دراسات في الحديث والمحدّثين

هاشم معروف الحسني

دراسات في الحديث والمحدّثين

المؤلف:

هاشم معروف الحسني


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٨

كانت هي العدالة الشرعية التي اعتبرها الشارع موضوعا للاثار المختلفة حسب المقامات ، وتفسيرها بهذا المعنى ليس بعيدا عن ظاهر النصوص التي تعرضت لحا لها ، وقد جاء في بعضها ، صن عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن حرمت غيبته ، وكملت مروءته وظهرت عدالته ، وفي بعضها إذا كان ظاهر الانسان مامونا جازت شهادته ، وليس عليك ان تسال عن باطنه إلى غير ذلك من النصوص التي تشير إلى ان العدالة ليست شيئا آخر ورا فعل الواجبات وترك المحرمات.

وقد تعرض الفقهاء بمناسبة حديثهم عن العدالة ومنافياتها إلى تصنيف المعاصي إلى صغائر وكبائر ونص كه صرهم على ان الاصرار على الصغائر وعدم التوبة عنها من نوع الكبائر ، لان الاصرار عليها يلازم الاستخفاف باوامر الله والامن من العقوبة ، جاء عن الامام محمد الباقر (ع) ان الاصرار على الذنب امن من مكر الله ولا يامن مكر الله الا القوم الخاسرون ، ونص اكثرهم على ان الكبيرة هي ما توعد الله عليه بالعذاب في كتابه وعلى لسان نبيه (ص) واعتمدوا في ذلك على رواية عبد العظيم ابن عبد الله الحسني عن ابي جعفر الجواد (ع) وجاء فيها ان عمرو بن عبيد دخل على الامام الباقر (ع) وبعد إذ استقر به المجلس تلا قوله تعالى : ان تجتنبوا كبائر الاثم والفواحش ، ثم قال : احب ان اعرف الكبائر من كتاب الله ، قال أبو جعفر (ع) : يا عمرو اكبر الكبائر الاشراك بالله ، قال سبحا نه : ومن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ، وبعده الياس من روح الله ، لان الله يقول : لا ييائس من روح الله الا القوم الكافرون ، ومضى الامام (ع) يعدد الكبائر التي نص عليها القرآن حتى عد اثنين وعشرين نوعا منها.

وجاء عن الامام الرضا (ع) انها خمس وثلاثون نوعا ، وعد منها

٦١

قتل النفس ، والزنا والسرقة ، وشرب الخمر ، وعقوق الوالدين. والفرار من الزحف. واكل مال اليتيم. ومعونة الظالمين والركون إليهم. والربا. وقذف المحصنات وغير ذلك من المحرمات المنصوص عليها في الكتاب والسنة وتقسيم المعاصي إلى الصغائر والكبائر. هذا التقسيم يمكن ان يكون نسبيا بمعنى ان كل معصية بالنسبة لما فوقها صغيرة ، وبالنسبة لما هو دونها كبيرة فلو قلنا بذلك تصبح كل معصية من المعاصي صالحة للوصفين ، ويكون الفاعل مستحقا للعقاب باعتبار كونه عاصيا مع قطع النظر عن نوع المعصية ووصفها ، ويدل على ذلك قوله تعالى!

ومن يعص الله ورسوله فان له نار جهنم ، حيث ان الآية بظاهرها تنص على ان مطلق المعصية سبب لهذا الجزاء.

ومما لا شك فيه ان عدالة الراوي تثبت بشاهدين عدلين بمقتضى الادلة الدالة على حجية البينة وقيامها مقام العلم في جميع موارد العمل بها ، اما الشاهد الواحد ، فقد نص اكثر الفقهاء على الاكتفاء به في تعديل الراوي ، كما نص على ذلك الشيخ عبد الصمد في الوجيزة ، والمامقاني في مقباس الهداية وغير هما ، وفي مقابل ذلك لم يكتف بعض الفقهاء بالشاهد الواحد لان عدالة الراوي كغيرها من الموضوعات التي لا بد من احرازها بطريق العلم أو ما يقوم مقامه ، وليس ذلك الا البينة التي تتألف من شاهدين.

ورجح الشيخ الانصاري. الاكتفاء بكل ما يفيد الوثوق والاطمئنان بعدالته بما في ذلك العدل الواحد إذا حصل من شهادته الاطمئنان بها اعتمادا على بعض النصوص التي لم تشترط اكثر من الوثوق والاطمئنان كقوله (ع) لا تصلي الا خلف من تثق بدينه وورعه ، وقوله : إذا كان مأمونا جازت شهادته ، ونحو ذلك مما يشير إلى ان المعول على الاطمئنان بالشاهد وامام الجماعة والراوي ، سواء حصل ذلك من استقصاء حاله

٦٢

مباشرة ، أو من شهادة العدلين. أو العدل الواحد (١) واضاف إلى ذلك بعضهم ان الا قتصار على البينة في هذه المسالة يؤدي إلى الغاء كثير من المرويات ، لعدم تيسر البينة على عدالة الراوي ، لا سيما مع بعد المسافة بينه وبين الشاهد ، على ان التعديل والتجريح الموجودين في كتب الرجال مبنيان على الحدس الذي لا يفيد الا الظن ، والاكتفاء به يرجع إلى الاعتماد على الاطمئنان من اي طريق كان ، وشهادة العدل الواحد لا تقصر احيانا عن افادة هذه المرتبة.

__________________

(١) انظر رسالة الشيخ مرتضى في العدالة

٦٣
٦٤

الفصل الثالث

في الصحابة

٦٥
٦٦

الصحابي في اللغة مشتق من الصحبة ، ويوصف بها كل من صحب غيره طالت المدة أو قصرت.

وعند المحدثين ، هو كل مسلم رأى رسول الله (ص) قال البخاري في صحيحه : من صحب رسول الله (ص) أو رآه من المسلمين فهو من اصحابه.

وجاء عن احمد بن حنبل انه قال : افضل الناس بعد صحابة الرسول من البدريين كل من صحبه سنة أو شهرا ، أو يوما ، أو رآه ، وله من الصحبة على قدر ما صحبه (١).

ونص بعضهم على ان اصحاب الحديث يعطون ومف الصحبة لكل من روى عن النبي حديثا أو كلمة أو رآه ، وممن صرح بذلك ابن حجر في المجلد الاول من الاصابة : واضاف إلى ذلك مؤمنا به ، ثم قال : ويدخل في قولنا مؤمنا به ، كل مكلف من الجن والانس ونص غيره على دخول الجن الذين آمنوا به في الصحابة ايضا (٢) ، وفي مقابل ذلك يشترط بعضهم

__________________

(١) انظر الكفاية ص ٥١ ، وتلقيح فهوم أهل الآثار ص ٢٧.

(٢) انظر المجلد الاول من الاصابة ص ١٠ و ١١.

٦٧

في اعطاء المسلم وصف الصحبة ، ان يقيم معه سنة أو سنتين ، ويغزو معه غزوة أو غزوتين ، كما جاء عن سعيد بن المسيب.

ونص القاضى أبو بكر الباقلاني ، على ان الصحبة لا يوصف بها الا من كثرت صحبته ، واتصل لقاؤه ، ولا يجري هذا الوصف على من لقي النبي ساعة ومشى معه خطا ، أو سمع منه حديثا (١) والرأي الشائع الذي يؤيده اكثرهم هو اعطاء هذا الوصف لكل من رأى النبي (ص) أو ولد في حياته ، وعدوا محمد بن ابي بكر من الصحابة ، مع انه ولد في حجة الوداع اخر ذي القعدة قبل وصول النبي (ص) إلى مكة في السنة العاشرة من الهجرة وقبل وفاته بثلاثة اشهر ، وتتفاوت درجات الصحا بة عندهم فقد نص بعضهم انهم اثنا عشهر طبقة اعلاها السابقون إلى الاسلام من الطبقة الاولى ، وادناها الذين ادركوه في حجة الوداع لا غير.

وقد اجمعوأ على ان أفضلهم أبو بكر وعمر ، وياتي من بعدهما عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب (ع) ومن بعدهما الباقون من العشرة المبشرين بالجنة ، ثم تتسلسل درجاتهم وطبقاتهم حسب تقدم اسلامهم ، ومواقفهم من الجهاد والخدمات التي قدموها إلى الاسلام والرسول (ص) وتثبت الصحبة بالامور التالية.

التواتر ، والشهرة ، والشياع الذي لم يبلغ حد التواتر ، وبخبر الصحابي الواحد وخبر التابعي ، ولو كان واحدا بناء على الرأى الراجح من كفاية الواحد في التزكية ، (٢).

ومهما كان الحال في تحديد المقصود من الصحابي حسب اصطلاحهم فلقد توسع المؤلفون.

__________________

(١) الكفاية ص ٥١.

(٢) السنة قبل التدوين ص ٣٩ ٤ والاصابة ج / ١ ص ١٣ و ١٤.

٦٨

في علمي الحديث والرجال في البحث عن الحديث واقسامه والرواة واحوالهم ، درسوا احوال الرجال جيلا بعد جيل ، حتى إذا تحققوا من احوال الراوي ، وانه كان نقي السيرة صادق الايمان ضابظا متقنا أمينا ، وصفوه بالوثاقة ، ووصفوا مروياته بالصحة ، وإذا وجدوا فيه ما يشعر بعدم الامانة في الحديث ، أو عدم الاستقامة في الدين ، وصفوه بما يتناسب مع حاله ، وتركوا جميع مروياته ، الا إذا اقترنت ببعض القرائن التي تؤكد صدورها عن النبي (ص) أو عن صحابته ، ولو وجدوا له قادحا ومادحا وجارحا ومعدلا اخذ وا بالجارح وتركوا المادح والمعدل ، وبهذه المناسبة يقول ابن الصلاح :

إذا اجتمع في شخص جرح وتعديل ، فالجرح مقدم لانه يخبر عما ظهر من حاله ، والجارح يخبر عن باطن خفي على المعدل ، فإذا كان عدد المعدلين اكر من عدد الجارحين ، قبل تعين الاخذ بالتعديل ، والصحيح الذى عليه الجمهور ان الجرح اولى بالرعاية والاعتبار ، ومع انهم احتاطوا في الاخذ بالحديث إلى هذا الحد ، وضعوا الاصول والقواعد للتأكد من احوال الراوي وسلامة إلحديث مما يوجب عدم الاطمئنان بصحته ، وطبقوا اصول علمي الدراية والرجال على جميع الرواة مهما بلغوا من العظمة والعلم والدين ، مع انهم وخسعوا الجميع على اخنلاف طبقاتهم ومكانتهم في قفص الاتهام ، وبحثحوا عن احوالهم بتحفظ ودقة ، وقفوا من الصحابة مكتوفي الايدي واعتبروهم من العدول الذين لا يجوز عليهم نقد أو تجريح وقالوا : (ان بساطهم قد طوي) على اختلاف طبقاتهم واعمارهم ، واضافوا إلى لك ان جميع ما صدر عنهم من الغلط والانحراف والشذوذ لا يسلبهم صفة العدالة لان صحبتهم للنبي (ص) تكفر عنهم ما تقدم من ونوبهم وما تأخر ، مهما بلغ شانها وتعاظم خطرها على حد تعبير الجمهور الاعظم من محدثي السنة ومؤلفيهم في هذه المواضيع ، والذين خرجوا على هذا الرأي ولم يفرقوا بين الصحابة

٦٩

وغيرهم لا يمثلون رأي السنة في هذه المسالة ، بل تعرضوا لاعنف الهجمات وأسوأ الاتهامات المعادية من الجمهور الاعظم ، الذين يقدسون كل من رأى النبي ، أو سمع حديثه ولو كان طفلا صغيرا ، ولعلنا بهذه الوقفة القصيرة مع الجمهور القائلين بان الصحابة لا يخضعون للنقد والتجريح وان جميع الشروط التي ينص عليها علم الدراية يجب ان تطبق على الراوي والرواية ما لم يكن الراوي لها صحابيا.

لعلنا بهذه الوقفة معهم نستطيع ان نكشف عما يكمن وراء هذا الافراط في الغلو بجميع من اسموهم بالصحابة من الاخطار التى تسئ إلى السنة النبوية والى الاسلام نفسه الذي ألغى بخميع الامتيازات والاعتبارات التي لا تعكس جهات الخير والكرامة في الانسان واعتبر العمل الصالح هو المائز بين الطيب ، والخبيث والصالح والفاسد مع العلم بان الكثير منهم قد اسرفوا في ارتكاب المعامي والمنكرات وخالفوا الضرورات من دين الاسلام.

٧٠

عدالة الصحابة

يدعى الجمهور من السنة ، ان للصحبة شرفا عظيما يمنح المتصف بها امتيازا يجعله فوق مستوى الناس اجمعين ، ولو باشر المنكرات ، واسرف في المعاصي واتباع الشهوات ، وينطلقون من هذا الغلو إلى انهم عدول مجتهدون في جميع ما صدر منهم. فمن اصاب في ارائه واعماله الواقع فله ثواب من أدرك الحق وعمل به ، ومن أخطا فله أجر المجتهدين العارفين فعدالتهم ثابتة بتعديل الله لهم وثنائه عليهم على حد تعبير الغزالي في المستصفى ، وعندما تنتهي الرواية إليهم يجب الوقوف عندها ، وليس لاحد ان يطبق عليها اصول علم الدراية وقواعده ، ولو كان الراوي لها مروان بن الحكم أو أبو سفيان أو غيرهما ممن وصفهم القرآن بالنفاق والرسول الكريم بالارتداد.

قال ابن حجري المجلد الاول من الاصابة : اتفق أهل السنة على ان الجميع عدول ، ولم يكخالف في ذلك الاشذاذ من المبتدعة ، واضاف إلى ذلك ان عدالتم ثابتة بتعديل الله لهم ، ونقل عن ابن حزم. بانهم جميعا عدول ومن أهل الجنة قطعا على حد تعبيره ، ومن قال بانهم كغيرهم من الناس يتفاوتون بمقدار اعمالهم وخدماتهم وجهادهم فقد تعرض لاعنف الهجمات من جمهور أهل السنة.

وقال الغزالي في المستصفى : والذي عليه السلف وجماهير الخلف ان عدالتهم معلومة بتعديل الله : عزوجل اياهم وثنائه عليهم في كتابه وهو

٧١

معتقدنا فيهم الا ان يثبت بطريق قاطع ارتكاب واحد لفسق مع علمه به ، وذلك مما لم يثبت ، فلا حاجة لهم إلى التعديل ، قال تعالى : كنتم خير امة اخرجت للناس ومضى يسرد الادلة على عدالتهم من الكتاب والسنة ، واضاف إليها انه لو لم ترد النصوص القرا نية والنبوية بعدالتهم لكان فيما اشتهر وتواتر من حالهم في الهجرة والجهاد وبذل المهج والاموال وقتل الآباء والاهل في موالاة رسول الله (ص) ونصرته ، لو لم ترد النصوص لكانت هذه النواحى كافية في عدالتهم ، وبعد ان تعرض لبعضي الآراء التي تحملم مسؤولية اعمالم وتصرفاتهم المنسوبة إلى بعض اعيان المعتزلة وغيرهم ، بعد ان عرضها قال : وكل هذه الاقوال جرأة على السلف ، ومخالفة للسنة ، واخيرا رجح الرأي الشائع بين فقهاء السنة ومحدثيهم فيما يتعلق بتصرفات الصحابة المنافية لاصول الاسلام وفروعه ، الذي ينص على انهم مجتهدون في كل ما وقع منهم ، فالمصيب منهم مأجور ، والمخطئ معذور (١).

ويؤكد البعض من السنة ان الصحابة كغيرهم من الرواة من حيث وجوب الفحص عن عدالتهم والتوثق منها (٢) ، وانصار هذا القول بين من يرى انهم كغيرهم من الناس ، وان الصحبة لا ترفع من شان احد طالت ام قصرت ، وبين من يدعى ان عدالتهم استمرت إلى ان وقع الخلاف بينهم ، وباشروا الفتن وأراقوا الدماء ، وتنافسوا على أمور الدنيا ، ومنذ ذلك الحين اصبحوا كغيرهم معرضين للنقد والتجريح والتفسيق ولغير ذلك مما يجوز على جميع الناس ، واسرف بعض المعتزلة اسرافا لا مبرر له في حكمه على تلك الفئات المتخاصمة ، فذهب واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد إلى وجوب طرح الرواية إذا انتهت إليهم ولو كان الراوي لها عليا (ع) ، لاحتمال ان يكون هو المبطل في خصومة لعائشة ورفيقيها ،

__________________

(١) انظر المستصفى ص ٢٠٤ و ٢٠٥.

(٢) القائلون بذلك لا يمثلون رأي الجمهور كما ذكر نا سابغا.

٧٢

ولمعاوية وانصاره ، كما يرى ذلك واصل بن عطاء ، بينما يؤرد عمرو بن عبيد ، الزعيم الثافي للمعتزلة بعد واصل انهم جميعا قد خرجوا عن العدالة ولا تصح شهادتهم على باقة بقل ، على حد تعبيره.

وجاء في الفرق بين للبغدادي. ان ابا الهذيل العلاف ، والجاحظ ، واكثر القدرية على رأي واصل بن عطاء في علي (ع) وطلحة والزبير وعا ئشة وغيرهم ممن اشترك في الحروب والخصومات في تلك الفترة من تاريخ الاسلام.

ومهما كان الحال فالمحدثون والفقهاء من المنتسبين إلى المذاهب الاربعة الا ما شذ منهم متفقون على عدالة الصحابة وعدم التوقف في مروياتهم عن الرسول (ص) ورجحان الاقتداء بهم في امور الدين وغيرها ، ولم يعرف الخلاف في ذلك الا من بعض المتأخرين ، كالشيخ صالح مهدي المقبلي ، المتوفى في أوائل القرن الثاني عشر الهجري ، والشيخ محمد عبدو ، والشيخ رشيد رضا ، وغيرهم ، ولكن هؤلاء وان كانوا من اعلام السنة ، ولكنهم لا يمثلون الا انفسهم في هذه المسالة.

قال الاستاذ محمود أبو رية : وإذا كان الجمهور على ان الصحابة كلهم عدول ، ولم يقبلوا الجرح والتعديل فيهم كما قبلوه في سائر الرواة ، واعتبروهم جميعا معصومين عن الخطا والسهو والنسيان ، فان هناك كثير من المحققين لم ياخذوا بهذه العدالة المطلقة لجميع الصحابة ، وانما قالوا : كما قال العلامة المقبلي : انها أغلبية لا عامة ، وانه يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من الغلط والنسيان والسهو والهوى ، ويؤيدون رأيهم بان الصحابة ان هم الا بشر يقع منهم ما يقع من غيرهم ، مما يرجع إلى الطبيعة البشرية ، ويعززون حكمهم بما وقع ، في عهده من المنافقين والكذابين وبما وقع بعده من الحروب والفتن والخصومات التي لا تزال اثارها إلى اليوم ، وستبقى إلى ما بعد هذا اليوم (١).

__________________

(١) انظر الاضوأ ص ٣٢٢ و ٣٢٣ ، والمستصفى ص ١٠٥.

٧٣

واستدل القائلون بعدالة الصحابة ببعض الآيات والاحاديث المروية عن النبي (ص) التي تثبت هذه الصفة لجميع الصحابة على حد زعمهم. فمن ذلك قوله تعالى في للآية من سورة الفتح : «محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوهم من اثر السجود ، ذلك مثلهم في القرآن ومثلهم في الانجيل كزرع اخرج شطاه فا زره فاستغلظ ، فاستوى على سرقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار ، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما».

وقال تعالى في سورة التوبة : «والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم باحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه واعدلهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم».

وقال في سورة الانفال : «والذين آمنوا وهاجروا في سبيل الله والذين اووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم». وقال في سورة الحشر : «للفقراء المهاجرين الذين خرجوا من ديارهم واموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، اولئك هم الصادقون والذين تبوأوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما اوتوا ، ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه ، فا ولئك هم المفلحون ، والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا انك رؤوف رحيم».

وقال في سورة الفتح : «لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم ، فانزل السكينة عليهم واثابهم فتحا مبينا».

بهذه الا يات وغيرها مما اشتمل على مدحهم بالايمان والصدق

٧٤

وعلى وعدهم بالمغفرة والجنان. التي اعدها الله للمؤمنين العاملين ، قد استدل الجمهور من السنة على عدالة الصحابة وانهم فوق الشبهات والاهواء (وان بساطهم قد طوي) وليس لاحد ان يتردد في شئ من تصرفاتهم واعمالم على حد تعبير بعض المحد ثين من السنة والذي الا يمكن التنكر له ، هو ان هذه الآيات ونظائرها تدل دلالة واضحة لا تقبل الجدل والتشكيك على ان لبعضهم من القداسة وعلو المنزلة ما ليس لاحد من الناس وبخاصة من اشترك معه في حروبه وغزواته ، وضحى في سبيل تسك الدعوة بالمال والنفس والاولاد ، واخلص له في السر والعلانية ، هؤلاء لا يجحد فضلهم الا كل معاند لا يؤمن بيوم الحساب ، اما ثبوت العدالة والقداسة لكل من راه أو سمع حديثه ، أو ادرك عصره ولو طفلا صغيرا مهما صنع بعد ذلك من المنكرات واقترف من الذنوب والآثام كما جرى ذلك لكثير منهم ، فهو نوع من التهويش والتضليل الذي لا يقره المنطق بل ولا العقل ، ولا تؤيده تلك النصوص ولو من بعيد ، ذلك لان من وصفهم الله بتلك الآيات بالشدة على الكفار والركوع والسجود والهجرة والجهاد وغير ذلك من الاوصاف لا ينكر احد فضلهم ، ولا يتردد في عدالتهم ، ومن المعلوم ان الذين عاصروا الرسول ورووا حديثه ، بل وحتى الذين ناصروا دعوته لم تتوفر في اكثرهم تلك الصفأت التي اشتملت عليه الآيات الكريمة ، بل من بينهم المنافق والفاسق والمتخاذل والمتستر بالاسلام خوفا أو طمعا ، ومن ينتظر الفرص ويراقب الظروف ويهيئ المناسبات ليقوأ بدوره في وجه تلك الدعوة المباركة ، ولو بالفتك بالرسول إذا اقتضى الامر ، كما اشار القرآن نفسه إلى ذلك في بعض آياته ، هذا بالاضافة إلى ان المتتبع لسير الحوادث ، وتاريخ الصحابة في حياة الرسول وبعد وفاته لا يرتاب في ان الذين عاصروا الرسول بل وحتى الذين كانوا ألصق به من جيع الناس لم يلتزموا سيرته وسنته وساقتهم الاهواء إلى ممارسة ما استطاعوا من الملذات

٧٥

والشهوات ، لقد احبوا وكرهوا وخاصموا وانتقموا واستحل بعضهم دماء الاخرين في سبيل الجاه والسلطان. ان هؤلاء الذين ألبسوا جميع الصحابة ثياب القديسين واعطوهم صفات الانبياء المرسلين ، قد ناقضوا انفسهم فصدقوا التاريخ فيما رواه من اعمالم الطيبة ومواقفهم الخالدة ، وكذبوه في غير ذلك من المرويات التي تصور لنا جشعهم وانهماكهم في المعاصي والمنكرات ، مع العلم بأن التاريخ الذي روى لنا محاسن اخبارهم ، روى لنا سيئات اعمالم بشكل اوثق واقرب إلى منطق الاحداث التي توالت خلال تلك الفترة من تاريخهم المشحون بالاحداث والمتناقضات ، والتنافس على المال الحرام والجاه والسلطان.

ومجمل القول ، ان للآيات التي استدل بها ، الجمهور على عدالة الصحابة لا يستفاد منها اكثر من التنويه بصضل من جاهد في سبيل الله بماله ونفسه ابتغاء مرضاة الله وطمعا في ثوابه ، كما يبدو ذلك بعد الرجوع إليها وملاحظة اسباب نزولها وملابساتها فالآية الاولى بمنطوقها تنص على ان جماعة من انصار النبي (ص) كانوا اشداء على الكفار رحماء بينهم ، قد انصرفوا إلى العبادة حتى ظهرت آثار ذلك في جباههم ووجوههم ، وهذه الصفات لم تتوفر الا في عدد محدود من الصحابة فضلاعن جميعهم.

والآية الثانية لم تتعرض الا للسابقين في فعل الخيرات والطاعات وتفضيلهم على غيرهم من الكسالى والمقصرين ، فهي من حيث مؤداها اشبه بقول الرسول (ص) من سن سنة حسنة كان له اجر من عمل بها : ومن سن سنة سيئة كان عليه وزر من عمل بها.

وجاء عن جماعة من المفسرين ، ان للآية تشير إلى من صلى مع النبي القبلتين ، وقال آخرون : افا نزلت فيمن بايع بيعة الرضوان ،

٧٦

وقال بعضهم انها فيمن اسلم قبل الحجرة ، وعلى جميع التقادير فهي لا تفيد الجمهور ، ولا تؤيد ادعائهم من قريب أو بعيد (١).

والآية الثالثة ، نزلت فيمن هاجر من مكة إلى المدينة ، بعد ان هاجر الرسول إليها ، كما جاء في مجمع البيان للطبرسي ، وقد مدحهم الله سبحانه ، لانهم هاجروا من ديارهم واوطانهم في مكة ولحقوا بالرسول (ص) إلى المدينة ، كما مدح من اواهم ونصر الرسول ووصفهم بأنهم المؤمنون حقا ، ولا يعارض احد من المسلمين في ان اولئك بهجرتهم ، وهؤلاء بنصرتهم وتضحياتهم وايثارهم على انفسهم من المرضيين عند الله سبحانه بالنسبة إلى هذا الموقف الذي وفقوه مع النبي (ص) وهذا لا يمنع من صدور المخالفات الكثيرة من بعضهم التي توجب وصفهم بالنفاق أو الارتداد كما نصت على ذلك بعض المرويات ، على ان الصفات التي اشتملت عليها الآية لم تتوفر في جميع الصحابة ، كي تثبت لهم العدالة التي يدعيها الجمهور ، وهكذا الحال بالنسبة إلى الآية من سورة الحشر ، فان ثبوت الفضل للفقراء والمهاجرين ، والذين تلقوهم ونصروهم واثروهم علي انفسهم ، ولمن بايعه بيعة الرضوان ، في مقابل هذه التضحيات ، لا يلزم منه ثبوته لكل من رأى النبي أو روى عنه ولو حديثا ، أو سمع منه كلمة (٢). وقد استدل القائلون بعدالة الصحابة بالاضافة إلى تلك للآيات ببعض المرويات عن الرسول (ص).

فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن ابي سعيد الخدري ان رسول الله (ص) قال : لا تسبوا احدا من اصحابي ، فان احدكم لو انفق مثل احد ذهبا ما ادرك مد احد ولا نصيفه.

وروى الترمذي عنه في صحيحه انه قال : الله الله في اصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن احبهم فبحبي احبهم ، ومن ابغضهم فببغضي

__________________

(١) انظر أحكام القران للجصاص : ج ٣ ص ١٨٠ ومجمع البيان : ج ٣ تفسير سورة التوبة.

(٢) انظر مجمع البيان وغيره من كتب التفسير ج ٥.

٧٧

ابغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ومن اذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك ان يأخذه.

وجاء عن ابي موسى الاشعري ان رسول الله قال النجوم آمنة للسماء ، فإذا ذهب النجوم أتى اصحابي ما يوعدون ، واصحابي آمنة لامتي فإذا ذهب اصحابي أتى امتي ما يوعدون.

وجاء عنه (ص) انه قال : خير القرون قرني ، ثم الذي يلونهم ثم الذي يلونهم ثم يفشو الكذب.

وقد أورد هذه المرويات الاستاذ محمد عجاج الخطيب في كتابه الستة قبل التدوين ، كما استدل بها كل من نكلم عن الصحابة واحوالهم ، واتنهى الاستاذ الخطيب من هذه المرويات إلى التنيجة التالية.

فقال : وقد اجمعت الامة على عدالتهم جميعا الا افرادا معدودين اختلف في عدالتهم لا يتجاوزون عدد اصابع اليد الواحدة ، فلا يجوز لاحد ان يتعداهم خشية ان يخالف الكتاب والسنة الذين نصا على عدالتهم ، وبعد تعديل رسول الله (ص) لهم لا يحتاج احد منهم إلى تعديل احد ، واضاف إلى ذلك. على انه لو لم يرد من الله تعالى ورسوله الكريم شئ في تعديلهم لوجب تعديلهم ، لما كانوا عليه من دعم الدين والدفاع عنه ، ومناصرتهم للرسول والهجرة إليه والجهاد بين يديه ، وبذل المهج والاموال واخيرا اتتحل صفة الاجتهاد لهم ، حيث لم يجد ما يعتذر به عن بعض تصرفاتهم وللمجتهد ان بصنع ما يشاء ، ما دام يفعل بوحى من اجتهاده ، حتى ولو خالف الضرورات ، واستحل جميع المنكرات ، كما وقع لكثير منهم. ومما ذكرنا تبين ان الجمهور القائلين بعدالة جميع من رأى النبي ، أو سمع حديثه ، لا يملكون الادلة الكافية ، التي تغنيهم عن التعسف واللف والدوران لاثبات العدالة المزعومة ، ذلك لان ما جاء

٧٨

عن النبي (ص) من المرويات التي تدل على تمجيدهم ، وعدم ايذائهم ، وانهم امان لأهل الارض ، هذه المرويات لو صحت لا تدل على انهم قد بلغوا من الدين مبلغا يعصهم عن اتباع اهوائهم وشهواتهم ، ويدفعهم إلى الامتثال واجتناب المحرمات ، ومن ، الجائز ان يكون الثناء عليهم بأعتبار ان صحبتهم لانبي والتفافهم حوله يشكل مجموعة متماسكة لحماية الاسلام من اخطار الغزو المرتقب في كل لحظة من داخل البلاد وخارجها ، هذا التكتل باعتباره من مظاهر القوة التي تمكن سير الدعوة كان محبوبا لله سبحانه. مع قطع النظر من خصوصيات الافراد التي. تخص كل واحد من حيث تصرفاته وأعماله. هذا بالاضافة إلى ان حديث لا تسبوا اصحابي ، واصحابي كالنجوم (١). هذا الحديث من حيث اشتماله على صيغة الجمع ، لا يتعين للشمول والاستيعاب ، بل يصح منه ولو بالنسبة إلى المخلصين في ولائهم العاملين بأوامر الله المتمسكين بسنته وسيرته ، ولا ينكر احد وجود مجموعة كبيرة بين اتباعه ، قد تفانوا في خدمة الاسلام ، واخلصوا في اعمالهم وجهادهم طمعا في مرضات الله وثوابه ، والحديثه ونظائره على تقدير صدوره من النبي لا بد وان يكون ناظرا إلى تلك الفئة من بين اتباعه ، ومن غير المعقول ان يقصدهم النبي (ص) على جهة العموم ، وهو المخاطب بتلك للآيات التي وصفت فريقا منهم بالنفاق والبغي وفريقا بالتآمر على حياته واحباط جميع مساعيه وجهوده التي بذلها في سبيل الدين ، تثبيت دعائمه ، من غير المعقول إذ يقصدهم جميعا من تلك النصوص ، ويقف موقف المدافع عنهم المجامل لهم ، والآيات الكثيرة تنادي. بنفاقهم ، وتكشفهم على واقعهم كي لا يغتر بهم احد من اصحابه الطيبين ، وحتى لا تكون الصحبة ستارا لاصحاب الشهوات والمطامع يستغلونها لاغراضهم ولكي لا تكون

__________________

(١) لقد ذكر هذا الحديث ابن القيم في الجزء الثاني من اعلام الموقعين : ونص على انه من الاحاديث الموضوعة (ص) ٢٢٣.

٧٩

للصحابي تلك الحصانة التي تمنع من نقده وتجريحه.

وقلما تخلو سورة من سور القران من التشهير بهم والتحذير من دسائسهم ، وسميت سورة التوبة بالفاضحة ، كما جاء عن عبد الله بن العباس لانها فضحتهم وكشفت عن واقعهم.

وجاء عنه انه قال : ما زال القرآن ينزل بالمنافقين حتى خشينا ان لا يبقى احد امين من الصحابة.

وسميت المبعثرة لانها تبعثر اسرار المنافقين وتبحث عنها ، كف سميت البحوث ، والمدمدمة والحافرة والمثيرة إلى غير ذلك من الاسماء التي تتناسب مع مضامين تلك السورة بكاملها (١).

قال تعالى : في معرض التهديد والتوبيخ لله منافقين «لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ، ولكن بعدت عليهم الشقة ، وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون انفسهم والله يعلم انهم لكاذبون ، عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين».

وهذه للآية قد كشفت عن سوء نواياهم ، واشارت إلى المخطط الذي تبنوه ضد الدعوة كما تشعر بعتاب الله للنبي (ص) حيث اذن لهم بالتخلف عنه في بعض غزواته كما توكد ذلك الآية التي بعدها.

قال تعالى : «لا يستاذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ان يجاهدوا باموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين ، انما يستاذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم للآخر ، وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ، ولو ارادوا الخروج لاعدوا له عنه ، ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين ، لو خرجوا فيكم ما زادوكم الا خبالا ،

__________________

(١) انظر مجمع البيان طبع صيدا / ج / ٣ وغيره من كتب التفسير.

٨٠