دراسات في الحديث والمحدّثين

هاشم معروف الحسني

دراسات في الحديث والمحدّثين

المؤلف:

هاشم معروف الحسني


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٨

رواه عن النبي (ص) واحد ، ورواه عنه غيره بالتسلسل إلى ان اصبح معروفا مشهورا بين جميع الطبقات التي تناقلته ، فيكون الاختلاف بين المشهور والمستفيض في الطبقة الاولى ، حيث انه لا يكفي وحدة الراوي في اعطاء الخبر صفة الاستفاضة ، ويكفي ذلك في اعطائه صفة الشهرة إذا رواه الجماعة في غيرها من الطبقات.

ويلتقي المستفيض مع المتواتر في ان كلا منهما لا بد وان يرويه جماعة عن مثلهم في جميع المراحل ، فان حصل العلم بصدور الحديث من النبي ص أو الامام (ع) من اخبار الجماعة اعطي الحديث صفة التواتر ، والا يوصف بالاستفاضة أو الشهرة ، ولو حصل العلم بصدق رواته من القرائن والملابسات التي تحيط به.

والمراد من الغريب قي عرف المحدثين ، هو الذي يشتمل على لفظ غامض بعيد عن الافهام نظرا لقلة استعماله.

والعزيز هو الذي ايرويه عن مصدره اثنان فصاعدا ، ولعل السر في تسميته بهذا الاسم ، هو قلة وجود هذا النوع بين المرويات عن النبي (ص) والائمة (ع) ، كما يجوز اعطاؤه هذا الوصف باعتبار قوته الحاصلة من روايته بطريقتين في جميع المراتب (١).

وقد صنف المحدثون المرويات عن الني والائمة (ع) إلى الاصناف الاربعة التالية الصحيح ، والحسن ، والموثق ، والضعيف ، وشاع هذا التصنيف في عصر العلامة الحلي المتوفى سنة ٧٢٦ واستاذه ، احمد بن موسى بن جعفر (٢) ونسب اكثرهم هذا التصنيف إلى العلامة واستاذه ، ولاجل ذلك فقد تعرضا لهجوم عنيف من الاخباريين الذين قطعوا بصحة جميع ما رواه المحمدون الثلاثة في كتبهم الاربعة ، والواقع ان هذه

__________________

(١) انظر مقباس الهداية للمامقاني.

(٢) المعروف بابن طاووس المتوفى سنة ٦٧٣.

٤١

المصطلحات ليست من مخترعات العلامة ، ولا من مبتكرات استاذه. لان المتتبع لكتب الرجال والدراية يجد في طياتها ما يوحى باستعمال المتقدمين لهذه الاصطلاحات ، فلقد قالوا : بأن فلانا صحيح الحديث ، وفلانا ضعيف في احاديثه وفلانا ثقة فيما يحدث به إلى غير ذلك مما يؤكد انههم قد استعملوا هذه الاوصاف في تقريض الاحاديث والرجال ونقدهما ، ولما جاء دور العلامة الحلي استعمل هذه المصطلحات ونسقها ، ووضع كل واحد منها في المحل المناسب ، ونظر إلى الحديث بلحاظ ذاته مع قطع النظر عن الملابسات والقرائن التي كانت تحيط به ، وطبق هذا المبدأ على جميع المرويات المدونة في الكتب الاربعة وغيرها ، والنتيجة الحتمية التي ينتهي إليها الباحث عندما ينظر إلى الحديث من حيث ذاته ، هي وجود هذه الاصناف الاربعة في الكتب التي بنى الاخباريون على صحة جميع ما جاء فيها وغيرها ، ولا يعني ذلك ان العلامة الحلي كان يتنكر للقرائن ولغيرها من الملابسات التي تؤكد صدور الحديث المنسوب إلى النبي أو الامام (ع) ولكنه يرى ان ذلك لا يجعله من قسم الصحيح ، وان جاز الاخذ به والعمل بمقتضاه من غير ناحية السند ، بينما نرى ان المتقدمين قد توسعوا في وصف الحديث بالصحة ، واستعملوه في كل حديث اقترن بما يقتفي الاعتماد عليه ، وان لم يكن صحيط بذاته ، كوجوده في احد الاصول الاربعمائة ، أو لانه محفوف ببعض القرائن ، أو موافق لحكم العقل ، أو للكتاب وللسنة القطعية ، أو لوجوده في احد الكتب التي الفها احد الجماعة الذين اجمعوا على صحة ما صدر عنهم ، أو لوجوده في احد الكتب التي عرضت على الائمة ، ونالت استحسانهم ، ككتاب عبيد الله الحلبي ، المعروض على الامام الصادق (ع) وكتابي يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان المعروضين على الحسن العسكري (ع) أو لكونه ماخوذا من احد الكتب التي شاع في عصر الائمة الاعتماد عليها والوثوق بها ككتاب الصلوة لحريز بن عبد الله السجستاني ،

٤٢

وكتب بي سعيد ، وعلي بن مهزيار ، وحفص بن غيات وغيرها من الكتب والمؤلفات في الحديث ، مع العلم بان بعض مؤلفي هذه الكتب ليسوا من الامامية ، والبعض الآخر كان منحرفا عن المذهب الامامي. ويرجع إلى غير الامام الشرعي ، إلى غير ذلك من القرائن والمناسبات التي تؤكد صحة مضمون الخبر ، وان لم يكن في نفسه وبلحاظ سنده مستوفيا لشرائط الصحيح التي يجب ان تتوفر في الرأوي حسب الامول المقررة في علم الد راية (١).

ومن ذلك تبين ان الصحيح في عرف المتقدمين يتسع لكل ما يجوز الاعتماد عليه ، سواء كان ذلك لناحية السند أو لغيره من الاسباب التي ذكرناها فيدخل في ذلك الموثق ، والحسن وحتى الضعيف المقترن ببعض القرائن ، وما عدا ذلك فهو من نوع الضعيف الذي لا يجوز الاعتماد عليه بحال من الاحوال ، ولعل الذي سهل للمتقدمين ان يتوسعوا في استعمال الصحيح إلى هذا الحد في حين ان كثيرا من الاخبار المقبولة لم تتوفر فيها عند المتأخرين القرائن التي ثوكد صحة مضمونها ، لعل الذي سهل لهم ذلك قربهم من عصر الائمة (ع) واتصالهم بالطبقة التي اهتمت بتصفية الحديث ، ووضعت الحواجز والسدود في طريق المنحرفين والمهتمين بالكذب على اهل البيت (ع) بالاضافة إلى ثقتهم باصحاب الاصول الاربعمائة ومؤلفاتهم واحاطتهم بالقرائن التي ترجح صدق الراوي وان لم يكن في نفسه من الممدوحين بالصدق والامانة ، في حين ان اكثر هذه العوامل تد تلاشت بسبب بعد الزمان ، وضياع اصول تلك المؤلفات التي دونها اصحابها واشرف على تصفيتها القيمون وغيرهم في الفترة الواقعة بعد النصف الاول من القرن الثاني إلى اواسط القرن الثالث.

__________________

(١) انظر ص ٥٤ و ٥٥ من العدة الطوسى ، وانظر مقباس الهداية في علم الدرأية للمامقاني.

٤٣

وكيف كان فقد عرف الصحيح جماعة من المؤلفين في علم الحديث كما نص على ذلك الشهيد الثاني في كتابه (البدإية في علم الدراية) بانه عبارة عن الحديث المتصل سنده بالمعصوم بواسطة الامامي العدل عن مثله في جميع الوسائط الواقعة بين المعصوم والراوي الاخير ، فلو كان بين رواته واحد يفقد هذه الصفات ، أو بعضها لا يتصف الحديث بالصحة ، كما وانه لو انقطع السند مثلا ، بان رواه خمسة واحدا عن واحد وكانوا من عدول الامامية ، ولكن الراوي الاول عن الامام (ع) لم يذكر في سند الرواية لا تكون الرواية من نوع الصحيح كما يستفاد من هذا التعريف ومن تصريحاتهم.

واضاف بمضهم قيدا اخر إلى تعريف الصحيح ، وهو ان يكون الراوي ظابطا ، اي متقنا ، لان من لم يكن كذلك لا يحصل الوثوق باقواله ومروياته ، ولكن اكثر المؤلفين في علم الدراية لم يعترضوا لهذا القيد ، اعتمادا على ان اشتراط العدالة في الراوي يدل عليه بالملازمة ، ذلك لان العادل إذا احس من نفسه النسيان إو السهو وعدم الاتقان يمتنع من تلقاء نفسه عن الرواية إذا لم يكن جازما ومطمئنا لما يرويه عن غيره ، وافتراض غفلته وعدم التفاته إلى كثرة سهوه ، ونسيانه هذا الافتراض وان كان ممكنا في ذاته ، الا ان مصاديقه ان لم تكن معدومة فهي نادرة للغاية ، وإذا بلغ الحال بالراوي إلى هذا الحد. لم يعد محلا للوثوق والاطمئنان عند عامة الناس ، وتصبح مروياته بنظر العقلاء كغيرما من المرويات التي يجب التثيت فيها ان لم تكن اسوأ حالا منها. ونص جماعة على ان القسم الصحيح من الاحاديث يشتمل على ثلاثة مراتب اعلاها ان تثبت عدالة الرواة بالعلم أو بشهادة العدلين ، ويدخل في هذه المرتبة ، ما لو كانت صفة العدالة ثابتة لبعضهم بالعلم ، وللبعض لآخر بشهادة العدلين.

واوسطها ان يكون انصاف الراوي بالصفات المطلو بة بشهادة العدل

٤٤

الواحد ، الذي يحصل الوثوق والاطمئنان من شهادته ، أو يكون اتصاف بعضهم بتلك الصفات بواسطة شهادة العدلين ، والبعض للاخر بشهادة العدل الواحد.

والمرتبة الثالثة ، هي ان يتصف الراوي بالصفات المطلوبة بواسطة القواعد والاصول المعمول بها في موارد الشك وعدم العلم بالواقع ، أو من دراسة تاريخ الرواة وتتبع احوالهم.

ومع ، ان الجعفريين حتى بعد تصنيف الحديث إلى الاصناف الاربعة يشترطون في الصحيح ان يكون جامعا للصفات التي ذكرناها ، تراهم احيانا يتوسعون في اطلاقه على بعض المرويات اتي لم تتوفر فيها تلك الشروط ، كمراسيل محمد بن ابي عميرة ، وبعض الروايات التي يقتصر رواتها على بعض السند ، ومن الجائز ان يكون وصف هذا النوع من المرويات بالصحة من حيث جواز العمل بها والاعتماد عليها بسبب القرائن المؤكدة لصدورها عن المعصموم (ع) لا لانها من الافراد الحقيقية للصحيح بمعناه المعروف بين المحدثين وعلماء الدراية.

الصنف الثاني من اصناف الحديث (الحسن) وهو الحديث الذي يرويه الامامي الممدوح في دينه مدحا معتدأ به عند العقلاء من غير ان ينص اصد على وثاقته ، ولا على فسقه وانحرافه عن المذهب ، ولا بد واذ يرويه الامامي الجامع لهذه الصفة عن امامي مثله إلى إذ ينتهي إلى النبي أو الامام (ع).

الصنف الثالث (الموثق) وهو الحديث الذى يرويه المستقيم في دينه ، المتمسك بعقيدته ، المعروف بحسن السيرة والسلوك والصدق والامانة على شرط ان لا يكون اماميا سواء كان من الشيعة الذين انحرفوا عن المخطط الامامي ، كالواقفية والفطحية والزيدية وغيرهم ، ام

٤٥

كان من غير الشيعة كاهل السنة وغيرهم من المذاهب الاخرى ، وسواء كان جميع رواته من المخالفين للمذهب الامامي ، ام كان بعضهم اماميا : والبعض الآخر عاميا ، وقد نص المؤلفون في علم الدراية ان هذا النوع من الاحاديث اقوى من النوع الثاني ويقوم عليه لو تعارضا في مورد واحد.

الصنف الرابع (الضعيف) وهو الفاقد للشروط المعتبرة في الاصناف الثلاثة الصحيح ، والحسن والموثق بر ومن ذلك ما لو رواه من هو متصف بالفسق ير أو ببعض الصفات التي تشعر بعدم تو رعه عن الكذب ونحوه من المعاصي ، أو كان جحميع رواته أو بعضهم من المجهولين الذين لم يتبين حالهم من حيث استقامتهم وسلامة عقيدتهم.

ومجرد الانحراف عن العقيدة الشيعية الصحيحة لا يوجب ضعف الحديث ما لم يقترن ببعض الصفات كالفسق ، وعدم التورع عن الكذب ونحو ذلك مما يوحي بعدم الاطمئنان إليه ، وقد ذكرنا ان غير الامامي إذا كان مستقيما في دينه ومعروفا بالصدق والامانة يصح الاعتماد على مروياته ، ولها الافضلية على مرويات الامامي الممدوح الذي لم تثبت عدالته فيما لو تعارضت معها في مورد واحد (١).

وتختلف مراتب الحديث الضعيف باختلاف الاسباب الموجبة لتضيعفه ، فالذي يرويه المعروف بالفسق ، أو الكذب من الامامية اسوأ حالا من الذي يرويه مجهول الحال والذي يرويه مجهول الحال من غيرهم اسوأ حالا مما يرويه المجهول منهم ، وهكذا كلما كانت اسباب للضعف واضحة جلية لا تقبل المراجعة ، كان الخبر ابعد عن الاعتبار واشد ضعفا ، والاحل ذلك أيضا بالنسبة إلى الاصناف الثلالة ، فالذي يرويه العدل

__________________

(١) انظر مقابس الهداية في علم الدراية.

٤٦

الامامي الفقيه الورع الضابط ، اصح مما يرويه العدل الامامي الفاقد لبقية هذه الصفات ، والحديث الحسن المروي بطريقين أو ثلاثة اقوى من المروي بطريق واحد وهكذا بالنسبة إلى الموثق ، وربما يكون الحسن في مرتبة الصحيح ، كما لو روي بطريقين أو اكثر ، واقترن ببعض المرجحات ، ومرد ذلك إلى قوة الاطمئنان بصحة الحديث والوثوق بصدور عن المعصوم في امثال هذه الموارد.

ثم ان هذا التصنيف المنسوب إلى المتأخرين ، لا يعني ان الاحاديث التي يصح العمل بها والاعتماد عليها في اثبات الاحكام وغيرها تنحصر في الاصناف الثلاثة الصحيح والحسن والموثق وغيرها يسقط عن الاعتبار مهما كان حاله ، وانما هو لتميين الاخبار الصالحة للعمل عن غيرها ، مع قطع النظر عن القرائن والملابسات التي قد تجعل غير الصالح صالحا ، والصحيح غير صالح ، ولذا فان الفقهاء في كثير من المناسبات يتركون الصحيح ، أو الموثق ، ويأخذون بالضعيف المعارض لهما اعتمادا على القرائن الخارجة من الحديث ، أو شهرة العمل به ، أو لانه مروي عن طريق الجماعة الموثوقين عند المحدثين الذين لا يروون الا عن الثقاة كاصحاب الاجماع وغيرهم من اصحاب الائمة (ع) (١).

__________________

(١) اصحاب الاجماع هم الذين أجمع المحدثون والرواة على تصديقهم فيما يروونه عن الائمة (ع) وهؤلاء ستة من اصحاب الباقر ، وستة من اصحاب الامام الصادق (ع) وستة من أصحاب الامام موسى بن جعفر (ع) كما نص على ذلك الثسيخ أبو عمرو الكشي في رجاله ، فالستة من اصحاب الباقر زرارة بن اعين ، ومعروف بن خربوذ وبريد العجلي ، وابو بصير الاسدي والفضيل بن يسار ، ومحمد بن مسلم الطائفي ، وألستة من اصحاب الصادق (ع) جميل بن دراج ، وعبد الله بن مسكان ، وعبد الله بن بكير ، وحماد بن عيسى ، وحماد أبى عثمان ، وأبان بن عثمان ، وألستة من اصحاب موسى ، وحماد هم يونس بن عبد الرحمن ، وصفوأن بن يحيى ، ومحمد بن ابى عمير ، وعبد الله بن المغيرة ، والحسن بن محبوب : واحمد بن محمد أبن ابي نصر.

٤٧

ومن مجموع ذلك تبين ان الفرق بين الصحيح في عرف المتقدمين ، والصحيح عند المتأخرين ، ان الصحيح عند المتقدمين هو الذي يصح العمل به والاعتماد عليه ولو لم يكن من حيث سنده مستوفيا للشروط التي ذكرناها والصحيح في عرف المتأخرين هو جامع لتلك الشروط ، فتكون النسبة بينهما هي العموم المطلق كما نص على ذلك في مقباس الهداية نقلا عن فوائد الوحيد البهبهاني.

وقد قسم علماء الدراية الحديث إلى اقسام كثيرة بالاضافة إلى الاصناف الاربعة السالفة ، كالمعنعن ، والمسند ، والمتصل ، والمعلق والمفرد والمدرج ، والمشهور ، والغريب ، والمصحف والمرسل ، والمقطوع ، وغير ذلك ، ولا يعنينا استقصاء جميع النواحي المتعلقة بهذا الموضوع.

٤٨

الحديث وأصنافه عند السنة

لا يختلف الحال كثيرا بين المحدثين من سنيين وشيعيين من حيث تصنيف الحديث إلى اكثر من صنفين ، مع إلاعتراف بان التقسيم الطبيعي للحديث الذي تنطوي فيه جميع الاقسام وتتفرع عنه جميع الاصناف ، هو اما ان يكون مقبولا ، أو مردودا ، والمقبون يرادف الصحيح كما وان المردود يرادف الضعيف ، ولكنهم مع ذالك اصطلحوا على تقسيمه إلى الاقسام الثلاثة التالية.

الصحيح ، والحسن ، والضعيف ، وبقية الفروع والمصطلحات تتفرع عن هذه الاصناف الثلاثة ، وقد انهاها بعضهم إلى مائة نوع ، كل نوع منها علم مستقل على حد تعبيرهم (١).

والصحيح عندهم هو الحديث المسند الذي يتصل اسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط حتى ينتهي إلى رسول الله (ص) أو إلى مصدره من صحابي أو من هو دونه على شريطة ان لا يكون شاذا ولا معللا.

والشاذ هو الذي يرويه ثقة مقبول الحديث بنحو يكون مخالفا لما يرويه الثقات ، كما نص على ذلك الحافظ بن حجر في شرح النخبة ، والمعلل هو المشتمل على علة خفية تخدش في صحته.

__________________

(١) انظر علوم الحديث ومطلحاته ص ١٤٣.

٤٩

والتقسيم الاولي للصحيح لا يعدو هذين القسمين ، الصحيح لذاته والصحيح لغيره فالصحيح لذاته هو الذي يتمتع رواته بافضل الصفات واكرمها ، والصحيح لغيره هو المحكوم بصحته لامر خارج عنه كالحديث الحسن الذي يقترن بما يوجب صحته ، أو بما يؤكد صدوره عن النبي (ص) أو غيره من الصحابة.

ونص النووي في كتابه قواعد التحديث ، ان للصحيح اقساما سبعة اعلاها ما اتفق عليه البخاري ومسلم ، ثم ما انفرد به البخاري ، ثم ما انفرد به مسلم ، ثم ما كان جامعا لشروطهما في الصحيح ، وان لم يدوناه في صحاحهما ، ثم ما كان على شرط البخاري في الرواية ، وياتي من بعده ما كان على شرط مسلم ، والنوع الاخير ما صححه غيرهما من المؤلفين في الحديث.

وقال ابن تيمية : ان اهل العلم قد اتفقوا على ان اصح الاحاديث ما رواه اهل المدينة ثم ما رواه اهل البصرة ، ثم ما رواه اهل الشام وتجاهل اكثرهم مرويات الكوفيين ، ووصفها بعضهم بكثرة الدغل وعدم السلامة من العلل ، ولعل من ابرز اسباب هذا التنكر لمرويات الكوفيين هو التشيع الغالب على اهلها ، والشيعة عند اكثر المحدثين من السنة مبتدعة وضاعون كذابون على حد تعبيرهم يغلب على حديثهم الدغل والخلل اما احاديث الشاميين فهي اصح من احاديثهم ، لان رواتها قد تخرجوا من مدرسة معاوية وآل مروان الائمة البررة ، وتلمذوا على ابي هريرة راوية الامويين وصنيعة معاوية بن ابي سفيان الحريص على مصلحة الاسلام ، والمحتاط في امور الدين ومصالح المسلمين.

٥٠

الحسن

الحديث الحسن ، هو الذي يتصل سنده بواسطة العدول واحدا عن واحد ولم يبلغوا درجة غيرهم من حيث الضبط والاتقان ، ولا بد فيه بالاضافة إلى ذلك ان يسلم من الشذوذ والتعليل ، وهو اما حسن لذاته ، وبلا توسط امر خارج عن حقيقته ، واما ان يستمد حسنه من امر خارج عنه ، كما لو كان احد رواته مستورا لم تثبت اهليته أو عدمها ، ولكنه لم يكن مغلا ولا متهما بالكذب ، وبالاضافة إلى ذلك كان معتضدا برواية اخرى مماثلة له باللفظ ، أو مؤيدة لمعناه (١) فالحديث في مثل هذه الحالة يستمد حسنه من الرواية المماثلة له ، أو الرواية المؤيدة لمعناه.

والمعروف بين المحدثين ان تصنيف إلحديث إلى الاصناف الثلاثة لم يكن قبل الترمذي المتوفي سنة ٢٧٩ ، ولما الف كتابه الجامع في الحديث صنفه إلى هذه الاصناف الثلاثة (٢).

ويدعى بعض المؤلفين في الحديث ، ان البخاري ، وان لم يتعرض لهذا النوع من الحديث ، الا انه قد اشار إليه واعتبره من افراد الصحيح الذي يصح العمل به والاعتماد عليه.

__________________

(١) وتسمى المماثلة له با للفظ (بالمتابع) ، والمؤيدة لمعناه بالشاهدة.

(٢) الترمذي ، هو محمد بن عيسى صاحب الجامع الكبير في الحديث.

٥١

الضعيف

هو الحديث الذي لم تتوفر فيه الشروط التي ذكرناها في قسمي الصحيح والحسن ، ومنه المرسل والمنقطع وغير ذلك من الاصناف الآتية ومع ان المرسل ليس حجة في الدين كما ينص على ذلك مسلم في مقدمة صحيحه ، فأكثرهم يعتمدون على مراسيل الصحابة ، ويحتجون بها ، ذلك لان الصحابي على حد زعمهم إذا روئ حديثا لم يتيسر له سماعه من النبي (ص) فالراجح في حقه انه يرويه عن صحابي مثله ، وسقوط الراوي الاول من سند الحديث لا يمنع من صحته ولا يجب البحث عن بقية السند ، كما لا يجب البحث عن عدالة الصحابي ، لان شرف الصحبة فوق جميع الاعتبارات والامتيازات.

ونص السيوطي في كتابه التدريب. على ان في الصحيحين من مراسيل الصحابة ما لا يحصى ، وان اكثر رواياتهما تنتهي إليهم ، لانهما لم يرويا الا عن العدول ، والصحابة فوق الشبهات والاهواء ، واعلى مراتب المرسل عند المحدثين ما رواه صحابي ثبت سماعه ، وياتي من بعده ما رواه صحابي رأى النبي (ص) ولم يثبت سماعه منه ، ثم المخضرم وهو من عاصر النبي (ص) ولم يتمكن من لقاثه والاجتماع به ، ثم المتقن كسعيد بن المسيب وامثاله ، ويلي ذلك من كان يتحرى الافضل من الشيوخ ، كالشعبي ومجاهد ، ودون ذلا لي مراسيل من كان ياخذ عن كل احد كالحسن البصري وامثاله ، ومن اصناف الضعيف (المنقطع) ، وهو

٥٢

من سقط من سنده واحدا واكثر ، أو كان بين رواته احد المبهمين (١) وهو اسوأ حالا من المرسل.

ومن انواع الضعيف المعضل ، وهو الحديث الذي سقط من سنده راويان فاكثر على سبيل التوالي ولذلك سمي بالمعضل.

ومن انواعه المدلس ، وهو الذي يرويه شخص عمن عاصره ولقيه ، مع انه لم يسمع منه ، وقد اشتهر جماعة من كبار الرواة بهذا الوصف ، وتوقف جماعة في مروياتهم ، كهشيم بن بشير بن اي حازم المتوفى سنة ١٨٣ ، وجاء عن الذهبي انه قال : لا نزاع في انه كان من الحفاظ ولكنه كان كثير التدليس ، ومنهم سفيان بن عيينة المتوفى سنة ١٩٨ ، روى عن جماعة من التابعين كالزهري ، وزيد بن اسلم ، وعمر بن دينار وغيرهم ، ومع انه كان معدودا في طليعة المدلسين ، كما يبدو من نصوصهم في علم الحديث فقد احتجوا بحديثه ، واعتمدا عليه في امور الدين.

ومنهم سليمان بن مهران المعروف بالاعمش ، المتوفى سنة ١٤٨ ، وقتادة بن دعامة بن عزيز السدوسي البصري المتوفى سنة ١١٧ ، وهو من المعروفين بين المحدثين بالتدليس لانه روى عن جماعة لم يسمع منهم.

ومنهم الحسن البصري ، احد مشاهير التابعين ، المتوفى سنة ١١٠ ، ونص الذهبي في ميزان الاعتدال على انه كان من قضاة الامويين ، ومن المدلسين في الحديث.

ومنهم عبذ الرزاق الصنعافي المتوفى سنة ٢١١ ، والوليد بن مسلم الدمشقي وجاء عنه انه كان يدلس عن الكاذبين والموثوقين ، توفي سنة ١٩٥ ومنهم سفيان الثوري ، كما نص على ذلك المؤلفون في احوال المحدثين.

__________________

(١) المبهم هو الذي لم يعرف اصله ونسبه ولم تثبت عدالته.

٥٣

وجاء في توضيح الافكار المجلد الاول ص ٣٥٣ و ٣٥٤ ، ان جميع هؤلاء الائمة المشاهير من رواة الصحيحين ، ولذلك فقد اعتذر المحدثون عنهم بان تدليسهم يرجع إلى ابهام الراوي ، ومثل ذلك لا يوجب تجريحهم بالكذب والاغراء ونحو ذلك مما يخل بوثاقتهم ، وحاول بعضهم اخراج مرويات هؤلاء من التدليس ، وادخالها في المرسل ، وحجتهم في ذلك ان التدليس يختص بمن روى عمن لاقاه ولم يسمع منه ، فان روى شخص عمن عاصره ولم يلتق به ، فالرواية من المرسل (١).

وقال الخطيب البغدادي في الكفاية ، في معرض التفرقة بين المدلس والمرسل ان الراوي لو بين انه لم يسمع الحديث من الراوي الذي دلسه منه وكشف ذلك يصبح الحديث مرسلا غير مدلس فيه ، لان الارسال لا يرافقه الابهام من طرف المرسل بانه قد سمع الحديث ممن لم يسمع منه ، وانه قد التقى به ، والتدليس الذي نقلناه عن هؤلاء يتضمن الارسال لا محالة ، من حيث ان المدلسين قد امسكوا عن ذكر من دلسوا عنه ، ويفترق هذا النوع عن المرسل من ناحية انهم ابهموا السماع ممن لم يسمعوا منه لا غير ، ولم يظهر منهم ايهام السامع بانهم قد التقوا بالراوي وسمعوا منه ، والذي يوهن الحديث المدلس فيه ، ملازمة التدليس لايهام السامع انه قد سمع ممن لم يسمع منه ، ولاجل ذلك ذم العلماء من دلس في الحديث ، ولم يذموا من ارسله (٢).

لقد حاول المؤلفون في علم الحديث بهذا اللف والدوران تنقية اخبار الصحيحين من الضعف ، ودفع جميع الشبه والشكوك التي تحوم حولهما ولو بالمغالطات والتحملات ، حتى كأنهما من كتب الله المنزلة التي لا ياتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، مع العلم بان مؤلفيها من

__________________

(١) انظر علوم الحديث ص ١٨٣.

(٢) الكفاية في علم الحديث الخطيب البغدادي ص ٣٥٧.

٥٤

البشر الذين يخطئون ويصيبون كغيرهم من جميع بني الانسان الا من عصمه الله.

ومن الجائز ان يكون منشأ اعتمادهما على مرويات هؤلاء المدلسين كما وصفهم بذلك علماء الحديث هو وثوقهما بها ولو من القرائن والملابسات الخارجة عن نطاق الحديث ، والاعتذار عنهما بهذا الاسلوب ليس بعيدا عن المنطق ، وفي الوقت ذاته بعيد عن الغلو والاسراف في تقديسهما ، هذا بالاضافة إلى ان اعطاء تلك المرويات صفة الارسال لا ينفي عنها صفة الضعف لان المرسل من افراد الضعيف كما نص على ذلك المؤلفون في دراية الحديث.

ومن اقسام الضعيف الحديث المعلل ، وهو الذي ينطوي على علة تمنع من صحته ، وان بدا سالما من العلل ، واكثر ما يكون التعليل في الاسناد الجامع شروط الصحة ظاهرا وحينئذ قد تدرك العلة بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك تنبه الناقد على وهم وقع من الراوي بان يرسل حديثا موصولا ، أو يكون الحديث من نوع الموقوف ، وهو في واقعه مما يسمى في عرف المحدثين بالمرفوع ، أو يكون مصدر العيب فيه دخول حديث في حديث ، بنحو يغلب على ظن الراوي ان الحديث غير صحيح أو يتردد في صحته ، ويستحسن من الراوي إذا روى حديثا معللا ان يذكر علته (١).

ومن اقسامه المضطرب ، وهو الذي يتعدد رواياته نجو تتسأوى وتتعادل ولا يمكن ترجيح احدهما على للآخر بشئ من طرق الترجيح ، ومنشا الضعف في هذا النوع ما يقع فيه من الاختلاف من ناحية حفظ رواته وضبطهم ومن امثلة ما جاء عن ابي بكر انه قال لرسول الله (ص) :

__________________

(١) والمراد بالمعلل هو المشتمل على علة اي عيب يمنع من صحته ، وان كان بظاهره يبدو سالما من العيوب.

٥٥

أراك شبت يا رسول الله ، قال : شيبتني هود وأخواتها رواه أبو اسحاق وحده ، واختلفوا فيه على وجوه ، فمنهم من رواه مرسلا ، ورواه بعضهم موصولا ، ورواه جماعة مسندا إلى اي بكر ، واخرون اسندوه إلى عائشة ، واسنده فريق الى سعد ، وكل هؤلاء من الثقاة الذين لا يمكن ترجيح بعضهم على بعض وترك الباقي ، والاضطراب في السند امارة على ضعف الحديث ، لان تساوي الروايات في الدرجة وعدم تعارضها يمنع من الحكم بالاصح منها ، وقد يحصل الاضطراب في متن الحديث كما لو اختلفت الروايات في متنه سواء اتفقت في سنده أو اختلفت فيه.

ومن اقسامه المقلوب ، وهو الذي يقدم الراوي فيه المتأخر ، أو ياخر فيه المتقدم ، أو يضع شيئا مكان شئ وقد ضعفوا هذا النوع من الاحاديث نظرا إلى إذ التقديم والتاخير يكشفان في الغالب عن عدم ضبط الراوي ، وذلك قد يؤدي إلى عدم تفهم المراد من الحديث.

ومن اقسامه الشاذ ، والمنكر ، والمتروك ، والمراد من الشاذ هو ما يرويه الثقة بنحو يختلف عن رواية غيره من الثقاة ، أو لرواية غيره له ممن هو اولى منه بالقبول ، والمراد من المنكر هو ما يرويه الضعيف بنحو يتعارض مع رواية الثقة الضابط ، والمتروك هو الذي يرويه المتهم بالكذب أو من هو ظاهر الفسق ، أو من غلبت عليه الغفلة والاوهام الباطلة إلى غير ذلك من انواع الضعيف واصنافه.

وقد تبين من هذا العرض الموجز لاقسام الحديث ومراتبه ، ان تقسيم الحديث وتصنيفه إلى هذه الاقسام والاصناف يلتقي فيها الطرفان السنة والشيعة في الغالب ، وموارد الخلاف بينهما لا تزيد عن الخلافات الواقعة بين علماء المذهب الواحد في هذا الموضوع وغيره من المواضيع.

والذي تجدر الاشارة إليه ان هذه العناية البالغة في الحديث واصنافه

٥٦

وحالا كان من الممكن الاستفادة منها إلى ابعد الحدود ، لو تجرد الذين اهتموا بهذه المواضيع عن نزعاتهم واخذوا بالواقع الذي تفرضه الدراسة العلمية الواعية ، وعرضوا الاحاديث سندا ومتنا على علمي الدراية والرجال عرضا عمليا بقصد تصفيته مما يسئ الى السنة ، بل وحتى إلى الاسلام نفسه ، واهتموا ياحاديث الاحكام وغيرها مما هو مدون في مجاميع الحديث على علا نه ومصائبه ، ولكنهم لم يوفقوا لذلك ، فقد رافقتهم النزعات المور وثة في جميع المراحل التي مروا بها واهتموا بالاسانيد اكثر من اهتمامهم بالمتون ، مع العلم بان الاخطار الناتجة عن متونها لا تقل عن اخطار الاسا نيد ، واحتضنوا احاديث الاحكام تاركين غيرها من المرويات في مختلف المواضيع كأنها لا تعنيم ، مع انها ان لم تكن اولى بالدراسة والتصفية من احاديث الاحكام ، فليست تلك باولى منها ولا اكثر شمولا واعم نفعا ، ذلك لان الدساسين والمرتزقة قد وجدوا متسعا لهم عن طريقها للوصول إلى ما يهدفون إليه وقد بلغ الحال بالوضاعين انهم كانوا إذا استحسنوا أمرا صيروه حديثا ، كما نص على ذلك بعضهم ، وحجتهم في ذلك انهم يضعون له لا عليه على حد تعبيرهم.

هذا بالاضافة إلى ان الخلافات المذهبية قد استحوذت عليهم في الدراسات المتعلقة بهذه المواضيع منذ تدوين الحهديث إلى آخر مرحلة من المراحل التي مروا بها ، فقد ظهر كل فريق بمظهر المدافع عن مروياته ومجاميعه لا بمظهر الناقد النزيه الذي يهمه ان ينتتي الجوهر من الحصى ، وان يدفع عن الحق شبه المبطلين والمنحرفببن ولو كان الحق بجانب اخصامه ومنافسيه.

٥٧

العدالة

لما كانت العدالة من الشروط الاولية للحديث الصحيح عند الفريقين السنة والشيعة ، ولما كانت عدالة الصحابة من الامور المتفق عليها بين محدثي السنة ، كان من المفروض ان نتعرض لهذين الموضوعين في هذه الدراسات حول الصحيح للبخاري ، والكافي للكليني ، ذلك لانهما لم يدونا في هذين الكتابين الا ما صح عندهما من المرويات في مختلف المواضيع ، ولان البخاري اكثر ما يعتمد في صحيحه على مرويات الصحابة مهما كان حالهم ، ولا يتردد في مروياتهم ولو كانت لا تنسجم مع اصول الاسلام ومبادئه ، أو كانت عن طريق ابي سفيان ، والحكم بن ابى العاص وامثالهما من اعداء الاسلام.

والمراد من العدالة كما يظهر من موارد استعمالها عندهم ، استقامة الراوي في امور الدين ، وسلامته من الفسق ، ومنافيات المروئة في جميع الحالات ونص الخطيب البغدادي في (الكفاية) على ان العدل من عرف باداء الفرائض ، ولزوم ما أمر به ، وتوقي ما نهي عنه ، وتجنب الفواحش المسقطة ، وتحرى الحق والواجب في افعاله ومعاملاته ، والتوقي في لفظه مما يثلم الدين والمروءة ، واضاف إلى ذلك. ان من كانت هذه حاله فهو الموصوف بانه عدل في دينه ، واستدل على ذلك بقول النبي (ص).

من عامل الناس فلم يظلمم ، وحدثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم

٥٨

يخلفهم ، فهو ممن كملت مروءته ، وظهرت عدالته ، ووجبت اخوته ، وحرمت غيبته. واكثرهم يفرق بين تعديل الراوي وتزكية الشاهد ، فيكتفون في تعديله بشن اهد واحد ، ويشترطون التعدد في التزكية ، لانها نوع من الشمهادة التي لا بد فيها من التعدد.

ويبدو من هذا النص وغيره من النصوص ان العدالة من الصفات القائمة بالنفس التي تعرف بآ ثارها كاداء الفرائض وتجنب المحرمات ومنافيات المروءة وغير ذلك مما يكشف غالبا عن وجود تلك القوة الدافعة على العمل بالواجبات وترك المحرمات ، وتحري الحق والواجب في جميع الافعال والمعاملات ، فلا بد والحالة هذه من تتبع احوال الراوي في اكثر حالاته ليصح الحكم عليه بالعدالة أو عدمها.

وقال الدكتور صبحي الصالح : ولا ريب ان العدالة شئ زائد على مجرد التظاهر بالدين والورع ، لا تعرف الا بتتبع الافعال واختبار التصرفات لتكون صورة صادقة عن الراوي (١).

ونص في المجلد الثاني من توضيح الافكار على انه لا فرق بين تزكية الراوي وتزكية الشاهد من حيث الاكتفاء بشاهد واحد ، وايد ذلك القاضي ابوبص الباقلاني ، واحتج لذلك ، بان التعدد انما يجب في الشهادة ، وتزكية الشاهد ليست شهادة (٢).

ونص الشيخ عبد الصمد والد الشيخ البهائي احد اعلام الامامية في كتابه الوجيزة في دراية الحديث ، ان عدالة الراوي وجرحه يثبتان

__________________

(١) انظر ص ١٣٣ من علوم الحديث.

(٢) الباقلاني احد الشيوخ الذين انتهت إليهم زعامة المذهب الاشعري في النصف الثاني من القرن الرابع ، توفي سنة ٤٠٣.

٥٩

بشهادة عدل واحد عند الاكثر ، ولو اجتمع الجارح والمعدل فالمشهور تقديم الجارح.

كما وان اكثر النصوص الشيعية تؤكد ان العدالة صفة قائمة في النفس ، وان الطريق إلى معرفتها هو فعل الواجبات وترك المحرمات ، كما نص على ذلك العلامة الحلي واكثر من تأخر عنه ، واضاف بعضهم إلى ذلك ترك ما يتنافى مع المروءة وان لم يكن بذاته من المحرمات ، وفي مقابل ذلك نص جماعة على انها ليست شيئا آخر وراء فعل الواجبات وترك الحرام فمن فعل الواجب وترك الحرام كان عادلا ، وان لم يكن ذلك ناتجا عن وجود صفة في النفس تدفعه إلى فعل الواجب وترك الحرام ، وتشدد فريق ثالث في تحديدها ، فقالوا : بأنها الاستقامة في امور الدين الناتجة عن الملكة القائمة في النفس ، وفرعوا على ذلك بان من فعل الواجبات وترك جميع الكبائر إذا لم يكن ذلك منه بتأثير تلك القوة الدافعة على العمل والاطاعة لا يكون عادلا ، واحتجوا لذلك ببعض المرويات عن الائمة (ع) وقد جاء فيها.

ان العادل هو المعروف بالستر والعفاف ، وكف البطن والفرج واليد واللسان ، واجتناب الكبائر التي توعد الله عليها سبحانه بالنار : وهذه الصفات لا تجتمع في شخص ما لم يكن الخوف من الله مسيطرا عليه ومتأصلا في نفسه ، وليست الملكة في واقعها غير الخوف والرجاء الدافعين على الطاعة والاستقامة في امور الدين.

ومهما كان الحال فالظاهر ان الجميع متفقون على ان العدالة التي هي شرط في الشاهد وامام الجماعة والراوي وغير ذلك تترتب اثارها إذا كان الانسان معروفا بالستر والعفاف وترك المعاصي ، وفعل الواجبات سواء كانت من الامور القائمة بالنفس وهذه الامور كواشف عنها ، ام

٦٠