غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٥

الميرزا أبو القاسم القمّي

غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٥

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: مكتب الإعلام الإسلامي ، فرع خراسان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-590-3
الصفحات: ٤٧٢

الفقه كتاب الصوم

والأسباب الشرعية ؛ وإن كانت من الأحكام الشرعية الوضعية ، لكن الذي يكتفى فيها بالظن هو إثبات سببية السبب وشرطيّة الشرط ومانعيّة المانع ، لا وجود السبب وتحقّقه في الخارج ، ووجود المانع وتحقّقه ، ونحو ذلك.

والكلام في هذه المسألة إنما هو في ذلك ، فإنّ سببيّة الرؤية للصوم والفطر قد ثبتت من الشرع ، لكن حصولها في الخارج موضوع هذه المسألة.

فمسائل النكاح والوقف وغيرهما ، وإن كانت تثبت بالظنّ ، فيكتفى في سببية بعض أفراد النكاح مثلاً للزوجيّة والميراث بالظنّ الشرعي ، لكن لا يكتفى في تحققه في الخارج بكلّ ظنّ ، فلا بدّ من الدليل على حجيّة ما يثبت به النكاح مثلاً ، وقد ثبت أنّه يثبت بشهادة العدلين ، واختلف في الاستفاضة الظنية ، وهكذا.

وأما الدليل على الاكتفاء بالظنّ في الاستفاضة ، فربما يذكر مما يناسب المقام ما ذكره الفاضلان (١) وغيرهما (٢) : إنّا نقضي أنّ خديجة زوجها النبيّ ، كما نقضي بأنّها امّ فاطمة ، وليس ذلك من باب التواتر ؛ لأنّ شرطه استواء الطرفين والواسطة والطبقات الوسطى ، والمتصلة بنا وإن بلغت التواتر ، ولكن الأُولى غير متواترة ؛ لأنّ شرط التواتر الاستناد إلى الحس ، والظاهر أنّ المخبرين أوّلاً لم يخبروا عن مشاهدة العقد ، ولا عن إقرار النبيّ ، بل نقل الطبقات متّصل إلى الاستفاضة الّتي هي الطبقة الأُولى.

وردّه في المسالك : بأنّ الطبقة الأُولى السامعين للعقد المشاهدين للمتعاقدين بالغون حدّ التواتر وزيادة ؛ لأنّ النبيّ ، كان ذلك الوقت أعلى قريش ، وعمّه أبو طالب المتولّي لتزويجه كان يومئذ رئيس بني هاشم وشيخهم ، ومن إليه مرجع قريش ، وخديجة كانت من أجِلة بيوتات قريش ، والقصّة في تزويجها مشهورة ، وخطبة أبي طالب رضي‌الله‌عنه في المسجد الحرام بمجمع من قريش ممن يزيد عن

__________________

(١) الشرائع ٤ : ١٢٣ ، قواعد الأحكام (الطبعة الحجريّة) : ٢٣٩.

(٢) كالشيخ في الخلاف كتاب الشهادات مسألة ١٥.

٣٠١

العدد المعتنى في التواتر ، فدعوى معلوميّة عدم استناد الطبقة الأُولى إلى مشاهدة العقد وسماعه ظاهرة المنع ، وإنّما الظاهر كون ذلك معلوماً بالتواتر لاجتماع شرائطه ، فلا يتمّ الاستدلال به على المطلوب (١) ، انتهى.

أقول : ولا ينبغي الاستدلال بذلك على مطلق الاستفاضة الظنيّة ، بل هو إنّما يثبت الثبوت في النكاح ، ولا ينافي عدم الثبوت في غيره ، فإنّ القائلين باشتراط القطع فيها اكتفوا في النكاح ونظائره بالظنّ.

والأولى الاستدلال بالعلّة المنصوصة في قوله تعالى (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) (٢) الآية ، فإنّها تقتضي الاكتفاء بالظنّ الحاصل بمقدار الظنّ الحاصل من خبر العدل ، وأنّه خبر مما يؤمن معه إصابة قوم بجهالة وحصول الندامة ، فالعمل بقول الفاسق مع التثبّت المانع عن حصول الندامة جائز.

وبملاحظة تجويز العمل بخبر العدل معلّلاً بأنّه ليس فيه ندامة بحسب المفهوم ولا يفيد إلا الظنّ تظهر كفاية حصول الظن ، ولا ريب أنّ الاستفاضة نوع من التثبّت للخبر ، فإذا بلغ حدّ الأمن الحاصل من خبر العدل فيكتفى به.

وإن أبيت عن إطلاق التثبّت عليه فيكفي حصول العلّة الحاصلة من التثبت في هذا الخبر أيضاً.

وأما القدح بأنه يلزم منه جواز العمل بخبر عدل واحد ولم يقل به الأكثر ، وبخبر فاسق أو فاسقين أو نحوهما إذا حصل منه الظن الموجب للأمن المعهود ، وهو باطل اتفاقاً ، فهو مدفوع بأنها مخرجة بالدليل ، فكما أنّ القائل باشتراط القطع يخصص دليله بالمواضع المستثنيات من جهة دليل خارجي كالعسر والضرر وغير ذلك ، فيخصص القائل بكفاية الظنّ دليله بما لا يثبت به جزماً كالزنا والقتل وغيرهما.

وأمّا الدليل على اعتبار الظنّ المتاخم للعلم ، فهو ما أشعرت به عبارة المسالك

__________________

(١) المسالك (الطبعة لحجريّة) ٢ : ٤١٥.

(٢) الحجرات : ٦.

٣٠٢

السابقة من أنّه أقوى من الظنّ الحاصل من البينة ، فكان العمل به أولى ، مضافاً إلى أصالة عدم الثبوت ، وأصالة حرمة العمل بالظنّ.

وقد نوقش فيه : بأنّ الأولوية إنّما تصير حجّة لو ثبت أنّ علّة حجيّة البيّنة إنّما هي حصول الظنّ ، بل إنّما هي تعبّد محض ، مع أنّه لو سلّم ذلك فلا دليل على اعتبار المتاخمة للعلم ، بل يكفي كونه أقوى ، مع أنّه يلزم منه جواز العمل بقول فاسقين أو فاسق أو غيرهما إذا أفاد ظنا أقوى من العدلين ، وهو باطل اتفاقاً.

ويمكن دفعه : بأنّ الاتّفاق ونحوه مخصص له.

ويشعر باعتبار المتاخمة ما نفى اعتبار الخمسين في آخر صحيحة محمّد بن مسلم الاتية (١) ، ومثلها رواية أبي العباس (٢).

قال المحقق الأردبيلي رحمه‌الله (٣) : إنّ صحيحة العيص أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الهلال إذا رآه القوم جميعاً فاتفقوا أنه لليلتين ، أيجوز ذلك؟ قال : «نعم» (٤) يشعر باعتبار الظنّ المتاخم للعلم ، ومال إليه ووجّهه بأنّه دلّ ثبوت دخول الشهر من غير اشتراط العدالة في القوم وحصول العلم بخبرهم ، بل اكتفى برؤية القوم وقال : إنّ ظاهر نسبة الرؤية إلى القوم في العرف هو حصول الظنّ المتاخم للعلم ، وقال : إنّه ليس المراد تجويز كونه لليلتين ، بل المراد أنّه يجوز الاعتماد عليه في دخول الشهر.

إذا عرفت هذا فنرجع إلى الكلام في مسألة رؤية الهلال ، ونقول : إن بنينا على أصالة حرمة الاكتفاء بالظنّ فيمكن الخروج عنه في رؤية الهلال بمقتضى الإجماع المنقول في المعتبر والتحرير ، فإنّهما ادّعياه على مطلق لفظ الشياع الأعمّ من القطعي

__________________

(١) التهذيب ٤ : ١٥٦ ح ٤٣٣ ، الاستبصار ٢ : ٦٣ ح ٢٠٣ ، الوسائل ٧ : ٢٠٩ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ١١.

(٢) الفقيه ٢ : ٧٧ ح ٣٣٦ ، التهذيب ٤ : ١٥٦ ح ٤٣١ ، الاستبصار ٢ : ٦٣ ح ٢٠١ ، الوسائل ٧ : ٢١٠ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ١٢.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ٥ : ٢٨٧.

(٤) الفقيه ٢ : ٧٨ ح ٣٤٧ ، التهذيب ٤ : ١٥٧ ح ٤٣٧ ، الوسائل ٧ : ٢١٢ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١٢ ح ٥.

٣٠٣

والظنّي (١) ، وتؤيده الروايتان الآتيتان في اعتبار الخمسين.

وأمّا على القول بكفاية الظنّ فهو مندرج تحته ، ولا يبعد ترجيحه تمسّكاً بالعلّة المنصوصة في الآية ، مقتصراً على ما أفاد الأمن من الخطر.

وأمّا ما ورد في الأخبار من عدم جواز العمل بالتظنّي ، وأنّه لا يدخل الشك في اليقين ونحو ذلك (٢) ، فالظاهر أنّ المراد به المنع عن العمل بالظنّ بالأمارات النجومية والحسابية وغيرها.

وكذلك الأخبار المتواترة الدالّة على أنّ الصوم والفطر بالرؤية (٣) هو عدم جواز الاعتماد على الرأي والتخمين والظنون المذكورة ، لا أن يكون المراد رؤية نفس المكلّف ؛ للإجماع على عدم اشتراطه ، بل يلزم الاستناد إلى الرؤية أعم من رؤية نفسه ومن عدلين ومن الشياع ، وهو المستفاد من تتبع الأخبار.

نعم يظهر منها أنّه لا بد من عدم الاتهام وحصول الاطمئنان ، ففي صحيحة محمّد ابن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «إذا رأيتم الهلال فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، وليس بالرأي ولا بالتظنيّ ، ولكن بالرؤية ، قال : والرؤية ليس أن يقوم عشرة فينظروا فيقول واحد هو ذا هو وينظر تسعة فلا يرونه ، لكن إذا رآه واحد رآه عشرة وألف ، وإذا كانت علّة فأتم شعبان ثلاثين». وزاد حماد فيه : «وليس أن يقول رجل هو ذا هو» لا أعلم إلا قال : «ولا خمسون» (٤).

وفي رواية عبد الله بن بكير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «صم للرؤية ، وأفطر للرؤية ، وليس رؤية الهلال أن يجي‌ء الرجل والرجلان فيقولان : رأينا ، إنّما الرؤية أن يقول القائل رأيت ، فيقول القوم : صدقت» (٥) إلى غير ذلك من الأخبار (٦) ،

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٦٨٦ ، التحرير ١ : ٨٢.

(٢) الوسائل ٧ : ٢١٥ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١٥.

(٣) الوسائل ٧ : ١٨٢ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٣.

(٤) التهذيب ٤ : ١٥٦ ح ٤٣٣ ، الاستبصار ٢ : ٦٣ ح ٢٠٣ ، الوسائل ٧ : ٢٠٩ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ١١.

(٥) التهذيب ٤ : ١٦٤ ح ٤٦٤ ، الوسائل ٧ : ٢١٠ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ١٤.

(٦) الوسائل ٧ : ٢٠٧ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١.

٣٠٤

وسيجي‌ء بعضها.

ولعلّ نظر من يعتبر الظنّ المتاخم إلى ذلك ، فإنّ الأمن من الخطر إنّما يتحصّل منه ، وتؤيّده الأخبار الدالّة على متابعة أهل الأمصار في الصوم (١) ، وأنّه إذا كان في قرية خمسمائة من الناس فصم لصيامهم وأفطر لفطرهم ، سيّما بانضمام ما رواه أبو الجارود ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «صم حين يصوم الناس ، وأفطر حين يفطر الناس ، فإنّ الله عزوجل جعل الأهلّة مواقيت» (٢).

وسماعة ، عن الصادق عليه‌السلام : عن اليوم في شهر رمضان يختلف فيه؟ قال : «إذا اجتمع أهل مصر على صيامه للرؤية فاقضه إذا كان أهل المصر خمسمائة إنسان» (٣).

الرابع: شهادة العدل

وفيه خمسة أقوال نقلها في المهذب (٤).

الأوّل : قبول العدلين من خارج البلد ، وعدد القسامة منه مع العلّة ، ولا معها لا بدّ من القسامة من خارج ، وأولى منه إذا كانوا من البلد ، وهو مذهب القاضي (٥) والشيخ في النهاية (٦).

الثاني : قبول العدلين مع العلّة من البلد وخارجه ، والقسامة مع عدمها من البلد وخارجه ، وهو مذهب التقي (٧) والشيخ في المبسوط (٨).

الثالث : قبول العدلين من خارج أو مع العلّة ، وإلا فلا بدّ من القسامة ، وهو مذهب

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٢١١ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١٢.

(٢) التهذيب ٤ : ١٦٤ ح ٤٦٢ ، الوسائل ٧ : ٢١٢ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١٢ ح ٤.

(٣) الفقيه ٢ : ٧٧ ح ٣٣٩ ، الوسائل ٧ : ٢١٢ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١٢ ح ٦.

(٤) المهذّب البارع ٢ : ٥٤.

(٥) المهذّب ١ : ١٨٩.

(٦) النهاية : ١٥٠.

(٧) الكافي في الفقه : ١٨١.

(٨) المبسوط ١ : ٢٦٧.

٣٠٥

الصدوق في المقنع (١).

أقول : وهو المطابق لما نقل عن الشيخ في الخلاف (٢) ، ولكن الفاضل في شرح الروضة قال : إنّ مقتضى ما عنده من نسخ المقنع أنه مطابق للنهاية ، لا للخلاف ، ولكن العلامة وغيره نقلوه هكذا (٣).

الرابع : قبول العدلين كيف كان ، مع العلّة وعدمها من البلد وخارجه ، وهو مختار السيّد (٤) وابن الجنيد (٥) وابن إدريس (٦) والفاضلين (٧).

الخامس : قبول الواحد في هلال شهر رمضان دون غيره من الأهلّة ، احتياطاً للصوم ، وهو مذهب سلار (٨).

أقول : الأقوى القول الرابع ، وهو مذهب أكثر الأصحاب.

لنا : الأخبار الصحيحة المستفيضة جدّاً (٩) وغيرها لا حاجة إلى ذكرها.

ولنكتفِ بذكر صحيحة الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، أنّه قال : «صم للرؤية وأفطر للرؤية ، فإن شهد عندك شاهدان مرضيان بأنهما رأياه فاقضه» (١٠).

وصحيحته الأُخرى ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّ علياً عليه‌السلام كان يقول : لا أُجيز في الهلال إلا شهادة رجلين عدلين» (١١).

والحصر فيه إضافيّ بالنسبة إلى شهادة النساء ونحوها ، ففي صحيحة عبيد الله

__________________

(١) المقنع (الجوامع الفقهيّة) : ١٦.

(٢) الخلاف ٢ : ١٧٢.

(٣) انظر المقنع (الجوامع الفقهيّة) : ١٦ ، والنهاية : ١٥٠ ، والخلاف ٢ : ١٧٢ ، والمختلف ٣ : ٤٨٩.

(٤) جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى) ٣ : ٥٤.

(٥) نقله عنه في المختلف ٣ : ٤٨٨.

(٦) السرائر ١ : ٣٨٠.

(٧) المعتبر ٢ : ٦٨٦ ، المنتهي ٢ : ٥٨٩.

(٨) المراسم : ٩٦.

(٩) الوسائل ٧ : ٢٠٧ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١.

(١٠) التهذيب ٤ : ١٥٧ ح ٤٣٦ ، الاستبصار ٢ : ٦٣ ح ٢٠٥ ، الوسائل ٧ : ١٨٣ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٣ ح ٨.

(١١) الكافي ٤ : ٧٦ ح ٢ ، الفقيه ٢ : ٧٧ ح ٣٣٨ ، الوسائل ٧ : ٢٠٧ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ١.

٣٠٦

ابن علي الحلبي قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «لا تقبل شهادة النساء في رؤية الهلال ، إلا شهادة رجلين عدلين» (١) مضافاً إلى أن الأصل قبول شهادة العدلين إلا ما ثبت خلافه.

وأمّا دليل النهاية والصدوق على ما نقل الفاضل (٢) هو رواية حبيب الجماعي قال ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «لا يجوز الشهادة في رؤية الهلال دون خمسين رجلاً عدد القسامة ، وإنّما تجوز شهادة رجلين إذا كانا من أهل خارج المصر وكان بالمصر علّة ، فأخبرا أنهما رأياه ، وأخبرا عن قوم صاموا للرؤية» (٣).

وأمّا دليل المبسوط فهو الجمع بين ما دلّ على قبول العدلين مطلقاً (٤) ، ومثل صحيحة محمّد بن مسلم (٥) ، ورواية ابن بكير (٦) المتقدّمتين ، وما في معناهما (٧) ، مضافاً إلى رواية أبي أيوب الاتية (٨).

وأمّا دليل الخلاف وما نسبه العلامة وغيره إلى الصدوق فهو رواية أبي أيّوب الخزاز ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ، قلت له : كم يجزئ في رؤية الهلال؟ فقال : «إنّ شهر رمضان فريضة من فرائض الله ، فلا تؤدوا بالتظنّي ، وليس رؤية الهلال أن يقوم عدّة فيقول واحد : قد رأيته ويقول الآخرون : لم نره ، إذا رآه واحد رآه مائة ، وإذ رآه مائة رآه ألف ، ولا يجزئ في رؤية الهلال إذا لم يكن في السماء علّة أقلّ من شهادة خمسين ، وإذا كانت في السماء علّة قبلت شهادة رجلين يدخلان

__________________

(١) التهذيب ٤ : ١٨٠ ح ٤٩٨ ، الوسائل ٧ : ٢٠٨ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ٧.

(٢) المختلف ٣ : ٤٩٢.

(٣) التهذيب ٤ : ١٥٩ ح ٤٤٨ ، الاستبصار ٢ : ٧٤ ح ٢٢٧ ، الوسائل ٧ : ٢١٠ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ١٣.

(٤) الوسائل ٧ : ٢٠٧ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١.

(٥) التهذيب ٤ : ١٥٦ ح ٤٣٣ ، الاستبصار ٢ : ٢ : ٦٣ ح ٢٠٣ ، الوسائل ٧ : ٢٠٩ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ١١ ، إذا رأيتم الهلال فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، .. وإذا رآه واحد رآه عشرة وألف.

(٦) التهذيب ٤ : ١٦٤ ح ٤٦٤ ، الوسائل ٧ : ٢١٠ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ١٤.

(٧) الوسائل ٧ : ٢٠٧ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١.

(٨) التهذيب ٤ : ١٦٠ ح ٤٥١ ، الوسائل ٧ : ٢٠٩ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ١٠.

٣٠٧

ويخرجان من مصر» (١).

وظنّي أن هذا الخبر ألصق بمذهب المبسوط من مذهب الخلاف ، وتطبيقه على مذهب الخلاف في غاية الصعوبة ؛ إذ لا دلالة فيه على قبول العدلين من الخارج مع الصحو ، ولا قبولهما من الداخل مع العلّة صريحاً.

وأجاب المحقّق عن الروايتين : بأنّ اشتراط الخمسين لم يوجد في حكم سوى قسامة الدم ، ثمّ لا يفيد اليقين ، بل قوّة الظن ، وهو يحصل بشهادة العدلين (٢).

وبالجملة هو منافٍ لما عليه عمل المسلمين كافة ، فكان ساقطاً ، هذا.

مع أنّ حبيباً مجهول (٣) ، وفي سند رواية أبي أيّوب أيضاً كلام وإن لم يكن تماماً ؛ فلا تعارض بهما الأخبار الصحيحة المستفيضة جدّاً وغيرها من الخصوصات والعمومات المعمولة عند أكثر الأصحاب.

مع أنّ لهما محملاً سديداً ، وهو أنّ اعتبار الخمسين فيما توقّف الشياع المعتبر عليه لأجل التهمة ، كما يظهر من الروايات المتقدمة القائلة إذا رآه واحد رآه جماعة ، وفيما لم تثبت عدالتهم ولا عدالة اثنين منهم.

وأمّا دليل مذهب سلار ، فوجوه :

الأول : الاحتياط للصوم.

وفيه : أنّ الاحتياط إنّما هو إذا صام ندباً لا بنيّة رمضان ، فإنّه تشريع ، مع أنّه ربما يستلزم إفطار أخره ، وهو خلاف الاحتياط ، وإن احتاط في الأخر بزيادة يوم فصام أحداً وثلاثين فهو تشريع آخر.

والثاني : بأنّه يفيد الرجحان ، وتركه إلى المرجوح قبيح.

وفيه : منع الرجحان مع عدم ثبوت مشروعيته ، مع معارضته باستصحاب رجحان

__________________

(١) التهذيب ٤ : ١٦٠ ح ٤٥١ ، الوسائل ٧ : ٢٠٩ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ١٠.

(٢) المعتبر ٢ : ٦٨٦.

(٣) انظر معجم رجال الحديث رقم ٢٥٥٠ ، ٢٥٧٩ ، ٢٥٨٠.

٣٠٨

شعبان ، سيّما إذا ساواه المشهود له في قوّة البصر.

والثالث : ارتفاع التهمة بسبب أنّه أمر ديني يشترك فيه المخبِر والمخبَر ، فيجب قبوله كالرواية.

وفيه : منع ارتفاع التهمة مطلقاً أوّلاً ، وعدم استلزام ارتفاعها القبول ثانياً ، وبطلان القياس سيّما مع الفارق ثالثاً.

والرابع : الروايات ، فمنها : صحيحة محمّد بن قيس ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إذا رأيتم الهلال فأفطروا ، أو شهد عليه عدل من المسلمين ، وإن لم تروا الهلال إلا من وسط النهار أو أخره فأتموا الصيام إلى الليل ، وإن غمّ عليكم فعدّوا ثلاثين ليلة ثمّ أفطروا» (١).

وردّ : بأنّ الرواية بهذا اللفظ إنّما هو في المختلف (٢) ، والذي في الاصول «أو شهد عليه بيّنة عدل» وهذا لا يكفي لسلار.

أقول : ومنع ذلك لا يناسب وجودها في الاستبصار كذلك ، ولكن فيه أيضاً بطريق آخر «بيّنة عدل» (٣) وفي التهذيب أيضاً عدول من المسلمين (٤).

هذا مع أنّ لفظ العدل مصدر يطلق على الجمع كما ذكره جماعة (٥) ونقلوه عن أهل اللغة (٦) ، مضافاً إلى أنّ الرواية إنّما تدلّ على جواز الإفطار لا الصوم ، والظاهر أنّ سلار لا يقول به أصالة.

وأمّا القدح في السند باشتراك محمّد بن قيس (٧) فليس بذلك ؛ إذ الظاهر أنّه البجلي

__________________

(١) الفقيه ٢ : ٧٧ ح ٣٣٧ ، التهذيب ٤ : ١٥٨ ح ٤٤٠ ، الاستبصار ٢ : ٧٣ ح ٢٢٢ ، الوسائل ٧ : ١٩١ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٥ ح ١١.

(٢) أقول : الموجود في المصادر المطبوعة : أو شهد عليه عدل من المسلمين ، وانظر المختلف ٣ : ٤٩١.

(٣) الاستبصار ٢ : ٦٤ ح ٢٠٧ ، وفيه : بينة عدول من المسلمين.

(٤) التهذيب ٤ : ١٧٧ ، وفيه : وأشهدوا عليه عدولاً من المسلمين.

(٥) كالعلامة في المختلف ٣ : ٤٩١.

(٦) انظر العين ١ : ٣٨.

(٧) كما في المختلف ٣ : ٤٩١.

٣٠٩

الثقة صاحب كتاب القضايا الذي يروي عنه عاصم بن حميد ويوسف بن عقيل بقرينة رواية يوسف عنه هنا (١).

ومنها : رواية داود بن الحصين ، عن الصادق عليه‌السلام : «لا بأس في الصوم بشهادة النساء ولو امرأة واحدة» (٢).

وهي مع سلامة سندها مخالفة للإجماع ظاهراً على عدم قبول شهادة النساء منفردات ومنضمّات ، كما ادّعاه المرتضى (٣) وابن زهرة (٤) وصاحب المدارك (٥) ، والأخبار النافية لقبول شهادتهن (٦).

ومنها : رواية يونس بن يعقوب ، عنه عليه‌السلام قال ، وقال له غلام وهو معتب : إنّي قد رأيت الهلال ، قال : «اذهب فأعلمهم» (٧).

وفيه : مع سلامة السند منع الدلالة ، إذ لعلّه لأجل أن يضمّ إليه آخر لو وجد ، أو لأجل تواعي القوم فيروا معه.

ومنها : ما رواه العامة عن ابن عباس : أنّ أعرابياً جاء إلى النبيّ قال : إنّي رأيت الهلال يعني رمضان ، قال : «تشهد أن لا إله إلا الله؟» قال : نعم ، قال : «تشهد أنّ محمّداً رسول الله» قال : نعم ، قال : «يا بلال أذّن في الناس فليصوموا غداً» (٨).

ورواية ابن عمر قال : يتراءى الناس الهلال ، فأخبرت رسول اللهُ إنّي رأيته فصام وأمر الناس بصيامه (٩).

__________________

(١) انظر معجم رجال الحديث الترجمة ١١٦٢٢.

(٢) التهذيب ٦ : ٢٦٩ ح ٧٢٦ ، الاستبصار ٣ : ٣٠ ح ٩٨ ، الوسائل ٧ : ٢١١ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ١٥.

(٣) جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى) ٣ : ٥٤.

(٤) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٥٦٩.

(٥) المدارك ٦ : ١٧٥.

(٦) الوسائل ٧ : ٢٠٧ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١.

(٧) التهذيب ٤ : ١٦١ ح ٤٥٣ ، الوسائل ٧ : ١٩٢ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٥ ح ١٥.

(٨) سنن أبي داود ٢ : ٣٠٢ ح ٢٣٤٠ ، سنن الترمذي ٣ : ٧٤ ح ٦٩١ ، سنن النسائي ٤ : ١٣٢ ، سنن الدارمي ٢ : ٥ ، المستدرك للحاكم ١ : ٤٢٤ ، سنن البيهقي ٤ : ٢١١.

(٩) سنن أبي داود ٢ : ٣٠٢ ح ٢٣٤٢.

٣١٠

وفيهما : مع ضعفهما أنّه لعلّه رآه غيرهما أيضاً ، فالصيام والأمر به إنّما كانا لذلك.

وهذه الأدلّة مع ضعفها كما عرفت لا تعارض بها أدلّة المختار مع كثرتها واعتبارها وشهرتها واعتضادها بالأصل والاستصحاب ، وهجر هذه عندهم وشذوذها ، بل مخالفتها للإجماع كما ادّعاه في المسالك (١) ، ونقل عن الشيخ في الخلاف (٢).

ثمّ إنّ سلار إنّما يجيز قبول الواحد في هلال رمضان لأجل الصوم خاصة (٣) ، فلا يثبت لو كان منتهى أجل دين أو عدّة أو نحو ذلك.

وأما ثبوت هلال شوال بمضيّ ثلاثين يوماً منه ، فإنما هو ثبوت بالتبع لا بالأصالة ، وذلك لأنا لو لم نحكم بالتبعية للزم وجوب صوم أحد وثلاثين يوماً ، لأجل صوم رمضان لو غمّ آخر الشهر.

ويتمّ المقام بذكر أُمور :

الأوّل : قالوا : لا يتوقّف جواز الإفطار بالشاهدين على حكم الحاكم ولا نعرف فيه خلافاً ، وكذا لو ردّ الحاكم شهادتهما لجهله بحالهما كما صرّح به في التذكرة (٤) ، وهو مقتضى الأخبار الصحيحة وغيرها الناطقة بأنّهما ، إذا شهدا عندك فاقضه ونحو ذلك (٥).

الثاني : لا بدّ من موافقتهما في الشهادة فلو اختلفا في وصف الهلال بالانحراف والاستقامة والعظم والصغر ، وكونه جنوبياً أو شمالياً ، فلا يسمع ، بخلاف ما لو اختلفا في زمانها في الليلة الواحدة ، بأن يراه أحدهما عند الغروب مثلاً والآخر بعد صلاة المغرب.

وفيما لو شهد أحدهما برؤية هلال شعبان ليلة الجمعة ، والآخر برؤية هلال رمضان

__________________

(١) المسالك ٢ : ٥٢.

(٢) الخلاف ٢ : ١٧٢.

(٣) المراسم : ٩٦.

(٤) التذكرة ٦ : ١٣٥.

(٥) الوسائل ٧ : ٢٠٧ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١.

٣١١

ليلة الأحد وجهان ، من اتفاقهما في المعنى ، ومن مخالفة كلّ للاخر في شهادته.

ولعل الثاني أوجه ؛ للأصل ، وعدم انصراف الأدلّة ، إلى مثله ، ولأنّ في اجتماعهما في مورد الشهادة مدخليّة تامّة في الظنّ بالصدق يمكن كونه حكمة في القبول.

الثالث : قال في المدارك : لو استند الشاهدان إلى الشياع المفيد للعلم وجب القبول قطعاً (١).

أقول : وما ذكره العلماء في كتاب الشهادة في مسألة جواز بناء الشهادة على الاستفاضة واقتصارهم في ذلك على مواضع مخصوصة يفيد اكتفاؤهم بالظنّ أيضاً ، فإن ظاهر من خصّ بتلك الأُمور هو أنه لا يثبت عنده شي‌ء بالاستفاضة الظنية إلا هذه الأُمور ، كما هو مقتضى الاستثناء.

ثمّ إنّ كلامهم هذا مع اشتراطهم الحسّ في الشهادة وعدم اكتفائهم بالعلم الحاصل من غير الحسّ إما مبني على أنّ المراد بالحسّ أعم مما كان مبدأ للعلم الحاصل للشاهد وإن كان بانضمام القرائن ، وإلا فالعلم هنا لم يحصل من الحسّ أوّلاً وبالذات ، وإمّا مبني على تخصيص قاعدتهم بما ذكر.

وعلى اعتبار الحسّ في الشهادة ؛ فلا تقبل شهادة من شهد بأنّ اليوم أوّل رمضان أو أوّل شوال ؛ لأنّه مسألة اجتهادية تختلف باختلاف الآراء والأسباب ، بخلاف الرؤية ، اللهم إلا إذا علم اتفاق الشاهد والمشهود له في السبب كما في الجرح والتعديل ، فيلزم الاستفصال إذا جهل الحال.

الرابع : قال في المسالك : ولو شهد الشاهدان على مثلهما أو على الشياع قبل أيضاً (٢) ومال إليه في المدارك (٣).

__________________

(١) المدارك ٦ : ١٧٠.

(٢) المسالك ٢ : ٥١.

(٣) المدارك ٦ : ١٧٠.

٣١٢

ولكن العلامة قال في التذكرة : لا يثبت الهلال بالشهادة على الشهادة عند علمائنا ؛ لأصالة البراءة ، واختصاص ورود القبول بالأموال وحقوق الآدميين ، وللشافعية طريقان ، إلى آخر ما ذكره (١) ، وظاهره الإجماع ، ولعلّه الأقوى.

الخامس : هل يكفي قول الحاكم في ثبوت الهلال أم لا؟

قال في المدارك : فيه وجهان ، أحدهما : نعم ، وهو خيرة الدروس (٢) ؛ لعموم ما دلّ على أنّ الحاكم يحكم بعلمه (٣) ، ولأنه لو قامت عنده البيّنة فحكم بذلك ، وجب الرجوع إلى حكمه كغيره من الأحكام ، والعلم أقوى من البينة ، ولأن المرجع في الاكتفاء بشهادة العدلين وما تتحقّق به العدالة إلى قوله ، فيكون مقبولاً في جميع الموارد.

ويحتمل العدم ؛ لإطلاق قوله عليه‌السلام : «لا أُجيز في رؤية الهلال إلا شهادة رجلين عدلين» (٤). (٥)

أقول : وما ذكره في التعليل لمختار الدروس إنّما يناسب كلامه الأخر بعد ذلك ، قال : ولو قال : اليوم الصوم أو الفطر ففي وجوب استفساره على السامع ثلاثة أوجه ، ثالثها إن كان السامع مجتهداً (٦) ، انتهى.

وحاصل المقام : أنّ مرجع المسألة الاولى إلى قبول شهادة الحاكم وحده في ثبوت الهلال ، والأظهر فيها عدم القبول ؛ لأنّها شهادة وليست بحكم.

ومرجع المسألة الثانية إلى حكم الحاكم بثبوت أوّل الشهر ، وأنّه يوم الفطر أو الصوم ، والأوجه فيه القبول لرعيّته ، دون مجتهد آخر أو مقلّد مجتهد آخر ، إلا مع

__________________

(١) التذكرة ٦ : ١٣٥.

(٢) الدروس ١ : ٢٨٦.

(٣) الوسائل ١٨ : ٢٠٠ أبواب كيفيّة الحكم ب ١٨.

(٤) الكافي ٤ : ٧٦ ح ٢ ، الفقيه ٢ : ٧٧ ح ٣٣٨ ، الوسائل ٧ : ٢٠٧ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ١.

(٥) انتهى كلام المدارك ٦ : ١٧٠.

(٦) الدروس ١ : ٢٨٦.

٣١٣

الاستفسار والرجوع إلى مقتضاه.

ويمكن أن يوجّه كلامهما في المسألة الاولى بتضمّنها للحكم ، فإن مراد الحاكم من شهادته بالهلال «أنّي أحكم بأنّ اليوم أوّل الشهر بسبب رؤيتي للهلال» فهو حكم مستند إلى علمه مع بيان سبب العلم ، والمراد في المسألة الثانية حكمه بكون اليوم يوم الصوم من دون ذكر سبب العلم ، فيجري (تعليل) (١) المدارك في الأوّل أيضاً.

ويشكل ذلك أيضاً بما عرّفوا الحكم بأنه إلزام خاص أو إطلاق خاص في واقعة خاصّة متعلقة بأمر المعاش فيما تقع فيه الخصومة بين العباد ، مطابقة لحكم الله تعالى في نظر المجتهد في هذه الواقعة وغيرها مما يندرج تحت كلّي ، كما ذكره الشهيد في القواعد (٢) ، فإنّه من أُمور المعاد لا المعاش ، وليس فيه رفع خصومة غالباً.

ويمكن توجيهه : بأن يراد بأمر المعاش ما لا اختصاص له بالشارع وإن كان من موضوعات حكمه ، فيرجع إلى أنه هل تحققت الرؤية أم لا ، وهل تمّ عدد الشهر أم لا ، ولا مدخل له في الحكم الشرعي ، وإن كان يرجع إليه باعتبار قطع النزاع ويتضمّن أنّ الشارع حكم بأن يحكم الحاكم أنّ هذا اليوم يوم الفطر.

ومن فروع كونه من الحكم : ثبوت حلول الآجال فيما تنازع فيه الخصمان في مثل البيع المشروط فيه الخيار إلى أوّل الشهر الفلاني ، الذي يترتّب عليه اللزوم بانتفاء الشرط في أوّل الشهر ، ثمّ وقع بينهما النزاع في اليوم الخاص أنه أوّل الشهر أم لا ، فيكفي في ذلك الحكم بأنه أوّل الشهر ، فيترتب عليه اللزوم وعدمه ، ولا يحتاج إلى الحكم باللزوم وعدم اللزوم ، فالحكم بأنه أوّل الشهر حكم ، وحكمه باللزوم أو عدمه حكم آخر.

فالمناص في تعميم الحكم لذلك هو ضمّ قصد الحاكم بحكمه رفع ما عسى أن يتصوّر من الخصومة والمخالفة أيضاً وإن لم يكن بالفعل هناك خصومة.

__________________

(١) في «م» : سبب.

(٢) القواعد والفوائد ١ : ٣٢٠.

٣١٤

الخامس: الجدول

وهو حساب مخصوص مأخوذ من سير القمر واجتماعه مع الشمس ، ومرجعه إلى عدّ شهر تاماً وشهر ناقصاً ، إلى تمام السنة ، فيجعل محرم تاماً وصفر ناقصاً وهكذا إلى آخر السنة كما يفعله المنجّمون ، أو يجعل رمضان تاماً وشوال ناقصاً وهكذا ؛ لما ورد في الأخبار أنّه أوّل السنة (١).

وكيف كان فهو يتضمّن كون رمضان تاماً أبداً وشعبان ناقصاً.

قال في المسالك : وهذا الحساب قريب من كلام أهل التقويم ، فإنّهم يجعلون الأشهر كذلك في غير السنة الكبيسية ، وفيها يجعلون ذا الحجّة تاماً بعد أن كان تسعة وعشرين في غيرها (٢).

أقول : وتوضيحه على ما ذكره بعض الأصحاب أنّهم لمّا اعتبروا في الشهر اجتماع النيّرين في درجة واحدة من تلك البروج إلى اجتماع آخر ، وكان ما بين الاجتماعين تسعة وعشرين يوماً واثنتي عشرة ساعة وأربعاً وأربعين دقيقة ، وكان الكسر زائداً على نصف اليوم ، جعلوا الشهر الأوّل ثلاثين يوماً ؛ لأنّ الكسر يقوم عندهم مقام الواحد إذا زاد على النصف.

ثمّ جعلوا الشهر الثاني تسعة وعشرين جبراً لنقصان الشهر الأوّل ، فصارت الشهور الأوتار كلّها ثلاثين ثلاثين ، والأشفاع كلّها تسعة وعشرين تسعة وعشرين ، حتى إذا كملت السنة ، اجتمع من الكسر الزائد على نصف اليوم الذي أهملوه من كلّ شهر وهو أربع وأربعون دقيقة ثمان ساعات وثمان وأربعون دقيقة ، وهو خمس يوم وسدسه ، فاجتمع في كلّ ثلاثين سنة أحد عشر يوماً ، وكبسوها أي أدرجوها في إحدى عشر سنة من كلّ ثلاثين سنة : هي الثانية ، والخامسة ، والسابعة ، والعاشرة ، والثالثة

__________________

(١) أوردها ابن طاوس في الإقبال : ٤.

(٢) المسالك ٢ : ٥٣.

٣١٥

عشرة ، والخامسة عشرة ، والسادسة عشرة ، والثامنة عشرة ، والحادية والعشرون ، والرابعة والعشرون ، والسادسة والعشرون ، والتاسعة والعشرون ؛ فسمّوها لذلك السنين الكبيسة ، وجعلوا ذا الحجة في كلّ منها ثلاثين يوماً ، فتوالت فيها ثلاثة أشهر ، كلّ منها ثلاثون يوماً.

أقول : ولا فرق بين السنين الكبيسة وغيرها في أنّ رمضان تامّ وشعبان ناقص ، ويظهر من جماعة من الأصحاب أنه لا خلاف بينهم في عدم اعتبار الجداول (١).

نعم نسبه الشيخ في الخلاف إلى شاذّ منّا (٢).

وكلام ابن زهرة في الغنية أيضاً مشعر بأنّ فيهم من يعتبره ، قال : وعلامة دخوله أي الشهر رؤية الهلال ، وبها يعلم انقضاؤه ، بدليل إجماع الأُمة بأسرها من الشيعة وغيرها على ذلك ، وعملهم به في زمن النبي وما بعده إلى أن حدث خلاف قوم من أصحابنا فاعتبروا العدد دون الرؤية (٣) ، وتركوا ظواهر القرآن والمتواتر من روايات أصحابنا ، وعوّلوا على ما لا يجوز الاعتماد عليه من أخبار آحاد شاذّة ، ومن الجدول الذي وضعه عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ونسبه إلى الصادق عليه‌السلام ، والخلاف الحادث لا يوثّر في دلالة الإجماع السابق ، وكما لا يؤثر حدوث خلاف الخوارج في رجم الزاني المحصن في دلالة الإجماع على ذلك ، فكذلك حدوث خلاف هؤلاء ، وهذا عبد الله بن معاوية مقدوح في عدالته بما هو مشهور من سوء طريقته ، مطعون في جدوله بما تضمنه من قبيح مناقضته ، ولو سلم من ذلك كله لكان واحداً لا يجوز في الشرع العمل بروايته (٤) ، انتهى.

وكيف كان فلا ريب في بطلانه وعدم جواز الاعتماد عليه ؛ لمخالفته للشرع ، لقوله

__________________

(١) الخلاف ٢ : ١٦٩ مسألة ٨.

(٢) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٥٦٩.

(٣) منهم الصدوق في الفقيه ٢ : ١١١ ، وقد ألّف المفيد رسالة في ردّ القائلين بالعدد وإبطال أخبارهم.

(٤) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٥٦٩.

٣١٦

تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ) (١).

وقوله عليه‌السلام : «من صدّق كاهناً أو منجّماً فهو كافر بما نزل على محمّدُ» (٢) والأخبار المتواترة الدالّة على توقيت الصيام والفطر بالرؤية لا حاجة إلى ذكرها (٣).

وكذلك ما يدلّ على عدّ شعبان ثلاثين إذا غمّ الشهر ، والأخبار الناصّة على كون رمضان تسعة وعشرين ، وهي أيضاً كثيرة (٤) ، إلى غير ذلك من الأخبار.

مع أنّ أهل التقويم لا يثبتون أوّل الشهر بمعنى جواز الرؤية ، بل بمعنى تأخّر القمر عن محاذاة الشمس ، ليرتّبوا عليه مطالبهم من حركات الكواكب وغيرها ، ويعترفون بأنه قد لا تمكن رؤيته ، بل يقولون : إنّ الأغلب عدم إمكان رؤيته تلك الليلة ، وقد لا يمكن في الثانية أيضاً ، ويتّفق نادراً أن لا تمكن في الثالثة أيضاً ، والشارع علّق الأحكام الشرعيّة على الرؤية ، لأعلى التأخير المذكور ، هكذا قاله في المسالك (٥).

السادس: العدد

المشهور في تفسيره : عدّ شعبان ناقصاً أبداً ، وشهر رمضان تامّاً أبداً. وقد يطلق على ما ذكرناه في تفسير الجدول وعلى ما سيجي‌ء من عدّ خمسة من هلال السنة الماضية وغيره أيضاً.

والمشهور عدم اعتباره ، بل ادّعى عليه الإجماع في المسائل الناصرّية ، قال : وإليه يذهب جميع أصحابنا ، وهو مذهب جميع الفقهاء من أهل السنة (٦) وهو الظاهر من كلام ابن زهرة المتقدّم ذكره (٧).

__________________

(١) البقرة : ١٨٩.

(٢) المعتبر ٢ : ٦٨٨ ، الوسائل ٧ : ٢١٥ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١٥ ح ٢ ، عوالي اللآلي ٣ : ١٤٠ ح ٣٠.

(٣) الوسائل ٧ : ١٨٩ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٥.

(٤) الوسائل ٧ : ١٨٩ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٥.

(٥) المسالك ٢ : ٥٤.

(٦) المسائل الناصريّة (الجوامع الفقهيّة) : ٢٠٦.

(٧) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٥٦٩.

٣١٧

والقول به نقله في المعتبر عن قوم من الحشويّة (١) ، والمرتضى عن شذّاذ من أصحابنا لا اعتبار بقولهم (٢).

وهو مذهب الصدوق ، فإنّه قال في الفقيه بعد ذكر الأخبار الدالّة على أنّ رمضان تامّ أبداً وشعبان لا يتم أبداً : من خالف هذه الأخبار وذهب إلى الأخبار الموافقة للعامة في ضدّها اتّقي كما تتّقي العامة ، ولا يكلّم إلا بالتقية كائناً من كان ، إلا أن يكون مسترشداً فيرشد ويبيّن له ، فإنّ البدعة إنّما تُماث وتبطل بترك ذكرها ، ولا قوة إلا بالله (٣).

وقال في الخصال : مذهب خواصّ الشيعة وأهل الاستبصار منهم في شهر رمضان أنه لا ينقص عن ثلاثين يوماً أبداً ، والأخبار في ذلك موافقة للكتاب ومخالفة للعامة ، فمن ذهب من ضعفة الشيعة إلى الأخبار التي وردت للتقية في أنه ينقص ويصيبه ما يصيب الشهور من النقصان والتمام اتّقي كما تتقي العامة ، ولم يكلّم إلا بما يكلّم به العامة ، ولا قوة إلا بالله (٤).

لنا : أنّ لفظ شهر رمضان الذي ورد في القرآن والسنة يرجع في معناه إلى العرف ، والمعروف في معناه ما كان محدوداً بالرؤية في أوّله واخره ، ولا عبرة عند أهل (العلم) (٥) بما يعتبره المنجّمون من التأخّر عن محاذاة الشمس وغيره.

ويدلّ عليه أيضاً : أنّ الأهلّة مواقيت للناس والحجّ والطريقة المستمرّة من زمان الشارع إلى الان بكمال الاعتناء في الاستهلال ، ولو كان يكفي محض العدد لما احتاجوا إلى ذلك ، والاستصحاب في خصوص شعبان ، والأخبار المتواترة الدالّة على أنّ الصوم للرؤية والفطر للرؤية (٦) ، وخصوص ما ورد في شهر رمضان وشعبان

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٦٨٨.

(٢) المسائل الناصرية (الجوامع الفقهيّة) : ٢٠٦.

(٣) الفقيه ٢ : ١١١.

(٤) الخصال : ٥٣٠.

(٥) في «م» ونسخة في «ح» : العرف.

(٦) الوسائل ٧ : ١٨٩ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٥.

٣١٨

وهي كثيرة جدّاً نكتفي بذكر بعضها.

وهي صحيحة حمّاد بن عثمان ، عن الصادق عليه‌السلام ، أنه قال في شهر رمضان : «هو شهر من الشهور يصيبه ما يصيب الشهور من النقصان» (١).

وصحيحة الحلبي عنه عليه‌السلام في حديث قال ، قلت : أرأيت إن كان الشهر تسعة وعشرين يوماً أقضي ذلك اليوم؟ فقال : «لا ، إلا أن يشهد لك بيّنة عدول ، فإن شهدوا أنهم رأوا الهلال قبل ذلك اليوم فاقض ذلك اليوم» (٢).

وصحيحة محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث قال : «وإذا كانت علّة فأتمّ شعبان ثلاثين» (٣) إلى غير ذلك من الأخبار ، وقد مرّت صحيحة هشام بن الحكم في مسألة رؤية الهلال في البلدان المتقاربة (٤).

احتجّ الصدوق بما رواه ، عن حذيفة بن منصور ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «شهر رمضان ثلاثون يوماً لا ينقص أبداً» (٥) ، قال : وفي رواية حذيفة بن منصور عن معاذ بن كثير ويقال له : معاذ بن مسلم الهواء عنه عليه‌السلام ، قال : «شهر رمضان ثلاثون يوماً لا ينقص والله أبداً» (٦).

وفي رواية محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، عن محمّد بن يعقوب ، عن شعيب وفي نسخة عن محمّد بن يعقوب بن شعيب عن أبيه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ، قلت : إنّ الناس يروون أنّ رسول اللهُ ما صام من شهر رمضان تسعة وعشرين يوماً أكثر مما صام ثلاثين ، قال : «كذبوا ، ما صام رسول اللهُ إلا تاماً ، ولا تكون الفرائض ناقصة ، إن الله تبارك وتعالى خلق السنة ثلاثمائة وستين يوماً ، وخلق السماوات

__________________

(١) التهذيب ٤ : ١٦٠ ح ٤٥٢ ، الوسائل ٧ : ١٩٠ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٥ ح ٣.

(٢) التهذيب ٤ : ١٦١ ح ٤٥٥ ، الوسائل ٧ : ١٩٣ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٥ ح ١٧ ، وفيهما : بذلك ، بدل لك.

(٣) التهذيب ٤ : ١٥٦ ح ٤٣٣ ، الاستبصار ٢ : ٦٣ ح ٢٠٣ ، الوسائل ٧ : ١٩٠ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٥ ح ٥.

(٤) التهذيب ٤ : ١٥٨ ح ٤٤٣ ، الوسائل ٧ : ١٩٢ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٥ ح ١٣.

(٥) الفقيه ٢ : ١١٠ ح ٤٧٠ ، الوسائل ٧ : ١٩٥ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٥ ح ٢٦.

(٦) الفقيه ٢ : ١١٠ ح ٤٧١ ، الوسائل ٧ : ١٩٥ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٥ ح ٢٧.

٣١٩

والأرض في ستة أيام ، فحجزها من ثلاثمائة وستين يوماً ، فالسنة ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوماً ، وشهر رمضان ثلاثون يوماً ؛ لقول الله عزوجل (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) (١) والكامل تام ، وشوال تسعة وعشرون يوماً ، وذو القعدة ثلاثون يوماً ؛ لقول الله عزوجل (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) (٢) والشهر هكذا ثمّ هكذا ، أي شهر تام وشهر ناقص ، وشهر رمضان لا ينقص أبداً ، وشعبان لا يتمّ أبداً» (٣).

وسأل أبو بصير أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) قال : «ثلاثين يوماً» (٤).

وعن ياسر الخادم قال ، قلت للرضا عليه‌السلام : هل يكون شهر رمضان تسعة وعشرين يوماً؟ فقال : «إنّ شهر رمضان لا ينقص عن ثلاثين أبداً» (٥).

هذا ما ذكره في الفقيه من الأخبار ، وفي معناها روايات أُخر مذكورة في التهذيب والكافي والخصال ومعاني الأخبار (٦) ، وكثير منها يرجع إلى حذيفة بن منصور.

قال الشيخ (٧) : إنّ هذا الخبر شاذّ لا يوجد في شي‌ء من الأُصول ، ولا في كتاب حذيفة ، وهو مختلف الألفاظ مضطرب المعاني ؛ لأنه تارة يرويه عن الصادق عليه‌السلام ، وتارة يفتيه من قبل نفسه ، وتارة يرويه عن الإمام بواسطة ، وتارة بلا واسطة ، فلا يعارض به المتواتر من الأخبار ، والقران العزيز ، وعمل جميع المسلمين.

وذكر لها توجيهات :

منها : أنّ من تلك الأخبار ما يدلّ على نفي كون صوم الرسولُ تسعة وعشرين

__________________

(١) البقرة : ١٨٥.

(٢) الأعراف : ١٤٢.

(٣) الفقيه ٢ : ١١٠ ح ٤٧٢ ، التهذيب ٤ : ١٧١ ح ٤٨٤ ، الاستبصار ٢ : ٦٨ ح ٢١٧ ، معاني الأخبار : ٣٨٢ ح ١٤ ، الوسائل ٧ : ١٩٦ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٥ ح ٣٣.

(٤) الفقيه ٢ : ١١١ ح ٤٧٣ ، الخصال : ٥٣١ ح ٧ ، الوسائل ٧ : ١٩٧ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٥ ح ٣٥.

(٥) الفقيه ٢ : ١١١ ح ٤٧٤ ، الخصال : ٥٣٠ ح ٥ ، الوسائل ٧ : ١٩٧ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٥ ح ٣٦.

(٦) التهذيب ٤ : ١٦٨ ، الكافي ٤ : ٧٩ ، الخصال : ٥٢٩ ، معاني الأخبار : ٣٨٢.

(٧) التهذيب ٤ : ١٦٩.

٣٢٠