غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٥

الميرزا أبو القاسم القمّي

غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٥

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: مكتب الإعلام الإسلامي ، فرع خراسان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-590-3
الصفحات: ٤٧٢

الفقه كتاب الصوم

ذلك ، فيؤخر القضاء سنة أو أقلّ من ذلك أو أكثر ، ما عليه في ذلك؟ قال : «أُحبّ له تعجيل الصيام ، فإن كان أخّره فليس عليه شي‌ء» (١) قال : إنّه محمول على ما ذكرناه فيما تقدّم من أنّه متى أخّره غير متهاون به وفي نيته الصيام فليس عليه شي‌ء من الصدقة ، وإنّما يلزمه القضاء حسب ما تضمّنه القرآن (٢).

وفيه : مع ضعفها وإرسالها أنّ ظاهرها يقتضي سقوط الفدية عن المتهاون أيضاً ، وعدم وجوب المبادرة بالقضاء بين الرمضانين ، ولا يقولون به ، بل ظاهر الرواية عدم وجوب المبادرة في أوّل الزمان الذي بين الرمضانين ، لا في نفس الزمان.

وحجّة ابن إدريس (٣) : أصالة البراءة عن الكفارة ، وأنّ القرآن لا يدلّ إلا على وجوب القضاء ، ولا إجماع في المسألة ؛ إذ لم يذكره إلا الشيخين (٤) ومن تبعهما (٥) ، فيجب القضاء فقط مطلقاً ، يعني وإن استمر المرض بينهما.

وهو على أصله من عدم حجية أخبار الآحاد واضح ، ولكن أصله ضعيف ، مع أنّ المسألة ذكرها من كان قبل الشيخ من الفقهاء مثل الصدوقين (٦) وابن أبي عقيل (٧).

بل قال في المعتبر : ولا عبرة بخلاف بعض المتأخّرين في إيجاب الكفارة هنا ، فإنّه ارتكب ما لم يذهب إليه أحد من فقهاء الإمامية فيما علمت ، قال : وروى ما ذكرنا مضافاً إلى الروايتين يعني بهما رواية زرارة ومحمّد بن مسلم المتقدّمتين أبو الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه‌السلام وأبو بصير ، عن أبي عبد الله ، وعبد الله بن سنان عنه عليه‌السلام ، وهؤلاء فضلاء السلف من الإمامية ، وليس لرواياتهم معارض ، إلا ما يحتمل

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٥١ ح ٧٤٦ ، الوسائل ٧ : ٢٤٦ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٢٥ ح ٦.

(٢) التهذيب ٤ : ٢٥٢ ح ٧٤٩ ، الاستبصار ٢ : ١١١ ح ٣٦٥ ، الوسائل ٧ : ٢٤٦ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٢٥ ح ٧.

(٣) السرائر ١ : ٣٩٧.

(٤) حكاه عن الشيخين العلامة في المختلف ٣ : ٥٢٥.

(٥) كالمحقّق في المعتبر ٢ : ٦٩٨ ، والشهيدان في اللمعة والروضة البهيّة ٢ : ١٢١ ، والعاملي في المدارك ٦ : ٢١٨.

(٦) حكاه عن والد الصدوق في الدروس ١ : ٢٨٧ ، والصدوق في الفقيه ٢ : ٩٦.

(٧) حكاه عنه العلامة في المختلف ٣ : ٥٢٣ و ٥٢٥.

٤٠١

ردّه إلى ما ذكرناه ، فالرادّ لذلك يتكلّف ما لا ضرورة له إليه (١).

ثمّ إنّا قد ذكرنا سابقاً أنّ أكثر الأصحاب خصّوا المسألة بحكم المريض ، ونقلنا عن الشيخ في الخلاف أنّه عمّم الحكم بين المرض وغيره من الأعذار (٢) ، وهو ظاهر ابن أبي عقيل أيضاً (٣) ، ومال إليه في المختلف ، ثمّ جعل التفصيل أقرب ، وهو التعدّي إلى غير المرض من الأعذار إن كان التأخير توانياً ، فإنّ المرض أعظم الأعذار ، فإذا ثبتت معه الكفارة ، فتثبت فيما دونه بطريق الأولى.

قال : وليس هذا من باب القياس ، بل من باب التنبيه ، وأما إذا كان التأخير من غير جهة التواني ، فيجب فيه القضاء وإن استمر العذر ؛ لعموم الآية ، وأنّ إسقاط القضاء من جهة المرض الذي هو أعظم الأعذار إن استمر لا يوجب إسقاطه من جهة ما هو دونه من الأعذار (٤) ، وارتضاه في المسالك (٥).

وفي الاستدلال بالأولوية إشكال ، مع أنّه لم يظهر من الروايات أنّ العلّة في وجوب الكفارة هي التأخير الحاصل من جهة المرض ، بل الظاهر أنّه لأجل تأخير ما وجب عليه من القضاء ، فيشمل الجميع.

فالأولى العمل على قول الشيخ في الخلاف من تسوية الأعذار مطلقاً (٦) لما بينا سابقاً.

السابع : في شرائط القضاء عن الميّت وأحكامه.

ولمّا لم نذكر في كتاب الصلاة أحكام الصلاة ، كما لم يذكرها طائفة من الأصحاب أيضاً ، فلا بدّ أن نشير إلى حكمها أيضاً هنا لتحصيل البصيرة.

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٦٩٩.

(٢) الخلاف ٢ : ٢٠٦ المسألة ٦٣.

(٣) حكاه عنه العلامة في المختلف ٣ : ٥٢٦.

(٤) المختلف ٣ : ٥٢٦.

(٥) المسالك ٢ : ٦١.

(٦) الخلاف ٢ : ٢٠٦ مسألة ٦٣.

٤٠٢

ويتوقّف تنقيح المقام على ذكر مقدمة ومباحث :

أمّا المقدمة :

فوجوب قضائهما على الوارث في الجملة هو المشهور بين أصحابنا ، بل لم نقف فيه على مخالف إلا ما نقل في المختلف عن ابن أبي عقيل في وجوب قضاء الصوم (١) ، ويظهر من السيدين المرتضى (٢) وابن زهرة (٣) رحمهما‌الله الإجماع فيه أيضاً في الجملة.

وبالجملة فالمسألة مما لا إشكال فيها ، ومخالفة العامة فيها تمسّكاً بقوله تعالى (لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلّا ما سَعى) (٤) وبقوله عليه‌السلام : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له» (٥) ضعيف ؛ لأنّهما مخصّصان بالأدلّة كما خصّصا بالحج وغيره.

مع أنّ ما ذكر من نتائج إيمانه وتحصيله العقائد الحقّة الذي هو من سعيه ، وكذلك هو من منافع عمله ومعرفته وولده الصالح.

وقد يلتزم أنّ النفع والثواب للولي ، ولكنه يسقط القضاء عن الميت ، وهو بعيد.

المبحث الأوّل : في بيان ما يجب قضاؤه من الصلاة والصوم واختلف الأصحاب في ذلك ، فظاهر المشهور التعميم ، كما يظهر من الشهيد الثاني في مسألة الحبوة ، قال : إطلاق النص والفتوى يقتضي عدم الفرق بين أن يكون الفائت من الصلاة والصيام بعمد وغيره ، وربّما قيل باختصاص الحكم بما فات منهما لعذر ، ولا بأس به ، والنصوص لا تنافيه (٦).

__________________

(١) المختلف ٣ : ٥٢٧ و ٥٣٠.

(٢) الانتصار : ٧٠.

(٣) الوسيلة : ١٥٠.

(٤) النجم : ٣٩.

(٥) ذخيرة المعاد : ٣٨٧.

(٦) المسالك ٢ : ٦٣.

٤٠٣

ويظهر ذلك من الشهيد في الذكرى أيضاً (١).

والظاهر أنّه أراد من القائل المحقّق رحمه‌الله في جواب مسائل جمال الدين بن حاتم المشغري البغدادية ، فإنّه قال : على الولد قضاء ما فات الميت من صلاة وصوم لعذر من مرض وسفر وحيض ، لا ما تركه عمداً مع القدرة (٢).

ونقل في الذكرى عن أُستاده عميد الدين رحمه‌الله الانتصار لهذا القول ثمّ قال هو : ولا بأس به ، وقال : إنّ الرواية محمولة على الغالب ، فإنّ الغالب عدم ترك الصلاة عمداً ، وحمل ما فعلها على غير الوجه الصحيح لأجل المسامحة في تحصيل مسائلها أيضاً على الترك عمداً ، وعلى ذلك فجعله من الأفراد النادرة بعيد ، خصوصاً بملاحظة حال أغلب عوامّ الناس (٣).

نعم يمكن أن يقال : المتبادر من لفظ صلاة أو صيام المنكّر الوارد في الأخبار أنّ سائر عباداته إنّما وقعت على الوجه الصحيح ، وأنّ ما حصل من الفوت إنّما هو لأجل الترك ، لا لأجل البطلان.

وحكى في الذكرى عن ابن إدريس ويحيى بن سعيد أنّه يقضي عنه الصوم الذي فرّط فيه ، والصلاة التي فاتت في مرض الموت لا غير.

وعن ابن الجنيد : أنّ المريض إذا وجبت عليه الصلاة فأخّرها إلى أن مات يقضي عنه وليّه كما يقضي حجّة الإسلام والصوم ببدنه ، ولو عرض عنه يتصدّق مدّ عن كلّ ركعتين ، وإن لم يتمكن فعن كلّ أربع ركعات بمدّ ، وإن لم يتمكّن فعن صلاة النهار بمدّ ، وعن صلاة الليل بمدّ.

ثمّ قال : وكذا قال السيد المرتضى رحمه‌الله.

ثمّ نقل عن ابن زهرة أنّه لو مات وعليه صلاة فيجب على الولي قضاؤها ، ثمّ نقل

__________________

(١) الذكرى : ١٣٨.

(٢) المسائل البغدادية (الرسائل التسع) : ٢٥٨.

(٣) الذكرى : ١٣٨ ، وانظر المستند ١٠ : ٤٦١.

٤٠٤

عنه حكاية التصدّق كما حكى عنهما ، وأنّه قال ذلك بدليل الإجماع وطريقة الاحتياط ، هذه الأقوال التي ذكرها في الذكرى (١).

وحاصلها ما قاله في الدروس ، قال : ويجب أن يقضي الوليّ جميع ما فات الميّت ، وخيّر ابن الجنيد بينه وبين الصدقة المذكورة أنفاً ، وبه قال المرتضى وابن زهرة ، وقال ابن إدريس وسبطه : لا يقضي إلا ما فاته في مرض فوته ، وقال المحقّق : يقضي ما فاته لعذر كمرض أو سفر أو حيض بالنسبة إلى الصوم ، لا ما تركه عمداً ، والظاهر أنّه تغيّر رأيه في الدروس ، وهذه الأقوال ذكروها في كتاب الصلاة (٢).

حجّة المشهور : عموم الأخبار ، مثل صحيحة حفص بن البختري في الكافي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في الرجل يموت وعليه صلاة أو صيام ، فقال : «يقضيه عنه أولى الناس بميراثه» قال : فإن كان أولى الناس به امرأة؟ فقال : «لا ، إلا الرجال» (٣).

ومرسلة ابن أبي عمير عنه عليه‌السلام : في الرجل يموت وعليه صلاة أو صيام ، قال : «يقضيه أولى الناس به» نقله في الذكرى عن ابن طاوس (٤).

وكذا رواية عبد الله بن سنان عنه عليه‌السلام ، قال : «الصلاة التي حصل وقتها قبل أن يموت الميت يقضي عنه أولى الناس به» (٥) وسيجي‌ء بعض الأخبار أيضاً.

وأمّا دليل تقييد الصلاة والصوم إذا كان فوته لعذر كما نقلناه عن المحقق وتابعيه فهو الأصل وعدم انصراف الأخبار إلى ما تركه عمداً ، وهو ليس ببعيد ، سيّما مع حمل أفعال المسلمين على الصحة من عدم تركهم الصلاة بلا عذر ، سيما في زمان الأئمة ، فإنّ المعهود من أفعال أصحابهم «كمال الاهتمام في العبادات وفي قضائها ، سيّما

__________________

(١) الذكرى : ١٣٨ ، وانظر السرائر ١ : ٣٩٩ ، والجامع للشرائع : ١٦٣ ، ٨٩ ، والانتصار : ٧٠ ، والغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٥٦٣.

(٢) الدروس ١ : ٢٨٨.

(٣) الكافي ٤ : ٢٣ ح ١ ، الوسائل ٧ : ٢٤١ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٢٣ ح ٥.

(٤) الذكرى : ٧٤ ، البحار ٨٨ : ٣١٠.

(٥) نقلها في الذكرى : ٧٤ ، والبحار ٨٨ : ٣١٣.

٤٠٥

على القول بالتضيّق ، فكيف يتركونها عمداً ويتركون قضاءها ، ولذلك ذكر الشهيد في الذكرى في عذر عدم ورود الأخبار في استئجار الصلاة للميت أنّ أصحابهم «كانوا يهتمّون في القضاء كثيراً ، فلم يحتاجوا إلى السؤال عن حكم الاستئجار ولو كان في ذمّتهم شي‌ء أحياناً لتداركوه بقضاء الوليّ ، ولذلك وردت الأخبار فيه.

وهذا أيضاً يؤيّد أنّ ما كان يجب على الوليّ إنّما كان مما سقط بالعذر ، بل مسامحتهم في القضاء أيضاً كانت من جهة عذر كان له وجه مناسب للتأخير ، مثل أنّ القضاء كان ميسّراً لهم بالصلاة قاعداً ، أو بالإيماء فيؤخّرونه ليفعلوه على الوجه الأكمل ، وهكذا.

ومما ذكرنا يظهر أنّ ما فات من الميت من جهة بطلان الصلاة والمسامحة فيأخذ مسائلها على وجهها ليس بداخل في هذه الأخبار ، سيما بملاحظة تنكير لفظ صيام أو صلاة في الأخبار.

فإذا لم يظهر خروج غير هذا القسم من العبادات من سائر أفراد ما ترك عصياناً من إطلاق هذه الأخبار فيكفي خروج هذا القسم ؛ لعدم القول بالفصل ، مع أنّ الظاهر من قولهم «يموت وعليه صيام أو صلاة ، ويموت وعليه قضاء ، ويموت وعليه دين من شهر رمضان وأمثال ذلك في الأخبار أنّ الميت كان معتقداً لكونه واجباً عليه وديناً عليه لازماً أداؤه ، لا محض لزومه عليه في نفس الأمر ، وإن كانت الألفاظ أسامي لما هو في نفس الأمر.

وكيف كان فالأصل دليل قويّ ، ولا يمكن إتمام العموم بإطلاق هذه الأخبار ، سيّما على المختار من كون الحبوة مجّاناً لا في عوض الصوم والصلاة ، وسيّما مع لزوم العسر والحرج إذا كان أبواه كلاهما صاحب تسعين سنة ، وكانت صلاتهما باطلة ، وكان الولد ضعيفاً ، سيما على القول بوجوب الإتيان ببدنه لا بالاستئجار.

مع أنّ لنا إشكالاً في كون ذلك هو المشهور بين الفقهاء ، والتمسّك بإطلاق فتاويهم إنّما يتم إذا كانت المسألة معنونة بحكم قضاء الصلاة والصوم مع ملاحظة نفسهما من

٤٠٦

حيث هي ، بل إطلاقاتهم في العنوانات ليست منسبكة لأجل بيان حكم المطلق من حيث هو مطلق.

فمرادهم في مسألة الحبوة بيان حكم القاضي أنّه مَن هو ، لا بيان كيفية المقضيّ ، وكذلك ههنا تعرّضوا للمسألة لبيان أنّ الواجب هل هو قضاء العبادة ، أو يكتفي بالتصدّق ، أو يخيّر بينهما ، لا لبيان حال نفس المقضي وكيفيته وهكذا.

وهذه النكتة مما ينبغي التفطّن لها ، فإنّ الحكم يختلف باختلاف عنوانات الموضوع في المسائل.

وأما حجّة ابن الجنيد وابن زهرة في التصدّق فلم نقف عليها ، والاعتماد على الإجماع الذي ادّعاه وترك الأخبار الكثيرة كما ترى.

وأما مسألة الصوم فقال في الدروس : لو تمكّن من القضاء ومات قبله فالمشهور وجوب القضاء على الوليّ ، سواء كان صوم رمضان أولا ، وسواء كان له مال أولا ، ومع عدم الولي يتصدّق من أصل ماله عن كلّ يوم بمد ، وقال المرتضى : يتصدّق عنه ، فإن لم يكن له مال صام وليه ، وقال الحسن : يتصدق عنه لا غير ، وقال الحلبي : مع عدم الوليّ يصام عنه من ماله ، كالحج ، والأوّل أصح (١) ، انتهى.

ولا يخفى أنه لا يظهر من هذه العبارة أيضاً أنّ المشهور عدم الفرق بين ما كان الفوات لعذر أم لا ، بل المراد من المشهور في كلامهم هو فتواهم بوجوب القضاء في مقابل القول بالصدقة وغيره ، فبقي انفهام الشهرة في التعميم من إطلاق كلامهم ، وقد ذكرنا أنّه لا اعتماد على مثل هذا الإطلاق.

وكيف كان فالأظهر الاكتفاء بما فات من جهة عذر كما نقلناه عن المحقق وأتباعه ، ومنهم صاحب المدارك ، وقد عرفت دليله ، فلا بد من بيان الأدلة لهذه الأقوال في المسألة.

__________________

(١) الدروس ١ : ٢٨٨ ، وانظر الانتصار : ٧١ ، والمختلف ٣ : ٥٢٩ ، والكافي في الفقه : ١٨٤.

٤٠٧

ولما كان في الصوم تفصيلات أُخر لا بدّ من التعرّض لها فنقول : إنّ فوات الصيام إمّا من أجل المرض أو غيره ، من سفر أو حيض ، فلنقدّم الكلام فيما فات للمرض ، ونقول :

أمّا ما فات من أجل المرض مع عدم التمكّن من القضاء حتى مات ، فقد تقدّم الكلام فيه ، وأنّه لا يجب القضاء على الوليّ ، بل يستحب على المشهور ، مع إشكال فيه.

وأمّا إذا تمكّن ولم يقضِ حتى مات فالمشهور وجوبه على الولي ، وعن الخلاف والسرائر دعوى الاتفاق عليه (١) ، ويشعر به كلام المنتهي والتذكرة (٢).

وعن المبسوط والاقتصاد والجمل التخيير بين القضاء والصدقة (٣).

وعن الانتصار : التصدّق من ماله عن كلّ يوم بمد من طعام ، فإن لم يكن له مال فليقضه الوليّ ، ولم يفرق بين أسباب فوت الصوم ، وادّعى عليه الإجماع (٤).

وعن ابن إدريس : وجوب القضاء على الوليّ وعدم وجوب الصدقة ، وادّعى عليه الإجماع ، وأنّ ما قاله السيّد لم يقل به أحد غيره (٥).

وأنكره المحقّق في المعتبر ، وقال : وأنكر بعض المتأخّرين الصدقة عن الميّت ، وزعم أنّه لم يذهب إلى القول بها محقّق ، وليس ما قاله صواباً مع وجود الرواية الصريحة المشتهرة ، وفتوى الفضلاء من الأصحاب ، ودعوى علم الهدى الإجماع على ما ذكره ، فلا أقلّ من أن يكون قولاً ظاهراً بينهم ، فدعوى المتأخّر أنّ محقّقاً لم يذهب إليه تهجّم (٦).

__________________

(١) الخلاف ٢ : ٢٠٨ المسألة ٦٥ ، السرائر ١ : ٣٩٧.

(٢) المنتهي ٢ : ٦٠٤ ، التذكرة ٦ : ١٧٤ مسألة ١١٠.

(٣) المبسوط ١ : ٢٨٦ ، الاقتصاد : ٢٩٤ ، الجمل والعقود (الرسائل العشر) : ٢٢٠.

(٤) الانتصار : ٧١.

(٥) السرائر ١ : ٣٩٧.

(٦) المعتبر ٢ : ٦٩٩.

٤٠٨

وعن ابن أبي عقيل : أنّه يتصدّق عنه لا غير (١).

والأقوى قول المشهور.

لنا : عموم الأخبار السابقة ، ومرسلة ابن بكير عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في الرجل يموت في شهر رمضان ، قال : «ليس على وليّه أن يقضي عنه ما بقي من الشهر ، وإن مرض فلم يصم رمضان فلم يزل مريضاً حتى مضى رمضان وهو مريض ، ثمّ مات في مرضه ، ذلك فليس على وليّه أن يقضي عنه الصيام ، فإن مرض ولم يصم شهر رمضان ثمّ صحّ بعد ذلك فلم يقضه ، ثمّ مرض فمات ، فعلى وليّه أن يقضي عنه ؛ لأنّه قد صحّ فلم يقض ووجب عليه» (٢).

ومرسلة حماد بن عثمان في الكافي ، عمّن ذكره ، عنه عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يموت وعليه دين من شهر رمضان ، من يقضي عنه؟ قال : «أولى الناس به» قلت : فإن كان أولى الناس به امرأة؟ قال : «لا ، إلا الرجال» (٣).

وصحيحة محمّد بن الحسن الصفّار في الفقيه ، قال : كتبت إلى أبي محمد الحسن ابن عليّ في رجل مات وعليه قضاء من شهر رمضان عشرة أيّام ، وله وليّان ، هل يجوز لهما أن يقضيا عنه جميعاً : خمسة أيّام أحد الوليين ، وخمسة أيام الأخر؟ فوقّع عليه‌السلام : «يقضي عنه أكبر وليّيه» (٤).

قال ابن بابويه رحمه‌الله : هذا التوقيع عندي من توقيعاته إلى محمّد بن الحسن بن الصفار بخطّه عليه‌السلام (٥).

وفي الصحيح عن محمّد بن مسلم ، عن أحدهما» ، قال : سألته عن رجل أدركه

__________________

(١) حكاه عنه في الدروس ١ : ٢٨٩ ، والرياض ١ : ٣٢٢.

(٢) التهذيب ٤ : ٢٤٩ ح ٧٣٩ ، الاستبصار ٢ : ١١٠ ح ٣٦٠ ، الوسائل ٧ : ٢٤٣ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٢٣ ح ١٣.

(٣) الكافي ٤ : ١٢٤ ح ٤ ، الوسائل ٧ : ٢٤١ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٢٣ ح ٦.

(٤) الكافي ٤ : ١٢٤ ح ٥ ، الفقيه ٢ : ٩٨ ح ٤٤١ ، التهذيب ٤ : ٢٤٧ ح ٧٣٢ ، الاستبصار ٢ : ١٠٨ ح ٣٥٥ ، الوسائل ٧ : ٢٤٠ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٢٣ ح ٣.

(٥) الفقيه ٢ : ٩٩.

٤٠٩

شهر رمضان وهو مريض فتوفي قبل أن يبرأ ، قال : «ليس عليه شي‌ء ، ولكن يقضي عن الذي يبرأ ثمّ يموت قبل أن يقضي ما عليه» (١).

وحجّة السيّد : إجماعه الذي ادّعاه ، وما رواه الصدوق في الصحيح ، عن أبان بن عثمان ، عن أبي مريم الأنصاري ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «إذا صام الرجل شيئاً من شهر رمضان ثمّ لم يزل مريضاً حتى مات فليس عليه قضاء ، وإن صحّ ثمّ مات وكان له مال تصدّق عنه مكان كل يوم بمدّ ، فإن لم يكن له مال صام عنه وليّه» ورواه الكليني أيضاً بسند غير صحيح (٢).

وحجّة ابن أبي عقيل أيضاً : رواية أبي مريم ، نقلها في التهذيب عنه عليه‌السلام ، قال : «إذا صام الرجل رمضان لم يزل مريضاً حتى يموت فليس عليه شي‌ء ، فإن صحّ ثمّ مرض حتى يموت وكان له مال تصدّق عنه ، فإن لم يكن له مال تصدق عنه وليّه».

ونقل العلامة في المختلف الرواية هكذا ، ولكن عبارة ما نقله عن ابن أبي عقيل هذه : وقد روى أنّه من مات وعليه صوم من رمضان تصدّق عنه عن كلّ يوم بمدّ من طعام ، وبهذا تواترت الأخبار عنهم عليهم السلام (٣).

ونقل في المدارك رواية أبي مريم عن التهذيب مع وصفها بالصحّة ، وعبارته هذه : وإن صحّ ثمّ مرض حتى يموت وكان له مال تصدّق عنه وليّه (٤).

حجّة الشيخ في المبسوط لعلّها الجمع بين الأخبار بحملها على التخيير.

وحجّة ابن إدريس هو إجماعه المدّعى ، ومراد السيد رحمه‌الله من دعوى الإجماع أيضاً الإجماع على وجوب الصيام على الولي ردّاً على المخالفين ، حيث

__________________

(١) الكافي ٤ : ١٢٣ ح ٢ ، التهذيب ٤ : ٢٤٨ ح ٧٣٨ ، الاستبصار ٢ : ١١٠ ح ٣٥٩ ، الوسائل ٧ : ٢٤٠ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٢٣ ح ٢.

(٢) الكافي ٤ : ١٢٣ ح ٣ ، الفقيه ٢ : ٩٨ ح ٤٣٩ ، التهذيب ٤ : ٢٤٨ ح ٧٣٦ ، الاستبصار ٢ : ١٠٩ ح ٢٥٧ ، الوسائل ٧ : ٢٤١ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٢٣ ح ٧ ، وفي الوسائل : وإن صح ثمّ مرض ثمّ مات .. ورويت أيضاً بإسناد آخر في التهذيب ٤ : ٢٤٨ ح ٧٣٥ ، الوسائل ٧ : ٢٤١ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٢٣ ح ٨.

(٣) المختلف ٣ : ٥٣١.

(٤) المدارك ٦ : ٢٢٤.

٤١٠

لا يوجبون شيئاً غير التصدّق ، لا الإجماع على تقديم الصدقة ، وكلامه كالصريح في ذلك.

إذا عرفت هذا ، فقول ابن أبي عقيل في غاية الضعف ؛ لكونه خلاف المشهور والأحاديث المعتبرة المستفيضة والإجماعين المنقولين ، ولا يبعد حمل تقديم الصدقة وانفرادها المستفاد من رواية أبي مريم على التقيّة ، ولما كانت الرواية مضطربة فيضعف الاعتماد عليها. ومنه يظهر ضعف القول بالتخيير أيضاً.

وأمّا الاستدلال لابن أبي عقيل بقوله تعالى (لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلّا ما سَعى) فقد عرفت ضعفه.

وأمّا ما فات من جهة السفر ففيه قولان ، والذي يظهر أنّه قول الأكثر هو التفصيل مثل المريض ، فيشترط وجوب القضاء على الوليّ بتمكّن المسافر من الأداء أو القضاء ، وهو أحد قولي الشيخ ، اختاره في الخلاف مدّعياً عليه الإجماع (١) ، وهو مختاره في النهاية (٢) ، ومختار المحقق في النافع (٣) ، والعلامة في كثير من كتبه (٤) ، والشهيدين في اللمعة وشرحها والمسالك (٥) ، وهو ظاهر ابن إدريس (٦).

والقول الأخر وجوبه ولو مات في السفر على كل حال ، وهو مذهب الشيخ في التهذيب (٧) ، ومنقول عن صاحب الجامع يحيى بن سعيد (٨).

وربما يقال : إنّه ظاهر الصدوق في الفقيه والمقنع ، حيث قال : إذا مات رجل وعليه صيام شهر رمضان فعلى وليّه أن يقضي عنه ، وكذلك من فاته في السفر أو المرض ، إلا

__________________

(١) الخلاف ٢ : ٢٠٧ المسألة ٦٤.

(٢) النهاية : ١٥٨.

(٣) المختصر النافع : ٧٠.

(٤) التذكرة ٦ : ١٧٥ المسألة ١١١ ، المختلف ٣ : ٥٣٥.

(٥) الروضة البهيّة ٢ : ١٢٤ ، المسالك ٢ : ٦٣.

(٦) السرائر ١ : ٣٩٩.

(٧) التهذيب ٤ : ٢٤٩ ذ. ح ٧٣٩.

(٨) الجامع للشرائع : ١٦٣.

٤١١

أن يكون مات في مرضه من قبل أن يصحّ بمقدار ما يقضي به صومه ، فلا قضاء عليه إذا كان كذلك (١).

وفيه تأمّل.

ويظهر من التذكرة الميل إليه ، حيث قال : لا بأس به بعد ما نقله عن أحد قولي الشيخ ، ولم ينقل فيه قولاً عن غيره (٢) ، وهو مختار المحقق الأردبيلي رحمه‌الله (٣) وصاحب المدارك (٤).

ويظهر من الشرائع والمعتبر التردد (٥).

ولعلّ الأظهر الأوّل ؛ للأصل ، والإجماع المنقول ، والعلّة المستفادة من مرسلة ابن بكير (٦) ، وصحيحة أبي بصير (٧) المتقدّمتين هنا وفي المباحث السابقة ، ولأنّه إذا لم يتمكّن هو فيسقط منه ، فالوليّ أولى بالسقوط عنه.

واحتج الآخرون : بما رواه الكليني عن أبي حمزة والظاهر أنّه الثمالي عن أبي جعفر عليه‌السلام فالظاهر أنّه صحيح ، قال : سألته عن امرأة مرضت في شهر رمضان أو طمثت أو سافرت فماتت قبل خروج شهر رمضان ، هل يقضى عنها؟ قال : «أما الطمث والمرض فلا ، وأمّا السفر فنعم» (٨).

وروى الشيخ في الموثّق ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام مثله (٩).

__________________

(١) الفقيه ٢ : ٩٨ ، المقنع (الجوامع الفقهية) : ١٧ ، وحكاه العلامة في المختلف ٣ : ٥٣٢ ، ٤٥٦.

(٢) التذكرة ٦ : ١٧٩ المسألة ١١٣.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ٥ : ٢٦٥.

(٤) المدارك ٦ : ٢٢٢.

(٥) الشرائع ١ : ١٨٤ ، المعتبر ٢ : ٦٦٩.

(٦) التهذيب ٤ : ٢٤٩ ح ٧٣٩ ، الاستبصار ٢ : ١١٠ ح ٣٦٠ ، الوسائل ٧ : ٢٤٣ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٢٣ ح ١٣.

(٧) الكافي ٤ : ١٣٧ ح ٨ ، الوسائل ٧ : ٢٤٢ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٢٣ ح ١٢.

(٨) الكافي ٤ : ١٣٧ ح ٩ ، الوسائل ٧ : ٢٤١ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٢٣ ح ٤ ، ولم نعثر على من شك أنّه غير الثمالي.

(٩) التهذيب ٤ : ٢٤٩ ح ٧٤١ ، الوسائل ٧ : ٢٤٣ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٢٣ ح ١٦.

٤١٢

وروى عن منصور بن حازم عنه عليه‌السلام : في الرجل يسافر في رمضان فيموت ، قال : «يقضى عنه ، وإن امرأة حاضت في رمضان فماتت لم يقضَ عنها ، والمريض في رمضان ولم يصحّ حتى مات لم يقض عنه» (١).

وفي الموثّق عن فضالة ، عن الحسين بن عثمان ، عن سماعة ، عن أبي بصير ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل سافر في رمضان فأدركه الموت قبل أن يقضيه ، قال : «يقضيه أفضل أهل بيته» (٢).

واقتصر في المسالك على رواية منصور ، وقدح فيها بضعف السند ، وإمكان حملها على الاستحباب ، أو على الوجوب ؛ لكون السفر معصية وإن بَعُدَ (٣) ، وقد عرفت عدم الانحصار.

والجواب : أنّ الإجماع المنقول بمنزلة خبر صحيح ، ورواية أبي بصير أيضاً صحيحة ، ووجه الدلالة : أنّ قوله عليه‌السلام فيها : «لا يقضى عنها ؛ فإنّ الله تعالى لم يجعله عليها» نصّ على العلّة ، وهي عامّة في المرض والسفر.

وبالجملة الروايتان المشتملتان على العلّة المعتضدتان بالأصل والشهرة والإجماع المنقول وما ذكرناه من الاعتبار تترجّح على معارضها.

وصحيحة أبي حمزة لا تعارضها مع قلّة العامل بها.

وأمّا موثّقة أبي بصير ، فإن أغمضنا عن سندها ؛ لأنّ الظاهر أنّ حسين بن عثمان مشترك بين الثقات ، بل الثقتين ، ولا ضعف في أحد منهم (٤) ، ورواية فضالة قرينة على أنّه الرواسي الثقة ، لكن الظاهر منها السؤال عن حال القاضي ، لا كيفيّة المقضيّ ،

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٤٩ ح ٧٤٠ ، الوسائل ٧ : ٢٤٣ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٢٣ ح ١٥.

(٢) التهذيب ٤ : ٣٢٥ ح ١٠٠٧ ، الوسائل ٧ : ٢٤٢ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٢٣ ح ١١.

(٣) المسالك ٢ : ٦٣.

(٤) الحسين بن عثمان مشترك بين ثلاثة ثقات ، الأوّل : الحسين بن عثمان بن شريك بن عدي العامري : وثّقه النجاشي. الثاني : الحسين بن عثمان الأحمسي البجلي : وثّقه النجاشي. الثالث : الحسين بن عثمان بن زياد الرواسي : حكى الكشي توثيقه عن حمدويه. وعلّة تردد المحقق القمي أعلاه بين الثقات أو الثقتين لعله ما قد يقال من اتحاد الرواسي وابن شريك ، انظر تنقيح المقال ١ : ٣٣٥.

٤١٣

فلا يبقى اعتماد على الإطلاق ، ولا ترك الاستفصال عن التمكن وعدمه.

وأجاب في المختلف عن روايتي منصور ومحمّد بن مسلم بعد منع السند بحملهما على الاستحباب ، أو على الوجوب لكون السفر معصية (١) ، وهو بعيد.

ووجّه كلامه بعضهم : بأنّ مراده أنّ السفر في رمضان بدون ضرورة معصية ، وهو أيضاً ليس بتمام.

وربما يقال : إنّ السرّ في وجوب القضاء على المسافر خاصة هو تمكّنه من الأداء بترك السفر أو الإقامة ، وهو أبلغ من التمكّن من القضاء ، بخلاف المريض والحائض.

ويرد عليه : أنّ بعد رخصة الشارع في السفر لا يبقى فرق ، مع أنّه لا يتمّ في السفر الواجب.

فالأقوى فيه أيضاً التفصيل بالتمكّن وعدم التمكّن ، ولو كان فرض التمكّن بالإقامة. فالأولى حمل الأخبار المعارضة على الاستحباب ، وفي بيان المراد من التمكن إشكال ، فإطلاق كلام أكثرهم هو اشتراطه بالتمكّن من القضاء.

واعتبر الشهيد في اللمعة مراعاة تمكّنه من المقام والقضاء ، وزاد الشهيد الثاني في شرحه ولو بالإقامة في أثناء السفر (٢) ، وزاد الفاضل الأصفهاني في شرحه لفظ الأداء قبل القضاء.

فعبارات الثلاثة هذه : وفي القضاء عن المسافر خلاف ، أقربه مراعاة تمكنه من المقام والأداء أو القضاء ولو بالإقامة في أثناء السفر كالمريض.

أقول : ولا وجه لزيادة لفظ «الأداء» هنا ؛ إذ الكلام إنّما هو بعد ثبوت الفوت بالسفر كالمريض ، وما ذكره الشهيدان من أنّ السرّ في قول من يوجب القضاء على المسافر مطلقاً دون المريض تمكّن الأوّل من الأداء دون الأخير ؛ مع سلامته هو شي‌ء آخر

__________________

(١) المختلف ٣ : ٥٣٦.

(٢) الروضة البهيّة ٢ : ١٢٣.

٤١٤

لا دخل له فيما نحن فيه.

وأمّا ما اعتبراه من كفاية التمكن من المقام والقضاء المستلزم لانحصار عدم وجوب القضاء فيما لو كان السفر واجباً أو لم يتمكّن من الإقامة لخوفٍ أو ضررٍ فهو يدلّ على اعتبار التمكن بالقوة ، فلا يجعلان السفر المباح المجوّز فيه من الشارع عذراً ، وقد عرفت سابقاً أنّ السفر المستمرّ بين الرمضانين مسقط للقضاء عن المكلّف عند الشيخ في الخلاف (١) ، ولم يقيّده بالسفر الواجب ، والقول بسقوطه به عن نفس المكلّف ولزومه على الوليّ كما ترى.

والحاصل أنّ التشبيه بالمريض يقتضي أنّ الخلوّ من السفر يوجب القضاء لا التمكن من الخلوّ منه ، كما أنّ المعتبر الخلوّ من المرض.

فمعيار الكلام هنا جعل السفر المباح من الأعذار وعدمه ، والظاهر أنّه منها ، وإلا لما جاز استمرار السفر المباح إلى رمضان آخر ، ولم أقف على من أفتى به ، فمقتضى إطلاق الشيخ في الخلاف باطراد الأعذار يشمله.

وبالجملة وجوب القضاء على المتمكّن بوجوب موسّع ما بين الرمضانين مخصوص بغير من كان له عذر شرعيّ ، فيجوز التأخير مع العذر الشرعي ، ومقتضى اطراد الأعذار سقوط القضاء عمّن استمر سفره المباح ، فإذا سقط عن المكلّف فيسقط عن الوليّ.

فالحكم بوجوب قضاء الوليّ عنه مطلقاً حتى في السفر الضروري في غاية الإشكال.

وإن كان ولا بدّ فليقتصر على السفر المباح ، ولم نقف على مصرّح به عدا الشهيدين في اللمعة وشرحها (٢).

وأمّا اعتبار التمكن من الأداء فلا وجه له ، ومع ذلك كلّه فالأحوط قضاء ما فاته

__________________

(١) الخلاف ٢ : ٢٠٦ المسألة ٦٣.

(٢) انظر الروضة البهية : ١٢٤.

٤١٥

في السفر مطلقاً ، وقوفاً على ظاهر النصوص.

ومما يؤيد ما ذكرنا من كون السفر من الأعذار مطلقاً جواز إفطار أصل الشهر مع ضيق وقته ، بأن يسافر سفراً مباحاً ، فكيف لا يجوز استمرار السفر المباح في وقت القضاء وإن تضيّق.

ومما ذكرنا يظهر حكم الحائض ، وأنّه التفصيل بالتمكن وعدم التمكن كما دلّت عليه الأخبار والاعتبار (١).

المبحث الثاني : فيمن يجب عليه القضاء

فعن الأكثر أنّه الولد الذكر الأكبر لا غير ، فلو كان الولد الأكبر أُنثى أو انحصر فيها فيسقط القضاء.

وعن الصدوقين (٢) والمفيد (٣) وابن الجنيد (٤) أنّه يجب على مطلق الولي حتّى الزوجين ، والمعتق ، وضامن الجريرة ، بترتيب الطبقات وفي كلّ طبقة يقدّم الأكبر الذكر ، وإن لم يكن فالإناث.

وربّما يستشكل في فهم الترتيب من كلام المفيد ؛ لكنّ الظاهر أنّ مراده ذلك كما فهمه العلامة في المختلف والشهيد في الدروس (٥).

أقول : الوليّ عند الشيخ أكبر أولاده الذكور لا غير (٦).

وعن المفيد : لو فقد أكبر الولد فأكبر أهله من الذكور ، فإن فقدوا فالنساء (٧) ، وهو

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٢٤٠ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٢٣.

(٢) المقنع (الجوامع الفقهية) : ١٧ ، وحكاه عنهما في المختلف ٣ : ٥٣٢.

(٣) المقنعة : ٣٥٣.

(٤) حكاه عنه العلامة في المختلف ٣ : ٥٣٢.

(٥) المختلف ٣ : ٥٣١ ، الدروس ١ : ٢٨٩.

(٦) المبسوط ١ : ٢٨٦.

(٧) المقنعة : ٣٥٣.

٤١٦

ظاهر القدماء والأخبار (١) والمختار.

وعن ابن البراج : أنّه يجب على الولد الذكر الأكبر ، فإن لم يكن فالبنت الكبرى (٢) ومن هذا يظهر عدم التعدّي عن الأولاد.

والأظهر قول الأكثر ؛ لأصالة عدم تحمّل أحد فعل غيره ، كما ينبّه عليه قوله تعالى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٣) خرج عنه الولد الذكر الأكبر بالإجماع ، ولا ريب أنّه أولى بالميراث من النساء ، بل من الذكور أيضاً ؛ لاختصاصه بالحبوة ، ولخصوص صحيحة حفص بن البختري ، ومرسلة حماد المتقدّمتين.

وصحيحة الصفّار أيضاً تدلّ على اعتبار الأكبرية ، ولكن غاية ما يستفاد منها وجوبه على الرجل الأكبر ، وأما الاختصاص بالولد فلا يستفاد منها.

ويمكن أن يقال : إنّ القدماء القائلين بتعميم الوليّ للأولاد وغيرهم والرجال والنساء ؛ اعتمدوا على عموم الروايات وإطلاقها ؛ لأنّ الوليّ والأولى في كلّ طبقة موجود ، وصحيحة حفص بن البختري ومرسلة حماد تنفيان الوجوب عن النساء ، فيتعيّن قول الأكثر بعدم القول بالفصل ، لأنا لم نقف على من قال بوجوبه في كل طبقة على أكبر الرجال دون النساء ، فإن علمنا بإطلاق تلك الأخبار يلزم طرح هذين الخبرين ، ولا وجه له ، سيما وهما أخص مطلقاً من تلك ، والخاص مقدّم على العامّ ، سيّما إذا وافق الأصل والاعتبار ، ونفي العسر والحرج والإضرار ، وعمل أكثر العلماء الأخيار.

وربّما حملتا على نفي الوجوب على النساء في حال وجود الرجال ، وهو قريب (٤).

وكيف كان فلا ريب أنّ العمل بعموم الروايات أحوط.

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٢٤٠ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٢٣.

(٢) المهذب ١ : ١٩٥.

(٣) فاطر : ١٨.

(٤) في «ح» : وهو غريب.

٤١٧

ثمّ إنّ ههنا أُموراً لا بدّ أن ينبّه لها :

الأوّل : ذكر جماعة من العلماء ، منهم العلامة في التذكرة والمنتهى (١) ، والشهيد الثاني رحمه‌الله (٢) أنّ المراد بالولد الذكر الأكبر من لم يكن هناك أكبر منه وإن انحصر فيه كما في الحبوة ، ويدلّ عليه عموم لفظ الوليّ والأولى في الأخبار.

وأمّا صحيحة الصفار الدالّة على اعتبار الأكبرية ، فهي محمولة على حال التعدد ووجود الأصغر والأكبر.

نعم الإشكال في أن الوجوب هل مشروط بالبلوغ حين الموت ليمكن تعلّق التكليف به أم لا؟ فيه قولان ناظران إلى عدم تعلّق التكليف بغير البالغ العاقل فيستصحب ، وإلى عموم الروايات واستحقاق الحبوة.

ولعلّ الأرجح الثاني ؛ لأنّه ليس في الأخبار ما يدلّ على الوجوب عليه بمجرد موت مورّثه حتّى يستلزم البلوغ والكمال ، فيكون مراعى إلى حصول الكمال كافياً ، كما لو كان الوليّ البالغ غائباً ولم يطّلع على موت أبيه إلا بعد سنين.

واختلفوا فيما لو تعدّد الوليّ وكان أحدهما أكبر سنّاً ولم يبلغ ، والآخر أقلّ سناً وبلغ بالإنبات أو الاحتلام.

والأظهر اعتبار البلوغ ؛ لأنّه أولى بالميت في أكثر الأحكام ، مثل مباشرة التجهيز والإذن في الصلاة وسائر ما هو منوط بالمكلّفين.

ووجه القول الأخر : إطلاق لفظ الأكبر في صحيحة الصفار وغيرها ، وهو محمول على الغالب ، فلا حجّة فيه ، هذا إذا كان الأكبر غير بالغ.

وأمّا إذا كانا بالغين فلا إشكال في تقديم الأكبر سناً ؛ وكذا لو لم يكونا بالغين.

وأمّا في الحبوة فالأظهر تقديم الأكبر سنّاً ؛ للأخبار الكثيرة الحاكمة بكونها

__________________

(١) التذكرة ٦ : ١٧٥ المسألة ١١١ ، المنتهي ٢ : ٦٠٤.

(٢) المسالك ٢ : ٦٣.

٤١٨

للأكبر (١) ، وهو الظاهر في السنّ مع احتمال تساويهما مطلقاً ؛ لأنّ لكل منهما مرجّحاً ، واحتمال تقديم البالغ مطلقاً ، حملاً للأخبار على الغالب ، ولكن الأظهر ما ذكرنا.

الثاني : إذا تعدّد الأولياء وتساووا في السن ، فالمشهور التقسيط بينهم. وقال ابن البراج (٢) : إن لم يكن هناك إلا توأمان فلهما الخيرة ، فأيهما فعل أجزأ ، ولو تشاحّاً فالقرعة ، وقال ابن إدريس : سقط القضاء (٣).

فلنقدّم الكلام في فرض التساوي ، ثمّ نخوض في أدلّة الأقوال.

فنقول : إنّ فرض التساوي إما بأن يتولّد له ولدان في آنٍ واحد من امرأتين ، وهو ممكن ؛ لأنّ مدّة الحمل تختلف ، ولا يستلزم اتّحاد زمان التولد اتحاد زمان علوق النطفة حتى يقال باستحالة وطء امرأتين في ان واحد.

ويمكن الفرض بأن يتولّد التوأمان في ان واحد من دون تعاقب وإن بعد الفرض ، مع أنّه قد يتسامح في العرف في إطلاق الوحدة على التفاوت اليسير ، سيّما في التوأمين.

وإن لم نقل بالتسامح في صورة التعاقب ، ففي كون أوّلهما وروداً أكبر أو آخرهما وجهان ، أظهرهما الأوّل ؛ لفهم العرف ، فإنّهم يعتبرون الولادة والخروج عن الرحم.

ولذلك يقال للولد الذي تولّد بعد ستّة أشهر من العلوق قبل من تولّد بعد تسعة أشهر من العلوق بلمحة أنّ الأوّل أكبر ، مع أنّ علوق الثاني مقدّم عليه مما يقرب من ثلاثة أشهر ؛ لأن تولّد الثاني أسبق منه بهذا المقدار ، فلا عبرة بالعلوق.

نعم هنا رواية رواها الكليني والشيخ عنه في سند فيه عليّ بن أشيم المجهول عن بعض أصحابه ، قال : أصاب رجل غلامين في بطن وهنّاه أبو عبد الله عليه‌السلام ، قال : «أيّهما أكبر» قال : الذي خرج أوّلاً ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «الذي خرج آخراً هو أكبر ،

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٤٣٩ أبواب ميراث الأبوين والأولاد ب ٣.

(٢) المهذّب ١ : ١٩٦.

(٣) السرائر ١ : ٣٩٩.

٤١٩

أما تعلم أنّها حملت بذاك أولاً ، وأنّ هذا دخل على ذاك ، فلم يمكنه أن يخرج حتّى خرج هذا ، فالذي يخرج آخراً هو أكبرهما» (١).

ويشكل العمل بمثله ؛ لضعفه وإرساله ومخالفته للاعتبار والعرف والعادة ، مع أنّ العمل عليه يستلزم الحكم بأكبريّة الثاني وإن تولّد بعد أيام ، ولو فرض صحّة الحديث أيضاً فهو لا يقاوم ما دلّ على تقديم الأكبر ؛ إذ لفظ الأكبر في سائر الأخبار يرجع في معناه إلى العرف ، فهو أيضاً ترجيح للخبر على الخبر ، لا العرف على الخبر ، ليصير مورداً للمنع.

فالعمدة هنا بيان أنّه هل يعتبر الفصل اليسير في تحقّق الأكبرية ، أو يتسامح فيه فيشتركان فيه؟ وجهان ، لا يحضرني من كلام الأصحاب الان تصريح بحكمه ، إلا ما ذكره الشهيد الثاني رحمه‌الله في رسالته في مسألة الحبوة قال : ولو ولد التوأمان على التعاقب ففي اشتراكهما في الأكبر نظر ، من زيادة سن السابق على المسبوق ولو يسيراً ، فيصدق التفصيل ، ومن عدم الاعتداد بمثل ذلك عرفاً ، وهذا هو الأقوى بشاهد العرف ، على أنّ مثل هذا التفاوت لا يوثّر في التساوي ، ومثله ما لو ولدا من امرأتين في وقتين متقاربين ، إلا أنّ العرف قد يأبى هذا القسم في بعض الموارد ، وإن قبله في التوأمين.

ثمّ قال : فالمرجع في ذلك العرف ، فمن عدّهما متساويين في السن تشاركا فيها ، وإلا فلا ، وإن حصل الشك يستحق السابق ؛ لأنّه المتيقّن ، وكذا لو زاد على اثنين (٢) ، انتهى كلامه.

أقول : وفيما ذكره أخيراً نظر ؛ إذ المتيقّن إنما هو القدر المشترك بين الأكبرية محضاً وبين كونه نظير الأكبر كما لا يخفى ، فالمتيقّن استحقاقه للشطر ، فيرجع في الباقي إلى التخيير أو القرعة أو التقسيم ثانياً ، ولا يبعد الترجيح بمحض الأكبريّة للسابق مطلقاً.

__________________

(١) الكافي ٦ : ٥٣ ح ٨ ، التهذيب ٨ : ١١٤ ح ٣٩٥ ، الوسائل ١٥ : ٢١٣ أبواب أحكام الأولاد ب ٩٩ ح ١.

(٢) رسائل الشهيد الثاني : ٢٣٨.

٤٢٠