غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٥

الميرزا أبو القاسم القمّي

غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٥

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: مكتب الإعلام الإسلامي ، فرع خراسان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-590-3
الصفحات: ٤٧٢

الفقه كتاب الصوم

في العتق أيضاً بالتجزئة ، وهذا مما يؤيّد القول باشتراط التتابع في الثمانية عشر كما سنشير إليه.

وبذلك يندفع الإشكال الثاني أيضاً ؛ إذ لم نقل بالاختصاص حتّى يرد ذلك ، مع أنّا ذكرنا أنّ المراد بوجوب الشهرين هو مجرد تعلّقه ، وكون المكلّف من جملة من يكون من شأنه ذلك ، فلا عبرة بالانتقال إلى الإطعام في ذلك.

وأمّا الإشكال الثالث ، فيندفع بأنه لا يجب أن يكون دليلهم في لزوم التصدّق المذكور هو هذه الرواية ، بل هو مقتضى تتبع النظائر ، وملاحظة الأخبار المستفيضة جدّاً ، المستفاد منها أنّ بدل كلّ يوم من الصيام مد من الطعام في مواضع كثيرة من مواضع العجز :

منها : ما دلّ على بدليّة إطعام ستّين مسكيناً عن صيام شهرين في الترتيبي ، مع ملاحظة أنّ الأشهر الأظهر كفاية مدّ في كلّ مسكين.

ومنها : ما ورد في إفطار الشيخ الكبير وذي العطاش والحامل المقرب والمرضعة القليلة اللبن (١) ، ويؤيّده لزوم الكفّارة بمدّ إذا أخّر قضاء رمضان إلى القابل بلا عذر.

ومنها : ما ورد في فدية صوم النذر.

بل منها ما يدلّ بعمومه على ما نحن فيه ، وهي صحيحة البزنطي ، عن الرضا عليه‌السلام : في رجل نذر على نفسه إن هو سلم من مرض أو تخلّص من حبس أن يصوم كلّ يوم أربعاء ، وهو اليوم الذي تخلّص فيه ، فعجز عن الصوم لعلّة أصابته أو غير ذلك ، فمدّ الله للرجل في عمره ، واجتمع عليه صوم كثير ، ما كفّارة ذلك؟ قال : «تصدّق لكلّ يوم مداً من حنطة أو تمر» (٢) قال : الظاهر أنّ المراد بقوله عليه‌السلام «أو غير ذلك» من الصيام الواجب.

ويوضّحه ما رواه الصدوق في الحسن ، عن إدريس بن زيد وعليّ بن إدريس ،

__________________

(١) الوسائل ٧ : ١٤٩ أبواب من يصحّ منه الصوم ب ١٥ ، ١٦.

(٢) الكافي ٤ : ١٤٤ ح ٣ ، الوسائل ٧ : ٢٨٦ أبواب بقيّة الصوم الواجب ب ١٥ ح ٣ بتفاوت.

٢٠١

قالا : سألنا الرضا عليه‌السلام عن رجل نذر نذراً إن هو تخلّص عن الحبس أن يصوم كلّ يوم يتخلّص فيه ، فعجز عن الصوم أو غير ذلك فمدّ له في العمر ، إلى آخر ما مرّ بأدنى تفاوت (١).

ثمّ إنّ بعضهم فهم من هذه العبارة المشهورة أنّ مرادهم أنّ بعد العجز عن الثمانية عشر يوماً يتصدّق عن كلّ يوم من الستّين يوماً بمدّ (٢).

وهو مع أنّه خلاف المتبادر من العبارة لا يصحّ ؛ لسقوط حكم الستّين قبل ذلك ، فإنّ من أقسام المسألة الكفّارة المخيّرة ، ولا ريب أنّه لا ينقل فيها من صيام شهرين إلى الثمانية عشر مع التمكّن من إطعام ستّين مدّاً ، وبعد فرض العجز عنه لا معنى للعود إليه ، مع أنّه أصل لا بدل.

بل لا يتمّ في المرتّبة أيضاً ؛ لأنّ إطعام الستين إنّما هو بعد العجز عن صيام الستّين بلا واسطة ، فلا معنى لتوسيط الثمانية عشر.

وأمّا الإشكال الرابع ؛ فيندفع أيضاً بأنّه لا يلزم أن تدلّ عليه هذه الرواية ، بل هو مستفاد من غيرها ، مثل رواية أبي بصير ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «كلّ من عجز عن الكفّارة الّتي تجب عليه من صوم أو عتق أو صدقة في يمين أو نذر أو قتل أو غير ذلك مما يجب على صاحبه فيه الكفّارة فالاستغفار له كفّارة ، ما خلا يمين الظهار ، فإنه إذا لم يجد ما يكفّر به حرمت عليه أن يجامعها ، وفرّق بينهما إلى أن ترضى المرأة أن يكون معها ولا يجامعها» (٣).

وأمّا الإشكال الخامس ؛ فلا مسرح لدفعه في النذر وشبهه ؛ لكونه قياساً ، ولمنع اتحاد الطريق.

__________________

(١) الفقيه ٢ : ٩٩ ح ٤٤٣ ، الوسائل ٧ : ٢٨٥ أبواب بقيّة الصوم الواجب ب ١٥ ح ١.

(٢) حكاه في المسالك ١٠ : ١٢٠.

(٣) التهذيب ٨ : ١٦ ح ٥٠ ، وص ٣٢٠ ح ١١٨٩ ، الاستبصار ٤ : ٥٦ ح ١٩٥ ، الوسائل ١٥ : ٥٥٤ أبواب الكفارات ب ١٦ ح ١.

٢٠٢

وأمّا كفّارة الجمع ؛ فيشكل دفعه أيضاً ؛ إذ السؤال في الرواية إنّما هو عن العجز عن الصيام مع العجز عن الإطعام والعتق أيضاً ، ولا بد من حملها على الإطعام والعتق المعهودين ، وإلا فلا يصح السؤال والجواب.

وحينئذٍ فنقول : مع أنّ المتبادر منه هو العتق والصدقة اللذان وجوبهما من باب البدل تخييراً أو ترتيباً لا عيناً ، أنّ إرادتهما معاً توجب استعمال اللفظ في المعنيين المختلفين ، وهو خلاف التحقيق.

مع أنّ مرادهم إطلاق الوجوب عند العجز عن الصيام ، ولا تشمل الرواية لو قدر عليهما في كفّارة الجمع.

وإن قيل : إنّ مرادهم العجز عن بدل الصيام المتصوّر في الأصل : يعني أنّ ذلك الصيام المطلوب في كفّارة الجمع هو الصيام الذي له بدل في الأصل قد جمع هنا مع الآخرين ، فالمراد العجز عنه وعن بدليه.

وإن قدر على العتق والصدقة المتعيّنين في كفّارة الجمع يلزمه الجمع ، أو يلزمه أحد البدلين الآخرين عوضاً عنه أيضاً.

وإن قدر على المتعيّنين عليه فالمراد أنّه إذا عجز عن الصيام في كفّارة الجمع وعجز عن بدله الأصلي فيصوم ثمانية عشر يوماً.

وإن قدر على العتق والصدقة المتعينين ، فمع أنّه لم يدلّ دليل على ملاحظة البدل الأصلي هنا يلزم استعمال اللفظ في ثلاث معانٍ مختلفة ، أحدها : العجز عن الصوم وبدلية الترتيبيين أو التخييريين.

والثاني : العجز عنه وعن صاحبه المتعينين.

والثالث : العجز عنه وعن بدليه المتصورين في أصل وضع الكفّارة.

وقد عرفت فيما ذكرنا أنّ ظاهر الرواية هو الكفّارة المخيّرة أو المرتّبة المشتملة على صيام الشهرين ، وأما كفّارة الجمع فلا تدلّ عليها الرواية.

وقد وجدت في حواشي نسخة من القواعد حاشية منسوبة إلى فخر المحقّقين على

٢٠٣

هذه العبارة في باب الكفارات ، قال محمّد بن المطهر : هذه فيمن عليه الشهران ولا يكون لها بدل ، وأما في المرتّبة فإذا عجز عن الصوم وجب الإطعام ، فإذا عجز عنه يستغفر الله تعالى ولم يجب الثمانية عشر.

ورأيت في هذه النسخة أيضاً في كتاب الظهار مكتوب على قول المصنف : «ولو عجز عن الكفّارة وما يقوم مقامها كفاه الاستغفار» حاشية منقولة من خطه رحمه‌الله وهذه صورتها : واعلم أنّ الكفّارة هي الخصال الثلاث ، وما يقوم مقام الكفّارة ثمانية عشر يوماً ، وتقدير ذلك أن نقول : إن عجز عن العتق والصيام والإطعام ابتداء كفاه الاستغفار ، وهو ظاهر ؛ لأن الثمانية عشر يوماً بدل الشهرين.

وإذا عجز عن الشهرين انتقل إلى الإطعام.

ولو عجز عن الشهرين وتمكّن من الإطعام ثمّ عجز عنه فإنه يكفيه الاستغفار.

وأمّا إذا عجز ابتداء عن العتق والإطعام وقدر على الصيام تعيّن الصيام للشهرين ، ثمّ بعد تعيّن الصوم عجز عنه تعيّن صيام ثمانية عشر يوماً ، هذا في المرتّبة.

وأمّا في كفّارة الجمع ؛ فإنّه يجب عليه إذا عجز عن الصوم وغيره صيام ثمانية عشر يوماً عن الصوم ، واستغفر الله تعالى عن الباقي.

ولو قدر على غير الصوم من الخصال الثلاث وجب.

والعبد كفّارته الصوم لا غير ، أي يصوم شهراً ، فإن عجز عنه صام تسعة على الأقوى ، وفي معناه الكفّارة المخيّرة إذا عجز عن الخصلتين غير الصوم تعيّن الصوم ، فإذا عرض له العجز بعد القدرة صام الثمانية عشر يوماً.

وأما إذا عجز عن الكلّ دفعة واحدة ابتداء ، وجب الثمانية عشر يوماً ، بخلاف المرتّبة.

والفرق بينهما : أنّ المرتّبة الواجب منها واحدة دائماً ، وأما الواجبة على التخيير فاختيارنا في اصول الفقه وجوب الكلّ ، وبفعل البعض يسقط ، هذا هو الذي استقرّ عليه رأينا ، ورأي والدي ، ولهذا لو ترك الكلّ استحق العقاب على ترك الكلّ ، بمعنى

٢٠٤

أنّه يستحق العقاب على ترك أُمور يجزئ بعضها عن بعض ، فكل واحد من خصال المخيرة يوصف بالوجوب دفعة ؛ وأمّا المرتّبة فلا.

ويجب الاستغفار هنا مع صوم الثمانية عشر يوماً ، وكذا في كلّ موضع ينتقل إلى الثمانية عشر يوماً توبة لا كفّارة.

والفرق بين الاستغفار الذي هو توبة والذي هو كفّارة : إنّ الاستغفار الذي هو كفّارة يجوز أن يكون عن بعض الأُمور دون البعض إجماعاً ، وأما التوبة ففيها الخلاف ، وكتب محمّد بن المطهر ، انتهت الحاشية.

أقول : قد ظهر مما بيّناه أنّ مراد الفقهاء من هذه العبارة موافقاً لما ورد في الكتاب والسنة هو مطلق الوجوب ، الأعم من المطلق والمشروط ، والعيني والتخييري ، والترتيبي ، وليس المراد بالعجز العجز بعد القدرة ، بل الأعمّ كما مرّ.

فنقول : إنّ فاقد جميع الخصال والعاجز عنها يصدق عليه أنّه وجب عليه الصيام وعجز عنه ، سيّما بملاحظة رواية أبي بصير.

فقوله رحمه‌الله : «وإذا عجز عن الشهرين انتقل إلى الإطعام» ، مراده أنّه حينئذٍ ليس مكلّفاً بالصيام ، إذ هو سقط بسبب العجز وانتقل إلى الإطعام.

ويرد عليه : أنّ الانتقال إلى الإطعام إنّما هو إذا استمرّ عدم القدرة على الصيام وقدر على الإطعام ، وأما إذا لم يقدر على الإطعام فانتقاله إليه ممنوع ، وإلا لما وجب عليه الصيام بعد حصول القدرة عليه أيضاً إذا كان التكليف قد انتقل إلى الإطعام ، فحين العجز عن الكلّ يتساوى الكلّ في صدق العجز عنها ، ولا يختص بالإطعام ؛ بتقريب أنّه آخر المراتب ، فيصدق عليه أنّه تعلّق به حكم وجوب الصيام في الجملة ، وأنّه عجز عنه ، فيتمّ كون الثمانية عشر بدلاً عن الصيام حينئذٍ.

قوله رحمه‌الله : «ولو عجز عن الشهرين وتمكن من الإطعام ثمّ عجز عنه» إلى أخره ، مراده أنّه حينئذٍ استقرّ عليه الإطعام ويتعيّن عليه ، فإذا عجز عنه بعد القدرة فهذا عاجز عمّا وجب عليه من الإطعام ؛ لعدم وجوب الصيام عليه حتى يكون

٢٠٥

الثمانية عشر عوضاً عنه.

أقول : إن كان مراده استقرار الإطعام عليه وتعيّنه عليه ما دام موجوداً فهو كذلك ، ولكنه خلاف المفروض ، وإن كان مراده الاستقرار عليه وتعيّنه عليه بعد التلف أيضاً فهو ممنوع ، بل هو حينئذٍ كفاقد الجميع ابتداء ، وقد مرّ أنّ العبرة في الكفّارة بحال الأداء لا الوجوب ، بلا خلاف ، والمفروض أنّ حالة الوجوب قد انمحت ، والمعتبر إنّما هو هذه الحالة الّتي يريد إبراء ذمته فيها ، فالظاهر أنّ الثمانية عشر تتعلّق به أيضاً.

قوله : «تعيّن صيام ثمانية عشر يوماً» إن أراد من جهة تعيّن الصيام عليه ففيه المنع المتقدّم ، وإن أراد أنّه حينئذٍ فاقد للجميع وعاجز عن الجميع الذي من جملته صيام الشهرين فهو حسن.

قوله : «وأما في كفّارة الجمع» إلى أخره ، قد عرفت أنّ الرواية لا تدلّ على حكم كفّارة الجمع بوجه من الوجوه ، فلا دلالة فيها على وجوب الثمانية عشر ، سواء قدر على الآخرين أم لا.

قوله : «بخلاف المرتّبة» ، قد عرفت أنّ المرتّبة أيضاً كذلك.

قوله : «الواجب منها واحد دائماً» أقول : نعم ، ولكن لا يتعيّن إلا بالعجز عن سابقه والتمكّن منه ، والمفروض عدم التمكّن من المرتبتين الأخيرتين أيضاً ، فإنما يبقى تعلّق الوجوب في الجملة بالنسبة إلى الجميع والعجز عن الجميع ، فيصحّ أنّه عجز عن الصوم المتعلّق به في الجملة مع العجز عن الآخرين كما هو مدلول الرواية.

قوله : «فاختيارنا في أُصول الفقه» إلى أخره ، أقول : لا يخفى أنّه يتمّ على القول بكون كلّ واحدٍ منها واجباً بالأصالة ولكن على البدل ، بمعنى أنّه لا يجب فعل الجميع ولا يجوز الإخلال بالجميع أيضاً ، وذلك يكفي في صدق تعلّق التكليف بالصوم بشرط التمكّن في الجملة ، ويصدق عليه أنّه عاجز عنه مع العجز عن الآخرين.

ومن جميع ما ذكرنا في معنى الحديث والإشكالات ، وتفاوت الحكم بتفاوت معاني الرواية ، وتفاوت حال الكفارات بتفاوت الموجبات لها ، ظهر وجه اختلاف

٢٠٦

الأصحاب في التعبير عن عنوان المسألة ، فلنفصّل الكلام في مقامات ، وننقل الخلاف ، ونذكر ما هو الحري بالاختيار بذكر مباحث :

الأوّل : كفّارة شهر رمضان

واختلف فيها الأصحاب ، فذهب المفيد (١) والمرتضى (٢) وابن إدريس (٣) والعلامة في القواعد والإرشاد والمنتهى والتذكرة (٤) بل الظاهر أنّه المشهور إلى أنّ من عجز عن الكفّارات الثلاث يصوم ثمانية عشر يوماً.

وذهب الصدوق في المقنع (٥) وابن الجنيد (٦) وصاحب المدارك (٧) وبعض من تأخّر عنه (٨) إلى أنّه يتصدّق بما يطيق ، وهو ظاهر الشيخ في كتابي الأخبار (٩).

وذهب العلامة في المختلف (١٠) والشهيد في الدروس (١١) إلى التخيير بينهما ، وكذلك الشهيد الثاني في المسالك (١٢).

وقال في التحرير : لو عجز عن صيام شهرين متتابعين وتمكّن من صيامها متفرقة ولم يقدر على العتق ولا الإطعام فالوجه وجوب الشهرين متفرّقة ، ولو عجز صام ثمانية عشر يوماً.

__________________

(١) المقنعة : ٣٤٥ ، ٥٦٩.

(٢) جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى) ٣ : ٥٥.

(٣) السرائر ١ : ٣٧٩.

(٤) القواعد ١ : ٣٧٧ ، الإرشاد ١ : ٣٠٤ ، المنتهي ٢ : ٥٧٥ ، التذكرة ٦ : ٥٦.

(٥) المقنع (الجوامع الفقهيّة) : ١٦.

(٦) نقله عنه في المختلف ٣ : ٤٤٤.

(٧) المدارك ٦ : ١٢١.

(٨) كصاحب الذخيرة : ٥٠٨.

(٩) التهذيب ٤ : ٢٠٥ ح ٥٩٤ ، الاستبصار ٢ : ٩٥ ح ٣١٠.

(١٠) المختلف ٣ : ٤٤٤.

(١١) الدروس ١ : ٢٧٧.

(١٢) المسالك ٢ : ٣٩.

٢٠٧

ثمّ قال : لو عجز عن الشهرين وقدر على شهر فالوجه وجوبه ، ولا ينتقل إلى ثمانية عشر ، وكذا لو قدر على عشرين يوماً على إشكال في ذلك ، ولو عجز عن إطعام ستّين وتمكّن من إطعام ثلاثين وجب ، ولو تمكّن من صيام شهر والصدقة على ثلاثين فالأقرب وجوبهما معاً (١).

وعن المنتهي أنّه جعل التصدّق بالممكن بعد ثمانية عشر يوماً (٢).

وقال الشيخ في النهاية : إن لم يتمكّن من الكفارات الثلاث فليتصدّق بما تمكّن منه ، فإن لم يتمكّن من الصدقة صام ثمانية عشر يوماً ، وإن لم يقدر صام ما تمكّن منه ، وإن لم يتمكّن من ذلك قضى واستغفر الله ، وليس عليه شي‌ء (٣).

وعن السيد : لو عجز عن الثلاثة صام ثمانية عشر يوماً متتابعات ، فإن لم يقدر تصدّق بما وجد وصام ما استطاع (٤).

حجّة الأوّل : رواية أبي بصير المتقدّمة (٥).

وحجّة الثاني : صحيحة عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في رجل أفطر في شهر رمضان متعمّداً يوماً واحداً من غير عذر ، قال : «يعتق نسمة ، أو يصوم شهرين متتابعين ، أو يطعم ستّين مسكيناً ، فإن لم يقدر تصدّق بما يطيق» (٦).

وحسنته لإبراهيم بن هاشم ، عنه عليه‌السلام : في رجل وقع على أهله في شهر رمضان فلم يجد ما يتصدّق به على ستّين مسكيناً ، قال : «يتصدق بقدر ما يطيق» (٧) والظاهر أنّ

__________________

(١) التحرير ١ : ٨٠.

(٢) المنتهي ٢ : ٥٧٥.

(٣) النهاية : ١٥٥.

(٤) جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى) ٣ : ٥٥.

(٥) التهذيب ٤ : ٣١٢ ح ٩٤٤ ، الاستبصار ٢ : ٩٧ ح ٣١٤ ، المقنعة : ٣٨٠ ، الوسائل ٧ : ٢٧٩ أبواب بقيّة الصوم الواجب ب ٩ ح ١.

(٦) التهذيب ٤ : ٢٠٥ ح ٥٩٤ ، الوسائل ٧ : ٢٨ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٨ ح ١.

(٧) الكافي ٤ : ١٠٢ ح ٣ ، التهذيب ٤ : ٢٠٦ ح ٥٩٦ ، الاستبصار ٢ : ٨١ ح ٢٤٦ ، الوسائل ٧ : ٢٩ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٨ ح ٣.

٢٠٨

المراد العجز عن الخصال الثلاث.

وحجّة الثالث : الجمع بين الروايتين.

والأظهر العمل على الأوّل.

والقدح في سند الرواية من جهة إسماعيل بن مرار وعبد الجبار بن مبارك (١) مع عمل المشهور عليها لا وجه له.

مع أنّ إسماعيل بن مرار ممن يروي عنه إبراهيم بن هاشم في غاية الكثرة (٢) ، وهو مؤيّد قوي.

وروى الكشي عن عبد الجبار أيضاً خبراً دالّا على مدحه (٣) ، ولكن سنده ضعيف ، والناقل للرواية هو عبد الجبار.

وكيف كان فالشهرة تجبره ، ولا تترجّح عليه الصحيحة مع كون العامل بها شاذّاً ، والجمع إنّما يتمّ إذا حصل التكافؤ وهو مفقود.

وأما قول التحرير ؛ فلعلّه مستند إلى عموم قوله عليه‌السلام : «إذا أمرتكم بشي‌ء فاتوا منه ما استطعتم» (٤) ونحوه من الأخبار.

وفيه : أنّ رواية الثمانية عشر يوماً بل وصحيحة عبد الله بن سنان أخصّ من تلك القاعدة ، والخاص مقدّم على العام ، ومع هذا فلا دليل على الجمع بينه وبين رواية الثمانية عشر بجعلها متأخّرة عنه.

وأبعد من ذلك ما نقل عن المنتهي.

وأما دليل الشيخ والسيد ، فلعلّه الجمع بين الأخبار وقاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور وما في معناه ، ولكنّه بالتفصيل الذي ذكراه لم يدلّ عليه دليل.

__________________

(١) لعلّ أحد القادحين هو صاحب المدارك ٦ : ١٢٠.

(٢) انظر معجم رجال الحديث رقم : ١٤٣٠.

(٣) اختيار معرفة الرجال ٢ : ٨٣٩.

(٤) عوالي اللآلي ٤ : ٥٨ ح ٢٠٦.

٢٠٩

وربما بُني الإتيان بحسب المقدور على أنّ وجوب الجزء هل هو تابع للكلّ أو بالعكس ، أو كلّ واحد منهما مستقل ، والأظهر أنّ وجوب الجزء تابع ، والدلالة عليه تبعية.

وربّما يؤيّد الاستقلال : بأنّ الأصل عدم اشتراط وجوب بعض الأجزاء بالقدرة على الأخر ، وإلا لزم إما الترجيح بلا مرجح أو الدور.

وفيه : أنّ الحكم متعلّق بالكلّ ، وهو وإن استلزم الأمر بالجزء ، لكنه من باب وجوب المقدّمة ، وليس وجوبه أصلياً ، بل تبعي ، فلا يحتاج إلى التمسّك بالأصل في عدم اشتراط وجوب بعضها ببعض ، مع أنّ الدور المتوهّم ليس من باب الدور التوقيفي ، بل هو معي ، ولا استحالة فيه.

ثمّ على القول بلزوم الثمانية عشر يوماً ففي وجوب التتابع وعدمه قولان (١) ، ناظران إلى إطلاق الرواية منضمّاً إلى الأصل ، وإلى اقتضاء البدليّة ذلك ، وفي عمومه منع ، نعم يؤيّده ما قدّمناه سابقاً مع كونه أحوط.

ويؤيّد الأوّل : رواية سليمان بن جعفر الجعفري ، عن أبي الحسن عليه‌السلام : «إنّما الصيام الذي لا يفرّق : كفّارة الظهار ، وكفّارة الدم ، وكفّارة اليمين» (٢) ولعلّه أظهر.

ولو فعل البدل ثم قدر على المبدل فلا يجب المبدل ؛ لأنّ الأمر يقتضي الإجزاء ، ورواية مؤمن الطاق الواردة في الظهار المخالفة لذلك محمولة على الاستحباب (٣).

__________________

(١) القول بوجوب التتابع للمفيد في المقنعة : ٣٤٥ ، والسيّد في جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى) ٣ : ٥٥ ، والشهيد في الدروس ١ : ٢٧٧ ، والقول بعدمه للشيخ في النهاية : ١٥٤ ، والعلامة في المختلف ٣ : ٤٤٦ ، والشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٣٩.

(٢) الكافي ٤ : ١٢٠ ح ١ ، التهذيب ٤ : ٢٧٤ ح ٨٣٠ ، الاستبصار ٢ : ١١٧ ح ٣٨٢ ، الوسائل ٧ : ٢٨٠ أبواب بقيّة الصوم الواجب ب ١٠ ح ٣.

(٣) التهذيب ٨ : ١٧ ح ٥٤ ، الإستبصار ٣ : ٢٦٨ ح ٩٥٨ ، الوسائل ١٥ : ٥٥٣ أبواب الكفّارات ب ٥ ح ٢ في رجل صام شهراً من كفارة رمضان ثمّ وجد نسمة ، قال : يعتقها ولا يعتدّ بالصوم.

٢١٠

ولو حصل العجز بعد صوم شهر فيحتمل وجوب الثمانية عشر ؛ لصدق العجز عن صيام شهرين ، ووجوب تسعة (١) ؛ لأنّ الثمانية عشر بدل عن الشهرين ، فيكون نصفها بدلاً عن نصفه ، والسقوط رأساً ؛ لصدق صيام الثمانية عشر في ضمن الشهر ، والأوّل أظهر.

ثمّ بعد البناء على صيام الثمانية عشر لو عجز عنه ، فربّما يظهر من المحقّق في الشرائع أنّه يأتي بما تمكّن منه ، ولعلّه للعمل بأن الميسور لا يسقط بالمعسور ، قال : وإن عجز استغفر الله فهي كفّارته (٢).

قال في المدارك (٣) : إنّ هذا الحكم يعني الانتقال من الصوم إلى الاستغفار مقطوع به في كلام الأصحاب ، بل ظاهرهم أنّه موضع وفاق ، وتدلّ عليه روايات ، منها رواية أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «كلّ من عجز عن الكفّارة الّتي تجب عليه ، صوم أو صدقة أو عتق في يمين أو نذر أو قتل أو غير ذلك ممّا يجب على صاحبه فيه الكفّارة ، فالاستغفار له كفّارة ما خلا يمين الظهار» (٤).

وأمّا حدّ العجز ومعناه : ففي العتق والصوم ظاهر ؛ إذ عتق بعض الرقبة لا يسمّى عتق رقبة ، وكذا صيام الأقلّ من الشهرين ، وأما الصدقة فحدّدوه بأن لا يجد ما يصرفه في الكفّارة فاضلاً عن قوته وقوت عياله في ذلك اليوم ، وكذلك غيره من مستثنيات الدين.

قال المحقّق الأردبيلي رحمه‌الله : وكذا العجز عن قيمة الرقبة مع وجودها بها ، فكأنهم أخذوه من كون ذلك في الدين ونحوه ، قال : فلو خالف وتصدّق به فلا يبعد الإجزاء ؛ لاحتمال كون ذلك للرخصة (٥).

__________________

(١) يعني : ويحتمل وجوب تسعة.

(٢) الشرائع ١ : ١٧٦.

(٣) المدارك ٦ : ١٢٢.

(٤) التهذيب ٨ : ١٦ ح ٥٠ ، الاستبصار ٤ : ٥٦ ح ١٩٥ ، الوسائل ١٥ : ٥٥٤ أبواب الكفّارات ب ٦ ح ١.

(٥) مجمع الفائدة والبرهان ٥ : ٧٧.

٢١١

الثاني : كفّارة الظهار

فذهب المفيد (١) وابن الجنيد (٢) فيما لو عجز عن الخصال الثلاث إلى أنّه لا بدل لها ، بل يحرم عليه وطؤها إلى أن يؤدّي الواجب.

والشيخ في النهاية حكم بأنه يفرق بينهما الحاكم ولا يقربها إلى أن يؤدّي الكفّارة ، ولكنّه قال بعد ذلك : إذا عجز عن إطعام الستّين صام ثمانية عشر يوماً ، فإن عجز عن ذلك أيضاً ، كان حكمه ما قدّمناه من أنّه يحرم وطؤها إلى أن يكفر (٣).

وقال ابن البرّاج مثل ما قال الشيخ أخيراً (٤).

وقال ابن حمزة : إذا عجز عن صوم شهرين متتابعين صام ثمانية عشر يوماً ، وإن عجز تصدّق عن كلّ يوم بمدّ من طعام ، فإن عجز استغفر الله ولم يعد (٥) ، ولعلّ مراده أيضاً ، بعد العجز عن الخصال الثلاث.

وقد تقدّم قول العلامة في القواعد أنّه لو عجز عن الكفّارة وما يقوم مقامها كفاه الاستغفار وحلّ الوطء (٦).

وقال ابن إدريس بعد نقل عبارة النهاية الأُولى : والأولى أنّه يستغفر الله بدلاً عن الكفّارة ، ولا يفرّق الحاكم بينهما ؛ لعدم الدليل. وقال : إنّ الشيخ رجع عمّا قاله في الاستبصار ، وقال : إنّه يطأ زوجته بعد الاستغفار ، وتكون الكفّارة في ذمّته إلى أن يقدر عليها (٧). وهو مختار العلامة في المختلف (٨).

__________________

(١) المقنعة : ٥٢٤.

(٢) نقله عنه في المختلف (طبعة مركز الإعلام الإسلامي) ٧ : ٤٢١.

(٣) النهاية : ٥٢٦.

(٤) المهذّب ٢ : ٣٠٠.

(٥) الوسيلة : ٣٥٤.

(٦) القواعد (الطبعة الحجريّة) ٢ : ١٤٩.

(٧) السرائر ٢ : ٧١٣ ، وانظر النهاية ٥٢٦ ، والاستبصار ٤ : ٥٦.

(٨) المختلف (طبعة مركز الإعلام الإسلامي) ٧ : ٤٢٢.

٢١٢

وذهب الصدوقان إلى أنّ بدل الكفّارة هو التصدّق بما يطيق (١) ، وقال الصدوق في المقنع بعد ذلك : وروى في حديث آخر أنّه إذا لم يطق إطعام ستّين مسكيناً صام ثمانية عشر يوماً (٢).

حجّة المفيد وابن الجنيد : الأصل ، وأن نصّ القرآن إنّما جاء على هذه الخصال الثلاث ، فلا يجزئ غيرها ، ورواية أبي بصير المتقدّمة في الجواب عن الإشكال الرابع (٣).

وفيه : أنّ الأصل مخرج عنه بالدليل. وكذلك الآية تخصص به ، ولا يستلزم ذلك النسخ كما توهّم ، والرواية معارضة بأقوى منها ، مع أنّها لا تنفي لزوم الثمانية عشر أو التصدّق إذا أمكن كما لا يخفى ، بل إنّما تدلّ على أنّ الاستغفار بعد العجز عمّا يجب عليه لا يوجب الحلّ ، وسيجي‌ء ما يعارض ذلك أيضاً.

وحجّة القول بوجوب الثمانية عشر يوماً : عموم رواية أبي بصير المتقدّمة في أوّل الباب بالتقريب الذي بيّناه ، وخصوص موثّقة أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل ظاهر من امرأته ، فلم يجد ما يعتق ولا ما يتصدّق ، ولا يقوى على الصيام قال : «يصوم ثمانية عشر يوماً ، لكلّ عشرة مساكين ثلاثة أيّام» (٤).

وهذا هو الدليل الذي ذكرنا أنّه مخرج عن الأصل ومخصّص للاية ؛ لجواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، سيّما إذا اشتهر العمل به.

وأمّا حجّة جواز الوطء بعد حصول ما يقوم مقام الكفّارة ، فهو ظاهر إطلاق هاتين الروايتين في مقام الحاجة ، وخصوص موثّقة إسحاق بن عمار بل حسنته لإبراهيم بن هاشم أو صحيحته ؛ لمنع كون إسحاق هذا واقفيّاً (٥) ، وكون مدح إبراهيم بمنزلة التوثيق

__________________

(١) نقله عنهما في المختلف (طبعة مركز الإعلام الإسلامي) ٧ : ٤٢٢.

(٢) المقنع (الجوامع الفقهيّة) : ٣٤.

(٣) الكافي ٧ : ٤٦١ ح ٥ ، التهذيب ٨ : ١٦ ح ٥٠ ، الاستبصار ٤ : ٥٦ ح ١٩٥.

(٤) التهذيب ٨ : ٢٣ ح ٧٤.

(٥) انظر معجم رجال الحديث رقم ١١٥٧ ـ ١١٦٠.

٢١٣

عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «الظهار إذا عجز صاحبه عن الكفّارة فليستغفر ربّه وينوي أن لا يعود قبل أن يواقع ، ثمّ ليواقع ، وقد أجزأ عنه ذلك من الكفّارة ، فإذا وجد السبيل إلى ما يكفّر يوماً من الأيّام فليكفّر ، وإن تصدّق وأطعم نفسه وعياله فإنه يجزئه إذا كان محتاجاً ، وإن لم يجد ذلك فليستغفر ربّه وينوي أن لا يعود ، فحسبه ذلك والله كفّارة» (١).

وأمّا حجّة الصدوقين ؛ فلم أقف لهما على شي‌ء ، ولا دلالة في صحيحة عبد الله بن سنان المتقدّمة (٢) على حكم الظهار ، ولا يمكن التمسّك بقاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور ، ولجريانها في الصوم أيضاً ، وتعيّن الإطعام عليه بعد العجز عن الصيام إنّما يسلّم إذا تمكّن من تمامه ، مع أنّ القاعدة عامّة ، والموثّقة خاصّة ، فهي أحرى بالعمل.

واعلم أنّ المراد بالاستغفار في هذا الباب وغيره ممّا ورد فيه التوبة ، ولكن مع التكلّم بقوله «أستغفر الله» فهو كاشف عن التوبة ، كما أنّ كلمة الشهادة كاشفة عن الإسلام ، فلا ينفع إذا لم يكن تائباً بينه وبين الله ، وإن حُكم بسقوط الكفّارة عنه وحلّ الوطء ظاهراً.

ويستفاد ذلك من روايات كثيرة ، منها الروايات المتقدّمة ، ومنها رواية داود بن فرقد الواردة في وطء الطامث ، ففي آخرها : «إن الاستغفار توبة وكفّارة لكلّ من لم يجد السبيل إلى شي‌ء من الكفّارة» (٣).

ولا بدّ فيه من النيّة ؛ لأنه عبادة موقوفة عليها.

ومقتضى كونه بدلاً سقوط الكفّارة ، فما اشتملت عليه موثّقة إسحاق بن عمار من لزوم الكفّارة إذا وجد إليها السبيل بعد ذلك (٤) محمول على الاستحباب.

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤٦١ ح ٦ ، التهذيب ٨ : ٣٢٠ ح ١١٩٠ ، الاستبصار ٤ : ٥٦ ح ١٩٦.

(٢) التهذيب ٤ : ٢٠٥ ح ٥٩٤ ، الوسائل ٧ : ٢٨ أبواب ما يمسك عنه الصائم ٨ ح ١.

(٣) التهذيب ٨ : ٣٢٠ ح ١١٨٨ ، الوسائل ١٥ : ٥٥٥ أبواب الكفّارات ب ٦ ح ٣.

(٤) الكافي ٧ : ٤٦١ ح ٦ ، التهذيب ٨ : ٣٢٠ ح ١١٩٠ ، الاستبصار ٤ : ٥٦ ح ١٩٦ ، الوسائل ١٥ : ٥٥٥ أبواب الكفّارات ب ٦ ح ٤ ، إنّ الظهار إذا عجز صاحبه عن الكفّارة ، فليستغفر ربّه ولينو أن لا يعود قبل أن يواقع ، ثمّ ليواقع وقد أجزأ عنه ، فإذا وجد السبيل إلى ما يكفّر به يوماً من الأيّام فليكفّر.

٢١٤

الثالث : كفّارة النذر

وقد مرّ ما قاله فيها ابن حمزة (١) وابن إدريس (٢) ، وقد عرفت مقتضى عموم عبارتهم المذكورة في كتاب الكفارات ، وأنّه يشمله على المختار من كون كفّارة النذر هي كفّارة شهر رمضان ، وقد ذكرنا أنّ عموم رواية أبي بصير (٣) يشمله ، فيجب عليه صيام ثمانية عشر يوماً بعد العجز عن الآخرين أيضاً.

وأمّا الإطعام عن كلّ يوم بمدّ ؛ فلم نقف على دليله ، إلا ما أشرنا إليه سابقاً.

وأما الاستغفار ؛ فلا إشكال فيه كما تقدّم ودلّت عليه رواية أبي بصير المتقدمة في الإشكال الرابع (٤).

وأمّا قول العلامة بلزوم الإتيان بما قدر عليه من أصل الكفّارة نظراً إلى قاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور (٥) ، فتدفعه الروايات كما مرّ.

الرابع : صيام النذر وما في معناه

فمن نذر صيام شهرين وعجز عنه فلا دليل على وجوب ثمانية عشر يوماً عليه ، ولا التصدّق عوضاً عن الثمانية عشر يوماً عليه ولا غيره.

نعم تجري فيه قاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور ، وهو أيضاً مشكل ، فلا يبقى إلا ما ورد من التصدق عن كلّ يوم بمدّ في كفّارة صوم النذر بعد العجز عنه (٦) كما مرّت الإشارة إليه.

__________________

(١) الوسيلة : ١٤٧.

(٢) السرائر ٣ : ٧٤.

(٣) التهذيب ٤ : ٣١٢ ح ٩٤٤ ، الاستبصار ٢ : ٩٧ ح ٣١٤ ، الوسائل ٧ : ٢٧٩ أبواب بقيّة الصوم الواجب ب ١٩ ح ١.

(٤) التهذيب ٨ : ١٦ ح ٥٠ ، وص ٣٢٠ ح ١١٨٩ ، الاستبصار ٤ : ٥٦ ح ١٩٥ ، الوسائل ١٥ : ٥٥٤ أبواب الكفّارات ب ١٦ ح ١.

(٥) التحرير ١ : ٨٠.

(٦) الوسائل ١٥ : ٥٦٤ أبواب الكفّارات ب ١٤.

٢١٥

وسيجي‌ء الكلام والخلاف في وجوب فدية صيام النذر وفي مقدار كفّارته ، وكيف كان فلا دليل على التفصيل المذكور فيه.

فحاصل المختار في المسألة : إن كان من كان عليه الكفارات الثلاث مرتّبة أو مخيّرة عجز عن الجميع فيجب عليه صيام ثمانية عشر يوماً مطلقاً على الأظهر ، وإن كان التتابع أحوط ، وإن عجز عنه فإطعام ثمانية عشر مسكيناً بمدّ من طعام على ما تردّد فيه ، مع رجحان ما للوجوب من جهة الشهرة وتتبّع النظائر ، وظاهر الروايتين المتقدّمتين.

ومع العجز عنه فكفّارته الاستغفار ، بمعنى سقوط الكفّارة عنه ، وإن كان في الظهار فيحلّ له الجماع ، وأما كفّارة الجمع والشهران المنذوران فلم نقف فيهما على دليل يفيد هذا التفصيل.

التاسع عشر : لو تبرّع متبرّع عمّن تجب عليه الكفّارة ، فإن كان ميّتاً فالأصحّ جوازه مطلقاً لعموم الروايات المستفيضة جدّاً الدالّة بعمومها على أنّ كلّ من عمل عملاً صالحاً عن الميّت ينفعه (١) ، وقد مرّ بعضها في كتاب الصلاة.

ويؤيّده جواز أداء الدين ، بل الكفّارة أيضاً دين.

ويؤيّده ما مرّ في الزكاة للغارمين ، وكذلك ما دلّ على جواز فعل الوليّ عن الميّت وغير ذلك.

ويظهر من العلامة في المختلف حيث اكتفى بذكر الخلاف في الحيّ كون المسألة إجماعية (٢) ، ولكن يظهر من المسالك وجود الخلاف حيث جعله أصحّ القولين (٣) ،

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٦٥ أبواب قضاء الصلاة ب ١٢.

(٢) المختلف ٣ : ٤٥٢.

(٣) المسالك ٢ : ٣٩.

٢١٦

ومن الدروس حيث جعله أقوى القولين (١).

وأمّا الحيّ فنقل في المختلف عن المبسوط أنّه كالميت (٢) قال ، وقال بعض أصحابنا : لا يجزئ ، والوجه عندي الأوّل ، واحتجّ عليه بأنه كوفاء الدين (٣).

وحجّة المنع : الأصل ، وأنّه عبادة مشروطة بالنيّة ، ومن شأنها أن لا تقبل النيابة (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلّا ما سَعى) (٤).

وهناك قول ثالث اختاره في الشرائع ، وهو الجواز في غير الصوم (٥) ، واختار في المسالك هذا القول لكن مع الإذن (٦) ، والظاهر أنّه مختار المحقّق الشيخ عليّ رحمه‌الله (٧).

ووجهه أمّا في الصوم فالأصل ، وكونه عبادة توقيفيّة ، والقياس على الميت باطل ، وأمّا في غير الصوم فلأنه ممّا يقبل النيابة ، ويؤيّده ما تقدّم من أداء الدين وغيره ، وأمّا قوله تعالى (لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلّا ما سَعى) (٨) ففيه : أنّ الإيمان هو سعي المؤمن ، وهذا من ثمراته ، فالأظهر مختار المسالك.

__________________

(١) الدروس ١ : ٢٧٨.

(٢) المبسوط ١ : ٢٧٦.

(٣) المختلف ٣ : ٤٥٢ ، والقائل بعدم الإجزاء هو المحقّق في الشرائع ١ : ١٧٦.

(٤) النجم : ٣٩.

(٥) الشرائع ١ : ١٧٦.

(٦) المسالك ٢ : ٣٩.

(٧) جامع المقاصد ٣ : ٧١.

(٨) النجم : ٣٩.

٢١٧

المقصد الرابع

فيما يكره للصائم

وهو أُمور :

منها : النساء تقبيلاً ولمساً وملاعبة.

والأظهر أنّه لمن يحرّك ذلك شهوته ، سواء كان شيخاً أو شاباً ، فالإطلاق كما يظهر من بعض العبارات (١) ليس بجيد ، وكذلك التفصيل بالشيخ والشاب كما يظهر من الخلاف ؛ لأنه جعل ذلك قولاً في مقابل من فصّل بتحريك الشهوة وعدمه (٢) ، ودليل المسألة وتحقيق الحال قد مرّ في مسألة الاستمناء فلا نعيد.

ومنها : الاكتحال بما فيه صبر (٣) أو مسك كما نقل عن الشيخ وجماعة (٤).

وعن ابن حمزة زيادة العنبر (٥). وفي المعتبر اقتصر على المسك (٦). وعن ابن زهرة بما فيه صبر وما أشبهه (٧). ولعلّ المراد ب «ما أشبهه» ماله طعم يصل إلى الحلق كما في

__________________

(١) كعبارة المحقّق في الشرائع ١ : ١٧٦.

(٢) الخلاف ٢ : ١٩٧ المسألة ٤٨.

(٣) الصبر : عصارة شجر مرّ ، لسان العرب ٤ : ٤٤٢.

(٤) المبسوط ١ : ٢٧٢ ، التذكرة ٦ : ٩٣٠ ، المنتهي ٢ : ٥٨٢.

(٥) الوسيلة : ١٤٧.

(٦) المعتبر ٢ : ٦٦٤.

(٧) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٥٧٢.

٢١٨

التحرير والتذكرة (١). ولعلّ مراد من اقتصر بالبعض المثال.

وقد اختلفت الأخبار في ذلك ، فمنها : ما يدلّ على المنع من الاكتحال مطلقاً ، كصحيحة الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أنّه سئل عن الرجل يكتحل وهو صائم ، فقال : «لا ، إنّي أتخوّف أن يدخل رأسه» (٢).

وصحيحة سعد بن سعد الأشعري ، عن الرضا عليه‌السلام ، قال : سألته عليه‌السلام عمن يصيبه الرمد في شهر رمضان هل يذرّ عينه بالنهار وهو صائم؟ قال : «يذرّها إذا أفطر ، ولا يذرّها وهو صائم» (٣).

ومنها : ما يدلّ على الجواز مطلقاً ، كصحيحة محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في الصائم يكتحل ، قال : «لا بأس به ، ليس بطعام ولا شراب» (٤).

وصحيحة عبد الحميد بن أبي العلاء ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «لا بأس بالكحل للصائم» (٥).

ومنها : ما يدلّ على التقييد ، كصحيحة محمّد بن مسلم ، عن أحدهما» : أنّه سئل عن المرأة تكتحل وهي صائمة فقال : «إذا لم يكن كحل تجد له طعماً في حلقها فلا بأس» (٦).

وقويّة سماعة لعثمان بن عيسى قال : سألته عن الكحل للصائم فقال : «إذا كان كحلاً ليس فيه مسك وليس له طعم في الحلق فلا بأس به» (٧).

ومنها : ما يدلّ على أنّه لا يضرّ مع وجود ما فيه طعم أيضاً ، كرواية الحسن بن

__________________

(١) التحرير ١ : ٧٩ ، التذكرة ٦ : ٩٣.

(٢) التهذيب ٤ : ٢٥٩ ح ٧٦٩ ، الاستبصار ٢ : ٨٩ ح ٢٨٢ ، الوسائل ٧ : ٥٣ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢٥ ح ٩.

(٣) الكافي ٤ : ١١١ ح ٢ ، الوسائل ٧ : ٥٢ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢٥ ح ٣.

(٤) التهذيب ٤ : ٢٥٨ ح ٧٦٥ ، الاستبصار ٢ : ٨٩ ح ٢٧٨ ، الوسائل ٧ : ٥١ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢٥ ح ١.

(٥) التهذيب ٤ : ٢٥٩ ح ٧٦٧ ، الاستبصار ٢ : ٨٩ ح ٢٨٠ ، الوسائل ٧ : ٥٣ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢٥ ح ٧.

(٦) التهذيب ٤ : ٢٥٩ ح ٧٧١ ، الاستبصار ٢ : ٩٠ ح ٢٨٤ ، الوسائل ٧ : ٥٢ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢٥ ح ٥.

(٧) الكافي ٤ : ١١١ ح ٣ ، التهذيب ٤ : ٢٥٩ ح ٧٧٠ ، الاستبصار ٢ : ٩٠ ح ٢٨٣ ، الوسائل ٧ : ٥٢ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢٥ ح ٢.

٢١٩

أبي غندر قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أكتحل بكحل فيه مسك وأنا صائم؟ فقال : «لا بأس» (١).

وتؤيّده صحيحة عليّ بن جعفر ، عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن الصائم يذوق الشراب والطعام يجد طعمه في حلقه ، قال : «لا يفعله» قلت : فإن فعل؟ قال : «لا شي‌ء عليه ولا يعود» (٢).

قيل : وممّا يدلّ على عدم الإفساد ، وإن وجد طعمه في حلقه بخصوصه : أنّ الحنظل إذا اطلي به أسفل الرجل وجد طعمه في الحلق ، مع أنّه لا يفطر إجماعاً.

فالأظهر كراهة كلّ ماله طعم يصل إلى الحلق مطلقاً ، وربّما احتمل الكراهة مطلقاً ؛ لإطلاق مثل صحيحة سعد بن سعد الأشعري (٣).

ومنها : إخراج الدم المضعف ، والظاهر عدم الفرق بين الحجامة والفصد وغيرهما ، كما صرّح به الفاضلان (٤) ، لاستفادة ذلك من العلّة المستفادة من الأخبار ، مثل صحيحة الحلبي ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : سألته عن الصائم أيحتجم؟ قال : «إنّي أتخوّف عليه ، أما يتخوّف على نفسه» قلت : ماذا يتخوّف؟ قال : «الغشيان ، أو تثور به مرّة» قلت : أرأيت إن قوي على ذلك ولم يخشَ شيئاً؟ قال : «نعم إن شاء الله تعالى» (٥).

وصحيحة سعيد الأعرج ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصائم يحتجم؟ قال : «لا بأس ، إلا أن يتخوّف على نفسه الضعف» (٦).

وصحيحة عبد الله بن سنان ، عنه عليه‌السلام ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام قال : «لا بأس

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٦٠ ح ٧٧٢ ، الاستبصار ٢ : ٩٠ ح ٢٨٥ ، الوسائل ٧ : ٥٣ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢٥ ح ١١.

(٢) التهذيب ٤ : ٣٢٥ ح ١٠٠٤ ، قرب الإسناد : ١٠٣ ، الوسائل ٧ : ٧٥ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣٧ ح ٥.

(٣) الكافي ٤ : ١١١ ح ٢ ، الوسائل ٧ : ٥٢ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢٥ ح ٣ عمن يصيبه الرمد في شهر رمضان ، هل يذر عينه في النهار وهو صائم؟ قال : يذرّها إذا أفطر ، ولا يذرّها وهو صائم.

(٤) المعتبر ٢ : ٦٦٤ ، المنتهي ٢ : ٥٨٢.

(٥) الكافي ٤ : ١٠٩ ح ١ ، التهذيب ٤ : ٢٦١ ح ٧٧٧ ، الاستبصار ٢ : ٩١ ح ٢٩٠ ، الوسائل ٧ : ٥٤ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢٦ ح ١.

(٦) التهذيب ٤ : ٢٦٠ ح ٧٧٤ ، الاستبصار ٢ : ٩٠ ح ٢٨٧ ، الوسائل ٧ : ٥٦ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢٦ ح ١٠.

٢٢٠