دراسات في الحديث والمحدّثين

هاشم معروف الحسني

دراسات في الحديث والمحدّثين

المؤلف:

هاشم معروف الحسني


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٨

ان ترفعه إلى مرتبتك برفق واخلاص ، ولا تحمله ما لا يطيق فيخرج من حيث اردت اصلاحه.

ولم يكتف الإمام (ع) بهذه المناهج والقواعد التي تتكون منها الفضيلة والخلق الرفيع في نفس الانسان ، بل ضرب امثلة على ذلك ، كما جاء في رواية يعقوب بن الضحاك ، ان ابا عبد الله الصادق (ع) قال لاصحابه وهو يحدثم عن الفضيلة ومراتبها وكيف ينبغي لكل واحد ان ينظر الى الآخر ويتعاون معه ليرفع مستواه ، قال لهم : ان رجلا كان له جار نصراني فدعاه إلى الاسلام وزينه له فاجابه إليه ، وجاء في اليوم الثاني عند السحر فقرع عليه بابه ، ثم قال له : توضأ والبس ثوبيك لنخرج إلى الصلاة : فتوضأ وخرج معه فصليا ما شاء الله ، ثم صليا الفجر ومكثا حتى اصبحا ، فقام النصراني يريد منزله ، فقال له الرجل اين تذهب؟ ان النهار قصير ، والذي بيننا وبين الظهر قليل ، فجلس معه إلى ان صلى الظهر ، ثم قال له لم يبق إلى العصر الا القليل ، واحتبسه إلى إذ صلى العصر ، ولما اراد ان ينصرف إلى منزله قال له : ان هذا آخر النهار ، واحتبسه حتى صلى المغرب ، ثم قال له : لقد بقيت صلاة واحدة فسكت الرجل وانتظر إلى إذ صلى العشاء ، وتفرقا ، فلما كان وقت السحر طرق عليه الباب ، وقال له : قم فتوضأ واخرج لنصلي ، فقال النصرافي : اذهب واطلب لهذا الدين من هو افرغ مني فانا انسان مسكين ولي عيال فلا اطيق ان اتحمل دينكم ، قال أبو عبد الله الصادق (ع) ادخله في شئ واخرجه منه (١).

وروى في باب الطاعة والتقوى ، عن عمر بن شمر عن جابر الجعفي ان ابا جعفر الباقر (ع) قال : يا جابر ايكتفي من ينتحل التشيع ان يقول :

__________________

(١) والذي عناه الامام بذلك ، ان المسلم أرأد أن يفرض عليه ايمانه. فلم يتحمل فخرج من الاسلام ولم يعد إليه ، ولو انه تركه وحاول تقوية ايمانه بالطرق المألوفة تدريجا ، لكان باستطاعته ان يرفعه إلى حيث يريد.

٣٢١

يحبنا اهل البيت ، فوالله ما شيعتنا الا من اتقى الله واطاعه ، وما كانوا يعرفون يا جابر الا بالتواضع والتخشع وصدق الامانة وكثرة ذكر الله ، والصوم والصلاة ، والبر بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء واهل المسكنة ، والغا رمين والايتام ، وصدق الحديث ، وتلاوة القرآن ، وكف الالسن عن الناس الا من خير ، وكانوا امناء عشائرهم في الاشياء.

قال جابر : يا ابن رسول الله ما نعرف اليوم احدا بهذه الصفة ، فقال يا جابر : لا تذهبن بك المذاهب ، حسب الرجل ان يقول : احب عليا واتولاه ، ثم لا يكون مع ذلك فعالا ، فلو قال : اني احب رسول الله (ص) ورسول الله خير من علي ، ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنته ما نفعه حبه اياه شيئا ، فاتقوا الله واعملوا لما عند الله ، ليس بين الله وبين احد قرابة احب العباد إلى الله عزوجل ، واكرمهم عليه اتقاهم واعملهم بطاعته ، يا جابر والله ما يتقرب إلى الله الا بالطاعة وما معنا براءة من النار ، ولا على الله لاحد من حجة ، من كان مطيعا فهو لنا ولي ، ومن كان عاصيا فهو لنا عدو ، وما تنال ولايتنا الا بالعمل والورع.

وروى عن محمد بن حمزة العلوي عن عبيدالله بن على ان ابا الحسن الأول (ع) قال : كثيرا ما كنت أسمع أي يقول : ليس من شيعتنا من لا تنحدث المخدرات بورعه ، وليس من اوليائنا من هو في قرية فيها اثنا عشر الف رجل وفيهم من خلق الله من هو اورع منه (١).

__________________

(١) انظر ص ٧٤ و ٧٥ و ٧٨ وقد تكرر مضمون هاتين الروايتين في الكافي حسب المناسبات وذكرنا بعضها في المواضيع السابقة ، وهذه الروايات تضع الحد الفاصل بين التشيع الصحيح والمزيف وتنفى عنه غلو المنحرفين ، وأباطيل المرجفين ، ودسائس الحاقدين الذين الصقوا به الاتهامات والبدع والخرافات ، وارادوا له ان يموت في مهده ، فلم يحقق لله لهم امنية ولم يمدهم بالقدرة على ذلك ، ورد الله الذين كفروا بكيدهم لم ينالوا شيئا. وبرز التشيع قويا يقتحم =

٣٢٢

وروى في باب الحب في الله عن عمرو بن حورك ان النبي (ص) قال : اوثق عرى الايمان الحب في الله ، والبغض في الله ، وتولي اولياء الله ، والتبري من اعداء الله.

وقال الامام أبو جعفر الباقر (ع) : إذا اردت ان تعلم ان فيك خيرا فانظر إلى قلبك ، فان كان يحب اهل طاعة الله ويبغض اهل معصية الله ففيك خير والله يحبك ، وان كان يبغض اهل طاعة الله ، ويحب اهل معصية الله فليس فيك خير والله يبغضك ، والمرء مع من احب.

وروى عن الامام الصادق (ع) انه قال : ثلاثة اقرب الخلق إلى الله عزوجل يوم القميامة حتى يفرغ من الحساب رجل لم تدعه قدرته في حال غضبه إلى ان يحيف على من تحت يده ، ورجل مشى بين اثنين فلم يمل مع احدهما على الآخر بشعيرة ، ورجل قال بالحق فيما له وعليه.

وروى عن عثمان بن جبلة ان ابا جعفر الباقر (ع) كان يقول ان رسول الله (ص) قال : ثلاث خصال من كن فيه أو واحدة منهن كان في ظل عرش الله يوم لا ظل الا ظله ، رجل اعطى الناس من نفسه ما هو سائلهم ، ورجل لم يقدم رجلا ولم يؤخر رجلا حتى يعلم ان ذلك لله رضا ، ورجل لم يعب اخاه المسلم في عيب حتى ينفي ذلك العيب عن نفسه ، فانه لا ينفي عنها عيبا الا بداله عيب ، وكفى بالمرء شغلا بنفسه عن عيوب الناس (١).

وروى في باب البر بالوالدين عن زكريا بن ابراهيم انه قال : كنت

__________________

= الصعاب ويطوي الاجيال ويثق بمبادئه النيرة الساطعة للانسان طريق الفوز برضوان الله والسعادة الدائمة ويقدم عشرات الادلة على ان دعاة الحق ورسل الخير والمحبة احياء في نفوس المؤمنين والناس اجمعين إلى قيام الساعة.

(١) ص ١٤٤ و ١٤٧ ، ج ٢.

٣٢٣

نصرانيا فاسلمت وحججت ، فدخلت على الامام الصادق (ع) وقلت له : اني كنت نصرانيا واسلمت ، فقال واي شئ رأيت في الاسلام؟ قلت قول الله عزوجل : «ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء» فقال : لقد هداك الله ، ثم قال : سل عما شئت ، قلت ان ابي وامى على النصرانية وامي مكفوفة البصر فاكون معهم وآكل من آنيتهم ، فقال : يأكلون لحم الخنزير ، فقلت لا ولا يمسونه ، فقال لا بأس ، انظر امك فبرها ، وإذا ماتت فلا تكلها إلى غيرك ، وكن انت الذي تتولى امرها وتقوم بشأنها ، ولا تخبرن احدا انك اتيتني حتى تأتيني بمنى ان شاء الله.

قال فاتيته بمنى والناس حوله كأنه سلم صبيان ، هذا يسأله وهذا يسأله ، فلما قدمت الكوفة كنت اطعمها بيدي واخدمها بنفسي واتولى جميع شؤونها كما امرني الامام جعفر بن محمد (ع) فقالت : يا بني ما كنت تصنع بي هذا وانت على ديني ، فقلت لقد امرني بهذا رجل من ولد نبينا يدعى جعفر بن محمد ، فقالت والله ان هذه وصايا الانبياه ، اعرض علي دينك يا بني ، فعرضته عليها ، فاسلمت ، وادت ما عليها من فروض الاسلام ، ثم توفيت (١).

__________________

(١) لقد اشتمل سند هذه الرواية على أحمد بن محمد البرقى ، وعلى ابن الحكم ومعاوية بن وهب وهولاء الثلاثة من الممدوحين في كتب الرجال ، اما الراوي الاخير لها الذي رواها عن الامام (ع) فلم اجد من تعرض له بمدح ، أو ذم ، ويظهر منها ان النهي عن مباشرة أهل الكتاب من حيث انهم يباشرون النجاسات كالخنزير ونحوه ، لذا فان الامام (ع) قد رخصه بمبالشرة ابويه ، بعد ان تبين له انهما لا يأكلان الخنزير ، ولا يباشرانه ، ومن الممكن ان تكون هذه الطائفة من المرويات المفصلة مفسرة لبقية المرويات التي تعرضت لطهارتهم ونجاستهم بقول مطلق ، بان يراد من الاخبار الناهية عن مباشرتهم من حيث انهم لا يتجنبون النجاسات والاخبار التي رخصت بمباشرتهم من حيث ذاتهم.

٣٢٤

وروى في الكافي مئات الاصاديث عن النبي والائمة (ع) حول التعاون والتسامح والتآ خي وحقوق الاخوان وصلة الارحام والثورة على الظلم ونبذ الاحقاد. وغير ذلك من المرويات التي تدعوإلى تهذيب النفس وتطهيرها من الدنايا والامراض وبخاصة التي تسئ إلى الغير ويلتقي الكافي مع الصحيح للبخاري في اكثر هذه المواضيع من حيث الجوهر والمؤدى ولا يضرنا الاختلاف لمني السند والاسلوب ما دامت تنتهي إلى نتيجة واحدة تتفق مع روح الاسلام وسماحته.

٣٢٥

التقية في الكافي

لقد روى الكليني في باب التقية ٢٣ حديثا ، وكلها تنص بصراحة تأبى عن التأويل ان للانسان ان يتهرب من الضرر الموجه عليه ممن هو اقوى منه ، ولو ادى ذلك إلى موافقته فيما هو مخالف للحق أو للاعتقاد من قول أو فعل.

ومن امثلة ذلك ما رواه عن هشام بن سالم ، عن ابراهيم الاعجمي ان ابا عبد الله الصادق (ع) قال : يا ابا عمر ان تسعة اعشار الدين في التقية ، ولا دين لمن لا تقية له ، والتقية في كل شئ الا في النبيذ والمسح على الخفين.

وهذه الرواية كما وضعت مبدأ التقية عند الخوف من ضرر الغير ، يستفاد منها مشروعيتها في الفروع والاصول وفي كل شئ الا في النبيذ والمسح على الخفين (١).

وروى عن جابر المكفوف ، عن عبد الله بن ابي يعفور ان ابا عبد الله الصادق (ع) قال : اتقوا على دينكم بالتقية ، فانه لا ايمان لمن لا تقية له ، انما انتم في الناس كالنحل في الطير ، لو ان الطير تعلم ما في اجواف

__________________

(١) ولعل عدم مشروعيتها في النبيذ والمسح على الخفين من حيث انهما من غير المتفق على جواز استعمالهما عند جميع ائمة المذاهب الاربعة ، أو من حيث ان عدم جواز استعمالهما معروف من مذهب الامامية.

٣٢٦

النحل ما بقي منها شئ الا اكلته ، ولو ان الناس علموا ما في اجوافكم من حبنا اهل البيت لاكلوكم بألسنتهم ولنحلوكم في السر والعلانية ، رحم الله عبدا منكم مات على ولايتنا.

وروى عن هرون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة انه قال : قيل لابي عبد الله (ع) ان الناس يروون ان عليا (ع) قال على منبر الكوفة : ايها الناس انكم ستدعون إلى سبي فسبوني : ثم تدعون إلى البراءة مني فلا تتبرءوا مني ، فقال (ع) ما أكثر ما يكذب الناس على علي (ع) ان عليا قال : انكم ستدعون إلى سبي فسبوفي ، نم ستدعون إلى البراءة مني ، واني لعلى دين محمد (ع) ولم يقل لا تتبرءوا مني ، فقال له السائل : ارأيت ان اختار القتل دون البراءة ، فقال : والله ما ذلك عليه ، وماله الا ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث اكرهه اهل مكة وقلبه مطمئن بالايمان ، فانزل الله ، الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان.

فقال له النبي (ص) يا عمار ان عادوا فعد فقد انزل الله عذرك وامرك ان تعود ان عادوا اليك.

وروى عن عبد الله بن اسد عن عبد الله بن عطاء انه قال : قلت لابي جعفر الباقر (ع) رجلان من اهل الكوفة اخذا فقيل لهما ابرءا من علي ، فبرئ احدهما وابى الآخر فخلي سبيل الذي برئ وقتل لآخر ، فقال (ع) اما الذي برئ فرجل فقيه في دينه ، واما الذي لم يبرأ فرجل تعجل إلى الجنة (١).

__________________

(١) انظر ص ٢١٧ و ٢١٨ و ٢٢٠ و ٢٢١ ، فالذي برئ فقيه في دينه لانه استطاع ان يتخلص من القتل باظهار كلمة البراءة من علي وقلبه عامر بحبه وولائه فهو كغيره من المسلمين الاولين الذين اكرههم المشركون على البراءة من محمد (ص) ورسالته فأنزل الله فيهم «الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان» والثانى تعجل إلى الجنة لانه لم يشأ ان يتنازل ولو بلسانه عن ولائه لعلي وآله الطيبين واعطى لغيره مثلا رائعا في البطولة والفداء من اجل الحق والعقيدة.

٣٢٧

إلى غير ذلك من المرويات الكثيرة التي تؤكد مشروعيتها وتفرض على المكلفين استعمالها في كل شئ يضطر إليه الانسان من يخر فرق بين الاصول والفروع ، الا إذا توقف التخلص من ضرر المغير على قتل انسان مثلا ، فلا تقية في مثل ذلك ، لانها شرعت للتخلص من الفرر ، فإذا لزم من استعمالها ضرر مماثل أو اقوى من الفرر الذي توعد به الظالم فلا تحصل الغاية المطلوبة منها.

وقد جاء في رواية شعيب الحداد عن محمد بن مسلم ان ابا جعفر الباقر (ع) قال : انما جعلت التقية ليحقن بها الدم ، فإذا بلغ الدم فلا نقية حينئذ.

وقد تحدث الفقهاء عن التقية في مختلف المواضيع من الفقه حسب المناسبات والفوا فيها الرسائل المستقلة التى تحدد موضوعها ومواردها ، حسب الزمان والمكان والاشخاص.

ومع انها من الضرورات التي يفرضها العقل ، بالاضافة إلى الشرع الذي حث عليها كتابا وسنة ، مع انها كذلك فقد تعرض الشيعة منذ العصور الاولى لاعنف الهجمات واسوأ الاتهامات لانهم يستعملونها حفظا لدمائهم وصونا لاعراضهم كما يلتجئ غيرهم لذلك عندما تلجئه الضرورات لمجارات الغير تهربا من ضرره من حيث لا يشعرون.

ان فكرة التقية ليست من مختصات الشيعة ، ولا من مخترعاتهم ، فالانسان بطبعه مفطور على التهرب من الضرر بما يملك من الوسائل التي تهيئ له السلامة ، وعنهدما يرى نفسه عاجزا عن دفعه بالقوة وبغيرها من وسائل الدفاع ، يفطر إلى مجارات من يخاف ضرره والتسليم له في الفعل والقول ، وقد اقر الاسلام هذا الاسلوب من اساليبه الدفاع عن النفس منذ ان بزغ فجره يوم كان المسلمون الاولون يتعرضون للاذى والتهذيب

٣٢٨

من القرشيين وغيرهم ، وكان من امر عمار بن ياسر احد المعذبين ، ان اظهر لهم التراجع عن الاسلام بلسانه بعد ان رأى ان صموده وتصسبه يؤديان به إلى الهلاك ، فاقره النبي على مجاراتهم ، وانزل الله فيه بهذه المناسبة قوله الا من اكره وقلبه مطمئن للاسلام ، وقال له النبي (ص) : ان عادوا فعد ، فقد انزل الله فيك قرآنا ، وامرك ان تعود ان عادوا اليك.

وقال تعالى في معرض النهي عن متابعة الكافرين ومجاراتهم في افعالهم واقوالهم : «لا يتخذ المؤمنون الكافرين اولياء من دون المؤمنين ، ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ الا ان تتقوا منهم تقة».

وإذا جازت التقية في اظهار الكفر والشرك تهربا من الضرر تجوز في غيرهما من الاصول والفروع بالاولوية.

ومهما كان الحال فالتقية تتصف بالوجوب والاستحباب والحرمة ، فتجب في موارد الضرر المترتب على المخالفة ، كما وعلم المصلي مثلا بانه إذا لم يصل متكتفا يتعرض للاهانة والايذاء ، أو القتل ونحو ذلك من الاضرار.

وتكون مستحبة عند توهم الضرر ، أو عند العلم بحصول الضرر اليسير الذي لا يضر بالحال.

والمحرم منها هو مجاراة الغير على ترك واجب ، أو فعل حرام مع العلم بعدم الضرر على فعل الواجب وترك الحرام ، أو مجاراته على قتل الغير والتعدي على الناس بما يضر بحالهم كما لو قتل انسانا أو قطع يده مثلا خوفا من ضرر الحاكم ، وجاء في رواية محمد بن مسلم عن ابي جعفر (ع) انه قال : انما جعلت التقية ليحقن بها الدم ، فإذا بلغ الدم فلاتقية.

٣٢٩

وقد نص الشيخ الانصاري في رسالته التي الفها في التقية ، على ان المدرك في وجوب التقية في موارد وجوبها ، هو ادلة نفي الضرر ، وحديث الرفع الذي اشتمل على رفع ما يضطر إليه الانسان ، بالاضافة إلى ادلة التقية التي تنص على انها واسعة وليس شئ منها الا وصاحبها مأجور عليه.

وهذه الادلة من حيث معذورية المكلف بمجموعها تحكم على ادلة الواجبات والمحرمات ، ولا تتعارض مع شئ منها ، ذلك لان ادلة التقية تقيد موضوع تلك الادلة بغير موارد الاضطرار والخوف من الضرر ، كما هو الشأن في جميع الادلة الحاكمة التي ترجع في واقعها إلى التصرف في الادلة المحكومة سعة وضيقا (١).

ومعنى ذلك ان ادلة الواجبات والمحرمات إذا ضممنا إليها ادلة التقية التي ترخص في ترك بعض الواجبات أو ادخال ما لا يجوز ادخاله في موضوع التكليف ، هذه الادلة تصبح مختصة بصورة عدم الضرر على فعل الواجب ، أو ترك الحرام ، اما من ناحية صحة العمل الواقع على وجه التقية ، فان ادلة تشريعها بلحاظ ذاتها بما في ذلك قوله (ع) : التقية في كل شئ ، وليس شئ اوسع منها لا يستفاد منها اكثر من الترخيص في الاتيان بالعمل الناقص أو الزائد تهربا من الضرر المترقب ممن يخاف من ضرره ، ولا تدل على صحته أو فساده ، كما هو الحال في حديثي الضرر والرفع وامثالهما من ادلة العسر والحرج الواردة في معرض التسهيل والتيسير على المكلفين ، والتي ترفع المؤاخذة أو الحكم حسب اختلاف المقامات فمن اضطر إلى الصلاة متكتفا ، أو مع من لا تصح معه الصلاة ونحو ذلك ، فأدلة وجوب التقية تفرض عليه ان يصلي متكتفا ومؤتما بمن لا يصح الائتمام به ولا نظر فيها إلى كفاية هذا العمل عن الواقع وعدمها ،

__________________

(١) انظر رسالة الشيخ مرتضى الانصاري في التقية.

٣٣٠

ولا بد في مثل ذلك من الرجوع إلى ادلة الاحكام التي اعتبرت الشئ جزء أو شرطا ، أو مانعا ، فان كانت حسب اطلاقها تشمل حالتي الاضطرار والخوف من ضرر الغير ، فلازم ذلك فساد العمل الواقع لجهة التقية لانه يفقد بعض الاجزاء أو لانه يقترن ببعض الموانع ، وان لم يتسع اطلاقها لحالتي الاضطرار والخوف من ضرر الغير يكون العمل الواقع لجهة التقية صحيحا لا يجب اعادته في الوقت ولاقضاؤه في خارجه ، ولو ارتفع العذر المسوغ للتقية قبل خروج الوقت في الواجبات المؤقتة وكان المكلف قد اوجد المأمور به تقية ، كما لو اذن المشرع بالصلاة متكتفا ، أو امره بالاتيان بالصلاة ، أو بغيرها من العبادات حسبما يراه المخالفون ، ثم ارتفع العذر المسوغ للتقية قبل مضي الوقت فقد نص الشيخ الانصاري ، بانه لا ينبغي الاشكال في كفاية العمل الواقع من المكلف على جهة التقية ، واحتج لذلك بان الامر بالكلي كما يسقط بفرده الاختياري كذلك يسقط بفرده الاضطراري لو كانت ادلة الموانع ظاهرة في المانعية في حال الاختيار ، فيكون المقام شبيها بالطهارة الترابية فيما لو صلى المكلف متيمما ، ثم ارتفع العذر قبل خروج الوقت حيث ان المستفاد من تشريع التيمم عند الخوف من استعمال الماء ، أو عدم وجوده : المستفاد من ذلك جعل فردين طوليين للطهارة هما الماء والتراب ، فإذا تحقق موضوع الثاني ، وصلى المكلف متيمما بعد الاذن الشرعي بالصلاة يتعين سقوط الامر المتعلق بالعمل المأتي به في هذه الحالة ، وهكذا الحال فيما لو كانت ادلة الاجزاء والشروط والموانع باطلاقها تشمل حالة الخوف من ضرر الغير ، وادلة التقية التي تفرض على المكلف الاتيان بالعمل الناقص ، أو المقترن بالمانع نتيجتها تقييد اطلاق تلك الادلة بغير موارد الخوف والاضطرار.

ثم انه لو كان زوال العذر محتملا قبل خروج الوقت ، فجواز المبادرة إلى الاتيان بالعمل على وجه التقية مبني على ان ذوي الاعذار ، هل لهم ان يبادروا إلى الامتثال في الاجزاء الاولى من الوقت مع احتمال

٣٣١

بقاء الوقت الذي يتسع للواجب بجميع اجزائه وشرائطه بعد زوال العذر ، ام يجب عليهم الانتظار في مثل هذه الحالة ليتاح لهم اداء الواجب على الوجه الشرعي ، والمعول في مثل ذلك على الادلة الخاصة التي تعرضت لحال التقية موضوعا وحكما.

والذي عليه اكثر الفقهاء جواز المبادرة إلى الاتيان بالعمل تقية على الوجه المرغوب فيه عند المخالفين ، ولو كان المكلف يحتمل اتساع الوقت لادائه على وجهه الشرير بعد زوال الخوف الموجب للتقية ، وليس ذلك ببعيد عن بعض نصوصها.

مثل قوله في رواية ابراهيم الاعجمي ان تسعة اعشار الدين في التقية ، ولا دين لمن لا تقية له ، والتقية في كل شئ الا في النبيذ والمسح على الخفين.

وقول ابي جعفر الباقر (ع) : التقية في كل شئ يضطر إليه ابن آدم فقد احله الله.

فان الظاهر من هذه المرويات جواز المبادرة إلى الفعل عند حصول السبب المسوغ له ، ولو احتمل زواله قبل خروج الوقت.

هذا بالاضافة إلى الموارد التي اذن فيها الشارع بمتابعتم من غير تقييد بحالة دون اخرى ، كغسل الرجلين بدلا عن مسحهما ، والتكتف في الصلاة والائتمام بهم ونحو ذلك.

ويبدو من النصوص الفقهية ان الفقهاء بين من يرى جواز المبادرة إلى العمل على وجه التقية وان كان له فسحة من الاتيان به على وجهه الشرير في محل آخر أو زمان آخر ، ومن هؤلاء الشهيدان والمحقق الثاني في كتبه الثلاثة ، الروض والبيان وجامع المقاصد.

٣٣٢

وبين من لا يكتفي بالعمل على وجه التقية الا إذا لم يتمكن من الاتيان به كاملا في محل آخر أو زمان اخر ، ومن هؤلاء السيد محمد صاحب المدارك.

وبين من فصل بين الموارد المأذون بها بالخصوص ، وبين غيرها مما لم يرد فيها نص بخصوصه ، كالصلاة إلى غير القبله ، والوضوء بالنبيذ ، والاخلال بالموالاة في الوضوء ونحو ذلك من الموارد التي لم يتعلق بها اذن خاص.

والذي تؤيده بعض المرويات عن الائمة (ع) انه لا بد وان يكون المكلف غير متمكن من الاتيان بالواجب على وجهه في ذلك الجزء من الوقت بخصوصه.

فقد جاء في رواية احمد بن محمد بن ابي نصر ، ان ابراهيم بن شيبة قال : كتبت إلى ابي جعفر الثاني (ع) عن الصلاة خلف من يتولى عليا وهو يرى المسح على الخفين ، وخلف من يحرم المسح على الخف وهو يمسح ، فكتب (ع) ان جامعك واياهم موضع لا تجد بدا من الصلاة معهم فاذن لنفسك واقم فان سبقك إلى القراءة فسبح.

وجاء في رواية ثانية عنه ، لا تصلوا خلف ناصب ولا كرامية (١) الا ان تخافوا على انفسكم ان تشهروا أو يشار اليكم فصلوا في بيوتكم ثم صلوا معهم واجعلوا صلاتكم معهم تطوعا.

هذا بالاضافة إلى المرويات التي تنص على ان التقية في كل شئ

__________________

(١) الكرامية هم اتباع محمد بن كرام ، وكان من القائلين بالتجسيم والتشبيه ، وجاء في كتابه (عذاب القبر) ان معبوده مماس للعرش والعرش مكان له ، وكان من اهل البدع والضلال ، كما نص على ذلك الاسفرايني ، في التبصير ، والشهرستانى في الملل والنحل.

٣٣٣

يضطر إليه الانسان ، إذ بمقتضى تلك النصوص انه لابد من الاضطرار حتى يسوغ للمكلف الاتيان بالعمل على جهة التقية.

ولو افترضنا ان المكلف يتمكن من تخليص نفسه ولو بالذهاب إلى بيته لاداء فريضته ، أو بطريق اخر لاعسر فيه ولاحرج عليه في سلوكه لا يصدق الاضطرار المسوغ للامتثال على وجه التقيه.

قال الشيخ مرتضى الانصاري : فمراعاة عدم المندوحة في الجزء الاول من الزمان الذي يوقع فيه الفعل اقوى مع انه احوط ، نعم تأخير الفعل عن اول وقته لتحقق الامن والسلامة وارتفاع الخوف مما لادليل عليه ، بل الاخبار بين ظاهر وصريح بخلافه (١).

وقد تبين من جميع ما ذكرناه ان موارد التقية لابد فيها من الخوف على النفس أو المال من الغير القادر على الاضرار ، سواء كان مسلما أو غيره ، بل وحتى لو كان من المنتسبين إلى التشيع ، وإذا كان المكلف متمكنا من التهرب من الضرر في الزمان الاول لا يصدق الاضطرار المسوغ للاتيان بالعمل الناقص أو المخالف لمذهبه ، وتؤكد اكثر النصوص انها اي التقية واسعة لا تختص بأمر دون اخر ، فكل شئ يضطر إليه الانسان يتعين عليه مجاراة الغير فيه من غير فرق بين الاصول والفروع ، وليس شئ ادل على ذلك من موقف المسلمين الاولين مع مشركي مكة الذين كانوا يعذبون على الاسلام ويظهرون الشرك بألسنتهم وقلوبهم عامرة بالايمان بالله ونبوة محمد (ص).

ويؤكد ذلك ما جاء عن امير المؤمنين (ع) في بعض وصاياه لاصحابه ، قال : وأمرك ان تستعمل التقية في دينك ، فان الله سبحانه قال :

__________________

(١) رسالة التقية للشيخ مرتضى الانصاري.

٣٣٤

لا يتخذ المؤمنون الكافرين اولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ الا ان تتقوا منهم تقاة.

واضاف إلى ذلك ، وقد اذنت لكم بتفضيل اعدائنا ان الجأكم الخوف إليه ، وفي اظهار البراءة ، وفي ترك الصلاة المكتوبة ان خشيتم على حشاشتكم الآفات والماهات ، وتفضيلكم لاعدائنا عند الخوف لا ينفعهم ولا يضرنا ، وان اظهار البراءة تقية لا يقدح فينا ، ولا تبرأ منا ساعة بلسانك وانت موال لنا بجنانك لتتقي على نفسك وجهها الذي به قوامها ومالها الذي به قيامها ، وجاهها الذي به تمكنها ، وتصون بذلك من عرف من اوليائنا واخواننا ، فان ذلك افضل من ان تتعرض للهلاك وتنقطع به من عمل في الدين ، وصلاح اخوانك المؤمنين ، واياك اياك ان تترك التقية التي امرتك بها ، فانك شاحط بدمك ودم اخوانك ، معرض لنفسك ونفوسهم الزوال ، مذل لهم في ايدي اعداء الدين ، وقد امرك الله باعزازهم ، وانك ان خالفت وصيتي كان ضررك على نفسك واخوانك اشد من ضرر الناصب لنا والكافر بنا.

وهذه الرواية تتعارض مع الرواية المروية عنه (ع) ، والتي جاء فيها. انكم ستعرضون على سبي ، فسبوني ، ومن عرض عليه البراءة مني فليمدد عنقه ، فان برئ مني فلا دنيا له ولا آخرة.

ولكن الذي يوهن هذه الرواية ، انها عرضت على الامام الصادق (ع) فانكرها وقال : ما اكثر ما يكذب الناس على علي (ع).

ونحن إذا لاحظنا الحوادث وملابساتها منذ فجر الخلافة الاسلامية ، وتتبعنا تاريخ الشيعة وائمتهم والظروف القاسية التي مرت عليهم وما لاقوه من التعذيب والظلم والجور في جميع الادوار والمراحل التي مروا بها ، لا نستطيع ان نفاضل بين عصر وعصر ، ولا بين حاكم وحاكم ، ففي

٣٣٥

الشطر الاول من العهد الاموي ، لم يكن يعني معاوية واتباعه شئ غير مطاردة الشيعة والتنكيل بهم في مختلف انحاء البلاد واكراههم على سب علي والبراءة منه ومن ابنائه ، فلم يسلم منهم الا من تستر بعقيدته واظهر مجاراتهم في القول والفعل ، ونسج على منواله جميع الامويين وعمالهم نحوا من قرن من الزمن تقريبا ، ولما جاء دور العباسيين ، وهم الاقربون لعلي وآله (ع) ترقب الشيعة انها ساعة الخلاص من ذلك العهد الجائر وقبل ان تمتلئ رئتاهم من النفس المريح ، وإذا بالحكام الجدد الذين تستروا اولا بمكافحة الظلم ، وتباكوا على القتلى من بني عمومتهم ، يمارسون اسلوب اسلافهم باقبح الصور ، وبشكل لم يهتد إليه سلفهم «الصالح من قبل» حتى قال القائل :

يا ليت جور بني مروان دام لنا

وليت عدل بني العباس في النار

وهكذا توالت عليهم النكبات من السلاجقة إلى الايوبيين ، إلى الاتراك ، ولم يتنفسوا من ظلم الحاكم الذي حكم باسم الدين والاسلام نحوا من ثلاثة عشر قرنا ، الا بعد ان تقلص عهد الاتراك البغيض المملوء بالمخازي والمفاسد ، وجاء عهد الاتتداب ، ومن ثم عهد الاستقلال ، العهد الذي تبدل فيه نوع الحكم ، فاحس الشيعة في جميع الاقطار وبخاصة في لبنان بوجودهم وتفتض لهم نوافذ الحرية ، ولكن رواسب تلك العهود البغيضة ظلت تسيطر على الملايين من المسلمين ، وبقي الكتاب من خلالها ينظرون إلى الشيعة نظرة الحاقد الحسود الذي لا يبصر الا من زاوية نفسه المعقدة المظلمة فكتبوا عنهم واتهموهم بشتى الالهامات والصقوا بهم البدع جزافا وبلا حساب ، ولا سبب لذلك الا ان التشيع لا يقر الحكومة التي لا تقوم على اساس العدل واحقاق الحق ، ولا يعترف باي سلطة لا تضمن حرية الفرد والجماعة ، وتحمي الشعوب من الاستغلال والجشع ونشر الفوضى ، وتحرص على كرامة الانسان وتهيئ له الحياة الحرة الكريمة مهما كان لونه ونوعه.

٣٣٦

صحيح ان ما قيل عن الشيعة ، وما كتب عنهم ولا يزال المتقولون والكتاب يجترونه في كل عصر وزمان ، هو من صنع تلك العصور المظلمة الجائرة ، ولكن قد باء الوقت المناسب لتجاهل تلك المزامير التي تغنى بها اسلافهم قرونا واجيالا ، ولان يملوها كما ملوا من كل قديم لا تفرضه الحياة في مختلف نواحيها ، وان يدرسوا التاريخ ويحاكموه بوعي وانصاف وتجرد ، ونحن على ثقة بانهم لو فعلوا ذلك سيتراجعون عن اكثر مدونات التاريخ واراجيف الحكام وشيوخ السوء ، وسيعلمون ان التقية التي اعتبروها من عيوب التشيع ، يفرضها الواقع ، ويحكم بها العقل في مثل تلك الظروف التي احاطت بالشيعة دون سواهم ، وقد ساعدت على بقاء الاديان وانتشارها اولا واخيرا ، في حين هي ابعد ما تكون عن الباطنية والسرية والرياء ، كما يزعم بعض المؤلفين من السنيين وغيرهم.

فالباطنية مذهب له اصوله وقواعده عند مبتدعيه وواضعيه يتنافى مع اصول الاسلام وقواعده ، وقد كمر ائمة الشيعة المعتنقين لهذه الفكرة والمرائين ، وعدوا الرياء نوعا من الشرك كما جاء في مروية يزيد بن خليفة عن الامابم الصادق (ع) (١).

ان التقية دعوة إلى الخلود والسكينة ، وليست شيئا آخر وراء مجاراة الغير تهربا من شره وضرره حتى يتهيأ الوقت المناسب للوقوف في وجه الطغيان والفساد مع العلم بان جميع الاديان والطوائف تقر مبدأ التقية ، وتدفع المهم بالاهم وتقدم الفاسد على الافسد ، وتأخذ بقاعدة دفع المفاسد اولى من جلب المصالح.

والسنة انفسهم يقرونها ويعملون بها لدفع الاضرار والمفاسد وجلب المصالح والمنافع ، فقد جاء في الجزء الثالث من احياء العلوم للغزالي ، (باب ما رخص فيه الكذب).

__________________

(١) انظر ص ٢٩٣ ، ج ٢ ، من الكافي.

٣٣٧

جاء فيه ، ان عصمة دم المسلم واجبة ، فإذا كان القصد سفك دم مسلم قد اختفى من ظالم ، فالكذب فيه واجب.

وقال الرازي : وهو يفسر قوله تعالى : (الا ان تتقوا منهم تقاة) قال : روي عن الحسن انه قال : التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة ، واضاف إلى ذلك. ان هذا القول هو الاولى ، لان دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الامكان وانكر الشاطبي في الموافقات على الخوارج القائلين بان سورة يوسف ليست من القرآن ، وان التقية لا تجوز في قول أو فعل ، واكد مشروعيتها في موارد الحاجة إليها.

وقال جلال الدين السيوطي في الاشباه والنظائر : يجوز أكل الميتة في الخمصة ، واساغة اللقمة في الخمر ، والتلفظ بكلمة الكفر ، ولو عم اسرام قطرا ، بحيث لا يوجد فيه حلال الا نادرا فانه يجوز استعمال ما يحتاج إليه.

وقال أبو بكر الجصاص : في تفسير قوله تعالى : «الا ان تنقوا منهم تقاة» اي ان تخافوا تلف النفس ، أو بعض الاعضاء ، فتتقوهم باظهار الموالاة من غير اعتقاد لها ، وهذا هو الظاهر من الآية الكريمة ، وعلى ذلك الجمهور من اهل العلم ، واضاف إلى ذلك ان عبد الرزاق روى عن معمر عن قتادة في تفسير قوله تعالى : (لا يتخذ المؤمنون الكافرين اولياء من دون الله) قال : لا يحل لمؤمن ان يتخذ كافرا وليا في دينه ، وقوله تعالى : «الا ان تتقوا منهم تقاة» هذه الآية تدل على جواز اظهار الكفر عند التقية.

وجاء في الجزء الرابع من السيرة الحلبية. ان رسول الله (ص) لما فتح خيبر ، قال له حجاج بن علاط : يا رسول الله ان لي بمكة مالا وان لي اهلا ، وانا اريد ان آتيهم ، فانا في حل ان انا نلت منالى ، وقلت شيئا ، فاذن له رسول الله ان يقول ما شاء.

٣٣٨

إلى غير ذلك من النصوص الفقهية والتاريخية الكثيرة الواردة في كتب مشاهير اهل السنة ، والتي يستفاد من خلالها بان التقية من الضرورات التي لا يمكن الاستغناء عنها والتنكر لها بحال (١).

والشيء الغريب ان بعض السنة مع وجود هذه النصوص والتصريحات في كتبهم يعدونها من عيوب الشيعة ، وينعتونها بالرياء تارة والدجل والباطنية اخرى ونحو ذلك من النعوت التي ان دلت على شئ فانها تدل على انهم يحاولون ولو بالتمويه والتضليل والافتراء التشنيع على الشيعة واظهارهم على غير واقعهم ولو بهذه الاساليب المفضوحة.

__________________

(١) انظر الشيعة والتشيع ، ص ٥١ ، شيخ محمد جواد مغنيه ، والموافقات للشاطبي ، ص ١٨٠ ، ج ٤ ، والاشباه والنظائر ص ٧٦ ، والجزء الثاني من احكام القران للجصاص ص ١٠ ، والجزء الثالث من السيرة الحلبية ص ٦١.

٣٣٩

من هنا وهناك

وروى الكليني في باب الكفر ، عن مسعدة بن صدقة انه قال ، سئل الامام الصادق (ع) ما بال الزاني لا تسميه كافرا وتارك الصلاة قد سميته كافرا وما الحجة في ذلك؟ فقال : لان الزاني وما اشبهه انما يفعل ذلك لمكان الشهوة لانها تغلبه ، وتارك الصلاة لا يتركها الا استخفافا بها ، وذلك لانك لا تجد الزاني يأتي المرأة الا وهو متلذذ لاتيانها قاصد إليها ، وكل من ترك الصلاة قاصدا لذلك ، فلا يكون قصده لتركها مستندا إلى اللذة ، وإذا انتفت اللذة وقع الاستخفاف ، وإذا وقع الاستخفاف وقع الكفر (١).

وروى عن ابي مسروق انه قال : سألني أبو عبد الله الصادق (ع) عن اهل البصرة ، فقال لي ما هم؟ قلت مرجئة وقدرية وحرورية ، فقال :

__________________

(١) من المعلوم ان الامام (ع) لم يقصد بذلك ان ترك الصلاة يلازمه الاستخفاف بالله دائما بل قصد من ذلك ان دواعى الترك في الغالب هي الاستخفاف وعدم المبالاه بأوامره ونواهيه سبحانه ، إذ لا داعى الى تركها سوى ذلك في الغالب ، وهذا بخلاف الزنا ونحوه من المعاصي ، فان الشهوة في الغالب تستحوذ عليه وتتغلب على ارادته الخيرة فتدفعه إلى المخالفة والعصيان.

٣٤٠