول بالنيّة.

ومثل جواز الصلاة بعد البلوغ بالطهارة الحاصلة قبله.

وفي النذور والأوقات وأمثالها إذا تعلّق بمن فعل عبادة شرعيّة أو مندوبة.

وربّما يذكر في الثمرات : أنّ الصلاة التمرينيّة مثلاً ليست بصلاة حقيقة ، فيحتاج إلزام الصبيّ بإتيان الشروط وترك المنافيات إلى دليل آخر ، بخلاف ما لو كانت شرعيّة ، فإنّ ثبوتها كافٍ في إثبات شرائطها وترك موانعها.

وفيه : أنّ الأمر التمريني إنّما هو بالعبادة الجامعة للشرائط أيضاً فلا ثمرة.

لنا : عموم الأوامر ، مثل الأخبار الكثيرة الدالّة على وجوب الصوم على الصبيّ إذا أطاق الصوم ، أو إذا راهق الحلم ، أو إذا أطاق ثلاثة أيّام متتابعة ، فإن أقرب مجازاتها الاستحباب.

والأخبار الدالّة على أمرهم بالعبادات في الصوم والصلاة ، مثل قوله عليه‌السلام : «مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع» (١) فإنّ الأمر بالأمر أمر كما حقّقناه في الأُصول (٢) ، والوجوب منفي بالإجماع ، فيبقى الرجحان.

والقول «بأنّ الحكم هو خطاب الله المتعلّق بأفعال المكلّفين ، والصبيّ ليس بمكلّف فلا حكم بالنسبة إليه ، فلا خطاب ، فلا امتثال ، فلم تثبت الشرعيّة» مدفوع بأنّ نظرهم في الحدّ إلى الغالب ، ولذلك بدّله بعضهم بالعباد.

مع أنّ التعريف منقوض بالأحكام الوضعيّة الّتي لا تختصّ بأفعال المكلّفين ، كضمان الصبيّ في ماله ، وتأثير الحدث الحاصل قبل البلوغ في وجوب الوضوء بعده ،

__________________

(١) الوسائل ٣ : ١١ أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ب ٣.

(٢) القوانين : ١٣٥.

٦٩

وغير ذلك.

والاعتذار «بأنّ التكليف في الأوّل بالوليّ ، فلم يتعلّق بالصبيّ ، وفي الثاني بأنّه مأمور بالوضوء ؛ لأنّه فاقد للطهور ، لا لأنّه محدث» تكلّف ، والمندوب ليس بتكليف حتّى لا يمكن تعلّقه بغير المكلّف.

ولنا أيضاً : لزوم الظلم عليه تعالى لو خلا عمله عن الثواب.

وبيانه : أنّا قد حقّقنا في الأُصول أنّ المكلّف تابع لما يؤدّيه إليه عقله وفطنته (١) ، فإذا كان غافلاً أو جاهلاً رأساً ، ولم يتفطّن لأنّه يجب عليه التفحّص عن المجتهد وتقليده ، واعتقد أنّ الدين والمذهب هو ما علّمه أبواه أو معلّمه ، فلا يؤاخذ على فعله ؛ لأنّه منتهى طاقته (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها) فيجب عليه أن يعطيه الأجر على ما فعله ؛ إذ هو طاعته على مقتضى طاقته.

فالطفل أيضاً إذا فهم أنّ الله تعالى يطلب منه هذا الفعل الذي مرّنه عليه أبواه وعلّماه النيّة فيه ، وذكرا له أنّ ذلك طاعة الله وعبادته ، فيفهم من ذلك أنّ الله يريد منه هذه العبادة ، ويفعله إمّا خوفاً منه أو رجاءً للثواب ؛ لأنّ الوليّ لا يقول له : إنّي أُريد منك محض التمرين ، وأنّ مطلوبي منك محض صورة العبادة والله تعالى لا يريده منك.

فالحكم بحصول الثواب والأجر للأوّل دون الثاني تحكّم ، أو ترجيح مرجوح ، وإيثار الله تعالى طاعة الأوّل على الثاني في بذل الثواب ظلم عليه.

مع أنّ المستبعد الذي قد يحكم العقل باستحالته أن يحصل الفرق بين لمحتين من الآنات من أواخر الصبا وأوائل البلوغ مع عدم تفاوت حال العبد فيهما أصلاً بحسب العقل والكمال والمعرفة ، فيثاب على ما فعله في الان الثاني دون الأوّل مع اعتقاده في كلا الأنين أنّ الله تعالى أراد منه ، غاية الأمر أنّه يعتقد المؤاخذة على الترك في الان

__________________

(١) في «م» : مظنّته.

٧٠

الثاني دون الأوّل ، وذلك لا ينافي كونه مثاباً في الان الأوّل أيضاً.

هذا مع ملاحظة تفاوت علامات التكليف في التقدّم والتأخّر ، فمن كانت علامة بلوغه السنّ ؛ لعدم سبق الإنبات أو الاحتلام ، كيف يقال : إنّه ليس في أواخر السنة الخامسة عشر مستعدّاً للأوامر والخطاب ، وهذا الشخص بعينه لو فرض أنّه مع هذه المرتبة من الفهم لو احتلم أو أنبت قبل ذلك بسنين كان قابلاً للتكليف ومستعدّاً للخطاب؟!

فإن قلت : المفروض في هذا الاستدلال قطع النظر عن الأوامر والتمسك بلزوم الظلم ، والثواب لا يتحقّق إلا بالأمر.

قلت : لا ينحصر الأمر في الأمر النفس الأمري ، بل الظن به أيضاً في حكمه ، كما هو كذلك في المجتهد ؛ يذعن بأنّ الأمر الفلاني مطلوب منه ويفعله رجاءً للثواب ، فكذلك الطفل بمحض تعليم الولي نيّة العبادة يذعن بأنّ هذا مطلوب الشارع ، ويفعله رجاءً للثواب ، هذا.

مع أنّا لا نمنع من حصول الثواب بمقدّمة الواجب ، وإن قلنا إنّ وجوبها تبعيّ ، وإن لم نقل بلزوم العقاب على تركه كما نقل عن الغزالي (١) ، ولا ريب أنّ ذلك مقدّمة لطاعته بعد البلوغ ، ودلّ عليه الشارع ، وأمر به بسبب تسبيبه لفعله من جهة الأمر بالوليّ بخطاب تبعي.

وإن أبيت عن ذلك وصعب عليك فهمه كفاك سائر الأدلّة ، منها ما مرّ.

ومنها : ما يقتضيه تتبّع الأخبار في باب صحّة أذان الصبيّ المميّز (٢) ، وجواز إمامته (٣) ، وانعقاد الجماعة بصلاته إذا ائتمّ (٤) ، وإجزاء حجّه إذا كمل قبل المشعر

__________________

(١) المستصفى ١ : ٨٤.

(٢) الوسائل ٤ : ٦٦١ أبواب الأذان والإقامة ب ٣٢.

(٣) الوسائل ٥ : ٣٩٧ أبواب صلاة الجماعة ب ١٤.

(٤) الوسائل ٥ : ٤١١ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٣.

٧١

وغيرها ، فإنّها تشهد بكون عبادته شرعيّة ، هذا.

مع أنّه لا منافاة بين كون الخطاب من الله ، وكونه تمرينيّاً ؛ بمعنى أنّه بعد تعلّم العبادة تستحبّ مداومته عليها ، وفعلها مستمرّاً ؛ ليحصل له الاعتياد الموجب لتسهيل الأمر عليه.

وليس ذلك من باب أمر المولى عبده بترييض الدابّة وتعويدها العَدوَ ؛ لوجود الفهم والقابليّة فيما نحن فيه.

والحاصل : أنّ الفهم والإدراك الذي هو شرط في تعلّق الخطاب موجود فيه بالفرض ، بل قد يوجد في بعض الصبيان أزيد مما يوجد في كثير من المشايخ.

ولا مانع منه إلا الأخبار الّتي وردت في رفع القلم عنهم (١) ، وهي لا تفيد إلا نفي العذاب.

ويؤيّد ما ذكرنا أيضاً : بعض الأخبار الواردة في صلاة الميّت ، وتحديد سنّ الصبيّ الذي تجب الصلاة عليه ، فلاحظ الأخبار وتأمّلها (٢).

والحاصل : أنّ كونها شرعيّة واضح عندي ، والله العالم بحقائق أحكامه.

وأمّا المقام الثاني :

فاتصافها بالصحّة بناءً على كونها شرعيّة واضح ؛ لأنّ الصحّة هي موافقة الأمر على قول المتكلّمين ، والمفروض كونه مأموراً.

وأمّا بمعنى إسقاط القضاء فهو أيضاً يصحّ ، وإن صعب فهمه على بعضهم ، لعدم لزوم القضاء.

ووجه الصحّة : أنّه مسقط للقضاء التمريني على القول به ، فإنّه كما نقول بأنّه مأمور ندباً بالفعل نقول بكونه مأموراً بالقضاء ندباً إذا فات عنه.

وأمّا على القول بالتمرين فيظهر من كلماتهم عدم الاتصاف ؛ لأنّه ملزوم الأمر.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٢ أبواب مقدّمة العبادات ب ٤ ح ١٠.

(٢) الوسائل ٢ : ٧٨٧ أبواب صلاة الجنازة ب ١٣.

٧٢

وذهب الشهيد الثاني رحمه‌الله إلى جواز الاتصاف (١) ؛ لأنّه من أحكام الوضع ، ولا يختصّ بأفعال المكلّفين.

وذلك لا يتمّ مطلوبه إلا أن يقول : إنّ المراد موافقة الأمر التمريني الصادر من الولي ، وهو تكلّف واضح ، وخلاف مصطلحهم في الصحّة.

وإن أراد موافقة الأمر النفس الأمري المتعلّق بالمكلّفين ، يعني ما يفعله الصبي موافقاً لذلك الأمر فهو صحيح ، فمع أنّ الموافقة له لا تتمّ إلا بقصد القربة ، فإنّه مأخوذ في الأمر النفس الأمري ، ومعتبر في الصحّة على مصطلحهم. وإن قلنا بأنّ النيّة خارجة وشرط لا جزء ؛ خلاف المتبادر من اصطلاحهم في الصحّة ، فإنّ مرادهم في الاصطلاح موافقة الأمر المتعلّق بفاعل الصحيح ، لا الأمر المتعلّق بالغير.

ثمّ إنّ بعض الأُصوليين ذهب إلى أنّ الصحّة والبطلان بمعنى موافقة الأمر ومخالفته حكم عقلي محض ، وليس بوضعي ؛ لأنّ الحاكم بذلك إنّما هو العقل ، ولا يحتاج إلى توقيف الشارع.

قلت : قد يبتدئ الشارع بحكم الصحّة من دون مسبوقيّة ببيان وجه الصحّة من الأمر به ، فيقول : «إذا فعل كذا كان صحيحاً» فهذا كاشف عن الأمر والخطاب الذي هو مخفيّ على المكلّف ، فلا يطّلع عليه إلا بوضع الشارع ، فيكون حكماً وضعياً.

__________________

(١) تمهيد القواعد : ٣١ ، ٣٧.

٧٣

المقصد الثالث

فيما يمسك عنه الصائم

وفيه مباحث :

المبحث الأوّل

يجب الإمساك عن الأكل والشرب من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس بإجماع العلماء ، وبالكتاب ، والسنة.

أمّا الكتاب ؛ فقوله تعالى (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) إلى قوله تعالى (أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) (١).

وأمّا السنة ؛ فكثيرة ، منها ما مرّ ، ومنها ما سيأتي.

ولا إشكال فيأكل المأكول المعتاد ، والمشروب كذلك.

وأمّا غير المعتاد كالحصى والبَرَد ومياه الأنوار (٢) وعصارة الأشجار ، فالمعروف من مذهب الأصحاب فيه أيضاً ذلك ، وادّعى عليه الإجماع جماعة ، منهم العلامة في

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.

(٢) البَرَد : شي‌ء ينزل من السحاب يشبه الحصى ويسمّى حبّ الغمام وحبّ المزنِ ، المصباح المنير : ٤٣ ، والأنوار : الأزهار ، المصباح المنير : ٦٢٩.

٧٤

التذكرة ، حيث نسبه إلى علمائنا (١).

وقال في المنتهي : إنّه قول عامّة أهل الإسلام إلا من نستثنيه ، ثمّ نسب الخلاف إلى الحسن بن صالح بن الحي ، وأبي طلحة الأنصاري ، فإنّه كان يأكل البَرَد في الصوم وكان يقول : إنّه ليس بطعام ولا شراب (٢) و (٣).

وادّعى الإجماع أيضاً السيّد في المسائل الناصريّة ، ونقل الخلاف عنهما وقال : إنّ الإجماع متقدّم ومتأخّر عن هذا الخلاف (٤) ، وكذلك ابن حمزة نقل إجماع الطائفة (٥).

وعن الشيخ في الخلاف : إجماع المسلمين أنّ أكل البَرَد مفطر ، وحكم بانقراض خلاف أبي طلحة (٦).

ونقل عن ابن الجنيد القول بعدم الإفطار بغير المعتاد (٧) ، وعن السيّد في الجمل : أنّه أشبه (٨).

لنا : الإجماع المستفيض وعموم الآية والأخبار.

واستدلّ في المختلف لهذا القول : بأنّ المنع عن الأكل والشرب إنّما ينصرف إلى المعتاد (٩).

ويدفعه : أنّ النهي عن الأكل والشرب والأمر بالتجنّب عنهما بدون ذكر المفعول يفيد منع إيجاد طبيعة الأكل في ضمن جميع الأفراد ، ولا يحصل الامتثال في النهي إلا بترك جميع الأفراد ، وهو من باب العموم ، لا الإطلاق حتّى ينصرف إلى المأكولات

__________________

(١) التذكرة ٦ : ٢١.

(٢) المغني ٣ : ٣٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٨ ، حلية العلماء ٣ : ١٩٥ ، المجموع ٦ : ٣١٧ ، مسند أحمد ٣ : ٢٧٩.

(٣) المنتهي ٢ : ٥٦٣.

(٤) المسائل الناصريّة (الجوامع الفقهية) : ٢٠٦ مسألة ١٢٩.

(٥) الوسيلة : ١٤٢.

(٦) الخلاف ٢ : ٢١٣ مسألة ٧٢.

(٧) المختلف ٣ : ٣٨٧.

(٨) الجمل (رسائل الشريف المرتضى) ٣ : ٥٤.

(٩) المختلف ٣ : ٣٨٧.

٧٥

المعتاد أكلها عند أغلب الناس.

سلّمنا ، لكنه معارض بالإجماع المستفيض.

وقد يستدلّ عليه برواية مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «أنّ علياً عليه‌السلام سئل عن الذباب يدخل في حلق الصائم قال : ليس عليه قضاء ؛ لأنّه ليس بطعام» (١).

وهو مع سلامة سنده مدفوع بأنّ المراد أنّه ليس من أكل الطعام ، فإنّ ذلك من دون الاختيار ، أو أنّ ذلك ليس أكلاً إن جعلنا الطعام مصدراً كما ذهب إليه في القاموس (٢) ، وهو بعيد.

وكيف كان ؛ فلا يعارض بها ما تقدّم من الأدلة ، سيّما والمستفاد من العلّة والحكمة الباعثة على الصوم تحمّل الجوع والعطش ، وعلى هذا فيمكن الفرار عن ذلك بالأكل والشرب الغير المعتادين.

وأمّا الأكل الغير المتعارف ، وإن كان المأكول متعارفاً ، كابتلاع بقايا الغذاء المتخلّفة في الأسنان وغيرها ، فظاهر المنتهي (٣) وغيره (٤) أيضاً أنّه إجماعيّ ، وتشمله العمومات.

وابتلاع الريق على مجرى العادة ليس بمفطر إجماعاً.

ولو جمعه في فيه ثمّ ابتلعه فكذلك ، خلافاً للشافعي في أحد قوليه (٥).

وأمّا إذا خرج من الفم ثمّ ابتلعه فقالوا : إنّه مفطر ؛ لصدق الأكل.

ويحتمل إيجاب كفّارة الحرام ؛ لأنّهم يقولون بالحرمة إذا خرج من الفم ، وإن لم نقف على دليل سوى ادّعاء الاستخباث.

بل هناك أخبار كثيرة دالّة على الحلّ ، مثل ما رواه الكليني في الصحيح ، عن

__________________

(١) الكافي ٤ : ١١٥ ح ٢ ، التهذيب ٤ : ٣٢٣ ح ٩٩٤ ، الوسائل ٧ : ٧٧ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣٩ ح ٢.

(٢) القاموس المحيط ٤ : ١٤٥.

(٣) المنتهي ٢ : ٥٦٣.

(٤) الخلاف ٢ : ١٧٦.

(٥) فتح العزيز ٦ : ٣٨٩ ، المجموع ٦ : ٣١٧.

٧٦

الحسن بن زياد الصيقل ، وفي جملتها : أنّ النبيّ أخرج اللقمة من فيه وأعطاها امرأة سألته إيّاها فأكلتها (١).

وأيضاً روى الكليني في باب النصّ على أبي جعفر الجواد عليه‌السلام ، وفي جملتها : أنّ عليّ بن جعفر مصّ ريق أبي جعفر بحضرة الرضا عليه‌السلام ولم ينكره (٢).

ويمكن المناقشة بعدم ملازمته للبلع وإن كان بعيداً.

وعن كتاب الملهوف لابن طاوس : أنّ زين العابدين كان يبلّ طعامه وشرابه بدموعه حتّى لحق بالله عزوجل (٣) ، وستأتي صحيحة أبي ولاد وغيرها.

والظاهر كما ذكره المحقّق الأردبيلي رحمه‌الله أنّه لا يصدق ذلك على مثل ما لو وضع في فمه حصاة أو درهماً وابتلّ وأخرجها ثمّ وضعها ثانياً في فمه ، فلا يحصل الإفطار بذلك (٤) كما أفتى به في المنتهي (٥).

ويؤيّده تجويزهم الأكل بالقاشوقة ، وكذا أكل الفواكه بالعضّ مع عدم الانفكاك عن بلّة الريق ، فتجويزهم ذلك مع قولهم بتحريم الخارج ، يستلزم عدم كون ذلك أكلاً للريق الخارج ، فكذلك الأمر في الحصاة والدرهم المذكورين.

وأمّا ريق الغير فيُعلم حكمه من السابق في الإفطار وعدمه ، والحكم بالتحريم هنا أيضاً مشكل ، وكذلك حصول الإفطار بمحض البلّة.

ويشكل فيما ابتلعه بسبب تقبيل الفم ومصّ اللسان ، وحكم في المنتهي بالبطلان ؛ (٦) ، وأوّلَ الروايات الواردة في الجواز ، وهي صحيحة أبي ولاد الحناط قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّي أقبّل بنتاً لي صغيرة وأنّا صائم ، فيدخل من ريقها في

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٧١ ح ٢ ، الوسائل ١٧ : ١٧٣ أبواب الأطعمة المباحة ب ١٣١ ح ١.

(٢) الكافي ١ : ٣٢٣ ح ١٤ ، الوسائل ١٧ : ١٧٤ أبواب الأطعمة المباحة ب ١٣١ ح ٤.

(٣) اللهوف في قتلى الطفوف : ٥٢ ، ويسمّى الكتاب الملهوف على قتلى الطفوف أيضاً.

(٤) مجمع الفائدة والبرهان ٥ : ٢٨.

(٥) المنتهي ٢ : ٥٦٣.

(٦) المنتهي ٢ : ٥٦٣.

٧٧

جوفي شي‌ء ، فقال : «لا بأس ، ليس عليك شي‌ء» (١).

وموثّقة سماعة ، عن أبي بصير قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الصائم يقبّل؟ قال : «نعم ، ويعطيها لسانه تمصّه» (٢).

ورواية عليّ بن جعفر ووصفها في المنتهي بالحسن (٣) ، وقال في الخلاصة : إنّ سند الشيخ إليه صحيح (٤) فلا يضرّ وجود محمّد بن أحمد العلوي في سنده عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل الصائم إله أن يمصّ لسان المرأة أو تفعل المرأة كذلك؟ قال : «لا بأس» (٥) فإنّ وصول الريق إلى الجوف في الأُولى لم يظهر أنّه كان من الفعل الاختياري.

والثانية يمكن دفعها بأنّ المصّ لا يستلزم الابتلاع ، مع أنّه لا دلالة فيها على كون المرأة صائمة ، وانجذاب لعاب المرأة بمصّها لسانه غير معلوم ، مع أنّ كون البلّة مبطلة ممنوع كما تقدّم ، ويشكل بترك الاستفصال.

وكيف كان فالأظهر وجوب الاجتناب عن إدخال اللعاب في الجوف اختياراً.

فروع :

الأوّل : لا بأس بمصّ الخاتم لرفع العطش وغيره للأصل ، ولصحيحة عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في الرجل يعطش في شهر رمضان ، قال : «لا بأس بأن يمصّ الخاتم» (٦).

وصحيحة منصور بن حازم أنّه قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يجعل النواة

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٣١٩ ح ٩٧٦ ، الوسائل ٧ : ٧١ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣٤ ح ١.

(٢) التهذيب ٤ : ٣١٩ ح ٩٧٤ ، الوسائل ٧ : ٧٢ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣٤ ح ٢.

(٣) المنتهي ٢ : ٣٦٥.

(٤) الخلاصة : ٢٧٦.

(٥) التهذيب ٤ : ٣٢٠ ح ٩٧٨ ، الوسائل ٧ : ٧٢ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣٤ ح ٣.

(٦) الكافي ٤ : ١١٥ ح ١ ، التهذيب ٤ : ٣٢٤ ح ١٠٠١ ، الوسائل ٧ : ٧٧ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٤٠ ح ١.

٧٨

في فيه وهو صائم؟ قال : «لا» قلت : فيجعل الخاتم؟ قال : «نعم» (١) وتؤدّي مؤدّاها رواية يونس بن يعقوب (٢).

ولعلّ المنع في النواة ، إذا كان فيها شي‌ء من تمر أو نحوه مما يدخل في الجوف.

الثاني : لا بأس بمضغ الطعام للصبيّ وزقّ الطائر من غير ابتلاع وكذلك أمثاله مما يدخل في الفم ولا يحصل البلع ، ومنه ذوق الطعام والمرق ؛ للأصل ، والأخبار الكثيرة الصحيحة وغيرها.

ومنها : رواية مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «إنّ فاطمة كانت تمضغ للحسن ثمّ للحسين» وهي صائمة في شهر رمضان» (٣).

وأمّا صحيحة سعيد الأعرج ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصائم ، أيذوق الشي‌ء ولا يبلعه؟ قال : «لا» (٤) فحملها الشيخ على المنع وعدم الجواز إذا لم يحتج إلى الذوق (٥) ، والأخبار المجوّزة على صورة الاحتياج ، مثل خوف فساد الطعام وهلاك الطائر ، والأولى حملها على الكراهة والتنزيه في صورة عدم الضرر ، أو يكون المراد أنّه لا يبلعه.

ثمّ إذا فعل ذلك وسبق منه شي‌ء إلى حلقه بغير اختياره فالأظهر عدم وجوب القضاء ؛ للأصل ، والإذن في الفعل ، وعدم تعمّد الازدراد.

وقال في المنتهي : لو أدخل في فيه شيئاً وابتلعه سهواً ، فإن كان لغرض صحيح

__________________

(١) الفقيه ٢ : ٧٠ ح ٢٩٣ ، الوسائل ٧ : ٧٨ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٤٠ ح ٣.

(٢) الكافي ٤ : ١١٥ ح ٢ ، الوسائل ٧ : ٧٧ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٤٠ ح ٢ ، وفيها : الخاتم في فم الصائم ليس به بأس.

(٣) الكافي ٤ : ١١٤ ح ٣ ، الوسائل ٧ : ٧٦ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣٨ ح ٢.

(٤) التهذيب ٤ : ٣١٢ ح ٩٤٣ ، الاستبصار ٢ : ٩٥ ح ٣٠٩ ، الكافي ٤ : ١١٥ ح ٤ ، الوسائل ٧ : ٧٤ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣٧ ح ٢.

(٥) التهذيب ٤ : ٣١٢.

٧٩

فلا قضاء عليه ، وإلا وجب (١).

وتنظّر في المدارك في الوجوب حينئذٍ (٢) ، وهو في محلّه.

ولعلّ العلامة رحمه‌الله نظر إلى فحوى ما يدلّ عليه في المضمضة لغير الصلاة ، وهو مشكل.

الثالث : لا بأس بالاستياك بالرطب واليابس ، بل هو مستحب وهو المشهور.

وعن الشيخ (٣) وابن أبي عقيل (٤) كراهة السواك بالرطب ؛ لصحيحة عبد الله ابن سنان (٥) ، وحسنة الحلبي (٦) ، ورواية أبي بصير (٧) ، ورواية محمّد بن مسلم (٨) ، وموثّقة عمّار (٩).

ويدلّ على الجواز : صحيحة الحلبي ، عن الصادق عليه‌السلام : أيستاك الصائم بالماء وبالعود الرطب يجد طعمه؟ فقال : «لا بأس به» (١٠).

__________________

(١) المنتهي ٢ : ٥٦٨.

(٢) المدارك ٦ : ٧٢.

(٣) التهذيب ٤ : ٢٦٣.

(٤) نقله عنه في المختلف ٣ : ٤٢٦.

(٥) التهذيب ٤ : ٢٦٢ ح ٧٨٧ ، الوسائل ٧ : ٥٩ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢٨ ح ١١ ، عن أبي عبد الله (ع) : أنّه كره للصائم أن يستاك بسواك رطب.

(٦) الكافي ٤ : ١١٢ ح ٢ ، التهذيب ٤ : ٣٢٣ ح ٩٩٢ ، الوسائل ٧ : ٥٩ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢٨ ح ١٠ ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حمّاد ، عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الصائم يستاك ، قال : لا بأس به ، وقال : لا يستاك بسواك رطب.

(٧) التهذيب ٤ : ٢٦١ ح ٧٨٦ ، الوسائل ٧ : ٥٨ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢٨ ح ٧ ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : لا يستاك الصائم بعود رطب.

(٨) التهذيب ٤ : ٢٦١ ح ٧٨٥ ، الوسائل ٧ : ٥٩ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢٨ ح ٨ ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : يستاك الصائم أيّ النهار شاء ، ولا يستاك بعود رطب.

(٩) الكافي ٤ : ١١٢ ح ٤ ، الوسائل ٧ : ٥٩ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢٨ ح ١٢ ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الصائم ينزع ضرسه؟ قال : لا ، ولا يدمي فاه ، ولا يستاك بعود رطب.

(١٠) التهذيب ٤ : ٢٦٢ ح ٧٨٢ ، وص ٣٢٣ ح ٩٩٣ ، الاستبصار ٢ : ٩١ ح ٢٩١ ، الوسائل ٧ : ٥٨ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢٨ ح ٣.

٨٠