غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٥

الميرزا أبو القاسم القمّي

غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٥

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: مكتب الإعلام الإسلامي ، فرع خراسان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-590-3
الصفحات: ٤٧٢

الفقه كتاب الصوم

مع الإمكان ، كما اختاره الفاضلان (١) والشهيدان (٢) ، لأنّه أمر لا يعرف غالباً إلا من قبله.

ثمّ اختلفوا في تحليفه ، فذكر العلامة (٣) وغيره (٤) أنّه لا يحلف ، وإلا دار ؛ لأنّ صحّة اليمين مشروطة بكون الحالف بالغاً ؛ لرفع القلم عن الصبيّ ، فيتوقّف على الحكم بالبلوغ ، ولو توقّف الحكم البلوغ على اليمين لزم الدور.

وما ذكره الشهيد رحمه‌الله في الدروس في دفعه «بأنّ اليمين موقوفة على إمكان البلوغ ، والموقوف على اليمين هو البلوغ فتتغاير الجهة» (٥) فهو مدفوع بمنع كفاية إمكان البلوغ في اليمين.

أقول : ويمكن أن يكون نظره رحمه‌الله إلى صورة الدعوى ووجود المزاحم ، فحينئذٍ معنى قبول قوله أنّه يصير من قبيل المنكر ، وكلّما يقال في المنكر «القول قوله» فالمراد مع اليمين ؛ لعموم قوله عليه‌السلام : «البيّنة على المدّعى ، واليمين على المدّعى عليه» إذ من المواضع التي يجعل أحد المتداعيين منكراً هو ما كان الفعل فعله ، وكان مما لا يطّلع عليه غيره غالباً.

فالأولى منع قبول قوله لما دلّ على رفع القلم عن الصبي حتّى يبلغ ، وعدم كفاية الإمكان والاحتمال ، وبعد قبول قوله فالأظهر الاحتياج إلى اليمين.

وكذلك الكلام في دعوى الصبية الحيض مع الإمكان على الوجه الذي حقّقناه سابقاً من اعتبار ذلك في مجهوله السن ، لئلا يلزم الدور.

والكلام في التحليف أيضاً كما تقدّم ، والوجه عدم القبول ؛ لعموم رفع القلم ، وما دلّ من الأخبار على أنّ الحيض والعدّة إلى النساء إنما هو فيمن بلغت.

__________________

(١) المحقّق في الشرائع ٣ : ١١٩ ، والعلامة في التحرير ٢ : ١١٤.

(٢) الشهيد الأوّل في الدروس ٣ : ١٢٦ ، والشهيد الثاني في الروضة ٦ : ٣٨٥.

(٣) التذكرة (الطبعة الحجرية) ٢ : ١٤٤.

(٤) الدروس ٢ : ٩٣.

(٥) الدروس ٣ : ١٢٦ ، الروضة البهيّة ٦ : ٣٨٥.

٢٨١

وأمّا الإنبات فلا يثبت بقوله ؛ لإمكان المعرفة بالاختيار للاضطرار ، بل اختياراً على المشهور من عدم كون محلّه عورة ، ولم نقف على مخالف فيه ، ويثبت بالبينة والشياع.

الثاني : يستحبّ تمرين الصبيّ والصبيّة على العبادات استحباباً والمراد به حمله على العبادات قبل البلوغ ليعتاد عليها ، ويقوى عليها ، حتّى يسهل عليه الأمر بعد البلوغ ، ويصلب عليها.

وهو مأخوذ من المرانة بمعنى العادة ، أو من قولهم : مرنت يده على العمل ، إذا صلبت ، والأصل الاستحباب مما لا إشكال فيه.

إنّما الخلاف في مبدأه ، وقد أشرنا في أوّل الكتاب إلى اختلاف الأخبار في مبدأ الصلاة.

وأما الصوم فذكر جماعة أنّ مبدأه سبع سنين مع الطاقة ، ولكن جعلها جملة منهم مبدأ التشديد.

وذهب جماعة إلى أنّ مبدأه التسع.

وقال المفيد : ويؤخذ الصبي بالصيام إذا بلغ الحلم أو قدر على صيام ثلاثة أيام متتابعات قبل أن يبلغ الحلم ، بذلك جاءت الآثار (١).

حجّة الأوّلين : حسنة الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّا نأمر صبياننا بالصيام إذا كانوا بني سبع سنين بما أطاقوا من صيام اليوم ، فإن كان إلى نصف النهار أو أكثر من ذلك أو أقل ، فإذا غلبهم العطش والغرث أفطروا ، حتّى يتعوّدوا الصيام ويطيقوه ، فمروا صبيانكم إذا كانوا بني تسع سنين ما أطاقوا من صيام ، فإذا غلبهم العطش أفطروا» (٢).

__________________

(١) المقنعة : ٣٦٠ ، الوسائل ٧ : ١٦٧ أبواب من يصحّ منه الصوم ب ٢٩.

(٢) الكافي ٤ : ١٢٤ ح ١ ، التهذيب ٤ : ٢٨٢ ح ٨٥٣ ، الاستبصار ٢ : ١٢٣ ح ٤٠٠ ، الوسائل ٧ : ١٦٧ أبواب من يصحّ منه الصوم ب ٢٩ ح ٣ بتفاوت ، والغرث : الجوع. مجمع البحرين ٢ : ٢٦٠.

٢٨٢

وهذه الرواية تدلّ على أفضليّة السبع ، لأعلى اختصاصه بأولادهم «، حتّى أنّه لا يستحب لغيرهم ، كما فهمه الآخرون.

ويدلّ على الرجحان قبل السبع أيضاً وإن لم يكن مشدّداً مضافاً إلى إطلاق صحيحة معاوية بن وهب المتقدّمة سابقاً (١) ، وصحيحة زرارة والحلبي ، وحسنتهما ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أنّه سئل عن الصلاة على الصبي متى يصلّى عليه؟ فقال : «إذا عقل الصلاة» قلت : متى تجب الصلاة عليه؟ قال : «إذا كان ابن ست سنين ، والصيام إذا أطاقه» (٢)

وقويّة عثمان بن عيسى ، عن سماعة ، قال : سألته عن الصبيّ متى يصوم؟ قال : «إذا قوي على الصيام» (٣).

والمستفاد من الخبرين وغيرهما (٤) أنّ المعيار هو الطاقة ، وأنّ ذكر السبع مثلاً قد ورد مورد الغالب ، وقد عرفت أنّ الطاقة لبعض اليوم أيضاً تكفي في استحبابه صريحاً من الحسنة المتقدّمة.

وأمّا دليل المفيد فرواية السكوني ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «إذا أطاق الغلام صوم ثلاثة أيّام متتابعة ، فقد وجب عليه صيام شهر رمضان» (٥).

وعن الصدوق : أنّه فهم من ذلك أنّه إذا أطاق ذلك أُخذ بصيام كلّ الشهر (٦) ، وكذا المفيد في موضع من المقنعة (٧) ، وهو بعيد.

وأما القول باستحباب أخذ الصبي بالصيام إذا كان ابن ست سنين بالخصوص كما

__________________

(١) الكافي ٤ : ١٢٥ ح ٢ ، الفقيه ٢ : ٧٦ ح ٣٣٢ ، الوسائل ٧ : ١٦٧ أبواب من يصحّ منه الصوم ب ٢٩ ح ١.

(٢) الكافي ٣ : ٢٠٦ ح ٢ ، الفقيه ١ : ١٠٤ ح ٤٨٦ ، التهذيب ٣ : ١٩٨ ح ٤٥٦ ، الاستبصار ١ : ٤٧٩ ح ١٨٥٥ ، الوسائل ٢ : ٧٨٧ أبواب صلاة الجنازة ب ١٣ ح ١.

(٣) الكافي ٤ : ١٢٥ ح ٣ ، الوسائل ٧ : ١٦٧ أبواب من يصحّ منه الصوم ب ٢٩ ح ٢.

(٤) الوسائل ٧ : ١٦٧ أبواب من يصحّ منه الصوم ب ٢٩.

(٥) الكافي ٤ : ١٢٥ ح ٤ ، التهذيب ٤ : ٣٢٦ ح ١٠١٣ ، الوسائل ٧ : ١٦٨ أبواب من يصحّ منه الصوم ب ٢٩ ح ٥.

(٦) الفقيه ٢ : ٧٦ ح ٣٣٠.

(٧) المقنعة : ٣٦٠.

٢٨٣

في المعتبر (١) ، لعلّه فهم ذلك من صحيحة زرارة والحلبي المتقدّمة : «إذا كان ابن ست سنين تجب الصلاة عليه والصيام» ، فهو معطوف على الصلاة المقدّرة بقرينة المقام ، ولكنه مقيّد بالطاقة ، وليس بذلك البعيد ، فليس ذلك من باب القياس على الصلاة كما قد يتوهّم ، والمراد من وجوب الصلاة الثبوت ، فهو بيان لتعقّله للصلاة ، وأوّل الرواية سؤال عن صلاة الميت.

تنبيهات :

الأول : لا يحضرني كلام منهم في تمرين المجنون وقال في الروضة : وأمّا المجنون فينتفيان في حقّه يعني شرعيّة عبادتهم وصحّتها لانتفاء التمييز ، والتمرين فرعه ، قال : ويشكل ذلك في بعض المجانين ؛ لوجود التمييز فيهم (٢).

أقول : والعلّة المستفادة من بعض الأخبار المتقدّمة وكلماتهم من حصول التسهيل عليهم بعد البلوغ يشعر بعدمه فيهم ، إلا أن يكون جنونهم دوريا ، فيمكن حصول الثمرة فيهم وقت الإفاقة ، فيمكن القول برجحان تمرينهم في حال الجنون لحال الإفاقة ، ولكن المقام لا يصفو عن شوب الإشكال.

الثاني : اختلفت كلماتهم في نيّة الصبي في الواجبات اختار العلامة في التذكرة والتحرير نيّة الندب ؛ لأنّه الوجه الذي يقع عليه فعله ، فلا ينوي غيره (٣).

وقال الشهيد في الذكرى : وهل ينوي الوجوب أو الندب؟ الأجود الأوّل ؛ ليقع التمرين موقعه ، قال : ويكون المراد بالوجوب في حقّه ما لا بدّ منه ، يعني ولو تمريناً ، أو المراد به الواجب على المكلّف ، ويمكن الثاني ؛ لعدم وجه الوجوب في حقّه (٤).

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٦٨٥.

(٢) الروضة البهيّة ٢ : ١٠٢.

(٣) التذكرة ٦ : ١٠١ ، التحرير ١ : ٨١.

(٤) الذكرى : ٨٢ ، وفيه : ويكون المراد بالوجوب في حقّه ما لا بدّ منه إذ المراد به ..

٢٨٤

وفي البيان قال : وينوي الصبي الوجوب ، ولو نوى الندب جاز (١).

وقال الشهيد الثاني في الروضة : ويتخيّر بين نيّة الوجوب والندب ؛ لأنّ الغرض التمرين على فعل الواجب ، ذكره المصنف وغيره وإن كان الندب أولى (٢).

أقول : والتحقيق أن يفصّل ويقال : لا معنى للوجوب الحقيقي ولا للندب الحقيقي على القول بعدم كون عباداته شرعية ؛ إذ لا خطاب ، فلا ندب ولا إيجاب.

وأمّا على القول بكونها شرعية كما هو المختار فعباداته مندوبة لها ثواب ، فيتعيّن قصد الندب.

ويمكن أن يقال حينئذ : المطلوب منه بعنوان الندب إيقاعها مع تصوير قصد الوجوب ندباً.

يعني يستحبّ أن يأتي بصورة العبادة الّتي تجب على المكلّفين هيئة ونيّة ، فنيّة الوجوب ليست نفس نيّة العبادة ، بل هي تصوّر هنا ، وحقيقة النية تصديق ، فيستحبّ له تصوّر الوجوب الذي هو ثابت على المكلّفين ، فنيّة الفعل حقيقة هو الندب ، وقصد الوجوب إنما هو محض التصوّر لأجل الاعتياد ، ولا غائلة في ذلك.

وما يقال : إنّ التمرين في النيّة غير محتاج إليه لكمال سهولة تغييرها عند البلوغ ، فهو كما ترى ، إذ في ممارسة ذلك كمال التسهيل ، سيّما فيمن قد تطرؤه الوسوسة في النيّة والتشكيك ، وذلك نظير نيّة الأجير للحج المندوب ينوي وجوب ما هو مندوب على المستأجر على نفسه.

الثالث : مقتضى اشتراط صحّة النيّة بالإخلاص خلوصها عن شوب سائر الدواعي والعادة من أعظم الدواعي على الأفعال العادية ، فكيف يجتمع هذا مع رجحان تسهيل العبادات على العباد من جهة الاعتياد ، وتكليفه بعد البلوغ بتصفية نيته عن شوب داعية العادة من أشق التكاليف ، فهذا التسهيل مما يوجب عدم التسهيل ،

__________________

(١) البيان : ١٤٩.

(٢) الروضة البهيّة ٢ : ١٠٥.

٢٨٥

فترتفع فائدة التمرين ، وهو التسهيل ، وما يوجب وجوده عدمه فهو محال.

ويمكن دفع هذا الإشكال : بأنّ الحكمة في ذلك لعلّها جعل العمل بحيث لا تكرهه النفس ، وإلا فهو مكلّف بعد البلوغ بإزالة داعي العادة وتصفيتها عنها ، فإنّا قد نجد من أنفسنا بعد إخلاص النية عن كلّ شوب مشقّة العبادة ومنافرة النفس وتضجّرها منها ، لكونها شاقّة في نفسها.

فالمطلوب من الاعتياد هو صيرورة العمل بحيث لا تتضجّر منه النفس ، ولذلك أمرونا بالاقتصاد ، بل وترك المندوب حين الألم واشتغال القلب بالغموم وغير ذلك ، وعدم تحميلها فوق وسعها ، وكفاك قوله تعالى (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) (١) فتأمّل تفهم الفرق بين ملائمة النفس وبين كون الداعي على العمل هو الاعتياد ، والله أعلم بالرشاد.

__________________

(١) طه : ١.

٢٨٦

المقصد السادس

في أقسام الصوم

وهو ينقسم إلى ما عدا المباح من الأحكام الأربعة.

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : في الصوم الواجب

فالواجب منه ستة : صوم شهر رمضان ، والكفارات ، والنذر وما أشبهه ، وقضاء الواجب ، ودم المتعة ، والاعتكاف منذوراً أو بعد يومين ، وسيجي‌ء الكلام في النذر وشبهه ودم المتعة في محالّها ، ونقتصر هنا على ذكر قسمين :

القسم الأول : في صوم شهر رمضان

وفيه مباحث :

الأوّل : فيما يعلم به دخول الشهر ، ووقت وجوب الإمساك والإفطار.

أمّا علامة دخول الشهر فأُمور :

٢٨٧

الأوّل: الرؤية

فيجب على من رأى الهلال متيقّناً ولو انفرد ، وكذا لو شهد فرُدّت شهادته ، بإجماع علمائنا كما في التذكرة (١) والمدارك (٢) ، خلافاً لعطاء ، والحسن ، وابن سيرين ، وإسحاق (٣).

وكذلك الحكم في إفطار أوّل شوال ، وادّعى عليه الإجماع أيضاً في المدارك (٤).

ويدلّ عليه قولهم «: «إذا رأيت الهلال فصم ، وإذا رأيته فأفطر» (٥) ونحوه مما سيجي‌ء.

وخصوص صحيحة عليّ بن جعفر ، عن أخيه عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يرى الهلال في شهر رمضان وحده لا يبصره غيره ، له أن يصوم؟ قال : «إذا لم يشكّ فيه فليصم ، وإلا فليصم مع الناس» (٦).

ولا تنافيه مثل صحيحة محمّد بن مسلم عن الباقر عليه‌السلام ، قال : «والرؤية ليس أن يقوم عشرة فينظروا فيقول واحد : هو ذا هو ، فينظر تسعة فلا يرونه ، إذا رآه وأحدراه عشرة وألف» (٧) إذ لعلّ المراد أنّه لا تعتبر شهادة مثل هذا الواحد ؛ لأنّه مورد التهمة.

ولو أفطر هذا المنفرد ، تجب عليه الكفارة عند علمائنا أجمع ، كما في التذكرة (٨).

__________________

(١) التذكرة ٦ : ١١٨.

(٢) المدارك ٦ : ١٦٤.

(٣) انظر المغني ٣ : ٩٦ ، والشرح الكبير ٣ : ١١ ، والمجموع ٦ : ٢٨٠ ، وبداية المجتهد ١ : ٢٨٥.

(٤) المدارك ٦ : ١٦٥.

(٥) الكافي ٤ : ٧٦ ح ١ ، التهذيب ٤ : ١٥٥ ح ٤٣٠ ، الاستبصار ٢ : ٦٢ ح ٢٠٠ ، الوسائل ٧ : ١٨٢ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٣ ح ١ و ٣ و ٢٧.

(٦) التهذيب ٤ : ٣١٧ ح ٩٦٤ ، الوسائل ٧ : ١٨٨ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٤ ح ١ ، وفي الفقيه ٢ : ٧٧ ح ٣٤١ ، وعنه في الوسائل : إذا لم يشك فليقض وإلّا فليصمه مع الناس.

(٧) التهذيب ٤ : ١٥٦ ح ٤٣٣ ، الاستبصار ٢ : ٦٣ ح ٢٠٣ ، الوسائل ٧ : ٢٠٩ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ١١.

(٨) التذكرة ٦ : ١١٩.

٢٨٨

وينبغي التنبيه لأُمور :

الأوّل : إذا رؤي الهلال في بلد دون آخر ، فإن كانت البلدان متقاربة كان حكمها واحداً في الصوم والإفطار ، وإن تباعدت فلكل منهما حكمه.

والمراد بالتباعد : أن يكون بحيث تختلف المطالع ، كالحجاز والعراق ، وبغداد وخراسان ، بخلاف المتقاربة كبغداد والعراق.

واختلف العامة في معنى التباعد ، فبعضهم اعتبر مسافة القصر ، وبعضهم مسافة يظهر في مثلها تفاوت في المناظر بسبب الارتفاع والانخفاض وإن كان أقلّ من مسافة القصر ، وبعضهم اتحاد الإقليم واختلافه ، وبعضهم ما اعتبرناه (١).

ووجهه : أنّ اختلاف المطالع إنّما هو الموجب لاختلاف الرؤية بناءً على أنّ الأرض كرؤيّة كما هو الأصح ، فتختلف المطالع ، فتطلع الكواكب على جهاتها الشرقية قبل طلوعها على الغربية ، وكذلك في الغروب ، فيمكن أن لا يرى الهلال قبل الغروب في الشرقية ؛ لقربه من الشمس ، ثمّ يرى في تلك الليلة في الغربية ؛ لتأخّر غروبها ، فيحصل التباعد بينهما الموجب للرؤية.

قال فخر المحقّقين : وكلّ بلد غربي بعيد عن الشرقي بألف ميل يتأخّر غروبه عن غروب الشرقي ساعة واحدة (٢).

واستدلّ عليه أيضاً في التذكرة بما رواه كُرَيب أنّ أُم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام ، قال : قدمت الشام فقضيت بها حاجتي ، واستهلّ عليّ رمضان فرأينا الهلال ليلة الجمعة ، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر ، فسألني عبد الله بن عبّاس وذكر الهلال فقال : متى رأيتم الهلال؟ فقلت : ليلة الجمعة ، فقال : أنت رأيته؟ قلت : نعم ، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية ، فقال : لكنّا رأيناه ليلة السبت ، فلا نزال نصوم حتى تكمل العدة أو نراه ، فقلت أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ قال : «لا ، هكذا أمرنا

__________________

(١) فتح العزيز ٦ : ٢٧٣ ٢٧٥ ، المجموع ٦ : ٢٧٣.

(٢) إيضاح الفوائد ١ : ٢٥٢.

٢٨٩

رسول اللهُ» (١) و (٢).

وربّما يستدلّ بمثل آخر رواية زيد الشحّام ، قال : صعدت مرّة جبل أبي قبيس والناس يصلّون المغرب ، فرأيت الشمس لم تغب ، إنّما توارت خلف الجبل عن الناس ، فلقيت أبا عبد الله عليه‌السلام فأخبرته بذلك ، فقال : «فَلِمَ فعلت ذلك ، بئس ما صنعت ، إنّما تصلّيها إذا لم ترها خلف الجبل ، غابت أو غارت ، ما لم يتجلّلها سحاب أو ظلمة تظلّها ، فإنّما عليك مشرقك ومغربك ، وليس على الناس أن يبحثوا» (٣).

وفيه : منع الدلالة ، إذ مع قطع النظر عن اختصاص ذلك بوقت المغرب على القول بكفاية ذهاب الشعاع عن الأشجار والمباني العالية ، لا زوال الحمرة المشرقيّة ، لا بدّ على أنّ بعد البحث لا يجب العمل بمقتضاه.

ثمّ نقل فيها عن بعض الشافعية (٤) أنّ حكم البلدان كلها واحد ، فمتى رؤي في بلد حكم بأنه أوّل الشهر في جميع أقطار الأرض ، تباعدت البلاد أو تقاربت ، اختلفت مطالعها أو لا ، وبه قال أحمد وليث ، وبعض علمائنا ؛ لأنّه يوم من شهر رمضان في بعض البلاد للرؤية ، وفي الباقي بالشهادة ، فيجب صومه ؛ لقوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (٥) ولأنّ الأرض مسطّحة ، فإذا اختلفت البلاد في الرؤية فإنّما هو لأمر عارضي.

وبقول الصادق عليه‌السلام في صحيحة هشام بن الحكم : فيمن صام تسعة وعشرين يوماً : «إن كانت له بيّنة عادلة على أهل مصر أنّهم صاموا ثلاثين على رؤية الهلال

__________________

(١) صحيح مسلم ٢ : ٧٦٥ ح ١٠٨٧ ، سنن الترمذي ٣ : ٧٦ ح ٦٩٣ ، سنن أبي داود ٢ : ٢٩٩ ح ٢٣٣٢ ، سنن النسائي ٤ : ١٣١ ، سنن الدارقطني ٢ : ١٧١ ح ٢١ ، سنن البيهقي ٤ : ٢٥١.

(٢) التذكرة ٦ : ١٢٢.

(٣) الفقيه ١ : ١٤٢ ح ٦٦١ ، التهذيب ٢ : ٢٦٤ ح ١٠٥٣ ، الاستبصار ١ : ٢٦٦ ح ٩٦١ ، الوسائل ٣ : ١٤٥ أبواب المواقيت ب ٢٠ ح ٢.

(٤) التذكرة ٦ : ١٢٣ ، وانظر فتح العزيز ٦ : ٢٧٢ ، والمجموع ٦ : ٢٧٣ و ٢٧٤ ، وحلية العلماء ٣ : ١٨١ ، والمغني ٣ : ١٠ ، والشرح الكبير ٣ : ٧.

(٥) البقرة : ١٨٥.

٢٩٠

قضى يوماً» (١).

ورواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله عنه عليه‌السلام ، وفي آخرها : «فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه» (٢).

ويرد عليه : المنع بثبوته بمثل هذه الشهادة ، وبمنع تسطيح الأرض كما حقّق في محلّه ، وتشهد به التجربة ، فإنّا نشاهد أنّ من يسير على خط من خطوط نصف النهار إلى سمت الشمال يرتفع القطب الشمالي ، وكذلك بالعكس.

وأمّا الآية (٣) ؛ فظاهرها فيمن شهد في البلد الذي رأوه فيه ، ولو منع الظهور فلا بدّ من تأويلها به لئلا يلزم جواز جعل شهر رمضان ثمانية وعشرين في بعض الأوقات ، وهو غير جائز إجماعاً.

وأمّا الأخبار ؛ فليس فيها عموم يشمل البلاد المتباعدة ، بل هي ظاهرة في المتقاربة.

وأمّا منع الجبال والتلال للرؤية وتفاوت الأمكنة بسبب ذلك كما يظهر من كلام بعض العامة اعتباره (٤) فضعيف جدّاً ؛ إذ لو اعتبر ذلك اعتبر حيطان الدار وسور البلد ونحو ذلك ، وليحصل الفرق بين من كان في سفح الجبل ومن كان في قلته في بعض البلاد الواقعة في سفحه.

وبالجملة فلا قائل به من الأصحاب ، وخلاف مقتضى إجماعهم ظاهراً.

إذا عرفت هذا فلو شرع في الصوم في بلد ثم سافر إلى آخر لم يُرَ الهلال فيه في اليوم الأوّل ، فعلى القول بالتعميم يلزم أهل البلد الأخر موافقته لو ثبت عندهم بشهادته إذا كان عدلاً وقلنا به أو بطريق آخر ، فيقضون اليوم الأوّل ، وفي العكس هو يقضي.

وعلى القول المختار قال في التذكرة : وجهان ، أحدهما : أنه يصوم معهم ، وهو قول

__________________

(١) التهذيب ٤ : ١٥٨ ح ٤٤٣ ، الوسائل ٧ : ١٩٢ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٥ ح ١٣.

(٢) التهذيب ٤ : ١٥٧ ح ٤٣٩ ، الاستبصار ٢ : ٦٤ ح ٢٠٦ ، الوسائل ٧ : ٢١٢ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١٢ ح ٢.

(٣) البقرة : ١٨٥.

(٤) انظر فتح العزيز ٦ : ٢٧٢ ، والمجموع ٦ : ٢٧٣ ، وحلية العلماء ٣ : ١٨١ ، والمغني ٣ : ١٠ ، والشرح الكبير ٣ : ٧.

٢٩١

بعض الشافعية ؛ لأنه بالانتقال إلى بلدهم أخذ حكمهم وصار من جملتهم ، والثاني : أنه يفطر ؛ لأنه التزم حكم البلدة الأُولى ، فيستمرّ عليه ، وشبّه ذلك بمن اكترى دابة لزمه الكراء بنقد البلد المنتقل عنه (١).

أقول : فقد يلزمه على الأوّل صوم أحد وثلاثين يوماً بناءً على التعميم ، وفي العكس الإفطار على ثمانية وعشرين يوماً.

ولو أصبح معيّداً ثمّ انتقل ليومه ووصل قبل الزوال ، أمسك بالنيّة وأجزأ ، وبعده أمسك مع القضاء ، ولو انعكس أفطر.

وههنا فروع كثيرة لا نصّ فيها ، فالأولى العمل بالاحتياط فيها.

الثاني : قال في التذكرة : يجب الترائي للهلال ليلة الثلاثين من شعبان ورمضان وتطلّبه ليحتاطوا بذلك لصيامهم ويسلموا من الاختلاف.

واستدلّ عليه بأنّ الصوم واجب في أوّل رمضان ، وكذا الإفطار في العيد ، فيجب التوصّل إلى معرفة وقتهما ؛ لأن ما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب (٢).

أقول : وفيه نظر ؛ إذ الأصل دليل قوي لا يخرج عنه إلا بدليل ، وبراءة الذمّة عن التكليف لا ترتفع إلا بما يثبته ، ونحن نمنع وجوب الصوم إلا لمن عرف دخول الشهر ، وإن قلنا بأنّ الألفاظ أسام لما هو في نفس الأمر.

وبذلك ندفع ما احتجّ به الأصحاب في وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة ، حيث استدلّوا على وجوب الاجتناب عن المشتبه بالنجس بأنّ الاجتناب عن النجس أو الحرام واجب ، ولا يتمّ إلا بالاجتناب عن الجميع ، ونقول : إن المسلّم وجوبه هو الاجتناب عما علمت نجاسته أو حرمته ، لا عمّا هو نجس أو حرام في الواقع كما حقّقناه في القوانين.

__________________

(١) التذكرة ٦ : ١٢٤.

(٢) التذكرة ٦ : ١٢٠ ، والموجود فيه «يستحبّ» بدل «يجب» وهو خطأ من المحقّق كما يظهر من الأدلّة.

٢٩٢

ولهذه المسألة فروع كثيرة في الفقه ، منها : لزوم إذابة النقد المغشوش إذا جهل بلوغه حدّ النصاب لمعرفة ذلك.

ومنها : تعريض الأموال للبيع ، حتى يعرف الاستطاعة للحج.

ومنها : وجوب التفحّص عن المسافة لمن يريد السفر.

ومن هذا الباب : جواز الأكل والشرب في السحر مع عدم التفحّص عن الفجر.

والحاصل : أنّا لا نقول إنّ مائتي درهم وعشرين ديناراً مثلاً اسم لما علم أنه مائتا درهم وعشرون ديناراً ، وكذا في نظائره ، لكنا نقول : ظاهر متعارف أهل اللسان أنهم يريدون ذلك ، وكذلك غالب استعمالات الشرع ، مضافاً إلى الأصل ، فالأصل والظاهر هنا متطابقان.

وقد يقال : إنّ المولى إذا قال لعبيده كلّ من كان عنده عشرون ديناراً فليتصدّق بدينار ، ومن لم يبلغ ما عنده إليه فلا شي‌ء عليه ، فالعرف والعادة ووجوب الامتثال يقتضي أن يحسب كلّ منهم ما عنده حتى يعرف الحال ، وأنه من أيّ الصنفين.

وفيه : أنّا نمنع ذلك إلا إذا علموا أنّ مراده لزوم التفحّص عن ذلك.

سلّمنا اللزوم ؛ ولكنّه فيما لم يكن بأيدينا ما هو عذر لترك التفتيش ، والمفروض أنّ لنا عذراً في تركه ، وهو استصحاب شعبان.

لا يقال : إنّ هذا الكلام يمكن إجراؤه في كلّ موضع ؛ لأنّ أصل البراءة عذر في كلّ موضع ، لأنا نفرض الكلام في الحكمين المتعارضين من الشارع مع قطع النظر عن الأصل.

الثالث : يستحبّ لمن رأى الهلال الدعاء.

وعن ابن أبي عقيل : أنّه يجب أن يدعو بهذا الدعاء عند رؤية هلال شهر رمضان : «الحمد لله الذي خلقني وخلقك ، وقدّر منازلك ، وجعلك مواقيت للناس ، اللهم أهلّه علينا إهلالاً مباركاً ، اللهم أدخله علينا بالسلامة والإسلام ، واليقين والإيمان ،

٢٩٣

والبرّ والتقوى ، والتوفيق لما تحبّ وترضى» (١).

وروى الكليني ، عن جابر ، عن الباقر عليه‌السلام ، قال : «كان رسول اللهُ إذا أهلّ هلال شهر رمضان استقبل القبلة ورفع يديه فقال : اللهم أهلّه علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام ، والعافية المجلّلة ، والرزق الواسع ، ودفع الأسقام ، اللهم ارزقنا صيامه وقيامه وتلاوة القرآن فيه ، اللهم سلّمه لنا ، وتسلّمه منّا ، وسلمنا فيه» (٢).

وعن الحسين بن المختار رفعه قال ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إذا رأيت الهلال فلا تبرح ، وقل : اللهم إنّي أسألك خير هذا الشهر وفتحه ونوره ونصره وبركته وطهوره ورزقه ، وأسألك خير ما فيه وخير ما بعده ، وأعوذ بك من شرّ ما فيه وشر ما بعده ، اللهم أدخله علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام ، والبركة والتقوى والتوفيق لما تحب وترضى» (٣) إلى غير ذلك من الأدعية التي وردت في خصوص هلال شهر رمضان ومطلق الهلال ، وسيّما دعاء الهلال لمولانا سيّد الساجدين عليه‌السلام في الصحيفة المباركة (٤).

الثاني: أن يمضي من شعبان ثلاثون يوماً بإجماع المسلمين ، بل هو من ضروريات الدين كما في المدارك (٥).

وتدل عليه الأخبار (٦) أيضاً ، وكذلك الكلام في هلال شوال ، فيعلم بمضي ثلاثين من رمضان.

__________________

(١) نقله عنه في المختلف ٣ : ٥٠١.

(٢) الكافي ٤ : ٧٠ ح ١ ، التهذيب ٤ : ١٩٦ ح ٥٦٢ ، الوسائل ٧ : ٢٣٣ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٢٠ ح ١.

(٣) الكافي ٤ : ٧٦ ح ٩ ، الوسائل ٧ : ٢٣٤ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٢٠ ح ٦.

(٤) الصحيفة السجاديّة : ١٤٠ «الدعاء رقم ٤٣».

(٥) المدارك ٦ : ١٦٥.

(٦) الوسائل ٧ : ١٨٢ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٣.

٢٩٤

الثالث: الشياع

وهو في اللغة بمعنى الانتشار ، قال الجوهري : شاع الخبر أي ذاع ، وفسّر ذاع في محلّه بانتشر (١).

وهو لا يستلزم العلم كما لا يخفى ، وكذا لا يفهم منه العلم في العرف.

وفسّره في الروضة هنا بإخبار جماعة به تأمن النفس من تواطؤهم على الكذب ، ويحصل بخبرهم الظنّ المتاخم للعلم (٢).

وادّعى على ثبوت الرؤية بالشياع الإجماع في المعتبر ، قال : وكذا لو رؤي شائعاً ، ولا خلاف بين العلماء في ذلك (٣).

وقال في التحرير : ولو رؤي في البلد رؤية شائعة وجب الصيام إجماعاً (٤).

ولكنه قال في التذكرة : ولو رؤي الهلال في البلد رؤية شائعة واشتهر وذاع بين الناس الهلال وجب الصيام إجماعاً ؛ لأنّه نوع تواتر يفيد العلم ، ولو لم يحصل العلم بل حصل ظن غالب بالرؤية فالأقوى التعويل عليه كالشاهدين ، فإن الظنّ الحاصل بشهادتهما حاصل مع الشياع (٥).

وحكى عن المنتهي (٦) في المدارك الاستدلال بأنّه نوع تواتر يفيد العلم ، ثمّ حكى عبارة التذكرة ، ثمّ قال : الأصح اعتبار العلم كما اختاره العلامة في المنتهي ، وصرّح به المصنف رحمه‌الله في كتاب الشهادات من هذا الكتاب (٧) و (٨).

__________________

(١) الصحاح ٣ : ١٢٤٠ مادة شيع.

(٢) الروضة البهيّة ٢ : ١٠٩.

(٣) المعتبر ٢ : ٦٨٦.

(٤) التحرير ١ : ٨٢.

(٥) التذكرة ٦ : ١٣٦.

(٦) المنتهي ٢ : ٥٩٠.

(٧) الشرائع ٤ : ١٢١.

(٨) انتهى كلام المدارك ٦ : ١٦٦.

٢٩٥

أقول : ويظهر من ذلك أنّهم لم يفرّقوا بين ما يمكن كونه مستند الشهادة وغيره ، فحينئذٍ لا بدّ أن يجعل العلم الذي اعتبروه في الشهادة أعمّ مما حصل الجزم الواقعي بموردها أو العلم الشرعي.

فمن يكتفي في ثبوت النَّسَب أو النكاح ونحوهما بالاستفاضة الظنّية يشهد بأنّي عالم بأنّ فلاناً ولد فلان ، أو فلانة زوجة فلان ؛ لأنّ الشارع حكم بوجوب اعتقاد ذلك حين حصول هذا الظن.

ولذلك يستندون في الشهادة إلى الاستصحاب وإلى اليد مع التصرّف المتكرر ، بل ومطلق اليد على المشهور إذا لم تزاحمه قرينة العارية أو الإجارة ونحوهما.

وحينئذٍ فلا بدّ للجماعة المشترطين للعلم في الاستفاضة التي تبنى عليها الشهادة ، إما أن لا يكتفوا في الشهادة بالظنون التي تصير مناطاً للأحكام الشرعية التي يجب العمل عليها ويخصّصوا العلم الذي اشترطوه في الشهادة بالعلم القطعي ، ولا تنافي عندهم بين قولهم ذلك وقولهم بثبوت الأحكام الشرعية بالاستفاضة الظنية وسائر الظنون.

وإما القول بعدم إمكان ثبوت شي‌ء بالاستفاضة الظنية ، وقولهم في مقام الاستدلال على اشتراط قطعية الاستفاضة بأنّ الشهادة مما يجب فيها العلم ، دون أن يقولوا : إنّ الاستفاضة الظنية لا تثبت شيئاً علينا من جانب الشارع ، لتكون محصلة لعلم شرعي ، حتّى يمكن أن يصير مورداً للشهادة ، أعظم شاهد على الفرق بين المقامين ، فمسألة حجّية الاستفاضة الظنيّة في الأحكام الشرعية مسألة ، ومسألة جواز بناء الشهادة عليها مسألة أُخرى.

ويظهر من المدارك الخلط بينهما ، حيث نقل فتوى المصنف في الشهادات باشتراط العلم ، والكلام فيما نحن فيه إنما هو في ثبوت الرؤية بالشياع الظني ، لا في قبول الشهادة المبتنية عليه.

والذي يشهد بذلك : أنّ المحقّق اختار اعتبار الجزم في تحمل الشهادة بالاستفاضة وتردّد فيما حصل به الظن المتاخم ، ثمّ ذكر ثبوت الوقف والنكاح بالاستفاضة الظنية ،

٢٩٦

وقال : ولعلّ هذا أشبه بالصواب (١).

بل لم يظهر منه رحمه‌الله اشتراط القطع في الشهادة أيضاً ؛ لمنافاته التردّد في اعتبار الظنّ المتاخم للعلم ، بل مراده كفاية القطع الحاصل بالاستفاضة لا اشتراطه.

وأما كلامه في أوّل كتاب القضاء في ولاية القاضي (٢) ، فليس بنص في اعتبار اليقين ، بل أطلق الشياع ، وما ذكره في آخر كلامه من اعتبار اليقين إنما هو في اعتبار الأمارات الحاصلة بصدق الوالي بخبره.

ويدلّ عليه حصر الحكم بثبوت الاستفاضة بالأُمور المعينة ، وإلا فلا ينبغي التخصيص فيما يفيد العلم.

وقد غفل في المسالك ونسب إليه اعتبار العلم مع تنبهه ؛ لأنه لا وجه للتخصيص في صورة اعتبار العلم (٣).

فهاهنا مقامان من الكلام :

الأوّل : أنّه هل يكفي في الشهادة الاعتقاد الظنّي الذي أجاز الشارع العمل به أم لا؟ وهو محلّه في كتاب الشهادات ، والظاهر جوازه كالاستصحاب واليد وغيرهما.

والثاني : أنّ هذا الظنّ الحاصل بالاستفاضة هل هو من باب تلك الظنون التي أجاز الشارع العمل بها أم لا؟ ومحلّه محل آخر ، ومنه ما ذكره المحقّق في أوّل كتاب القضاء من أنّ ولاية القاضي تثبت بالاستفاضة ، وكذا النسب والملك المطلق والموت والنكاح والوقف والعتق (٤).

ونقل الشهيد في القواعد عن بعضهم أنه يثبت بالاستفاضة اثنان وعشرون : النسب إلى الأبوين ، والموت ، والنكاح ، والولاية ، والعزل ، والولاء ، والرضاع ، وتضرر

__________________

(١) الشرائع ٤ : ١٢٣.

(٢) الشرائع ٤ : ٦٢.

(٣) المسالك ٢ : ٥١.

(٤) الشرائع ٤ : ٦٢.

٢٩٧

الزوجة ، والوقوف ، والصدقات ، والملك المطلق ، والتعديل ، والجرح ، والإسلام ، والكفر ، والرشد ، والسفه ، والحمل ، والولادة ، والوصاية ، والحرية ، واللوث ، قيل : والغصب ، والدين ، والعتق ، والإعسار (١).

أقول : فالعمدة بيان الأقوال والأدلّة في مسألة حجية الاستفاضة ، واعتبار الجزم والظنّ ؛ لينفعنا في مسألة رؤية الهلال ، والأقوال في المسألة ثلاثة :

أحدها : اعتبار العلم ، والمصرّح به في مسألة الشهادة جماعة (٢) ، ولكن في أصل ثبوت شي‌ء به وحجيته في إثبات المطالب مطلقاً فلا يحضرني مصرح به.

نعم يظهر من الذين حصروا إثبات المطالب بالاستفاضة في امور معيّنة أنهم يعتبرون العلم في غير الصور المعدودة ، ويكتفون بالظنّ فيها ، وإلا فلا وجه للحصر في الامور المعدودة لما يفيد العلم ، إذ هو حجة مطلقاً ، إلا أن يقال بإمكان إجراء النزاع في حجية العلم في بعض المواضع أيضاً كما ذكروه في مسألة عمل الحاكم بعلمه.

ويظهر من الأصحاب : عدم كفاية مطلق العلم في أداء الشهادة ، بل يعتبرون العلم المستند إلى الحسّ.

وخالفهم المحقّق الأردبيلي رحمه‌الله (٣) ، وصاحب الكفاية (٤) ، فاكتفيا بمطلق حصول العلم للشاهد ، ولا يخلو عن قوّة ، بل هو الظاهر من المسالك (٥) وغيره.

قال في المسالك في مسألة تحمّل الشهادة بما يكفي فيه السماع : وقد اختلف فيما به يصير الشاهد شاهداً بالاستفاضة ، فقيل : إن تكثّر السماع من جماعة حتّى يبلغ حدّ

__________________

(١) القواعد والفوائد ١ : ٢٢١. فائدة : نقل السيوطي عن الصدر موهوب الجزري هذه الموارد إلّا في اثنين منها وهما : الولاء والملك المطلق ، فقد نقل عنه بدلهما ولاية الولي والأشربة القديمة ، انظر الأشباه والنظائر : ٥٢٠. كما عدّ القرافي خمسة وعشرين موضعاً تثبت بالاستفاضة ، انظر الفروق : ٥٤٠.

(٢) كالعلامة في التحرير ٢ : ٢١١ ، وانظر مهذب الشيرازي ٢ : ٣٣٥ نقلاً عن الماوردي.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٤٥١.

(٤) كفاية الأحكام : ٢٨٣.

(٥) المسالك (الطبعة الحجريّة) ٢ : ٤١٥.

٢٩٨

العلم بالمخبر عنه ، وعلى هذا فلا تكون هذه الأشياء خارجة عن أصل الشهادة ، وقيل : يكفي بلوغه حدّا يوجب الظن الغالب المقارب للعلم ، إلى آخر ما ذكره.

لا يقال : هذا أيضاً استناد إلى الحسّ.

لأنّا نقول : مرادهم بالحسّ سماع نفس المشهود عليه ، كلفظ الإقرار وغيره ، والمشهود عليه هنا ليس بمسموع ، بل هو من قبيل النسب أو الموت أو غيرهما ، بل هذا مستند إلى الحدس المستفاد من الحسّ ، مع انضمام القرائن ، ويلزم عليهم حينئذٍ أن يقبلوا الشهادة المنوطة بخبر واحد محفوف بالقرينة ، أو برؤية أُمور يحصل بالحدس الجزم بوقوع شي‌ء ، والظاهر أنهم لم يقولوا به.

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال فيما حصل العلم من الاستفاضة في إثبات الأُمور التي ذكروها من الوقف والنكاح وغيرهما ، وإنما الإشكال فيما لو حصل الظن بها فيها وفي غيرها ، فيمكن حينئذٍ للقائل باشتراط العلم في الاستفاضة التخصيص والاكتفاء بالظن المتاخم في موارد خاصة بسبب دليل خارجي.

وأمّا القائل بكفاية الظن المتاخم فلا وجه له للتفصيل ، كما أنّه لا وجه للتفصيل في الاستفاضة المفيدة للقطع بقبولها في بعض دون بعض آخر إلا على التوجيه الذي مرّ.

وإلى ما ذكرنا تشير عبارة المسالك في مسألة ولاية القاضي بعد ذكر وجه قبول الاستفاضة في الامور السبعة المتقدمة ، قال : وزاد بعضهم في هذه الأسباب ونقص آخرون ، وقد ظهر من تعليلها أنّها لا تستند إلى نصّ خاص ، بل إلى اعتبار ، فكان الوجه فيها أن يقال : إن اعتبرنا اليقين في المستند كما اعتبره المصنف بقوله «ما لم يحصل اليقين» فلا وجه للحصر في هذه ، وإن كانت أمسّ حاجة من غيرها إلى الاكتفاء بالسماع دون المشاهدة ؛ لما أشرنا إليه من أنّ العلم القطعي أقوى من البيّنة ، بل لا يقبل الخلاف ، فمتى حصل ذلك في الملاك المسبب وغيره من الحقوق بالتسامع كفى ، وإن اكتفينا في الاستفاضة بالظنّ الغالب المتاخم للعلم احتمل اختصاصه بهذه ، والقدح في بعضها حيث لا نصّ.

٢٩٩

ويمكن القول بالتعميم أيضاً ؛ لأن أدنى مراتب البينة الشرعية لا يحصل بها الظن المتاخم للعلم ، فيكون ما أفاده أقوى مما وقع النصّ والإجماع على ثبوته به ، فكان أولى أيضاً ، وإن كان مساوياً لبعض مراتب البيّنة أو قاصراً عن بعضها ؛ لأنّ مفهوم الموافقة يكفي في المرتبة الدنيا بالقياس إلى ذلك الفرد المتنازع فيه لو أُقيمت عليه بينة كذلك أو حصل به تسامع يفيد مرتبة أقوى ، وسيأتي رجوع المصنف عن الجزم باعتبار العلم إلى الاكتفاء بمتاخمته على تردّد فيه.

وإن اكتفينا فيها بمطلق الظن كما يظهر من كلام الشيخ قوي جانب الحصر لما ذكروه من الوجوه (١) ، انتهى.

وظهر من ذلك : أنّ الأقوال في المسألة ثلاثة : اعتبار العلم في الاستفاضة إلا فيما استثني من الأُمور المذكورة على خلاف فيها وفي عددها ليس ههنا محلّ بسط الكلام فيها.

والثاني : كفاية الظنّ مطلقاً كما نسب إلى الشيخ (٢).

والثالث : اعتبار الظن المتاخم للعلم.

دليل القول الأوّل : أنّ الأصل عدم الثبوت ، وأصالة حرمة العمل بالظن ، ولا دليل على اعتبار هذا الظنّ.

ولا ينافي ذلك ما حققناه في الاصول من أنّ مطلق ظن المجتهد حجّة ؛ لابتنائه على الدليل العقلي الذي لا يقبل التخصيص ، وهو انسداد باب العلم ، وقبح تكليف ما لا يطاق مع بقاء التكليف (٣) ؛ لأنّ ذلك إنّما ذكرناه في نفس الأحكام الشرعيّة ، ومثل مباحث الألفاظ من متعلّقات الأحكام ، ومثل ماهيات الموضوعات التي تُحوّل إلى أهل خبرتها ، كالعيب والأرش والقبض وأمثالها.

__________________

(١) المسالك (الطبعة الحجريّة) ٢ : ٤١٥ ، وانظر الشرائع ٤ : ٦٢.

(٢) انظر الخلاف كتاب الشهادات مسألة ١٥.

(٣) القوانين ١ : ٤٤٠ ، وج ٢ : ٢٦٧ و ٢٦٩.

٣٠٠