دراسات في الحديث والمحدّثين

هاشم معروف الحسني

دراسات في الحديث والمحدّثين

المؤلف:

هاشم معروف الحسني


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٨

الدنيا على الجود والانكار ، ولو طلبوا الحق بالحق لكان خيرا لهم (١).

ومن هذه المرويات وغيرها مما جاء في مجاميع كتب الحديث حول الجامعة ومصحف فاطمة والجفر والصحيفة تبين ان هذه المسميات بهذه الاسماء هي عبارة عن مجاميع في الحلال والحرام والاحكام وبعض الحوادث الكونية ونحو ذلك من العلوم التي ورثها اهل البيت عن جدهم الرسول (ص) ، هذه المجاميع بخط علي (ع) واملاء رسول الله كما نصت على ذلك مروية ابي بصير ، وقد اخبر علي (ع) عن بعض الحوادث قبل وقوعا بعشرات السنين ، ووقعت كما اخبر عنها.

اما الجفر الابيض والاحمر فاحدهما وعاء من جلد فيه التوراة والانجيل وزبور داود وصحف ابراهيم كما نزلت من عند الله ، والثاني وهو الاحمر وعاء فيه سلاح رسول الله ، كما نصت على ذلك رواية الحسين ابن ابي العلاء.

واما مصحف فاطمة ، فقد جمعت فيه اكثر الاحكام واصول ما يحتاج إليه الناس كما وصلت إليها من ابيها وابن عمها امير المؤمنين (ع) ، وليس هو من القرآن كما يدعيه فريق من الناس.

ويدل على ذلك قول الامام الصادق (ع) ، كما جاء في رواية لحسين بن ابى العلاء ، ما ازعم ان فيه قرآنا ، وفيه ما يحتاج إليه الناس ولا نحتاج إلى احد ، حتى ان فيه الجلدة ونصف الجلدة وربع الجلدة ، وارش الخدش.

وقوله في رواية ابي بصير : والله ان مصحف فاطمة مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات ، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد.

__________________

(١) انظر ص ٢٣٩ و ٢٤٢ ، ج ١.

٣٠١

قوله (ع) في رواية فضيل بن سكرة : كنت انظر في كتاب فاطمة ، ليس من يملك الارض الا وهو مكتوب فيه باسمه واسم ابيه ، وما وجدت لولد الحسن فيه شيئا.

ومع ان الروايات التي تعرضت للصحيفة والجامعة والجفر ومصحف فاطمة (ع) قد نصت على انها كتب تشتمل على الاحكام والحوادث واخبار الامم والملوك في مستقبل الزمان وحاضره ، وان الجفر ، هو وعاء فيه كتب الانبياء السابقين وآثارهم وسلاح رسول الله (ص) مع ان الروايات التي تعرضت لمحتويات تلك الكتب ، فقد وجد بعض المحدثين والمؤلفين من السنة منفذا للتشويش والطعن على الشيعة ، فقالوا : بان مصحف فاطمة (ع) هو قرآن غير القرآن الذى بين ايدى الناس ، وان الجفر والجامعة كتابان لعلي (ع) ذكر فيهما الوادث الكونية إلى انقراض العالم ، وبناهما على حروف ورموز ، واتتقلا منه إلى اولاده فاخبروا عن الغيب اعتمادا عليهما ، واستطاعوا غراء فئة من الناس آمنت بانهم يعلمون ما لا يعلمه احد من خلق الله.

وممن وضع هذين الكتابين في هذا المستوى ، ونسب إلى الائمة الاطهار انهم كانوا يخبرون عن بعض الحوادث معتمدين على ما فيهما من الرموز والحروف ، الايجي قي المواقف والجرجاني في شرحه ، وابن الصباغ المالكى في الفصول المهمة وغيرهم.

وجاء الشيخ أبو زهرة في كتابه الامام الصادق فنسج على منوال غيره ، وادعى بان الائمة يستخرجون علم الغيب من هذين الكتابين ، مع ان النصوص التي تعرضت لهذه الكتب صريحة في ان محتوياتها لا تتعدى الحلال والحرام وبعض الحوادث الكونية التي وقع بعضها بعد زمانهم بعشرات السنين ، ولا بد وان يتكشف المستقبل عن الباقي قبل ان يرث الله الارض ومن عليها.

٣٠٢

اما المرويات التي تعرضت لمصحف فاطمة فقد نصت على انه كتاب فيه الحلال والحرام ، ومع ذلك فقد الصقوا بالشيعة قرآنا غير القرآن المتداول بين الناس ، واحتجوا لذلك بمصحف فاطمة ، مع العلم بان مروياتهم تنص على ان لعائشة مصحفا يزيد عن القرآن المنزل ، ومع ذلك فقد تجاهلوها وتعلقوا بمصحف فاطمة تاركين المرويات التي تعرضت لمحتوياته.

فقد جاء في الاتقان المجلد الثاني ان حميدة بنت ابي يونس قالت قرأ ابي وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة : «ان الله وملائكته يصلون على النبي يا ايها الذين امنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ، وعلى الذين يصلون الصفوف الاولى» هذا بالاضافة إلى بعض المرويات التي سنتعرض لها في حديثنا عن مرويات الكافي حول هذا الموضوع (١) فالرواية صريحة بان القرآن المنسوب لعائشة يزيد عن القرآن المتداول ، والرواية التي تعرضت لمصحف فاطمة تنص على انه ليس من نوع القرآن.

وروى عن سدير انه قال : قلت لابي عبد الله الصادق (ع) : ان قوما يزعمون انكم آلهة يتلون بذلك قرآنا ، وهو الذي في السماء إله وفي الارض إله فقال : يا سدير سمعي وبصري ولحمي ودمي وشعري من هؤلاء براء ، وبرئ الله منهم ، ما هؤلاء على ديني ولا على دين آبائي والله لا يجمعني الله واياهم يوم القيامة الا وهو ساخط عليهم ، قال قلت : وعندنا قوم يزعمون انكم رسل يقرءوذ علينا بذلك قرآنا : «يا ايها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا اني بما تعملون عليم».

قال : يا سدير سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي من

__________________

(١) ان هذه الزيادة في مصحف السيدة عائشة تشير إلى المنزلة العالية التى كان يتمتع بها المصلون في الصف الاول مع النبي (ص) ولا شك بان اباها كان في طليعتهم.

٣٠٣

هؤلاء براء ما هؤلاء على ديي ودين آبائي ، قال قلت : فما انتم ، قال نحن خزان علم الله ونحن تراجمة امر الله ، نحن قوم معصومون امر الله تعالى بطاعتنا ونهى عن معصيتنا ، نحن الحجة البالغة من دون السماء وفوق الارض.

وروى عن ابن اذينة عن يزيد بن معاوية انه سأل ابا جعفر وولده الامام الصادق (ع) فقال لهما : ما منزلتكما ومن تشبهون ممن مضى؟ قالا : صاحب موسى وذا القرنين ، كانا عالمين ، ولم يكونا نبيين (١).

وروى عن عمر بن خالد ، ان ابا جعفر الباقر (ع) قال يا معشر الشيعة : كونوا النمرقة الوسطى ، يرجع اليكم الغالي ، ويلحق بكم التالي ، فقال له رجل من الانصار يقال له سعد : جعلت فداك ما الغالي ، وما التالي؟ ، قال : الغلاة قوم يقولون فينا ما لم نقله : في انفسنا ، فليس اولئك منا ولسنا منهم ، والتالي هو من يريد الخير ويسعى في طلبه ليعمل به طمعا في مرضاة الله ورجاء في ثوابه (٢).

واضاف الراوي إلى ذلك. ان الامام (ع) اقبل علينا وقال ، والله ما معنا من الله براءة ، ولا بيننا وبين الله قرابة ، ولا لنا على الله حجة ،

__________________

(١) انظر ص ٢٦٩ ، ج ١ ، بهاتين الروايتين وغيرهما من عشرات الروايات دفع لامام (ع) ادعاء المغالين الذين وضعوهم فوق مستوى المخلو قات والبسوهم ثوب الائمة أو المرسلين ، جهلا وضلالا ، واكد الامام في مختلف المناسبات بانهم عبيد لله لا يملكون لانفسهم نفعا ولا ضرا ، ولا يدفعون عنها موتا ولا حياة ، ولم يبلغوا ما بلغوه الا بطاعتهم لله سبحانه.

(٢) والذي يعنيه الامام (ع) بقوله كونوا النمرقة الوسطى ، اي نمطا بارزا ومثلا في الاستقامة والسر على المخطط الاسلامي ليرجع اليكم الخارج عن مخطط التشيع ، ويلحق بكم التالى ، اي ليكون المستقيم في اعماله تبعا لكم.

٣٠٤

ولا تتقرب إلى الله الا بالطاعة ، فمن كان منكم مطيعا لله تنفعه ولايتنا ، ويحكم لا تغتروا ، ويحكم لا تغتروا.

وروى أبو الصباح الكناني انه قال لابي عبد الله (ع) ما نلقى من الناس فيكم ، فقال له أبو عبد الله (ع) وما الذي تلقى من الناس فينا؟ فقال : لا يزال يكون بيننا وبين الرجل الكلام ، فيقول جعفري خبيث فقال الامام (ع) يعيركم الناس بي ، فقال له أبو الصباح نعم يا ابن رسول الله ، فقال : ما اقل من يتبع جعفرا منكم ، انما اصحابي من اشتد ورعه ، وعمل لخالقه ورجا ثوابه هؤلاء اصحابي (١).

ومن خلال دعواته وابتهالاته إلى الله سبحانه عندما يناجي ربه ، أو تعترضه الحوادث وتهزه النكبات ، من خلال تلك الدعوات يبدو الامام على عظمته ويقينه واتساع علمه «وكأنه من اضعف خلق الله يخاطب ربه خطاب عبد ذليل قد انقطع امله من كل شئ لا يستطيع ان يدفع عن نفسه ضرا ولا يجلب لها خيرا».

فقد روى في الكافي ، ان الامام الصادق (ع) كان يقول في دعائه ، اللهم آمن خوفي وعافني فيما بقي من عمري ، وثبت حجتي ، واغفر خطاياي ، واعصمني في ديني ، وسهل مطلبي ، ووسع علي في رزقي فاني ضعيف ، وهب لي يا الهى لحظة من محظاتك لكشف بها عني جميع ما به ابتليتنى ، فقد ضعفت قوتي وقلت حيلتي ، وانقطع من خلقك رجائي ، ولم يبق الا رجاؤك وتوكلي عليك ، وقدرتك علي يا ربي ان ترحمني كقدرتك علي ان تعذبي وتبتليني ، الهى لم أخل من نعمك منذ خلقتني وانت ربي ومفزعى وملجئي ، والحافظ لي والذاب عني ، فليكن يا سيدي ومولاي فيما قضيت وقدرت وحتمت تعجيل خلاصي مما انا فيه

__________________

(١) انظر ص ٧٠ و ٧٣ ، ج ٢ من اصول الكافي.

٣٠٥

جميعه ، فاني لا اجد لدفع ذلك كله احدا غيرك ، ولا اعتمد فيه الا عليك (١).

هذه الدعوات والابتهالات التي تنبض بالايمان المطلق والعبودية الخالصة ، والحاجة إليه في صغير الامور وكبيرها ، بالاضافة إلى بعض المرويات التي حدد فيها الامام (ع) موقفه من الغلاة والمرجفين والدساسين ، كل هذه وغيرها من مواقفهم (ع) لسد الطريق على كل من يحاول ان يجعل للامام خصائص الخالق وميزة الانبياء المرسلين ، وتحتم علينا تأويل بعض المرويات التي تنسب له علم الغيب والقدرة على كل شئ ونحو ذلك مما يعجز عنه الانسان بالغا ما بلغ.

لا بد من تأويل تلك المرويات حيث يكون التأويل ممكنا ، أو طرحها لا سيما وان اكثر رواتها لم تتوفر فيهم الشروط المطلوبة في الراوي كما ذكرنا.

وقد روى الكليني في باب ان الائمة يعلمون متى يموتون ولا يموتون الا باختيارهم ، عن سلمة بن الخطاب عن سليمان بن سماعة وعبد الله بن محمد عن عبد الله بن القاسم البطل عن ابي بصير ، ان ابا عبد الله الصادق (ع) قال : اي امام لا يعلم ما يصيبه ، والى ما يصير إليه ، فليس ذلك بحجة لله على خلقه.

ومع ان هذه الرواية ليس فيها ما يدعو إلى الاستغراب والاستهجان لان علم الامام الذي يتسع لهذه الحالات مستمد من النبي (ص) ومن العلم الذي ورثوه عنه ومع ذلك فان رواتها من المتهمين بالانحراف كما نص على ذلك المؤلفون في احوال الرجال ، وقد ذكرنا لمحة عنهم في الفصل الذي تعرضنا فيه لبعض رجال الكافي (٢).

__________________

(١) نفس المصدر ، ص ٥٥٨.

(٢) انظر ص ٢٥٨ ، ج ١ ، من الكافي ، ورجال المرزا محمد ، ص ١٩٢ و ٣١٦.

٣٠٦

وفي باب جهات علم الائمة (ع) روى عن علي بن ابراهيم عمن حدثه عن المفضل بن عمر انه قال قلت : لأبي الحسن موسى بن جعفر ، جاءنا عن ابي عبد الله (ع) انه قال : ان علمنا غابر ومزبور ونكث في القلوب ونقر في الأسماع ، فقال (ع) اما الغابر فما تقدم من علمنا ، واما المزبور فما يأتينا واما النكث في القلوب فالهام ، واما النقر في الأسماع فامر الملك (١).

والامر في هذه الرواية سهل من حيث مضمونها ، فان الالهام بمعنى الادراك الصحيح لواقع الاشياء ، يحصل من صفاء النفس وحدة الذهن ، ويحصل بالهداية من الله سبحانه إلى الواقع ، والنقر في الاسماع مرجعه إلى ان الله سبحانه يرشد الامام (ع) إلى احكام الحوادث وبعض ما يجري في مستقبل الزمان ، والايحاء بهذا المعنى ليس من مختصات الانبياء فقد ورد في القرآن في مختلف المناسبات ومن ذلك قوله سبحانه : «واوحى ربك إلى النحل ان اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون» وهل معنى ذلك ان الامين جبرائيل كان ينزل على النحل ليوحي إليها بذلك ، لا اظن ان احدا يلتزم بهذا الامر.

اما من حيث سندها فهي من قسم الضعيف ، لانها جاءت عن طريق المفضل بن عمر ، المعروف بالغلو والكذب ، وقد وصفه الامام الصادق بالكفر والشرك ، ونهى عن الاخذ بمروياته.

وروى في باب التفويض إلى رسول الله والى الائمة في امر الدين ، عن احمد ابن ابي زاهر بسنده إلى ابي اسحاق النحوي انه قال : دخلت على ابي عبد الله (ع) فسمعته يقول : ان الله عزوجل ادب نبيه على محبته فقال : وانك لعلى خلق عظيم ، ثم فوض إليه فقال عزوجل :

__________________

(١) ص ٢٦٤ ج ١.

٣٠٧

«وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا» وقال : «ومن يطع الرسول فقد اطاع الله» وان نبي الله فوض إلى علي (ع) والائمة فسلمتم وجحد الناس فوالله لنحبكم ان تقولوا إذا قلنا وان تصمتوا إذا صمتنا ، ونحن فيما بينكم وبين الله عزوجل ، وما جعل الله لاحد خيرا في خلاف امرنا.

وقد اورد عشر روايات تحت عنوان التفويض إلى رسول الله والى الائمة ، وكلها تلتقي تقريبا مع هذه الرواية من حيث المضمون.

والذي تعنيه هذه المرويات ، ان النبي (ص) كان المسؤول عن تبليغ الاحكام وبيان الحلال والحرام وبعد وفاته اصبح المسؤول عن ذلك الامام (ع) الذي اختاره النبي بامر من الله سبحانه ، بعد ان زوده بكل ما تحتاج إليه الامة من امور دينها ، فيكون المراد من التفويض ، هو القيام بمهمات النبي من غير فرق بينهما من هذه الناحية ، الا ان النبي (ص) يخبر عن الله بواسطة الوحي ، والامام يخبر عن النبي والكتاب المنزل عليه.

وليس في هذه المرويات وغيرها ما يشير إلى ان الله قد فوض إلى النبي كل شئ حتى امور الخلق والتدبير والنبي قد فوضها إلى الامام كما ينسب جماعة إلى الشيعة.

ومن الجائز ان يكون المصدر في الصاق هذه الانحرافات بالشيعة بعض الفرق التي انحرفت عن التشيع الصحيح كالسبعية والخطابية وغيرهما ، ولكن وجود فرق من هذا النوع تنتمي إلى التشيع لا يبرر تلالى الهمجات الصاعقة على الشيعة الامامية لمجرد ان بعض الذين كانوا مندسين في صفوفهم خرجوا عن مخطط التشيع ، أو الحدوا في آرائهم ومعتقداتهم وقالوا في النبي والائمة ما يتنافى مع اصول الاسلام ومبادئه.

٣٠٨

وجاء في بعض النصوص الصحيحة عن الائمة ، ان من زعم ان الله فوض الينا امر الخلق والرزق والاحياء فقد اشرك بالله وضل سواء السبيل.

وجاء في باب ذكر الارواح التي في الائمة (ع) عن محمد بن سنان عن المفضل بن عمر انه سأل ابا عبد الله الصادق (ع) من علم الائمة بما في اقطار الارض وهو في بيته مرخى عليه ستره فقال : يا مفضل ان الله تبارك وتعالى جعل في النبي خمسة ارواح ، روح الحياة فيه دب ودرج وروح القوة فيه نهض وجاهد ، وروح الشهوة فيه اكل وشرب واتى النساء من الحلال ، وروح الايمان فيه آمن وعدل ، وروح القدس فيه حمل النبوة ، فإذا قبض الله النبي (ص) انتقل روح القدس فصار إلى الامام (ع) وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو ، والاربعة ارواح تنام وتغفل وتزهو وتلعب ، وروح القدس كان يرى به.

وروى ثلاث روايات تحت هذا العنوان بهذا المضمون (١).

وروى في باب ان الامام (ع) يأخذ علم الامام الذي كان قبله في

__________________

(١) انظر ص ٢٧١ و ٢٧٢ ، والمراد من الارواح هي القوى الكامنة في النبي (ص) وفي كل انسان ما عدا روح القدس ، وبواسطة تلك القوى يتحرك ويجاهد ويأكل ويشرب ويحكم بالعدل ، أما روح القدس فهي التي استحق بها النبوة بما لها من الخواص والآثار ، وانتقالها الى الامام لا يعني انتقال النبوة إليه كما يوهمه ظاهر الرواية على ان هذه الرواية رواها محمد بن سنان عن المفضل ، وهما ضعيفان لا يعتد بمروياتهما والثانية رواها منخل بن جميل عن جابر الجعفي ، وهما متهمان عند اكثر المؤلفين في احوال الرجال ، والثالثة رواها ابراهيم بن عمر اليماني عن جابر ، وجاء في الخلاصة ان جل من يروي عن جابر ضعيف هذا بالاضافة الى ان جابرا نفسه ، كان هدفا لهجوم عنيف من اكثر المؤلفين في الرجال فليس لروايته تلك الحصانة التي لرواية غيره من الموثوقين.

٣٠٩

آخر دقيقة من حياته ، روى عن جماعة منهم علي بن اسباط ، والحكم بن مسكين ، ان بعض الاصحاب اخبره بانه قال لابي عبد الله (ع) متى يعرف الاخير ما عند الاول؟ قال : في آخر دقيقة تبقى من روحه.

وبهذا النص رواها عن علي بن اسباط ، والحكم بن مسكين عن عبيد بن زراره ، ورواها ايضا عن جماعة عن على بن اسباط.

والظاهر ان المقصود بالمعرفة التي تنتقل إلى الثاني في اخر دقيقة من حياته ، هي الامامة ، وليس في متنها ما يدعو إلى التردد والتشكيك ربخاصة بعد هذا التفسير.

اما من ناحية سندها ، فاحد رواتها علي بن اسباط ، وهو فطحي المذهب متعصب لعقيدته ، وقد الف علي بن مهزيار رسالة في الرد عليه فلم يتراجع عن مذهبه ، ولعله لذلك رجح جماعة من المؤلفين في احوال الرجال ضعف مروياته.

وورد في سند الرواية الثالثة ، محمد بن الحسين بن سعيد الصباغ ، وكان منحرف العقيدة ضعيف جدا على حد تعبير النجاشي (١).

واكثر الروايات التي اوردها الكليني رحمه الله في هذه الابواب من كتاب الحجة لو عرضناها على الاصول والقواعد المقررة في علم الدراية لا تتوفر فيها الشروط المطلوبة ، ولازم ذلك دخول هذا النوع من المرويات في قسم الضعيف حسب التصنيف الذي احدثه العلامة الحلي واستاذه ، وذكرنا سابقا ان ضعف الرواية من ناحية سندها لا يوجب طرحها ، لجواز كونها محاطة ببعض القرائن التي تؤكد صدورها عن الامام (ع) أو لوجودها في الكتب المعتبرة عند الطبقة الاولى من الرواة أو لان مضمونها

__________________

(١) انظر ص ٢٧٥ من الكافي ج ١ ، وص ٣٢٤ من اتقان المقال.

٣١٠

متواتر ولو بالمعنى ، أو لموافقتها لظاهر الكتاب والسنة ، أو لغير ذلك من ـ القرائن التي توجب الاطمئنان بصدورها ، ولاجل ذلك فقد اعتبر المتقدمون هذا النوع من المرويات من الصحيح الذي يصح الاعتماد عليه والركون إليه ولو كان الراوي له من المنحرفين في عقيدته وعمله.

وروى في باب النص على الائمة (ع) واحدا بعد واحد عن محمد ابن عيسى بسنده إلى ابي بصير انه قال : سألت ابا عبد الله الصادق (ع) عن قوله تعالى : «اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم».

فقال : نزلت في علي والحسن والحسين (ع) فقلت له : ان الناس يقولون : فما له لم يسم عليا واهل بيته في كتاب الله عزوجل ، فقال : قولوا لهم ، ان رسول الله نزلت عليه الصلاة ولم يسم الله للناس ثلاثا ولا اربعا حتى كان رسول الله هو الذي فسر ذلك لهم ، ونزلت عليه الزكاة ولم يسم لهم في كل اربعين درهما درهم واحد ، ونزل الحج ولم يقل لهم طوفوا سبعا. فكان رسول الله هو الذي فسر ذلك لهم ، ونزلت اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم ، فبين الرسول المراد منها ، وقال في علي (ع) : من كنت مولاه فعلي مولاه. وقال : اوصيكم بكتاب الله واهل بيتي ، فاني سألت الله عزوجل ان لا يفرق بينهما حتى يوردهما علي الحوض فاعطاني ذلك.

وقال لا تعلموهم فانهم اعلم منكم ، لن يخرجوكم من باب هدى ، ولن يدخلوكم في باب ضلالة ، فلو سكت رسول الله ولم يبين من هم اهل بيته لادعاها. آل فلان وآل فلان ، لكن الله انزله في كتابه تصديقا لنبيه ، فقال : «انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا» فكان علي والحسن والحسين وفاطمة ، فادخلهم رسول الله تحت الكساء في بيت ام سلمة ، ثم قال : اللهم ان لكل نبي اهلا وثقلا ، وهؤلاء اهلي اهل بيتي وثقلي.

٣١١

فقالت ام سلمه ألست من اهلك يا رسول الله فقال انك إلى خير ولكن هؤلاء اهلي وثقلي ، فلما قبض رسول الله ، كان علي (ع) اولى الناس بالناس لكثرة ما بلغ فيه رسول الله ، فلما مضى علي كان الحسن اولى بها من بقية اولاد علي ، ولما مضى الحسن كان الحسين اولى بها وهكذا.

وروى الكليني بهذا المضمون اكثر من سبع روايات ، وفيها يؤكد الامام (ع) ان المراد باولي الامر في الآية من سورة النساء الأئمة من اهل البيت (ع) (١).

وروى في باب ان الجن يأتونهم لياخذوا عنهم معالم دينهم ، عن جماعة منهم سعد الاسكاف انه قال : اتيت ابا جعفر (ع) اريد الاذن عليه فإذا رحال ابل مصفوفة على الباب ، والاحداج قد ارتفعت ثم خرج قوم معتمون بالعمائم يشبهرن الزط ، فدخلت على اي جعفر (ع) فقلت له جعلت فداك : أبطأ اذنك علي اليوم ، ورأيت قوما خرجوا علي معتمين بالعمائم فانكرتهم ، فقال أو تدري من اولئك يا سعد؟ قلت لا : قال اولئك اخوانكم من الجن يأتون فيسألون عن حلالهم وحرامهم ومعالم دينهم.

وروى سبع روايات بهذا المضمون ، وقد وصف المجلسي في مرآة العقول هذه الروايات كلها بالضعف ، ولم يستثن منها الا الرواية الرابعة التي رواها سدير الصيرفي عن ابي جعفر الباقر (ع) وجاء فيها ان الائمة يسخرون الجن لقضاء حوائجهم إذا اقتضى الامر السرعة في انجازها ، وعدها من نوع الحسن بين اصناف الحديث (٢).

__________________

(١) ص ٢٨٧ الى ص ٢٦٢.

(٢) ص ٣٩٥ و ٣٩٦ و ٣٩٨ ، ومعلوم ان النوع الحسن من الروايات في مقابل الصحيح ، ويأتي في المرتبة الثالثة حسب التصنيف الرباعي للحديث ، واعتبارها من هذا النوع لا يعنى انها من الروايات المقبولة ، ذلك لان الحديث إذا لم يتفق مع كتاب الله وسنة نبيه يتعين طرحه ولو بلغ أعلى مراتب الصحة من حيث سنده.

٣١٢

وروى في باب ان مستقى العلم في بيت آل محمد ، عن يحيى بن عبد الله عن ابي الحسن انه قال : سمعت جعفر بن محمد (ع) يقول وعنده ناس من اهل الكوفة ، عجبا للناس ، انهم أخذوا علمهم كله عن رسول الله فعملوا به واهتدوا ، ويرون ان اهل بيته لم يأخذوا علمه ، ونحن اهل بيته وذريته في منازلنا نزل الوحي ، ومن عندنا خرج العلم إليهم ، فيرون انهم علموا واهتدوا وجهلنا نحن وضللنا ان اهذا لمحال.

وفي باب ان حديثهم صعب مستصعب ، روى عن عمار بن مروان عن جابر ان ابا جعفر (ع) قال : ان رسول الله (ص) قال : ان حديث آل محمد صعب مستصعب ، لا يؤمن به الا ملك مقرب أو نبي مرسل ، أو عبد امتحن الله قلبه للايمان فما ورد عليكم من حديث آل محمد (ع) فلانت له قلوبكم وعرفتموه فاقبلوه ، وما اشمأزت منه قلوبكم فانكرتموه فردوه إلى الله ورسوله والى العالم من آل محمد ، وانما الهالك ان يحدث احدكم بشئ منه لا يتحمله ، فيقول : والله ما كان هذا (١).

وروى في باب الولاية عن علي بن حمزة عن اي بصير ، ان ابا عبد الله الصادق (ع) قال : ان الآية «ومن يطع الله ورسوله» لما نزلت على النحو التالي :

ومن يطع الله ورسوله في ولاية. علي وولاية الائمة من بعده فقد فاز فوزا عظيما.

__________________

(١) انما كان حديثهم صعب مستصعب ، لانهم قد يخبرون احيانا عن امور ستحدف في مستقبل الزمان كما وصل إليهم من رسول الله (ص) ، والاخبار عما سيحدث قبل حدوثه لا يؤمن به الا من بلغ أعلى درجات الايمان وعرفهم على واقعهم ، ولذا فان الامام (ع) قد نهاهم عن تكذيب ما تنفر منه قلوبهم وطبائعهم وامرهم برد هذا النوع إلى مصدره ، ويحتمل ان يكون صعبا مستصعبا من حيث ان الذين كانوا يحملون احاديثهم ويحدثون بها كانوا يتعرضون لانواع الظلم من الحكام واعداء اهل البيت (ع).

٣١٣

وهذه الرواية ضعيفة السند ، كما نص على ذلك المجلسي في مرآة العقول قد رواها على بن اسباط عن على بن ابي حمزة ، وعلي بن اسباط كان فطحيا ، وابن ابي حمزة كان واقفا ، ومتهما بالكذب ووضع الاحاديث.

وجاء عن علي بن الحسن بن فضال انه كتب تفسير القرآن ، وانه لا يستحل ان يروي عنه حديثا واحدا.

ونسب له المؤلفون في احوال الرجال ، انه استولى على الاموال التي كانت في حيازته للامام موسى بن جعفر (ع) وانكرها بعد وفاته (١).

وعلى تقدير صحة الرواية فلا بد وان يكون المراد من قوله (ع) هكذا نزلت انها نزلت بهذا المعنى لا بهذه الالفاظ ، وان المعنى المراد منها هو ولاية على والائمة من بعده ومع الاعراض عن ذلك فليس ببعيد ان تكون هذه الزيادة في الآية من موضوعات علي بن حمزة ، أو انه قد اخذها من الكتب التي الفت في تفسير الباطن ، ككتابي علي بن حسان ، وعبد الرحمن بن كثير وغيرهما من الغلاة والاسماعيلية السبعية.

وقد اورد في الكافي نحوا من اثنين وتسعين رواية تتضمن تفسير اكثر من مئة آية بعلى والأئمة من ولده (ع) واكثرها بعيدة عن مداليل الالفاظ واسلوب القرآن.

ومن امثلة هذا النوع من المرويات ، ما رواه عن على بن محمد عن احمد بن محمد بن عبد الله في تفسير قوله تعالى :

«لا اقسم بهذا البلد وانت حل بهذا البلد ، ووالد وما ولد» انه قال : الوالد وما ولد ، علي وما ولد من الأئمة (ع).

__________________

(١) انظر رجال الشيخ محمد طه ، ص ٣٢٢ و ٣٢٣.

٣١٤

ومنه ما رواه عن علي بن حسان ، عن عبد الرحمن بن كثير ، ان ابا عبد الله الصادق (ع) قال في تفسير قوله تعالى :

«هو الذي انزل عليك الكتاب منه ايات محكمات هن ام الكتاب وأ خر متشابهات» ان الآيات المحكمات ، علي والأئمة من ولده والمتشابهات فلان ، وفلان وفلان. والذين في قلوبهم زيغ ، هم اصحابهم واهل ولايتهم.

وروى عن محمد بن جمهور ، عن صفوان وابن مسكان ، ان ابا عبد الله الصادق (ع) قال في تفسير قوله تعالى : «وان جنحوا للسلم فاجنح لها» ان المراد من السلم الدخول في ولاية الائمة (ع).

وروى عن محمد بن سليمان عن عبد الله بن سنان ان ابا عبد الله الصادق قال : ان الآية ، ولقد عهدنا إلى آدم كلمات في محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين ، والأئمة من ذريتهم فنسي ، واضاف الامام على حد قول الراوي ، ان الآية هكذا والله نزلت على محمد (ص) (١).

وروى عن محمد بن جمهور عن محمد بن سنان عن المفضل بن عمر انه قال : سألت ابا عبد الله (ع) عن قوله تعالى : «ائت بقرآن غير هذا أو بدله» قال قولوا : أو بدل عليا ، والرواة الثلاثة لهذه الرواية لا يعتد بمروياتهم كما ذكرنا سابقا ، وقد وصف المجلسي هذه المرويات كلها بالضعف ، ومما لا شك فيه ان اكثرها من صنع الغلاة والمنحرفين عن عقيدة التشيع.

__________________

(١) وهذه الرواية تنص بصراحة انه سقط من الآية اكثر من نصفها والامر في ذلك سهل بمد ان كان احد رواتها محمد بن سليمان وجاء في كتب الرجال عنه انه ضعيف لا يعول عليه في شئ كما نص على ذلك في اتقان المقال والمرزا محمد في رجاله.

٣١٥

ومما يؤيد ذلك ان المتتبع في اسانيدها لا يجد رواية يخلو سندها عن احد الغلاة أو المتهمين بالانحراف والكذب ، وعلي وابناؤه الائمة الهداة الذين اختارهم الله ائمة لعباده يدعون إلى الحق وبه يعملون في غنى عن هذه التأويلات التي لا تساعد عليها ظواهر تلك الآيات ولا تؤيدها نصوص القرآن الكريم.

ان اكثر هذه المرويات لا تنسجم مع سيرة اهل البيت (ع) الذين قالوا : انا إذا حدثنا لا نحدث الا بما وافق كتاب الله ، وان ما خالف كتاب الله فليس منا ، وهل ينسجم قولهم هذا : مع تفسير قوله تعالى ، الذي نسبه الغلاة إليهم ، ائت بقرآن غير هذا أو بدله ، اي بدل عليا (ع) كما جاء في رواية محمد بن جمهور عن محمد بن سنان عن المفضل بن عمر ، ومع تفسير قوله تعالى : «ما سلككم في سقر ، قالوا لم نك من المصلين» اي لم نك من اتباع الائمة (ع) الذين قال الله فيهم : «والسابقون السابقون ، اولئك المقربون».

ان ابا عبد الله الصادق الصدوق اجل شأنا وارفع قدرا من ان يتصرف في كتاب الله بما يذهب بهاءه وروعته ويطمس من اضوائه النيرة الساطعة التي هزمت فصحاء العرب وبلغاءهم وارتدوا على اعقابهم خاسرين مدحورين.

«قل لو اجتمعت الانس والجن على ان يأتوا بآية من مثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا».

وروى عن علي بن اسباط وعلي بن ابي حمزة عن ابي بصير ان ابا عبد الله الصادق (ع) قرأ فستعلمون يا معشر المكذبين حيث انبأتكم رسالة ربي في ولاية علي والائمة من بعده من هو في ضلال مبين. وانه قال : ان الآية «ان تلووا وتعرضوا اصلها ان تلووا الامر وتعرضوا

٣١٦

عما امرتم به فان الله كان بما تعملون خبيرا ، فلنذيقن الذين كفروا بتركهم ولاية امير المؤمنين عذابا شديدا في الدنيا ، ولنجنزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون» (١).

وروى عن محمد بن ارومة عن علي بن حسان عن عبد الرحمن بن كثير ان ابا عبد الله الصادق (ع) قال في تفسير قوله تعالى : «وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد» ان الذين هدوا إلى الطيب من القول والى صراط الحميد ، هم الذين هدوا إلى امير المؤمنين (ع) ، وان المراد من قوله تعالى : «حبب اليكم الايمان وزينه في قلوبكم» انه حبب اليكم امير المؤمنين ، وكره اليكم الكفر والفسوق والعصيان ، الاول والثاني والثالث (٢) إلى غير ذلك من المرويات التي دونها في المجلد الاول من الكافي في هذا الباب من كتاب الحجة.

وبعد التتبع والدراسة الواعية يطمئن الباحث إلى ان اكثر تلك الاحاديث لا ينسجم مع واقع اهل البيت (ع) بالاضافة إلى انها غير جامعة لشروط الاعتماد على الرواية ، لان رواة هذا النوع اكثرهم من الغلاة المعروفين بالكذب والانحراف كما اثبتنا ذلك في الفصل الذي عرضنا فيه تلك النماذج من رجال الجامعين.

__________________

(١) وقد ذكرنا لمحة عن تاريخ العليين علي بن اسباط ، وعلي بن أبي حمزة لذا فان هذه الرواية وامثالها لا يقرها علماء الشيعة ، ولا تعبرعن رأيهم في مختلف العصور.

(٢) ان ابطال هذه الرواية ، محمد بن ارومة ، وعلي بن حسان ، وعبد الرحمن بن كثير ثلاثهم من الغلاة المشهورين ، وهذا النوع من التفسير من كتابي تفسير الباطن لعلي بن حسان ومحمد بن ارومة ، انظر ص ٤١٣ و ٤١٤ وما بعدهما ، ج ١.

٣١٧

الايمان والاسلام في الكافي

ان عظمة اهل البيت (ع) تتجلى في جميع المراحل التي مروا بها ، وفي جميع مروياتهم واعمالهم وكتاب الكافي بمجموعه يعكس عظمتهم ، ويقدم للباحث عشرات الادلة على سعة علمهم وحرصهم على توجيه الانسان إلى ما فيه صلاحه في دينه ودنياه ، ذلك لأن علمهم مستمد من علم الرسول ومن كتاب الله الكريم ، لا من الانجتهادات والاقيسة والظنون والاستحسان التي تخطئ وتصيب.

فقد روى في الكافي عن عمر بن حريث ان ابا عبد الله الصادق (ع) قال له : اتق الله وكف لسانك الا من خير ، ولا تقل اني حديت نفسي ، بل الله هداك ، فاد شكر ما انعم الله عزوجل به عليك ، ولا تكن ممن إذا اقبل طعن في عينه ، وإذا ادبر طعن في قفاه ولا تحمل الناس على كاهلك فانك اوشك ان حملت الناس على كاهلك ان يصدعوا شعب كاهلك (١).

وروى في باب ان الايمان يشارك الاسلام ، والاسلام لا يشارك

__________________

(١) اي لا تكن من الاشرار الذين يتعرضون للذم والطعن في حضورهم وغيابهم ولا تحملهم على كاهلك بالمداهنة والمداراة لهم ، فانك ان فعلت ذلك يطمعوا فيك ويحملوك على خلاف الحق ، وعلى ما لا يحل لك فان هذه الكلمات من الجوامع التى تحمل في طياتها ابلغ العظات واصدقها واقر بها من منطق القرآن وروح الاسلام وسماحته.

٣١٨

الايمان ، عن جميل بن صالح عن سماعة انه قال : قلت لجعفر بن محمد الصادق (ع) اخبرني عن الايمان والاسلام ، اهما مختلفان؟ فقال : ان الايمان يشارك الاسلام ، والاسلام لا يشارك الايمان. فقلت صفهما لي : فقال : الاسلام شهادة ان لا إله الا الله والتصديق برسول الله (ص) به حقنت الدماء ، وعليه جرت المناكح والمواريث ، وعلى ظاهره جماعة الناس ، والايمان الهدى وما يثبت في القلوب من صفة الاسلام ، وما ظهر من العمل به.

وروى عن عبد الرحيم اقصير انه قال : كتبت مع عبد الملك بن اعين إلى ابي عبد الله اسأله عن الايمان ما هو؟ فكتب لي مع عبد الملك ، سألت رحمك الله عن الايمان ، فالايمان هو اقرار في اللسان وعقد في القلب وعمل بالاركان ، واضاف إلى ذلك. قد يكون العبد مسلما قبل ان يكون مؤمنا ، ولا يكون مؤمنا حتى يكون مسلما فالاسلام قبل الايمان ويشارك الايمان ، فإذا أتى العبد كبيرة من المعاصي أو صغيرة من صغائر المعاصي التي نهى الله عنها كان خارجا من الايمان ساقطا عنه اسم الايمان وثابتا عليه اسم الاسلام ، فان تاب واستغفر عاد إلى الايمان ، ولا يخرجه إلى الكفر الا الجحود والاستحلال ان يقول للحلال هذا حرام ، وللحرام هذا حلال ، ويدين بذلك فعندها يكون خارجا من الاسلام والايمان (١).

وروى عن محمد بن حماد الخزاز عن عبد العزيز القراطيسي انه قال : قال لي أبو عبد الله الضادق (ع) يا عبد العزيز ، ان الايمان عشر درجات

__________________

(١) وهاتان الروايتان تؤيدان الرأي القائل ان الايمان اقرار باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالاركان ، وفي مقابل ذلك الرأي المشهور بين الامامية ، وهو ان الايمان هو الاقرار باصول الاسلام وامامة الاثني عشر والمعاصي لا تخرج الانسان عن صفة الايمان (انظر كتابنا الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة ، الفصل الذي تعرضنا فيه للفرق بين الاسلام والايمان).

٣١٩

بمنزلة السلم يصعد منه مرقاة بعد مرقاة ، فلا يقولن صاحب الاثنين لصاحب الواحد لست على شئ حتى ينتهي إلى العاشرة ، ولا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك ، وإذا رأيت من هو اسفل منك بدرجة فارفعه اليك برفق ولا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره ، فان من كسر مؤمنا فعليه جبره (١).

وقد اورد مجموعة من الروايات حول درجات الايمان وتفاوته بمختلف الاساليب ، والذي يعنيه هذا النص وغيره ، ان الانسان لا يجوز ان ينظر إلى غيره من زاويته ، لان الناس يتفاوتون في تفكيرهم وعقولهم وجميع مواهبهم ، والنتيجة الحتمية لهذا التفاوت ان تكون بينهم الفوارق والمسافات الواسعة في ايما نهم واخلاقهم ومواهبهم ، فالانسان الذى يملك مرتبة من الفضل والايمان ، ليس لمن فوقه ان ينظر إليه من زاويته ويجرده عن ايمانه لان ذلك يؤدي إلى التنكر للفضيلة ، وجحودها من الاساس ، ولانه إذا جرد من هو دونه جرده من هو فوقه ومراتب العلم والدين والاخلاق لا تحدها الحدود ، والكمال المطلق لله وحده ، وحتى ان الانبياء انفسهم يشعرون بانهم لم يصلوا إلى منتهى حدود المعرفة ويتفاوتون في فضلهم ومعرفتهم ، ولذا فان الامام (ع) يقول : لا يقولن صاحب الاثنين لصاحب الواحد لست على شئ ، ويضيف إلى ذلك لا تسقط من هو دونك فيسقط لى من هو فوقك ، وإذا رأيت من هو اسفل منك بدرجة لا تنظر إليه من زاويتك ، بل يجب ان تقدر له فضله ، وترفع من شأنه ، وتحاول

__________________

(١) وهده الرواية صريحة في ان الايمان يزيد وينقص ، ولا يحصل دفعة واحدة ، بل تدريجا ، ولازم ذلك ان الايمان هو الاقرار والعمل ، ولا بد للقائلين بأنه تصديق واعتقاد ، ان يلتزموا بأنه لا يزيد ولا ينقص ، إذ لا يصح وصفه بالزيادة والنقصان الا إذا كان نتيجة لفمل الانسان واعماله والفروض ان العمل الخارجي ليس من مقوماته كما يدعى اكثر الامامية ، كما وان المعاصي لا تسلب العبد صفة الايمان إذا كان مصدقا ومعتغدا بالله ورسوله ، وبما جاء به.

٣٢٠