دراسات في الحديث والمحدّثين

هاشم معروف الحسني

دراسات في الحديث والمحدّثين

المؤلف:

هاشم معروف الحسني


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٨

١
٢

٣
٤

تأليف

هاشم معروف الحسني

دراسات

في

الكافي للكليني ، والصحيح للبخاري

يعرض هذا الكتاب لمحة عن الكتابة قبل الاسلام ومراحلها بعده ، وعن الحديث ومراحل تدوينه واقسامه واصنافه وعن علمي الدراية والرجال ، ويتعرض للصحابة والعدالة وآراء المحدثين والفقهاء فيهما ، ويقارن بين العدالة التي اثبتها المحدثون لجميع الصحابة وبين العصمة التي اثبتها الشيعة لائمتهم (ع) كما يتعرض لموقف كل من الشيعة والسنة من الرواة ومجاميع الحديث ، وللبخاري والكليني وتاريخهما والى صحيح البخاري والكافي ومكاتنهما عند الفريقين ويقدم امثلة منهما في مختلف المواضيع إلى غير ذلك مما يتصل بموضوع الكتاب مع الاختصار والتوضيح حسب الامكان ، ويعتمد في جميع مباحثه على المصادر الموثوقة عند الفريقين.

٥
٦

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله والصلاة على محمد وآل بيته وصحبه الطيبين

وبعد ...

لقد وجدت وانا ادرس تاريخ التشريع واصوله اسرافا في التهم وغلوا لا مبرر له من السنة والشيعة في احكامهم على الفقهاء والمحدثين من الفريقين ذلك الغلو الذي اتخذ طابع التعصب الطائفي الذي اطاح بالقيم واحدث فجوة بينهما فرقتهم شيعا واحزابا ، واصبحوا ينظرون من هذه الزاوية وحدها إلى آثارهم ومؤلفاتهم على اختلاف انواعها ومقاصدها ، مع العلم بان تلك المؤلفات وبخاصة ما الفه الفريقان في الحديث يمكن الاستفادة منه والاعتماد عليه إلى ابعد الحدود ما دام ينتهي في واقعه إلى مصدر واحد وهو الرسول الاعظم (ص) الذي يروي عنه الفريقان السنة بوسائطهم والشيعة بواسطة أئمتهم (ع) وغيرهم من الموثوقين ، ولكنهم بدلا من دراستها دراسة واعية شاملة بقصد الاستفادة

٧

منها وتصفيتها انكمش كل فريق على مؤلفاته وآثاره ، واتهم الاخر بالتعصب والانحراف عن الحق ، وقال السنة : ان الشيعة لا يقبلون الا المرويات عن أئمتهم على شرط ان يكون الراوي لها اماميا ، ويرفضون جميع المرويات ولو كانت عن الرسول (ص) إذا رواها غيرهم صحابيا كان ام غيره ولو كان في اعلى درجات الايمان والاستقامة ، وقد نبهت على خطا هؤلاء الغلاة في كتابي المبادئ العامة للفقه الجعفري بما حاصله انه إذا كان بين الشيعة من لا يعتمد على مرويات الموثوقين من السنة عن الرسول (ص) فهو لا يمثل الشيعة ، ولا يعبر عن رأيهم في هذه المسالة ، لان كتب الحديث والرجال التي تعد بالعشرات تنص على قبول مرويات الثقاة من السنة وغيرهم ، ولدينا من الارقام ما يؤكد هذه الحقيقة كما سنتعرض لذلك في الفصول الآتية من هذا الكتاب.

والى جانب هذه النسبة إلى الشيعة ، نجد الشيعة انفسهم ينسبون إلى السنة بانهم لا يعتمدون على مرويات الشيعة ويطرحون الحديث إذا كان رواته كلهم أو بمضهم من الشيعة استنادا إلى كثير من المصادر السنية التي تؤكد هذه الحقيقة ، تلك المصادر التي ينص بعضها على وجوب طرح الحديث لمجرد انه يتفق مع بعض معتقداتهم ، أو لان فيه رائحة التشيع هذا بالاضافة إلى ما ينسبه كل فريق الى الاخر من خلال بعض المرويات المدونة في مجاميع الحديث عند الطرفين بدون تدبر في مضامينها وتحقيق في اسانيدها وقبل ردها الى الاصول المقررة عند الفريقين ، ونتيجة لهذا الاسراف والغلو في الاتهامات ولما تولد عن ذلك من المضاعفات اتسعت المسافة بينهما واتخذف شكلا كريها بعيدا عن منطق الدين والحق ، ونبذ كل منهما ما عند الآخر من ثروة فكرية يمكن الاستفادة منها إلى ابعد الحدود.

وكان بالامكان لو كانت النفوس طيبة ، وتجرد الباحثون إلى طلب

٨

الحق الاستفادة من كتب الحديث واستغلالها لخدمة الدين سنية كانت أم شيعية لانها وان اختلفت من حيث رواتها ومصادرها الا انها تلتقي في كثير من محتوياتها ومضامينها ، وتعبر عن السنة النبوية المطهرة ، بالرغم من اننا لا نؤمن بكل ما جاء فيها من المرويات سواء في ذلك الصحاح الستة المعتمدة عند السنة ، أو الكتب الاربعة التي يعتمدها الشيعة من المصادر الموثوقة في جملتها بين كتب الحديت.

اجل اقول ذلك وبين يدي كتابان من كتب الحديث وهما الصحيح للبخاري والكافي لكليني ، ولست مبالغا إذا قلت بانهما من اوثق الكتب في موضوح الحديث عند السنة والشيعة واغناها بالآثار الاسلامية التي تناولت جميع الشؤون الاسلامية وامدت الفكر بالانتاج والابداع في مختلف المواضيع ، ذلك لان ما جاء به الاسلام من القوانين والانظمة والاخلاق والآداب وغير ذلك من المناهج التربوية والاجتماعية وضع اصول هذه المناهج وقواعدها القرآن اولا ، وتعهدت السنة بتفاصيلها وتوضيح مشكلاتها ومجملاتها ، وستبقى السنة الى جانب القران مصدرا غنيا بتلك الثروة التي تمد الاسلابم بالخلود والبقاء حتى يرث الله الارض ومن عليها.

ولو وقف المسلمون بعد وفاة الرسول (ص) من السنة موقفا سليما وعملوا على تدوينها وجمعها من صدور الحفاظ قبل ان تأكلهم الحروب والغزوات وقبل ان تعبث بها ايدي الدساسين والمخربين ، لو وقفوا منها هذا الموقف لقطعوا الطريق على هؤلاء وغيرهم من المرتزقة الذين كا نوا يتقربون إلى الحكام بوضع الاحاديث التي تمس اخصامهم السياسيين وتؤيد عروشهم ، ولكن الحكام بعد وفاة الرسول (ص) بدلا ان يفسحوا المجال لجمعها من الصدور قبل ان تعبث بها الايدي ، منعوا من تدوينها وجمعها في الكتب بحجة المحافظة والحرص على كتاب الله كي

٩

لا تحتل مكانته من القلوب والنفوس ، كما تحدد اكثر الروايات موقف الخليفة الثاني من هذه المسالة.

ومهما كان الحال فقد عبثت الايدي في الحديث بسبب هذا الموقف السلبي من تدوينه ، ولعبت السياسة والطائفية دورهما البغيض في مرويات المحدثين من السنة والشيعة كما شاء لها الهوى والغرض خنى حدثت تلك الفجوة العميقة بين الفريقين ، واصبحت المجاميع الشيعية بنظر اخوانهم من السنة اداة طيعة لهدم الدين ، وتشويه معالمه ـ لان اصحابها ورواة احاديثها وضاعون كذابون على حد زعمهم ، تفوح منم رائحة الرفض وتبدو من محتوياتها مبادئ التشيع الهدامة على حد تعبير بعضهم ، والشئ الطبيعي في مثل هذه الحالات ان يكون لهذا التعصب اثاره السيئة في نفوس الشيعة التي تفرض عليهم ان ينظروا إلى صحاح السنة ومجاميعهم نظرة مليئة بالريبة والحذر والتشكيك لاسيما وهم يرون البخاري بصفته من اوثق المؤلفين عند السنة وكتابه من اصح المجاميع في الحديث لا يروي عن جعفر بن محمد الصادق ولا عن الائمة سن ولده الاطهار ، ويروي عن الاشرار والفجار كمعاوية ومروان بن الحكم وعمران ابن حطان الخارجي ، الذي قرض عبد الرحمن بن ملجم وامتدحه لانه قتل امام المسلمين وسيدهم عليا (ع) ويعتمد على العشرات ممن لم تتوفر فيهم الشروط التي تيسر للبا حث الاطمئنان بصدور الحديث عن الرسول (ص) وغيره من اعلام الصحابة الذين اخذوا من الرسرل مباشرة ، لهذا ولغيره من الاسباب والملابسات كان من المفروض على الشيعة ان يقفوا من مرويات السنة موقف المتحفظ الذي يريد ان يستوحي اقواله واعماله من الواقع الذي يحسه ويطمئن إليه ، وإذا شذ بعضهم عن هذا المبدأ وتأثر بالاستفزازات الموجهة إلى الشيعة ووقف من مروياتهم موقفا سلبيا متنكرا لما فيها من الغرر والدرر فهو لا يعبر عن رأي الشيعة ولا يمثلهم في مثل هذه المواضيع.

١٠

ومهما كان الحال فقد الف الشيعة في الحد يث عشرات الكتب خلال القرون الثلا ثة من الهجرة وكانت هذه الكتب مصدرا لكتب الاربعة التي الفها الكليني والصدوق ، والطوسي في القرنين الرابع والخامس ، كما الف السنة في الحديث بعد ان اتجه العلماء الى التدوين العشرات من الكتب بما في ذلك الصحاح الستة في الفترة نفسها ، وظهر من خلال المدونات الشيعية ، ان الشيعة قد اعتمدوا على مرويات الائمة اكثر من غيرها باعتبارهم المصدر الامين الحاكي لافوال الرسول وافعاله ، واخذوا عنهم اكثر مدوناتهم ، كما اتجه السنة فيما دونوه إلى غيرهم ممن يثقون به من الرواة والصحابة ، واعتبروا الائمة (ح) من ولد الرسول (ص) كغيرهم من الرواة والفقهاء يخضعون للنقد والتجريح والتوثيق ، فروى عنهم فريق ، وتجاهلهم آخرون ولعل محمد بن اسماعيل البخاري الوحيد بين اصحاب الصحاح من حيث تجاهله لاكثر الائمة وتلامذتهم المنتشرين في جميع البلدان وبخاصة البلاد التي رحل إليها في طلب الحديث كمدن العراق والحجاز وغيرهما.

ونظرا لان الكافي من ابرز كتب الحديث عند الشيعة ، والصحيح للبخاري من اصح المجاميع عندهم قد اخترتهما لهذه الدراسات التي تضمنها هذا الكتاب بروح مجردة عن التعصب والهوى ، متحريا الحق اينما كان ، وابراز بعض الحقائق التي احيطت بالغموض والتشويش ، نتيجة لعامل السياسة والطائفية والزمن وغير ذلك من الملابسات والاسباب كما واني قد حاولت التخفيف من حدة الموقف الذي اوجد تلك الفجوة الواسعة بين الفريقين ، وعرضت لهذه الغاية بعض موارد الالتقاء بين الجامعين وما تفرد به كل منهما مما يتفق مع روح الاسلام وسماحته وما هو بعيد عنها ، ولم اجد بدا هن الوقوف عند بعض المرويات والتعليق عليها احيانا بدافع الحرص على كرامة السنة وتنزيهها عما الصق بها زورا وبهتانا.

١١

كما واني عندما وقفت بجانب الكليني في بعض المواضيع لم يكن ذلك مني بدافع التحيز له ، ويستطيع القارئ ان يتاكد من هذه التحقيقة من موقفي معه في كثير من مروياته قي كتاب الحجة ، وانما وقفت إلى جانبه في بعض المواضيع لانه قد تعرض لاعنف الهجمات من بعض مؤلفي السنة بدون مبرر لذلك.

ومن امثلة ذلك الهجوم الذي تعرض له من ابي زهرة في كتابيه الامام الصادق (والامام زيد بن علي) لانه دون في الكافي بعض المرويات التي تشعر بتحريف القران ، فقد اتهمه أبو زهرة وغيره بالنفاق من اجل ذلك ، ودعا إلى التشكيك بجميع مروياته ، مع العلم بان احاديث التحريف التي تستر بها المهاجمون للكليني رواها البخاري وغيره من المحدثين في مجاميعهم بشكل اوسع واصرح في التحريف صما رواه الكيلني حول هذا الموضوح ، ومع ذلك لم يتعرض البخاري وغيره من المحدثين لمثل تلك الهجمات والاتهامات ولم يطالبوا بطرح مرويات تلك الصحاح بكاملها ، كما طالبوا بذلك بالنسبة لمرويات الكافي ، ولا اغالي إذا قلت بان الحملات التي وجهت إلى الكافي ، لو وجهت إلى البخاري وحده في موضوح يشترك فيه مع الكيلني لوقفت إلى جانبه بنفس الروح التي وقفت فيها إلى جانب الكيلني.

ومجمل القول هو اني قد اخذت على نفسي في الدراسات التي تضمنها هذا الكتاب ان لا اجامل احدا ، ولا احابي فريقا مهما كانت النتيجة ، ولا اقول الا ما اعتقد انه الحق ، لا ابتغي من وراء ذلك الا رضا الله سبحانه فان وفقت لذلك فما ابالي بغضب من سواه ، وان اخطأني الحظ فارجو ان احظى برضاه فيما بقي من عمري.

وقد اعتمدت في جميع المواضيع التي اشتمل عليها هذا الكتاب على المصادر الموثوقة عند الفريقين السنة والشيعة ، ومنه سبحانه استمد التوفيق لما يرضيه ويقربني إليه والاخلاص في العمل انه قريب مجيب.

١٢

الفصل الاول

لمحات عن الكتابة والحديث ومراحل تدوينه

١٣
١٤

لا يخرج الباحث في احوال العرب وتاريخهم صفر اليدين من معرفة العرب للكتابة ، ذلك لان الدراسات العلمية تؤكد ان العرب ولاسيما سكان الاطراف الشمالية للجزيرة قد تعلموا الكتابة واتقنوها قبل الاسلام بزمن بعيد ، نتيجة لاتصالهم الوثيق بالفرس والرومان ، وتدل المصادر التاريخية ان جماعات كثيرة من عرب الحيرة قد اتقنوا اللغة الفارسية وكتا بتها ، وتولى بعضهم ادارة دواوين ملوك الفرس والترجسة لهم والاشراف على الكثير من شؤونهم ، ومن هؤلاء عدي بن زيد وولده اللذان كانا من الصق العرب بقصور الفرس والامارات العربية بالحيرة وغيرها.

وجاء في فجر الاسلام لاحمد امين ، ان لعرب الحيرة وامرائهم وتاريخهم اثرا كبيرا في الادب العربي والحياة العقلية للعرب عامة كما تدل على ذلك احاديث جذيمة الابرش واساطير الزباء ، والخورنق والسدير وما جاء حول سنمار باني الخورنق ، ويوما النعمان ، يوم بؤسه ويوم نعيمه وغير ذلك من القصص والاساطير التي احتلت الصدارة في شعر العرب وادبهم قبل ظهور الاسلام ، وظلت زمنا طويلا تحتل الصدارة في المدونات التاريخية والقصصية بعد ظهور الاسلام.

١٥

وجاء في الاعلاق النفيسة (لابن رسته) ان عرب الحيرة علموا قريشا الزندقة في الجاهلية والكتابة في صدر الاسلام ، ولا يعنينا تقييم هذه النصوص من الناحية العلمية والتاريخية بل اوردناها كشاهد على ان الامية لا تكن متفشية بين العرب بالشكل الذي يتصوره بعض الكتاب والمستشرقين وبخاصة عرب الحهيرة وبادية الشام لانهم عاشوا زمنا طويلا مع جيرانهم الفرس والرومان ، وبحكم الظروف التي كانت تحيط بهم والمراحل التي مروا بها مع تلك الامم المتحضرة ليس من البعيد عليهم ان يتعلموا الكتابة ، وان ياخذوا عنهم العلوم والعادات التي تمس حياتهم وتسهل لهم سبل العيش والحياة الحرة الكريمة كما لا نستبعد ان يكون لعرب الحجاز ميزة على غيرهم من عرب الجزيرة من هذه النواحي ذلك لانهم جعلوا مكة المكرمة قاعدة لتجارتهم التي كانت تسيطر على الاسواق في الشام ومصر ، حيث كان الحجازيون يشترون السلع من اليمنيين والاحباش ، لتصديرها على حسابهم إلى اسواق الشام ومصر ، وعلى تجارة المكيين كان يعتمد الرومان قي اكثر الحاجيات وقد بالغ بعض المستثمرقين فادعى انهم اتخذوا من مكة نفسها بيوتا استخدموها للتجارة والتجسس على العرب ، وكانت قبيلة قريش من اشهر القبائل العربية التي كانت تتماطى التجارة ، وجاء في الكشاف وغيره من كتب التفسير ، ان القرشيين كانوا يرحلون في الشتاء إلى اليمن ، وفي الصيف إلى الشام ، والذي سهل لهم الاستيراد والتصدير ، والاستيلاء على الاسواق ، ان العرب كانوا يعظمون البيت ويحترمون جيرانه وخدامه وقد امتازت بذلك قريش عن غيرها من سائر العرب لانها تحصنت بجواره من غزو العرب وقطاع الطرق (١).

وليس بالبعيد عادة ان تزودها هذه المرحلات ، المتتالية بسبب اتصالها

__________________

(١) انظر فجر الاسلام لاحمد امين ص ١٣ و ١٤.

١٦

المباشر بتلك الامم المتحضرة ببعض المنافع بالاضافة ، إلى الفوائد المادية التي كانت تدرها هذه الرحلات ، ومن ايسر ما يمكن ان تجره على المكيين هذه المهنة هي تعليم الكتابة والقراءة ، هذا بالاضافة إلى ان يهود المدينة كانوا يحسنون الكتابة ويعلمونها الصبيان قبل هجرة الرسول (ص) إليها كما تؤكد ذلك بعض النصوص التاريخية.

ومن مجموح ذلك تبين ان الكتابة لم تكن بتلك الندرة بين المكيين كما يدعى البلاذري في (فتوح البلدان) حيث قال : «لقد ظهر الاسلام وبين القرشيين سبعة عشر رجلا يحسنون الكتابة لا غير وفي الاوس والخزرج سكان المدينة احدى عشر رجلا تعلموها من جيرانهم اليهود».

وإذا صح ان الذين كانوا يحسنون الكتابة لا يتجاوزون هذا العدد الضئيل فلابد وان تكون في غيرهم معدومة أو اقل من ذلك ، وبعد ملاحظة الظروف التي احاطت بالمكيين وبخاصة القرشيين منهم الذين كانوا على اتصال دائم بالامم المتحضرة نستبعد كل البعد ان يكون هذا الاحصاء الذي ، ادعاه البلاذري وغيره صحيحا وفي نفس الوقت لا نبالغ في تقديره ، ولا ندعي انتشارها بينهم كما كانت بين جيرانهم الفرس والرومان ، لان العلم والكتابة ينتشران حيث توجد الحضارة ويكثر العمران ، والحجازيون يفقدون جميع هذه النواحي.

ومما يؤكد ان الامية كانت تغلب على العرب قبل ظهور الاسلام الاية من سورة الجمعة ، «هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفى ضلال مبين».

وجاء في غيرها من اللآيات ما يؤكد أن النبي نفسه كان اميا لا يحسن الكتابة ولا القراءة كما تدل على ذلك النصوص القرآنية والنبوية.

١٧

قال تعالى : «الذين يتبعون الرسول الامي الذي يجدونه مكتوبا في التوراة» وجاء عنه (ص) انه قال : انا امة امية لا نكتب ولا نحسب الى غير ذلك من النصوص والحوادث التي تؤكد ان الامية كانت تغلب على العرب قبل الاسلام ، ولا يتنافى ذلك مع ما ذكرناه اولا من ان عرب الحيرة ومكة بصورة خاصة من بين عرب الجزيرة كانوا يقرؤون ويكتبون ، فانا لم نقصد من ذلك ان الاغلبية منهم كانوا يحسنونها كغيرهم من الامم المتحضرة والذي اردناه انه قد كان بينهم عدد لا يستهان به يحسنون الكتابة والقرائة بحكم الظروف والملابسات التي كانت تحيط بهم ولا يتنافى ذلك مع جهل الاغلبية لها.

ومهما كان الحال فالتحديد الذي ذكره البلاذري لغير الامبين ، والغلو الذي ذهب إليه بعض المستشرقين من مساوات العرب لغيرهم في هذه الناحية ، هذان الرأيان لا تويدهما الدراسات الملمية ولا النصوص الاسلامية كما ذكرنا.

ومما لا شك فيه ان الكتابة قد بدأت تنتشر في مكة وما حولها بظهور الاسلام على نطاق اوسع مما كانت عليه اولا بسبب التحول الذي طرأ على العرب نتيجة لاعتناقهم الدين الجديد الذي يدعو الى العلم ويحث عليه.

وتؤكد المصادر التاريخية ان مساجد المدينة التسعة كانت محط انظار المسلمين ، يتعلمون فيها القران وتعاليم الاسلام والكتابة وغير ذالك مما تدعو إليه الا حاجة ، والى جانب هذه المساجد انتشرت المكاتب لتعليم الصبيان ومحاربة الامية باشكالها ، وعندما نلاحظ موقف النبي من الاسرى الذين كانوا يحسنون القراءة والكتابة بعد نجاحه قي معركة بدر الكبرى واعفاءهم من الفدية التي فرضها على كل اسير حسب امكانياته

١٨

مع العلم بانه كان هو ودولته الفتية الناشئة في امس الحاجة إلى المال عندما نلاحظ ذلك وتتأكد بأنه قد اعفاهم منها ، وفرض علي كل اسير منهم ان يعلم عشرة من الا ميين في مقابلها ، ندرك مدى اهتمامه في محاربته الجهل والاميه حتى استطاع في خلال سنوات معدودات ان يهيئ عددا كبيرا يقرؤن ويكتبون ، ويحسنون ادارة الاعمال وتصريف الامور ، ومضت حركة التعليم تتسع بين المسلمين في انحاء الجزيرة ، ويحث عليها بمختلف الاساليب والمناسبات ، وقد بلغ به الحرص على توجيه الناس نحو التعليم ، ان جعل طلب العلم من الفرائض ، وقال كلمته المشهورة ، (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) وقال ايضا : (اطلبوا العلم ولو بالصين) والوصول إلى الصين في عصره اعسر من الوصول إلى القمر في عصرنا هذا ، وكان من نتيجة تلك الجهود التي بذلها لمحاربة الامية ان اصبح المتعلمون من المسلمين وابنائهم يعدون بالالوف ، بعد ان كانوا لا يتجاوزون العشرات كما يظهر من احصاءات المؤلفين الذين كتبوا في هذه المواضيع.

ويؤيد ذلك ما جاء عن ابي الدرداء. انه قال لبعض جلسائه اعداد من يقراء عندي القران فعدهم فبلغوا الفا وستماية.

وكان لكل عشرة منهم مقرئ ، (اي معلم) وابو الدرداء يشرف على الجميع (١).

ومن مجموع ذلك نستطيع ان نؤكدان تأخير المسلمين عن تدوين الحديث والاثار الاسلامية لا يعود بالدرجة الاولي إلى ندرة وسائل التدوين وتفشي الامية كما يدعي بعض المؤلفين من العرب والمستشرقين ،

__________________

(١) انظر السنة قبل التدوين ، عن النهاية في طبقات القراءة ، والتهذيب لابن عساكر.

١٩

ذلك لان وسائل التدوين لم تكن بتلك الندرة حتى قبل ظهور الاسلام كما ذكرنا ، ولو تعازلنا عن جميع الشواهد والادلة التي ذكرناها وقلنا ان العرب قبل الاسلام على اختلاف مناطقهم لا يحسنون الكتابة ، لو افترضنا ذلك بالنسبة للعرب قبل الاسلام ، فلا يصح هذا الافتراض بعد ظهور الاسلام وبعد تلك الجهود التي بذلها الرسول الاعظم (ص) لمحاربة الجهل والامية ، فلا بد لنا والحال هذه من تلمس الاسباب التي صرفت المسلمين عن تدوين احاديث الرسول خلال القرن الاول من الهجرة ، ومن خلال المصادر التى تعرضت لهذا الموضوع قديما وحديثا نجد ان اكثرها تعزو ذلك إلى الرسول نفسه ، اعتمادا على المرويات عنه ، والى الخليفة الثاني الذي اشتهر بمعارضة فكرة التدوين ، وتوعد الناس بالعقاب عليها ، فرووا عن الرسول (ص) انه قال : لا تكتبوا عي شيئا ، ومن كنب عني غير القران فليمحه. وقد اخذ الخليفة الثاني بهذا النص حينما راجت فكرة التدوين بين المسلمين كما يدعي بعض المؤلفين وعلله بان التدوين قد يؤدي إلى التباس القرآن بالحديث وانصراف المسلمين عن كتاب الله إلى اقواله واحاديثه كما جرى ذلك بالنسبة الى الامم السابقة.

وفي مقابل الرواية التي تنص على ان الرسول نهاهم عن تدوين اقواله وافعاله رووا عنه انه رخص لعبدالله بن عمرو بن العاص ان يكتب عنه ما يشاء فجمع من احا ديثه الصحيفة المسماة بالصادقة ، وانه قال لرجل من الانصار : استعن على حفظك بيمينك ، وقال لانس بن مالك : قيدوا العلم بالكتابة ، إلى غير ذلك من المرويات ونظرا لتعارض هذه الطائفة من المرويات عنه للروايات المانعة ، رجح اكثر المحدثين بانه نهى عنه اولا مخافة ان يختلط حديثه بالقران الكريم ولما تركز القرآن في نفوسهم واحتل منها المكان اللائق به ، واصبحوا يميزونه عن غيره اباح لهم ان يكتبوا عنه ما يشاؤن ، وتنيجة هذا الجمع بين هاتين الطائفتين من المرويات

٢٠