دراسات في الحديث والمحدّثين

هاشم معروف الحسني

دراسات في الحديث والمحدّثين

المؤلف:

هاشم معروف الحسني


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٨

ومحاكمة متونه وحذف ما يجب حذفه بعد دراسة متونه وعرض أسانيده على اصول علم الدراية ، فقام تلاميذه من بعده بنقله من مسوداته وتدوينه على عيوبه وعلاته ، كما تؤيد ذلك رواية ابراهيم بن احمد المستعلي المتقدمة ورواية ابي محمد السرخسي وغيرهما من المرويات التي تؤكد ان البخاري رحمه الله قد وافاه اجله قبل تصفيته وتمحيص اسانيده ومتونه. ولذا يرى المتتبع الحديث الواحد مكررا بنصه الحرفي في مختلف الابواب بدون مناسبة واختلاف في السند غالبا.

ومن امثلة التكرار وان كان لا يخلو باب من ابوابه من حديث مكرر حديث ام حرام بنت ملحان زوجة عبادة بن الصامت.

وجاء في الحديث عنها ، ان رسول الله (ص) دخل عليها فاطعمته وجعلت تفلي رأسه ، فنام وهي تفليه ثم استيقظ وهو يضحك ، قالت ما يضحكك يا رسول الله قال : اناس من امتي عرضوا على غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الاسرة ، قالت ادع الله ان يجعلني منهم فدعا لها فركبت البحر هي وزوجها في بعض الغزوات التي غزاها معاوية ، ولما رجعت صرعتها دابة قدمت إليها لتركبها وماتت نتيجة لذلك ، وروى هذه الرواية انس بن مالك ودونها البخاري في صحيحه وكررها بلا زيادة في مختلف الابواب ، وتكررت في المجلد الثاني من الصحيح اربع مرات في ص ١٣٤ و ١٣٧ و ١٤٩ و ١٥٣ هذا بالاضافة إلى بقية المجلدات التي لا يخلو منها هذا الحديث ومن الامثلة ايضا الحديث الذي ينص على صعود النبي إلى السماء واجتماعه بالنبيين ، ومن بينهم موسى (ع) الذي نصح محمدا (ص) في ان يراجع الله سبحانه في التخفيف عن امته ، وكان قد فرض عليها خمسين صلاة في اليوم على حد زعم الراوي ، فرجع إليه ، وطلب منه التخفيف عملا بنصيحة موسى (ع) فجعلها اربعين ،

١٢١

ولما اخبر موسى بذلك اشار عليه ان يرجع ويطلب تخفيفها ، فاستجاب لطلبه وجعلها ثلاثين ثم رجع النبي إلى ربه ثالثة ورابعة بايعاز من النبي موسى إلى ان استقرت على ما هي عليه الآن ، وفي المرة الخامسة لم يستجب محمد (ص) لنصيحة موسى ورضي بالصلاة الخمس كما تنص على ذلك الرواية التي رواها البخاري في صحيحه. ويجدها القارئ في جميع مجلداته وبخاصة الثاني منها مكررة في ص ٢١١ و ٣٢٨ بصيغة واحدة. الا في عدد المراجعات التي راجع فيها النبي (ص) ربه باشارة من موسى بن عمران.

ومن الامثلة ايضا حديت الثلاثة الدين اطبقت عليهم الصخرة ، وسدت عليهم منافذ الحياة فاستعرضوا حسناتم ، ودعا كل واحد منهم بعمل من اعماله الصالحات ، فارتفعت عنهم الصخرة وخرجوا من تحتها مشسيا على اقدامهم ، وهي في ص ٢٥ و ٣٥ و ٤٧ من الثاني ايضا كما يجدها القارئ في بقية المجلدات إلى غير ذلك من الامثلة التي يتعسر احصاؤها ، ويستطيع المتتبع ان يؤكد ان المرويات التي لم تتكرر في صحيح البخاري لا تتجاوز الفين وبضع مئات من مجموح مروياته ، هذا بالاضافة إلى بقية العيوب التي احصى بعضها جماعة من المؤرخين والمحدثين.

وروى الخطيب البغدادي في تاريخه عنه انه قال يوما : رب حديث سمعته في البصرة ، وكتبته في الشام ، ورب حديث سمعته في الشام ، وكتبته بمصر ، فقيل له : يا ابا عبد الله بكماله فسكت.

وجاء في مقدمة فتح الباري عن احيدر والي بخا رى ان البخاري قال له : رب حديث سمعته في البصرة وكتبته في الشام ، ورب حديث سمعته بها وكتبته بمصر ، فقلت له يا ابا عبد الله بتمامه فسكت.

وقال ابن حجر العسقلاني : انه كان يروي الحديث الواحد تاما

١٢٢

باسناد واحد بلفظين ، وانه كان لا يكتب الاحاديث التي يسمعها ، فإذا رجع إلى بخاري كتبها عن حفظه. وسأل بعضهم ابن عقدة ايهما احفظ البخاري أو مسلم؟ فقال كان محمد عالما ، ولان مسلم عالما ، فاعدت عليه مرارا فقال : يقع لمحمد الغلط في اهل الشام ، وذلك لانه اخذ كتبهم ونظر فيها فربما ذكر الرجل بكنيته ، ويذكره في موضع آخر باسمه يظنهما اثنين واما مسلم فقلما يقع له الغلط في العلل : لانه كتب كتب المسانيد ولم يكتب المقاطيع ولا المراسيل.

وقد احصيت أحاديث البظ ري ، كما جاء في (هدى الساري) فبلغت ٧٣٩٧ حديثا ، بما في ذلك الاحاديث المكررة ، فإذا اضيف إليها ما فيه من المعلقات ، والمتابعات تبلغ ٩٠٧٢ (١) ، وإذا حذفنا المكررات منها واقنصرنا على الاحاديث انني يتصل سندها بمصدرها تبلغ ٢٧٦٢ حديثا.

قال في هدى الساري : فجميع ما في صحيح البخاري من المتون الموصولة بلا تكرير على التحرير الفا حديث وستماية وحديثان ، ومن المتون المعلقة المرفوعة التي لم يوصلها في موضع آخر من الجامج المذكور مائة وتسعة وخمسون حديثا ، فجميع ذلك الفا حديث وسبعمائة واحدى وستون حديثا.

روى عنهم ، وعد منهم مروان بن الحكم ، وابا سفيان ، ومعاوية ، وعمرو ابن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، والنعمان ابن بشير الانصاري ، الذي لازم معاوية وونده يزيدا إلى اللحظة الاخيرة من حياته ، واشترك معهما في جميع الجرائم والفتن ، ولم يذكر الحسن

__________________

(١) المتابعات هي الاحاديث التى يرويها اثنان أو اكثر عن الصحابي الذي روى الحديث عن النبي (ص).

١٢٣

والحسين (ع) في جملة من روى من الصحابة ، مع العلم بانهما صحابيان حسب تحديدهما للصحبة كما ذكرنا.

واكثر من روى عنه أبو هريرة وعائشة ، وعمر بن الخطاب ، وعبد الله ابن عمر ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، فقد روى عن ابي هريرة اربعمائة وستة واربعين حديثا ، وعن عبد الله بن عمر مائتين وسبعين حديثا ، وعن عائشة مائتين واثنين واربعين حديثا ولم يرو عن فاطمة الزهراء سيدة النساء الا حديثا واحدا ، ورى عن علي بن ابي طالب (ع) تسعة وعشرين حديثا ، وروى عن ابي موسى الاشعري سبعة وخمسين حديثا وروى عن معاوية ثمانية احاديث وعن المغيرة بن شعبة الذي استحق حد الزنا لولا عطف عصر بن الخطاب عليه كما تنص كتب التاريخ روى عنه احد عشر حديثا وعن النعمان بن بشير ستة احاديث ، ولم يرو عن المقداد بن الاسود الا حديثا واحدا ولا عن عمار بن ياسر الا اربعة احاديث ولا عن سلمان الفارسي الا اربعة احاديث وروى عن عبد الله بن العباس نحوا من مأتين وسبعة عشر حديثا وقد صحت عنده احاديث عبد الله لان اكثرها جاء عن طريق عكرمة المتهم باعتناق فكرة الخوارج كما سنتعرض لتاريخه في الفصل الآتي (١).

__________________

(١) ضحى الاسلام ج ٢ ص ١١١ و ١١٢ ، والباعث الحثيث ، ص ٢٥ ومقدمة فتح الباري ج ٣ ص ٢٤٨ و ٢٤٩.

١٢٤

الكليني

محمد بن يعقوب الكليني الرازي صاحب المؤلفات الغنية بالفوائد في مختلف المواضيع ، ومن ابرز مؤلفاته كتابه المعروف بالكافي جمع فيه احاديث اهل البيت في الاصول والفروع والاخلاق وغيرها من المواضيع وجاء في كتب التراجم. انه لقب بالكليني نسبة إلى قرية من بلاد ايران في منطقة الري (تسمى كلين) ، وفيها دفن والده يعقوب بن اسحاق الكليني الرازي ، ويعرف ايضا بالسلسلي (١) وكان من ابرز شيوخ الشيعة في الري واوجههم ، ثم انتقل إلى بغداد وسكن بها إلى ان توفي بها سنة ٣٢٨ هجرية ، وقيل سنة ٣٢٩ ه‍ ، وليس في كتب التراجم التي تعرضت لتاريخه ما يشير إلى تاريخ ولادته ، لذلك لم يكن من السهل تحديد عمره على التحقيق ، ومن الجائز ان يكون قد ادرك في صباه الامام الحادي عشر الحسن العسكري (ع) الذي توفي ستة مأتين وستين هجرية ، ومما لا شك فيه ان حياته كلها كانت في عهد السفراء الاربع وكلاء الامام الثاني عشر محمد بن الحسن (ع) لان عهدهم استمر سبعين عاما تقريبا ، اي إلى حدود سنة ٣٣٠ هجرية والكليني لم يتخط هذا الرقم عند الجميع.

والذي يؤيد انه ادرك الامام العسكري (ع) كما يرجح ذلك العلامة الطباطبائي في رجاله هو انه قد اخذ الحديث عن جماعة عاصروا

__________________

(١) لعل الوجه في هذه النسبة انه سكن اخيرا في بغداد في محلة تدعى درب السلسلة بباب الكوفة.

١٢٥

الائمة الثلاثة الرضا والجواد والهادي (ع) ورووا عنهم ، منهم احمد بن محمد بن عيسى الاشعري شيخ القميين ووجههم ، ولم يذكر المؤلفون في الرجال تاريخ وفاته ، ولكنهم نصوا على انه لم يلتق بالامام العسكري ، وهذا التعبير يشعر بوفاته قبل انتقال الامامة إليه. ومهما كان الحال فلم اجد فيما لدي من كتب التراجم ما يشير إلى تاريخ ولادة الكليني ، والمقطوع به انه عاش في النصف الثاني من القرن الثالث وفي اوائل القرن الرابع.

وقد اتفق الطرفان السنة والشيعة على تعظيمه واجلاله ، وانه كان من اظهر علماء عصره واوثقم في دينه وحديثه ، وجميع من تعرض له من مؤلفي السنة وصفه بذلك.

وجا ، عن (البغوي) احد المحدثين من السنة في تفسير الحديث المشهور عن النبي (ص) ان الله يبعث لهذه الامة على رأس كل مائة من يجدد لها دينها ، ان المبعوث على رأس المائة الاولى من أولي الامر عمر ابن عبد العزيز ، ومن الفقاء محمد الباقر (ع) والقاسم بن محمد وسالم ابن عبد الله بن عمر ، وغيرهم من تلك الطبقة ، وعلى رأس المائة الثانية من الحكام المأمون العباسي ، ومن الفقهاء الشافعي ، واللؤلؤي من الاحناف ، واشهب من المالكية ، والامام علي بن موسى الرضا من الامامية ومن المحدثين يحيى بن معين ، وعلى رأس المائة الثالثة من الحكام المقتدر العباسي ، ومن الفقاء أبو جعفر الطحاوي الحنفي ، وابن جلال الحنبلي وابو جعفر محمد بن يعقوب الكليني ، وعد السيد المرتضى ممن بعث من الامامية على رأس المائة الرابعة بالاضافة إلى جماعة من فقهاء المذاهب الاربعة.

وجاء عن التبصير لابن حجر وغيره من المؤلفين في الرجال والتراجم ما يؤكد انه كان من ابرز الفقهاء والمحدثين في عصره ، ومن المساهمين

١٢٦

بجد ونشاط واخلاص في تدعيم الدين ونشر الثقافة الاسلامية من جميع نواحيها.

ونظر إليه الشيعة بعين الاحترام والتقدير في جميع الادوار التي مروا بها واشتهر من بين مؤلفاته الغنية بالفوائد كتابه الجليل الكافي ، ذلك الكتاب الذي تحرى فيه اقصى ما لديه من جهد لتصفية الاحاديث الصحيحة عن غيرها كما نص على ذلك في مقدمة كتابه ، حتى تم له تأليفه بعد جهاد ورحلات استمرا نحوا من عشرين عاما يجوب فيها البلدان من بلدة إلى بلدة في البحث عن الحديث ومذاكرة المحدثين في الحديث واصنافه ومصادره ، والتنقيب عن الاصول الاربعمائة التي الفها تلامذة الائمة في الحديث ، وعن مؤلفات القميين وغيرهم التي جمعوها في اواخر القرن الثاني من مرويات اصحاب الامامين جعفر بن محمد وابيه الباقر (ع) وقد ذكرنا في الفصل السابق ان القميين والاشعريين والبعض من الكوفيين قد تطوعوا لجمع الاحاديث وتصفيتها ، والفوا في علمي الرجال والدراية ووضعوا اصول هذين العلمين خلال النصف الاول من القرن الثالث ه‍ ومهدوا الطريق للطبقة الثالثة التي برز فيها الكليني والف كتابه الجامع ونال اعجاب العلماء والمحدثين على اختلاف مذاهبهم وطبقاتهم.

ورجح جماعة من المؤلفين الاعلام انه كان على اتصال بسفراء الامام محمد بن الحسن الذين كانوا يتصلون به. كما نص على ذلك المحدث النيسابوري في كتابه منية المراد والسيد علي بن طاووس وغيرهما ، وانطلق هؤلاء من هذه المرحلة إلى ان الكافي قد عرضه سفراء الامام عليه واقر العمل به ، وتمسكوا بما جاء عنه (ع) انه قال : (الكافي كاف لشيعتنا) ، واضافوا إلى ذلك ان بعض الشيعة من البلدان النائية كلف الكليني بتأليف كتاب في الحديث يجمع مختلف المواضيع ، لكونه على اتصال دائم بالسفراء الذين كانوا يتصلون بالامام ، ويروون عنه ، فألفه اجابة لطلبهم في عشرين عاما ، ولا بد وان يكون قد راجعهم فيما اشتبه عليه امره.

١٢٧

ولكن المؤلفات التي تعرضت للكليني وكتابه ليس فيها ما يؤيد هذا الادعاء ونص جماعة من المحدثين وغيرهم على عدم صحة الحديث المروي عن الامام (ع) حول هذا الموضوع ، نظرا لان الرواة له لم تتوفر فيهم شروط الاعتماد على هذه الرواية هذا بالاضافة إلى ان الامام (ع) في الغيبة الصغرى لم يكن الاتصال به ممكنا الا في الضرورات وليس منها تمحيص مرويات الكافي لامكان التوصل إلى معرفة الصحيح من غيره بالرجوع إلى اصول علم الدراية واحوال الرجال ، على ان بعض مرويات الكافي لو عرضت على الامام محمد بن الحسن (ع) لا يمكن ان يقره عليها كما سنتعرض لبعضها في الفصول الاتية ولو افترضنا ان الامام (ع) قال في تقريضه (الكافي كاف لشيعتنا) كما تنص على ذلك الرواية ، لو افترضنا ذلك فلا يستفاد من هذه الجملة انه صحيح بكل محتوياته ، لجواز كونه كافيا لشيعتهم من حيث اشتماله على كمية من الاحاديث في الفروع والاصول صادرة عن الائمة (ع) ومما لا ريب فيه ان المرويات الصحيحة والمقترنة ببعض القرائن المؤكدة لصدورها بين مرويات الكافي سواء في ذلك ما ورد منها لبيان الاحكام وما ورد في الاخلاق والآداب والسنن وغير ذلك هذه الاصناف لو طبقها الشيعة لكانت كفيلة بان تجعلهم في القمة بين اصناف الناس ومهما كان الحال فليست الرواية نصا في ان جميع مروياته صادرة عنهم (ع).

وقد عد المؤلفون في علم الدراية الكليني من الطبقة الرابعة بين المحدثين. فالطبقة الاولى حسب اصطلاحهم يمثلها الطوسى والنجاشي والثانية يتزعمها الشيخ المفيد ، وابن الغضائري ، والثالثة هي طبقة الصدوق ، واحمد بن محمد بن يحيى وامثالهما ، والرابعة طبقة الكليني وهكذا إلى الطبقة السادسة عشر التي تنتهي بالمعاصرين للحسين وابيه أمير المؤمنين (ع) بينما ابتدأ السنة في تسلسل الطبقات من الصحابة ، ثم

١٢٨

كبار التابعين ، وهكذا إلى الطبقة الثانية عشر التي تنتهي بالترمذي ، والنسائي وبعض شيوخه.

وللكليني عدد من المؤلفات في مختلف المواضيع ، منها كتابه في تاريخ القرامطة والرد عليهم ، ومنها في تعبير الرؤيا ، وفي رسائل الائمة (ع) وما قيل فيهم من الشعر ، وفي الرجال وغير ذلك من المواضيع المختلفة بالاضافة إلى الكافي الذى عرف به الكليني اكثر من جميع مؤلفاته.

وقد بلغت احاديثه بعد الاحصاء ستة عشر الف حديث ومائة وتسعين حديثا موزعة على جميع ابوابه ومواضيعه (١).

__________________

(١) انظر روضات الجنات للخونساري ج ٤ ص ٥٥٢ و ٥٥٣.

١٢٩

الكافي بنظر الشيعة

لقد وقف علماء الشيعة من الكافي موقفا يمكن ان يكون بالقياس إلى موقف السنة من صحيح البخاري سليما وبعيدا عن المغالاة والاسراف فلم يتنكروا لحسناته ولم يتجاهلوا ما فيه من السيئات والنقص الذي لا يخلو منه كتاب مهما اتخذ المؤلف الحيطة لاخراجه كما يريد ويحب. ومع انهم لم يغالوا فيه غلو محدثي السنة وفقهائهم في صحيح البخاري ، فلقد وضعه فريق من المحدثين القدامى فوق مستواه واحاطه الاخباريون بهالة من التقديس والاكبار ، ولكن من جاء بعدهم من اعلام الطائفة قضى على تلك الهائلة والفتوا الانظار إلى ما فيه من نقص وعيوب. ومع كل ذلك فلقد عده الكثير من العلماء والمحدثين مجددا بالنسبة إلى من تقدمه من المؤلفين في الحديث ، بالرغم من ان الذين تقدموه من المحدثين والمؤلفين قد تحروا جهدهم لتصفية الاحاديث من المكذوب والمشبوه ، وتشدد القيمون في احاديث المتهمين بالغلو والوقف وغيرهما من المنحرفين عن المذهب الاثنى عشري ، ولكنهم كما اعتقد لم يوفقوا إلى اخراج جامع للمواضيع المختلفة التي اشتمل عليها الكافي ، ولا اظن انهم صنفوا الاحاديث حسب المواضيع ووزعوها على الابواب ، وفي المحل الذي يناسبها كما صنع الكليني ، ولم يجمع احد قبله الاصول والمرويات التي يترجح لديه صدورها عن المعصوم ، ولو من جهة القرائن التي تحيط بها ، حتى ولو كان الراوي لها يعتنق الغلو والوقف ، أو اي مذهب آخر ، كما جمعها هو في كتابه ووضعها في المحل المناسب ، فان الذين باشروا عملية

١٣٠

التصفية من قبله ، كانوا ينظرون إلى الراوي قبل اي شئ ، فإذا وجدوا فيه مغمزا أو انحرافا تركوا مروياته مهما كان حالها ولو احيطت بعشرات القرائن ، بينما درس الكليني الرواية من ناحية السند والمتن والملابسات التي تحيط بها ، واعتبر الوثوق بالصدور مهما كان مصدره شرطا اساسيا للاعتماد على الرواية ، ولذلك احتاج إلى عشرين عاما لانهاء هذه الدراسة التي اعطت هذه النتائج الغنية بالفوائد في مختلف المواضيع.

وقال فيه الشيخ المفيد الذي ادرك شطرا من حياته : ان كتاب الكافي من اجل كتب الشيعة واكثرها فائدة.

وقال المرزا حسين النوري في مستدرك الوسائل بعد ان اورد كلمة الشيخ المفيد : انما كان اكثر فائدة من غيره من حيث انه جامع للاصول والاخلاق والفروع والمواعظ والآداب ، وغير ذلك من المواضيع ، وهو اجل من غيره من حيث الاعتبار والاعتماد ، لانه جمع الاصول الاربعمائة ، التي كانت بتمامها موجودة في عصره ، كما يظهر في ترجمة ابي محمد هرون بن موسى التلعكبري المتوفى سنة ٣٨٥ ، وقد جاء في ترجمته انه روى جميع الاصول والمصنفات ، والف منها ومن غيرها كتابه المسمى (بالجوامع في علوم الدين) (١).

ويؤيد ذلك ما جاء في اسباب تأليف الكافي ، من انه ألفه اجابة لن طلب منه كتابا جمع من جميع فنون الدين ما يكتفي به المتعلم ، ويرجع إليه المسترشد ، وياخذ منه من يريد علم الدين والعمل بالآثار الصحيحة عن الصادقين (ع) ، والسنن القائمة التي عليها العمل ، وبها يؤدي فرض الله عزوجل وسنة نبيه (ص) فاستجاب لطلبهم ، والفه في تلك. المدة

__________________

(١) انظر الكنى والالقاب للشيخ عباس القمي ، ورجال المرزا محمد ص ٣٥٨.

١٣١

الطويلة التي حددها كل من ترجمه وتعرض لتاريخه بعشرين عاما ، فجاء جامعا لما يحتاج إليه المحدث والفقيه والمتكلم والواعد ، والمجادل ، والمتعلم ، والكتاب الذي يحتوي على هذه المواضيع ، لا بد وان يلفت الانظار ، ويصادف تقدير الباحثين من العلماء ، لانه يوفر عليهم عناء البحث عن الروايات ويسد حاجة الفقيه ، والحدث والمتكلم وغيرهم في آن واحد.

هذا بالاضافة إلى ما كان يتمتع به مؤلفه من ثقة غالية ، وشهرة واسعة ، ومكانة في العلم والدين تؤهله لان يحتل المكانة التي تليق به في النفوس. ولان يكون احد المعنيين بالحديث الشريف ، (سيبعث الله لامتي على رأس كل مائة من يجدد لها دينها (١) كما يرى ذلك جماعة من الفريقين السنة والشيعة ، ومع انه نال اعجاب الجميع وتقديرهم ، لم يغال به احد غلو محدثي السنة في البخاري ، ولم يدع احد بأنه صحيح بجميع مروياته لا يقبل المراجعة والمناقشة سوى جماعة من المتقدمين تعرضوا للنقد اللاذع من بعض من تأخر عنهم من الفقهاء والمحدثين ، ولم يقل احد : بان من روى عنه الكليني فقد جاز القنطرة كما قال الكثيرون من محدثي السنة في البخاري ، بل وقف منه بعضهم موقف الناقد لمروياته من ناحية ضعف رجالها ، وارسال بعضها ، وتقطيعها ، وغير ذلك من الطعون ، التي تخفف من حدة الحماس له ، والتعصب لمروياته ، وحتى ان الذين لم يقروا تلك الاتهامات الموجهة إليه ، ووصفوه بانه افيد كتب الحديث واجلها ، وقالوا : بانه لم يصنف مثله ، واخذوا بجميع مروياته ، هؤلاء لم يدعوا بان جميع ما فيه مروي بواسطة العدول في جميع مراتب السند ، والذي يستفاد من نصوصهم انه جامع للمرويات التي تثق النفس بصدورها عن المعصوم من حيث ان مؤلفه بقي زمنا طويلا يبحث وينقب ويقطع المسافات البعيدة من بلد إلى بلد فنى جمعه من الصدور والمجاميع بعد الوثوق بصدور مروياته

__________________

(١) اي يظهره على واقعه ، ويزيح الشبه عن مقاصده واهدافه.

١٣٢

عن الائمة (ع) ولو بواسطة القرائن والامارات الخارجة عن متونها ، ولو لم يكن الراوي مستوفيا للشروط المطلوبة في الرواة.

ويتأكد ذلك عندما نلاحظ ان الصحيح في عرف المتقدمين يختلف اشد الاختلاف عن عرف المتأخرين : ذلك لان الصحة لا تتوقف على عدالة الراوي ، بل يصح وصف الحديث بالصحة لمجرد الوثوق بصدوره ، ولو من حيث وجوده في احد الاصول الاربعمائة. أو في احد الكتب المعروضة على الامام ككتاب عبيد الله الحلبي الذي عرضه على الامام الصادق (ع) واثنى عليه وكتابي يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان المعروضين على الامام العسكري (ع) أو لكونه مطابقا لدليل آخر مقطوع به ونحو ذلك من القرائن المفيدة للاطمئنان بالصدور. ولو لم يكن الرواة كلهم من حيث ذاتهم ممن يصح الاعتماد عليهم.

والمتحصل من ذلك ان اكثر الذين اعتمدوا على الكافي واعتبروا جميع صروياته حجة عليهم فيما بينهم وبين الله سبحانه ، هؤلاء لم يعتمدوا عليها الا من حيث الوثوق والاطمئنان بالكليني الذي اعتمد عليها بعد جهاد طويل استمر عشرين عاما ، بالاضافة إلى ان احتمال تقريض الامام الثا ني عشر (ع) كتلك المرويات كان يراود أذهان الكثيرين ممن تأخروا عنه كما ذكرنا من قبل وان كنا لم نجد مصدرا مقبولا بهذا الاحتمال ولا نستبعد ان يكون الحديث المروي حول هذا الموضوع من موضوعات مقلدة الاخباريين الذين تضاعف حماسهم له بعد تصنيف العلامة الحلي للحديث إلى الاصناف الاربعة ، وكما ذكرنا فان وثوق الكليني بها لم في مصدره بالنسبة إلى جميعها عدالة الرواة بل كان في بعضها من جهة القرائن التي تيسر له الوقوف عليها نظرا لقرب عهده بالائمة (ع) ، ووجود الاصول المختارة في عصره هذا بالاضافة إلى عنصر الاجتهاد الذي يرافق هذه البحوث في الغالب. ويؤيد ذلك ان الكليني نفسه لم يدع ان مرويات

١٣٣

كتابه كلها من الصحيح المتصل سنده بالمعصوم بواسطة العدول ، فانه قال في جواب من سأله ، تأليف كتاب جامع يصح العمل به والاعتماد عليه قال : وقد يسر لي الله تأليف ما سئلت وارجو ان يكون بحيث توخيت. وهذا الكلام منه كالصريح في انه قد بذل جهده في جمعه واتقانه معتمدا على اجتهاده وثقته بتلك المجاميع والاصول الاربعمائة ، التي كانت مرجعا لاكثر المتقدمين عليه ومصدرا لاكثر مرويات كتابه.

ومهما كان الحال فالكافي مع انه كان من اوثق المجاميع في الحديث منذ تأليفه إلى عصر العلامة الحلي واستاذه احمد بن طاووس اكثر من ثلاثة قرون من الزمن مع انه كان بهذه المنزلة عند المتقدمين ، فان جماعة منهم كالمفيد وابن ادريس ، وابن زهرة ، والصدوق لم يثقوا بكل مروياته ووصفوا بعضها بالضعف كغيرها من المرويات التي لم تتوفر فيها شروط الاعتماد على الرواية.

ومن ذلك تبين ان المتقدمين لم يجمعوا على الاعتماد على جميع مروياته جملة وقصيلا ، فان شهادتهم له بانه من اوثق كتب الحديث وافيدها واعتباره مرجعا لهم ، لا تعني ان كل ما فيه حجة شرعية يجوز الاعتماد عليه في الفروع والاصول كما يدعي اكثر الاخباريين.

ويمكن تحديد موقف العلماء والمحدثين من مرويات الكافي بالبيان التالي ، وهو ان تصحيح الكليني لمروياته واعتباره لها حجة فيما بينه وبين ربه ، هل هو شهادة منه بتزكية رواة تلك الاحاديث ، وبوجود قسم منها في الكتب المعتبرة التي عرضت على الائمة (ع) وأقروا العمل بها من اعتبر تصحيحه لا واعتماده عليها من باب الشهادة لا بد وان يعتمد عليها لجواز الاكتفاء بالشاهد الواحد في مقام التزكية وفي الموضوعات كما لو شهد الثقة بأن هذا الكتاب لزيد مثلا وهذا الحديث موجود في الكتاب الفلاني ، أو في المحل الفلاني مثلا.

١٣٤

ويؤيد ذلك ما جاء قي مستدرك الوسائل حيث قال : ان شهادة الكليني على صحة خبر ترجع إلى ان الخبر موجود في الاصول والكتب المعمول بها ، المعلومة الاتنساب إلى اربابها ، والمتصلة طرفه واسانيده إليها وقد اخرجه منها أو تلقاه من الثقاة الذين لا تتوقف معرفتهم على الامور النظرية : لكونهم من مشايخه أو مشايخ مشايخه ، وقرب عصره منهم ، وعدم اشتباههم بغيرهم ، وكلها شهادة حسية مقبولة عند الفقهاء ، فلو شهد عادل بان هذا الكتاب لفلان ، وهذا الكلام موجود في كتاب فلان أو شهد بأن فلانا ثقة ، فهل رأيت أحدا يستشكل في ذلك ، بل عليه مدار الفقه في نقل الآراء والفتاوى والاقوال ، والتزكية والجرح (١) ، فمن اعتبر تصحيح الكليني لمرويات الكافي شهادة منه بتزكية رواتها وبوجود قسم منها في الكتب المعتبرة. بنى على صحتها وجاز له العمل بها في الاحكام وغيرها ، ومن بنى على ان تصحيحه لها. كان من نتيجة فحصه واجتهاده ودراسته لاسناد الحديث ومتونه خلال تلك المدة الطويلة ، من بنى على ذلك لم يفرق بين مرويات الكافي وغيرها من حيث كونها خاضعة للنقد والجرح والتعديل ، لان اجتهاد شخص لا يكون حجة على غيره ، ولابد في مثل ذلك من عرض ذلك الموضوع على الاصول والقواعد الموضوعة لتمييز الصحيح من غيره ، وبالتالي قد ينتهي إلى عين النتيجة ، وقد ينتهي لخلافها ، وفي الحالين يتعين عليه ان يعمل بما أدى إليه اجتهاده. ومن الجائز القريب ان يكون المضعف لبعض مرويات الكافي متجها إلى هذه الملاحظة.

قال السيد في المفاتيح : ان اخبار الكليني بصحة ما دونه في الكافي كما يمكن ان يكون باعتبار علمه بها ، وقطعه بصدورها عن الائمة (ع) فيجوز الاعتماد عليها والحال هذه كسائر اخبار العدول ، كذلك يمكن

__________________

(١) الفائدة الرابعة ص ٥٣٨.

١٣٥

ان يكون باعتبار اجتهاده وظهورها عنده ولو بالدليل الظني ، فلا يجوز اذن الاعتماد عليه ، فان ظن المجتهد لا يكون حجة على مثله ، كما هو الظاهر من الاصحاب ، بل ومن العقلاء ، وحيث لا ترجيح للاحتمال الاول وجب التوقف.

ومهما كان الحال ، فالكتب الاربعة وعلى رأسها الكافي كانت بنظر المتقدمين من الفقهاء والمحدثين إلى اواخر القرن السابع الهجري الذي ظهر فيه العلامة الحلي ، واستاذه احمد بن طاووس ، كانت من اوثق المصادر في الحديث ، ولم يتردد في قبول مروياتها سوى من اشرنا إليهم على ان بعض المحدثين قد فسر كلام المفيد والصدوق ، الذي ، يدل بظاهره على التشكيك ببعض مرويات الكافي ، قد فسر كلامهما بما يرجع إلى انهما يترددان في بعض مروياته إذا تعارضت مع غيرها وكان المعارض لها اقوى سندا واظهر دلالة ، وذلك لا يعني انها من نوع الضعيف ، لان تعارض الصحيح مع الاصح لا يمنع من وصفه بالصحة ، كما لا يمنع من جواز العمل به والاعتماد عليه في غير مورد التعارض مع الاصح منه والشئ الطبيعي ان تتضاءل تلك الثقة التي كانت للكافي على مرور الزمن بسبب بعد المسافة بين الائمة (ع) وبين الطبقات التي توالت مع الزمن ، وبمجئ دور العلامة الحلى انفتح باب التشكيك في تلك المرويات على مصراعيه بعد ان صنف الحديث إلى الاصناف الاربعة ، فتحرر العلماء من تقليد المتقدمين فيما يعود إلى الحديث ، وعرضوا مرويات الكافي وغيره ، على اصول علم الدراية وقواعده ، فما كان منها مستوفيا للشروط المقررة اقروا العمل به والاعتماد عليه ، وردوا ما لم تتوفر فيه الشروط المطلوبة. وعلى هذا الاساس توزعت احاديث الكافي التي بلغت ستة عشر الف حديث ومائة وتسعة وتسعين حديثا على النحو التالي.

الصحيح منها خمسة آلاف واثنان وسبعون حديثا ، والحسن مائة

١٣٦

واربعة واربعون حديثا ، والموثق الف ومائة وثمانية وعشرون حديثا ، والقوي ثلاثمائة وحديثان (١) ، والضعيف تسعة آلاف واربعمائة وخمسة وثمانون حديثا (٢).

ومما تجدر الاشارة إليه ان اتصاف هذا المقدار ، من مرويات الكافي بالضعف لا يعني سقوطها بكاملها عن درجة الاعتبار ، وعدم جواز الاعتماد عليها في امور الدين ، ذلك لان وصف الرواية بالضعف من حيث سندها وبلحاظ ذاتها لا يمنع من قوتها من ناحية ثانية كوجودها في احد الاصول الاربعمائة ، أو في بعض الكتب المعتبرة ، أو موافقتها للكتاب والسنة ، أو لكونها معمولا بها عند العلماء ، وقد نص اكثر الفقهاء ان الرواية الضعيفة إذا اشتهر العمل بها والاعتماد عليها ، تصبح كغيرها من الروايات الصحيحة ، وربما تترجح عليها في مقام التعارض.

وجاء في مقباس الهداية للمامقاني. ان الذي الجأ المتأخرين إلى العدول عن طريقة القدماء ، واضطرهم إلى تصنيف الحديث إلى الاصناف الاربعة ، هو تطاول الازمنة بينهم وبين الطبقة الاولى ، وضياع بعض الاصول المعتمدة التي دونها اصحاب الائمة (ع) والتباس المأخوذ منها بغيرها ، وخفاء القرائن التي اعتمد عليها المتقدمون إلى غير ذلك من الاسباب التي اضطرتهم إلى هذا التصنيف لتمييز الصحيح عن غيره (٣).

وسبب آخر اشرنا إليه من قبل ، ولعله اقرب إلى الواقع من غيره ،

__________________

(١) القوي ما كان سنده كله أو بعضه من غير الاماميين وليس فيه ضعف.

(٢) انظر روضات الجنات إلى محمد باقر الخونساري (حرف الجيم ص ٥٥٣ ، والمستدرك الفائدة الرابعة).

(٣) لم انظر مقباس الهداية الملحق بالمجلد الثالث من تنقيح المقال في علم الرجال.

١٣٧

وهو ان اصحاب الكتب الاربعة قد اعتمدوا على اجتهاداتهم ووثوقهم بتلك المرويات التي دونوها في مجاميعهم كما يبدو ذلك من بعض كلماتهم التي تشير إلى هذا المعنى ، فان قول الكليني : وقد يسر لي الله تأليف ما سألت ، وارجو ان يكون بحيث توخيت ، ظاهر في انه اعتمد على اجتهاداته ودراسته في انتقاء الا حاديث التي دونها في الكافي ، وقد تلقى العلماء تلك المجاميع بالقبول والتقدير نظرا لثقتهم باصحابها في دينهم وعلمهم ، فحسن الظن بالكليني وغيره من مؤلفي الكتب الاربعة. يسر لهذه الكتب ان تحتل تلك المكانة الرفيعة في نفوس العلماء والمحدثين نحوا من ثلاثة قرون تقريبا ، وبلغ الحال ببعض الاخباريين الذين لا يتخطون حرفية النصوص ، ولا يفسحون حتى للعقل ان يتدخل في شئ من امور الدين ، بلغ الحال بهم ان اعتبروها من نوع المقطوع بصدوره عن المعصوم ، واستمروا على تعصبهم لها إلى العصور المتأخرة ، ووجهوا إلى العلامة الحلي واستاذه التهم والشتائم ، واعتبروا تصنيفه للحديث إلى الاصناف الاربعة من نوع البدعة والخروج على طريقة السلف الى الصالح وسيرتهم ، ولا تزال فلولهم إلى اليوم تتمسك بمرويات الكافي وكانها من وحي السماء ، مع العلم بأن العلامة قد خدم السنة والمذهب ، وفضح اساليب الدساسين والمنحرفين الذين ألصقوا بالمرويات الصحيحة آلاف الروايات التي اتخذها اخصام الشيعة سلاحا للهدم والتخريب ، والتشويش على الشيعة وأئمتهم (ع).

هذه الثقة العظيمة بالمحمدين الثلاثة ـ محمد بن يعقوب الكليني ومحمد بن الحسن الطوسي ومحمد بن بابويه ـ وبخاصة الكليني هي التي جعلت للكافي تلك الحصانة عند المتقدمين من فقهاء الامامية ومحدثيهم ، ولما جاء دور العلامة الحلي واستاذه ووجدا بين مرويات الكافي وغيره من كتب إلحديث ما لا يجوز الاعتماد عليه والركون إليه وقفا منها موقف المتحرر من التقليد والتبعية العمياء ، وتابعهما على ذلك

١٣٨

كل من جاء بعدهما من العلماء والمحدثين.

فكان موقفهما من مرويات الكليني اشبه ما يكون بموقف محمد بن احمد بن ادريس الحلي من فتاوى الشيخ الطوسي وآرائه في الفقه ، تلك الآراء التي ظلت اكثر من قرن من الزمن وكأنها من وحى السماء. ولا مصدر لذلك الا انه استطاع ان يفرض نفسه على تلاميذه وعلماء عصره ، بالاضافة إلى شخصيته العلمية وشهرته الواسعة ، ولما ظهر ابن ادريس المتوفى سنة ٥٩٨ هجرية ووقف من آرائه موقف الناقد المتحرر خالفه في كثير من آرائه ككل باحث متحرر لا يهمه الا احقاق الحق من مصادره. فأعاد الثقة إلى النفوس ، وبدأ هو وغيره من العلماء المعاصرين والمتأخرين عنه في تقييم آراء الطوسى ومؤلفاته وارجاعها إلى الاصول والقواعد ، بمد ان سيطرت على عقول العلماء والمفكرين وكادت ان تنسيهم فتح باب الاجتهاد الذي امتاز به فقهاء الشيعة على غيرهم من فقهاء المذاهب الاربعة ، ولذلك شواهد وأمثلة اخرى في تاريخ العلماء والمفكرين يدركها الباص المتتبع في تاريخهم ومؤلفاتهم تؤكدان شخصية العالم وثقته في النفوس تسيطران احيانا على اتباعه وتلاميذه وتستبد في عقولهم وتفكيرهم ، حتى يخيل إليهم ان جميع آرائه ونظرياته فوق الشبهات والاوهام.

١٣٩

الكليني يختصر السند أحيانا

السنة حسب اصطلاح المحدثين هو الرواة الذين ينقلون الحديث بالتسسسل عن مصدره الاول نبيا كان أو اماما ، أو صحابيا أو غير هؤلاء حتى ينتهي إلى الراوي الاخير والكليني يحرص في الكافي كما يبدو ، بعد التتبع على ذكر السند بكامله. وقد يحذف بعضه ، أو اوله اعتمادا على بعض القرائن الدالة عليه. قال المامقاني في خاتمة المجلد الاول من رجاله : وقد يحذف نادرا صدر السند ، ولعله لنقله عن الاصل الذي يروي عنه من غير واسطة ، أو لحوالته على ما ذكره قريبا ، كما لو ذكر رواية بسندها الكامل ، وبنفس السند روى رواية غيرها ، فيحذف من السند حينئذ اعتمادا على ما ذكره اولا ، وقد يختصر السند احيانا ، ويقول عن عدة من اصحابنا عن فلان ، ويعني بالعدة جماعة من مشاهير الرواة نبه عليهم بأسمائهم كي لا يحصل الالتباس.

قال العلامة في خاتمة الخلاصة من كتابه في الرجال : نقلا عن الكليني نفسه ، وكلما ذكرته في كتابي عدة من اصحابنا عن احمد بن محمد بن خالد البرقي ، فهم علي بن ابراهيم ، وعلي بن محمد بن عبد الله ابن اذينه ، واحمد بن عبد الله عن ابيه ، وعلي بن الحسين السعد آبادي ، وكلما ذكرته في كتابي عدة من اصحابنا عن سهل بن زياد فهم علي بن محمد بن علان ، ومحمد بن ابي عبد الله ، ومحمد بن الحسن ، ومحمد ابن عقيل ، واضاف إلى ذلك العلامة وغيره ، ان الكليني إذا قال : عدة

١٤٠