شرح الرضيّ على الكافية

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


المحقق: يوسف حسن عمر
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات مؤسّسة الصادق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٢

بعد القسم جملة جاز اعتباره والغاؤه ، نحو : أنا والله لآتينّك ، وأنا والله آتيك ، وإن جاء بعده مفرد وجب إلغاؤه نحو : أنا والله قائم ؛

وإن تأخر القسم عن الكلام وجب إلغاؤه نحو : أنا قائم والله ، وإن أتيتني آتك والله ؛

هذا ، وكل موضع قلنا إنّ «إن» وما تضمّن معناها من الأسماء فيه ملغاة ، أي لا جواب لها ظاهرا ، فالأولى أن لا تعمل ظاهرا (١) في الشرط أيضا ، كما ذكرناه في الجوازم ، فيقلّ نحو : أجيئك أن تجئني ، وو الله إن تجئني لأكرمنك ؛

وقد جاء ذلك في الشعر ، كقوله :

٩٢٢ ـ فإن يك من جنّ لأبرح طارقا

وإن يك إنسا ، ماكها الإنس تفعل (٢)

وقوله :

٩٢٣ ـ فإن تبتئس بالشنفري أمّ قسطل

لما اغتبطت بالشنفري قبل أطول (٣)

وقوله :

لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم

ليعلم ربّي أنّ بيتي واسع (٤) ـ ٧٩٨

وقوله :

__________________

(١) يعني بأن يكون فعل الشرط ماضيا ، أو مضارعا منفيا بلم فلا يكون لها أثر ظاهر فيه.

(٢) من قصيدة الشنفري الأزدي ، المعروفة بلامية العرب ، وهو في هذا البيت يتحدث عن أثر غزوة غزاها ليلا وأصبح الناس يتحدثون عنها فقال بعضهم : إن كان ما حدث في هذه الليلة من فعل الجنّ فما أبرحه وما أعظمه طارقا ، وإن كان من الأنس ، فما تفعل الأنس مثل هذا الفعل الجريء العظيم بهذه السرعة ؛

(٣) وهذا البيت أيضا من لامية العرب المذكورة قبل ذلك ، وهو من جزء آخر في القصيدة يتحدث فيه عن نفسه وأنه إذا مات فقدته المعارك والحروب ، وأم قسطل كنية الحرب ، والقسطل الغبار لأن الحرب تثير الغبار ، يقول : إذا حزنت الحرب وابتأست لموتي ، فطالما اغتبطت وان فترة اغتباطها بي أكثر من فترة حزنها عليّ ؛

(٤) تقدم ذكره في ص ٣١٢ من هذا الجزء ؛

٤٦١

٩٢٤ ـ إمّا ترينا حفاة لا نعال لنا

إنّا كذلك ما نحفى وننتعل (١)

فقول المصنف : لزمه الماضي لفظا أو معنى ليس على الإطلاق ، والأولى أن يقول : الأكثر كونه ماضيا لفظا أو معنى ، ويعني بالمعنى ، نحو : إن لم تزرني لأزورنّك ؛

وقد تبيّن ، أيضا ، أن قوله : وكان الجواب للقسم لفظا ، ليس بحتم ، بل قد يجيء الجواب للشرط ، كقوله :

لئن منيت بنا عن غبّ معركة ... البيت (٢) ـ ٩١٩

ثم اعلم أنه لو وقع جواب القسم المتقدم على «ان» الشرطية ، وما تضمّن معناها : فعلا ماضيا ، نحو : لفعل ، وما فعل ، وإن فعل (٣) ، فالمراد الاستقبال ، لكونه سادّا مسدّ جواب الشرط ، قال الله تعالى : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ، ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ)(٤) و : (لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ)(٥) و : (لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً) إلى قوله : (لَظَلُّوا)(٦) ،

قوله : «وتقدير القسم كاللفظ به» ، أي القسم المقدر كالملفوظ به ، سواء كان هناك لام موطئة ، كما في قوله : (لَئِنْ أُخْرِجُوا ..)(٧) ، أو لم تكن ، كما في قوله :

__________________

(١) من معلقة الأعشى ميمون بن قيس ، التي أولها :

ودع هريرة ان الركب مرتحل

وهل تطيق وداعا أيها الرجل

ومنها شواهد كثيرة في هذا الشرح ؛ وقوله إمّا ترينا خطاب لامرأة يقول إذا كنت تشاهدين أننا مبتذلين ، فهذا شأننا وتلك طريقة حياتنا نفتقر حينا ونتنعم حينا آخر ؛

(٢) الشاهد المتقدم قبل قليل من معلقة الأعشى ؛

(٣) على اعتبار «أن» نافية ؛

(٤) الآية ١٤٥ سورة البقرة ؛

(٥) الآية ٤١ سورة فاطر ؛

(٦) الآية ٥١ سورة الروم ؛

(٧) الآية المتقدمة قريبا في سورة الحشر ؛

٤٦٢

(وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)(١) ، وقال بعضهم ان قوله : (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) جواب الشرط ، والفاء مقدرة ، ولم يقدّر قسما ؛

وهو ضعيف ، لأن ذلك إنما يكون لضرورة الشعر ، كقوله :

من يفعل الحسنات الله يشكرها ... (٢) ـ ٦٧٨

[تقدم الهمزة على أدوات الشرط]

وأمّا إذا تقدّمت همزة الاستفهام على كلمة الشرط ، سواء كانت تلك الكلمة اسما جازما ، كمن ، وما ، وأين ، ونحوها ، أو حرفا كإن ، ولو ؛ فالجزاء لتلك الكلمة ، والاستفهام داخل على الجملتين : الشرط والجزاء ، لكونهما كجملة واحدة ، نحو : أمن يضربك تضربه ، بجزم تضرب ، وكذا : ألو ضربك لضربته ، وكذا : أئن تأتني آتك ، بالجزم ؛

ويونس يرفع الجزاء ، لاعتماده على الهمزة ، ولا يفعل ذلك في غير الهمزة من كلم الاستفهام ، بل يقول : من إن أضربه يضربني ، بالجزم لا غير ، اتفاقا ؛ لأن الهمزة هي الأصل في باب الاستفهام ؛

ويقول في الهمزة : أئن أتيتني آتيك ، بتقدير : أآتيك إن أتيتني ، وكذا : أمن تزره يكرمك ، بالرفع ؛

والحق هو الأول ، أعني مذهب سيبويه (٣) ، لأن كلمات الشرط ، إنما تلغى إذا تقدّم

__________________

(١) آية الأنعام المتقدمة قبل قليل ؛

(٢) تقدم في هذا الجزء ص ٩٧ ؛

(٣) انظر سيبويه ج ١ ص ٤٤٤ ؛

٤٦٣

عليها ما يستحق الجواب ، على ما مضى ، وههنا ليس كذلك ، فالأولى أن يجعل الجواب للشرط ، ويجعل الاستفهام داخلا على الشرط والجزاء معا ، كدخول الموصول عليهما معا نحو : جاءني الذي إن تأته يشكرك ، بجزم يشكرك ؛

والدليل عليه قوله تعالى : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ)(١) ، والفاء في «فهم» لجواب الشرط ، وفي «أفإن» للسببيّة ، ولو كان التقدير : أفهم الخالدون ، لم يقل : فإن متّ ، بل كان يقول : أئن متّ فهم الخالدون ، أي : أفهم الخالدون إن مت ؛ والأصل عدم الحكم بزيادة الفاء ؛

وأمّا الهمزة الداخلة على «إذا» فهي في الحقيقة داخلة على ما هو في موضع الجزاء ، لأنه ليس بجزاء ، كما مضى في الظروف المبنية (٢) ، بل هو موضوع موضع الجزاء لغرض ذكرته هناك ، فليست «إذا» ، إذن ، مع جملتيها ، كإن مع جملتيها ، بل مرتبة جزائها التقدم ، من حيث المعنى ، على «إذا» لأنه عاملها ، كما تبيّن في الموضع المذكور ، فالاستفهام داخل في الحقيقة عليه ،

فمن ثمّ لم تأت الفاء في قوله تعالى : (.. أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً)(٣) ، لأن التقدير : أئنا لفي خلق جديد إذا متنا ،

ولهذا كثيرا ما يكرّر الاستفهام في «إنا» نحو قوله : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ)(٤) ، لطول الكلام وبعد العهد بالاستفهام حتى يعلم أن حقّ الاستفهام أن يدخل على ما هو في موضع الجواب ، كما كرر قوله : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) بعد قوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ ..)(٥) لما طال الكلام ، والفاء في (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) زائدة ،

__________________

(١) الآية ٣٤ سورة الأنبياء ؛

(٢) في الجزء الثالث من هذا الشرح ؛

(٣) الآية ٤٩ سورة الإسراء ؛

(٤) الآية ٥٣ سورة الصافات ؛

(٥) الآية ١٨٨ سورة آل عمران ، وتكررت كثيرا ؛

٤٦٤

والعامل في «إذا» قوله (لَمَدِينُونَ) مع أنّ في أوله همزة الاستفهام ، و «إنّ» ، ولا يعمل في غير هذا الموضع ما بعدهما فيما قبلهما ، وذلك للغرض المذكور فيما تقدم ، فهو مثل قولك : أمّا يوم الجمعة فإن زيدا قائم ؛ انتصاب «يوم» بقائم ، على الصحيح ، على ما يجيء مع كونه خبرا لإنّ ؛ لغرض اذكره هناك (١) ؛

[دخول الشرط على الشرط]

ثم اعلم أن الشرط إذا دخل على شرط ، فإن قصدت أن يكون الشرط الثاني مع جزائه ، جزاء للأول ، فلا بدّ من الفاء في الأداة الثانية ، لما ذكرنا في الجوازم عند ذكر مواقع دخول الفاء في الجزاء ، تقول : إن دخلت الدار فإن سلّمت فلك كذا ، وإن سألت فإن أعطيتك فعليّ كذا ، لأن الإعطاء بعد السؤال ؛

وإن قصدت إلغاء أداة الشرط الثاني ، لتخلّلها بين أجزاء الكلام ، الذي هو جزاؤها معنى ، أعني الشرط الأول مع الجزاء الأخير ، فلا يكون في أداة الشرط الثاني فاء ، كقوله :

٩٢٥ ـ فإن عثرت بعدها ، إن وألت

رجلي من هاتا فقولا : لا لعا (٢)

فهو بمنزلة : والله إن أتيتني لآتينّك ، فثاني الشرطين لفظا : أولهما معنى ؛

ومثله : إن تبت إن تذنب : ترحم ، أي : إن أذنبت فإن تبت ترحم ، وكذا إن كان أكثر من شرطين ، نحو : إن سألت إن لقيتني إن دخلت الدار : أعطيتك ، أي : إن دخلت الدار فإن لقيتني فإن سألتني أعطيتك ، فقولك فإن سألتني مع الجزاء : جواب :

__________________

(١) يأتي تفصيل ذلك في الكلام على «أما» في الفصل الآتي ؛

(٢) هذا من مقصورة ابن دريد المشهورة ، ولم يذكره الشارح للاستشهاد ، وإن كان ابن دريد من أئمة اللغة المتقدمين ، وقد يكون من رأيه صحة الاستشهاد بقوله ، كما يفعل ذلك مع المتنبي وأبي تمام وأمثالهم ،

٤٦٥

فإن لقيتني ، وقولك : فإن لقيتني مع جزائه جواب : إن دخلت ؛ ... وعلى هذا فقس ، إن كان أكثر (١) ؛

[أمّا]

[بيان معناها ، وتفصيل أحكامها]

[قال ابن الحاجب :]

«وأمّا : للتفصيل ، والتزم حذف فعلها ، وعوّض بينها وبين» «فائها : جزء مما في حيّزها مطلقا ، مثل : أمّا يوم الجمعة» «فزيد منطلق ، وقيل : هو معمول المحذوف مطلقا ،» «وقيل : إن كان جائز التقديم ، فمن الأول ، وإلّا فمن» «الثاني» ؛

[قال الرضي :]

اعلم أنّ «أمّا» موضوعة لمعنيين : لتفصيل مجمل ، نحو قولك : هؤلاء فضلاء ، أمّا زيد ففقيه ، وأمّا عمرو فمتكلم ، وأمّا بشر فكذا ؛ إلى آخر ما تقصد ؛ ولاستلزام (٢) شيء لشيء ، أي أن ما بعدها شيء يلزمه حكم من الأحكام ، ومن ثمّ قيل إن فيها معنى الشرط ، لأن معنى الشرط ، أيضا ، هو استلزام شيء لشيء ، أي استلزم الشرط للجزاء ، كما ذكرنا في الظروف المبنيّة (٣) ، والمعنى الثاني ، أي الاستلزام : لازم لها في جميع مواقع

__________________

(١) يبرز العلامة الرضي بين الحين والحين مقدرته العظيمة على تطبيق القواعد ، وليس هذا بأكثر مما ذكره في آخر باب المبتدأ والخبر ، من الجزء الأول ؛

(٢) معطوف على قوله : لتفصيل مجمل ؛

(٣) في الجزء الثالث من هذا الشرح ؛

٤٦٦

استعمالها ، بخلاف معنى التفصيل فإنها قد تتجرد عنه ؛ وقد التزم بعضهم هذا المعنى فيها ، أيضا في جميع مواقعها ، وحمل عليه قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) بعد قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ)(١) ، على معنى : «وأما الراسخون» ؛

وهذا ، وإن كان محتملا في هذا المقام (٢) ، إلّا أن جواز السكوت على مثل قولك : أمّا زيد فقائم ، يدفع دعوى لزوم التفصيل فيها ؛

وأما بيان معنى الشرط فيها ، فبأن نقول : هي حرف بمعنى «إن» ، وجب حذف شرطها لكثرة استعمالها في الكلام ، ولكونها في الأصل موضوعة للتفصيل وهو مقتض تكررها ، كما ذكرنا من قولنا : أما زيد ففقيه ، وأما عمرو فمتكلم ... فيؤدّي إلى الاستثقال ، لهذا أيضا ؛ وأيضا ، حذف ذلك وجوبا لغرض معنوي ، وذلك أنهم أرادوا أن يقوم ما هو الملزوم حقيقة في قصد المتكلم مقام الشرط الذي يكون هو الملزوم في جميع الكلام ؛

تفسير ذلك : أن أصل : أمّا زيد فقائم : أمّا يكن من شيء فزيد قائم يعني : إن يكن ، أي إن يقع في الدنيا شيء ، يقع قيام زيد ، فهذا جزم بوقوع قيامه وقطع به ، لأنه جعل وقوع قيامه وحصوله لازما لوقوع شيء في الدنيا ، وما دامت الدنيا باقية ، فلا بدّ من حصول شيء فيها ، ثم ، لما كان الغرض الكليّ من هذه الملازمة المذكورة بين الشرط والجزاء : لزوم القيام لزيد ، حذف الملزوم الذي هو الشرط ، أي : «يكن من شيء» ، وأقيم ملزوم القيام وهو زيد ، مقام ذلك الملزوم ، وبقيت الفاء بين المبتدأ والخبر ، لأن فاء السببية : ما بعدها لازم لما قبلها ، فحصل غرضك الكليّ ، وهو لزوم القيام لزيد ، فلهذا الغرض وتحصيله جاز وقوع الفاء في غير موقعها ؛

فقد تبيّن أنه حصل لهم من حذف الشرط وإقامة جزء الجزاء موقعه ، شيئان مقصودان مهمّان : أحدهما تخفيف الكلام بحذف الشرط الكثير الاستعمال ، والثاني قيام ما هو

__________________

(١) من الآية ٧ في سورة آل عمران ؛

(٢) أي في الآية المذكورة وما أشبهها ؛

٤٦٧

الملزوم حقيقة في قصد المتكلم مقام الملزوم في كلامهم ، أعني الشرط ، وحصل ، أيضا من قيام جزء الجزاء موقع الشرط ما هو المتعارف عندهم من شغل حيّز واجب (١) الحذف بشيء آخر ، ألا ترى أن حذف خبر المبتدأ بعد «لولا» ، وبعد القسم ، لم يحذف وجوبا إلا مع سدّ جواب «لولا» وجواب القسم مسدّه ؛ وحصل أيضا ، بقاء الفاء متوسطة للكلام كما هو حقها ، ولو لم يتقدم جزء الجزاء لوقعت فاء السببية في أول الكلام ؛

وكذا ، يتقدم على الفاء من أجزاء الجزاء : المفعول به ، أو الظرف ، نحو : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ)(٢) ، وأمّا يوم الجمعة فأنا ذاهب ، إذا قصدت أنهما ملزومان لحكم ؛ والمعنى أن عدم القهر ينبغي أن يكون لازما لليتيم ، وذهابي : لازما (٣) ليوم الجمعة ، وكذا غير ذلك من معمولات الخبر كالحال نحو : أمّا مجرّدا فإني ضاربك ، والمفعول المطلق نحو : أمّا ضرب الأمير فإني ضاربك ، والمفعول له ، نحو أمّا تأديبا فأنا ضاربك ؛ فلا يستنكر عمل ما بعد فاء السببية فيما قبلها ، وإن كان ذلك ممتنعا في غير هذا الموضع ، لأن تقديم المعمولات المذكورة ، لأجل الأغراض المهمّة المذكورة ؛

ولا تقول ، مثلا : إن جئتني ، زيدا فأنا ضارب ، على أن زيدا مفعول ضارب ، إذ لم يحصل بالتقديم شيء من تلك الأغراض ؛

ثم إنه يجوز التقديم للأغراض المذكورة وإن كان هناك مانع من التقديم غير الفاء ، نحو : أما يوم الجمعة فإنّ زيدا سائر وكذا نحو : أمّا زيدا فما أضرب ؛

ولا تقدّم من أجزاء الجملة شيئين فصاعدا ، لأنك لا تتجاوز قدر الضرورة ، فلا تقول : أما زيد ، طعامك فلا يأكل ؛

وقد تقع كلمة الشرط ، مع الشرط ، من جملة أجزاء الجزاء ، مقام الشرط ، كقوله

__________________

(١) أي حيّز الشيء الواجب الحذف ؛

(٢) الآية ٩ سورة الضحى ؛

(٣) تقديره : وأن يكون ذهابي لازما ؛

٤٦٨

تعالى : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ، فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ)(١) أي : أمّا يكن شيء ، فإن كان المقرّبين فله روح وريحان ، فقوله : روح ، جواب «أمّا» ، استغنى به عن جواب؟؟؟ ؛ والدليل على أنها ليست جواب «ان» : عدم جواز : أمّا إن جئتني أكرمك ،؟؟؟ وجوب أمّا إن جئتني فاكرمك ، مع أنك تجوّز إن ضربتني أكرمك بالجزم ، أكثر من : إن ضربتني فأكرمك ، قال تعالى : (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ)(٢) ، أي : أمّا يكن من شيء ، فإذا ما ابتلاه يقول ،

وإنما وجبت الفاء في جواب «أمّا» ، ولم يجز الجزم وإن كان فعلا (٣) مضارعا ، فلم يجز : أمّا زيد يقم : لأنه لما وجب حذف شرطها فلم تعمل فيه ، قبح أن تعمل في الجزاء الذي هو أبعد منها ، من الشرط ، ألا ترى أنه إذا حذف الجزاء في نحو : آتيك إن أتيتني ، فالأصل ألّا تعمل الأداة في الشرط (٤) ، فالجزاء ، بعدم الانجزام عند حذف الشرط أولى ،

وأمّا قولهم : افعل وإلّا أضربك (٥) ، فإنما انجزم الجزاء لعدم لزوم حذف الشرط ههنا ؛

و «أمّا» : بمعنى «إن» ، كما ذكرنا ، وأمّا تفسير سيبويه (٦) لقولهم : أمّا زيد فقائم ، بمهما يكن من شيء فزيد قائم ، فليس لأن «أما» «بمعنى» «مهما» ؛ وكيف ، وهذه حرف ، و «مهما» اسم ؛ بل قصده إلى المعنى البحت ، لأن معنى مهما يكن من شيء فزيد قائم : إن كان شيء فزيد قائم ، أي : هو قائم البتّة ؛

ويجوز أن يكون «أمّا» عند الكوفيين : «إن» الشرطية ضمت إليها «ما» عند حذف شرطها ، على ما بيّنت من مذهبهم في : أمّا أنت منطلقا ، انطلقت (٧)

__________________

(١) الآيتان ٨٨ ، ٨٩ في سورة الواقعة ؛

(٢) الآية ١٦ سورة الفجر ؛

(٣) يعني وإن كان جوابها فعلا مضارعا ؛

(٤) لأن الأصل أن يكون شرطها حينئذ ، ماضيا أو مضارعا منفيا بلم ؛

(٥) أي بجزم الجواب مع أن الشرط محذوف ؛

(٦) قال سيبويه : وأما «أمّا» ففيها معنى الجزاء كأنه يقول عبد الله مهما يكن من أمره فهو منطلق ج ٢ ص ٣١٢ ؛

(٧) في الجزء الثاني ، باب خبر كان وأخواتها ؛

٤٦٩

ولا تحذف الفاء في جواب «أمّا» ، إلا لضرورة الشعر ، نحو قوله :

٩٢٦ ـ فأمّا الصدور ، لا صدور لجعفر

ولكن أعجازا شديدا ضريرها (١)

أو مع قول محذوف يدل عليه محكيّه ، كقوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ، أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي)(٢) ، أي فيقال لهم : أفلم تكن ؛

ولا يقع بين «أمّا» وفائها ، جملة تامة مستقلة ، نحو : أما زيد قائم ، فعمرو كذا ؛ لأن الواقع بينهما ، كما مضى ، جزء الجزاء ؛ المقصود كونه ملزوما للحكم الذي تضمنه ما بعد الفاء ، فلا يكون جملة تامة مستقلة ؛

واعلم أنه يأتي بعد «أمّا» ، ما يتكرّر ذكره بعد فائها ، وذلك إمّا مصدر مكرر ضمنا بأن يذكر بعد الفاء ما اشتق من ذلك المصدر ، نحو : أمّا سمنا ، فسمين ، وأمّا علما فعالم ؛ وإمّا صفة تكرر لفظها بعد الفاء ، نحو قولك : أمّا صديقا مصافيا فليس بصديق ، وأما عالما فعالم ونحو ذلك ، وإمّا غير ذلك نحو : أمّا البصرة فلا بصرة لك ، وأمّا أبوك فلا أبا لك (٣) ، وأمّا العبيد فذو عبيد ، وأما زيد فقد قام زيد ؛

فالمنكّر من المصدر والوصف ، يجب عند الحجازيين ، نصبهما (٤) ، ويختار ذلك بنو تميم ، لا إلى حدّ الوجوب ؛ والمعرّف من المصدر ، يجب رفعه عند بني تميم ، على ما يعطيه ظاهر لفظ سيبويه (٥) ، والأولى أنهم يجيزون الرفع والنصب فيه ، كما يجيء ؛ وأمّا الحجازيون

__________________

(١) قائل هذا البيت من قبيلة تسمى بالضباب وجعفر في البيت الشاهد اسم قبيلة أخرى ، والقبيلتان تتصلان في النسب وقال البغدادي ان هذا الشاعر يهجو قبيلة جعفر بأنها لا صدور لها وفسّر الصدور بكبار القوم وفرسانهم ، وفسّر الاعجاز بالنساء وضبط : ضريرها بالضاد المعجمة وفسّرها بالضرر وقال ان المعنى : هؤلاء القوم لا يستطيع رجالهم فعل شيء ، ولكن نساءهم شديدات الضرر ؛

(٢) الآية ٣١ سورة الجاثية ؛

(٣) هكذا مثل سيبويه في ج ١ ص ١٩٥ ؛

(٤) التثنية باعتبار أن المنكر قد بيّن باثنين هما المصدر والوصف ؛

(٥) انظر سيبويه ج ١ ص ١٩٥ وما بعدها ؛

٤٧٠

فإنهم يجيزون فيه الرفع والنصب ؛ والمعرّف من الوصف ، مرفوع عند الجميع بلا خلاف ؛

وأمّا غير المصدر والوصف ، فمرفوع عند الجميع معرّفا كان أو منكّرا إلا ما سيجيء ؛

فالرفع في جميع ما يجوز فيه الرفع من ذلك ، على الابتداء عند الفريقين ، وأمّا النصب ، فإن سيبويه (١) ذكر أن ذلك ، في المصدر ، معرّفا كان أو منكرا ، على أنه مفعول له عند الحجازيين ، فقال شرّاح كلامه : وذلك لأنه رآهم ينصبون المعرفة والنكرة فلا يصلح للحال فيبقى مفعولا له ، فمعنى ، أمّا سمنا فسمين : مهما يذكر زيد لأجل السّمن فهو سمين ، وكذا المعرّف نحو : أمّا العلم فعالم ، أي : مهما يذكر زيد لأجل العلم فهو عالم ،

قال سيبويه : ونصب المنكر عند بني تميم على الحال ، قال : لأنهم لمّا لم يجيزوا في معرّف المصدر إلا الرفع ، علمنا أن نصب المنكر على الحال ، والعامل فيه إمّا محذوف قبله ، كما تقول في أمّا علما فعالم : مهما تذكر زيدا عالما فهو عالم ، أو المذكور بعده ، أي : عالم ، في مثالنا ، فيكون حالا مؤكدة ،

قال سيبويه : أمّا الرفع في المصدر فعلى أنه مبتدأ ، والعائد إليه محذوف ، فمعنى أمّا العلم فعالم ، أي : فعالم به ، كقوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً)(٢) أي : لا تجزى فيه ؛

أقول : والدليل على أنه يجوز عند بني تميم نصب معرّف المصدر (٣) : أنهم جوّزوا ، على ما حكى سيبويه عنهم ، أمّا العلم فعالم بزيد ، أي فهو عالم بزيد العلم ، فكذا ينبغي أن يجوز عندهم : أمّا الضرب فضارب ، أي : فأنا ضارب الناس ، فيكون نصب المصدر المعرّف ، على أنه مفعول مطلق لما بعد الفاء ؛

__________________

(١) في الموضع المذكور قبل ذلك ؛

(٢) الآية ٢٨ سورة البقرة ، ومثلها الآية ١٢٢ ، والاختلاف في بقية الآية ؛ في كل منهما ؛

(٣) أي المصدر المعرّف ؛

٤٧١

وأمّا نصب الوصف المنكّر ، فعلى الحال عند الجميع ؛ والعامل فيه أحد الشيئين المذكورين في المصدر الواقع حالا عند بني تميم ؛

وأقول : كون المصدر المنصوب مفعولا له عند الحجازيين ، لا دليل عليه ، ولو كان كذا لجاز : أمّا للسّمن فسمين ، وأما للعلم فعالم ؛

والأولى أن يقال : المنصوب عند بني تميم والحجازيين في الصفة على أنه حال مما بعد الفاء ، وفي المصدر المعرّف ، على أنه مفعول مطلق لما بعد الفاء ؛ وأمّا المرفوع فعلى أنه مبتدأ ، ما بعد الفاء خبره ، بلا تقدير ضمير ، كل ذلك عند كلا الفريقين ؛

وكشف القناع عنه أن نقول :

إن مثل هذا الكلام إنما يقال إذا ادّعى شخص ثبوت الأشياء المذكورة أو يدّعى له ذلك ، فيسلّم السامع بعض تلك الدعاوى أو يدفع ، كما تقول ، مثلا : أنا سمين وأنا عالم ، فيقول السامع : أمّا سمنا فلست بسمين ، وأما علما فعالم ؛ فهذا حال ، لأن المعنى : أمّا إذا كنت سمينا ، وادّعيت ذلك فلست بسمين ، وأمّا إذا كنت عالما ، أي أبديت من نفسك العلم وتزيّنت به وادّعيت ذلك ، فأنت في الحقيقة كذلك ، كما يقال : إذا كنت مؤمنا فكن مؤمنا ، وإذا كنت عالما فأنا عالم مثلك ، وإذا كنت في أمر فكن فيه ، ومنه قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا)(١) ، على أحسن التأويلات (٢) ، أي : يا أيها المدّعون للإيمان : آمنوا حقيقة ، فالحال ، على هذا ، ممّا بعد الفاء ، والتقدير : إن يكن شيء فأنت عالم عالما أي : أنت عالم حقيقة ، حين كنت عالما صورة ، وفي زيّ العلماء ؛

والمصدر المنكر بمعنى الوصف ، حال أيضا ، على هذا الوجه ، أو نجعله مفعولا مطلقا ، على أن معنى ، أمّا سمنا فسمين : إن يكن شيء فهو سمين سمنا ، وكذا في نحو : أمّا سمنا فلا سمن ، أي : أمّا يكن شيء فلا سمن فيه سمنا ؛

__________________

(١) من الآية ١٣٦ سورة النساء ؛

(٢) ومن هذه التأويلات أن المعنى : استمروا واثبتوا ..

٤٧٢

وأمّا المصدر المعرّف ، فمفعول مطلق ، لا غير ، مما بعد الفاء ، فمعنى ، أمّا العلم فعالم : أمّا يكن شيء فزيد عالم العلم ؛

وأمّا الكلام على أنه كيف يعمل ما بعد الفاء فيما قبلها في نحو : أما سمنا فما أنت بسمين ، أو فأنت سمين ، فقد مرّ أنه للغرض المذكور ؛

وأمّا الرفع نحو : أما السّمن فسمين وأما العلم فعالم ، فإنما جاز ذلك لتضمن الخبر معنى المبتدأ لأن التقدير : أما السّمن فأنت صاحبه ، وسمين ، وعالم ، في مثله ، خبر مبتدأ محذوف ، أي : أنت سمين ، وزيد عالم ، ومعنى سمين وعالم : ذو سمن وذو علم ، فهو كالظاهر القائم مقام المضمر ، نحو :

لا أرى الموت يسبق الموت شيء

نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا (١) ـ ٦٠

وكذا حال الرفع في غير المصدر ، نحو : أمّا العبيد فذو عبيد ، أي أنت صاحبهم ولم تقل : فذوهم ، لأن «ذو» لا يضاف إلى مضمر ؛

وكذا الوصف المرفوع ، نحو : أمّا العلم فعالم ، أي : فأنت عالم أي : فأنت هو ، وأمّا نحو : أما العلم فلا علم ، وأمّا العالم فلا عالم ، فاستغراق : لا علم ، ولا عالم ، كالضمير الراجع إلى المبتدأ ، وقولك : أما العلم ، فلك علم ، أي لك شيء منه ، وأما العالم فلست بعالم أي : لست به ؛

وإنما اكتفوا ، مطردا ، في مثل هذا الخبر ، السادّ مسدّ المضمر ، وإن لم يطرد ذلك في غيره ، على الأصح ، كما مضى في باب المبتدأ ، نحو : زيد ضرب زيد ، لأنهم لما غيّروا المبتدأ والخبر ههنا عن حالهما بتوسط الفاء بينهما فكأنهما ليسا بمبتدأ وخبر ؛

وأمّا غير المصدر والصفة ، نحو : أما العبيد فذو عبيد ، فالوجه فيه الرفع في جميع اللغات ، معرّفا كان أو ، لا ؛

__________________

(١) تقدم ذكره في الجزء الأول في باب المبتدأ والخبر ؛

٤٧٣

وروى يونس عن بعض العرب نصبه ، قال سيبويه (١) : هي خبيثة قليلة ، قال ، ومع ذلك ، لا يجوز هذا النصب الضعيف في المعرف ، إلّا إذا كان غير معيّن ، ليكون في موضع الحال ، كما في : الجمّاء الغفير ، وأمّا إذا أردت بالعبيد عبيدا معيّنة ، فلا يجوز فيه إلا الرفع ، كما في قولك : أما البصرة فلا بصرة لك ، وأمّا أبوك فلا أبا لك ؛

أقول : أما الحمل على الحال في مثله فضعيف ، ولا معنى له ، بل هو على أنه مفعول به لما بعد الفاء ، لأن معنى ذو عبيد : أي يملكهم ، وذلك ، كما روى الكسائي : أمّا قريشا فأنا أفضلهم ، أي أغلبهم في الفضل ؛

وقولهم : أمّا أن يكون عالما فهو عالم ، «أن» فيه مبتدأ ، أي : أمّا كونه عالما فحاصل ، والخبر مدلول ما بعد الفاء ، وكذا قولهم : أما أن لا يكون عالما فهو عالم ، أي : أما عدم كونه عالما فليس بحاصل ؛

وقال سيبويه (٢) : «لا» في : أن لا يكون ، زائدة ، كما في قوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ)(٣) ؛

وفي الصور التي ذكرتها خبط كثير للنحاة ، وهذا الذي ذكرته أقرب عندي ؛

وقد تحذف «أمّا» لكثرة الاستعمال نحو قوله تعالى : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)(٤) ، و : (هذا ، فَلْيَذُوقُوهُ)(٥) ، و : (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا)(٦) وإنما يطرد ذلك ، إذا كان ما بعد الفاء أمرا أو نهيا ، وما قبلها منصوب به أو بمفسّر به ، فلا يقال :

__________________

(١) سيبويه ج ١ ص ١٩٥ ؛

(٢) الموضع السابق ذكره ؛

(٣) الآية ٢٩ سورة الحديد.

(٤) الآيات ٣ ، ٤ ، ٥ في سورة المدثّر ؛

(٥) الآية ٥٧ سورة ص ؛

(٦) الآية ٥٨ سورة يونس ؛

٤٧٤

زيدا فضربت ، ولا زيدا فضربته ، بتقدير «أمّا» ، وأما قولك : زيد فوجد ، فالفاء فيه زائدة ؛ وقوله :

وقائلة خولان فانكح فتاتهم ... (١) ـ ٧٦

قد ذكرنا في باب المبتدأ ، أنّ مثله على كلامين عند سيبويه ، وعلى زيادة الفاء عند الأخفش (٢) ؛

وإنما جاز تقدير «أمّا» بالقيد المذكور ، لأن الأمر ، لإلزام الفعل لفاعله ، والنهي لإلزام ترك الفعل لفاعله ، فناسبا إلزام الفعل أو تركه للمفعول وذلك بأن يقدّر «أمّا» قبل المنصوب ، وتدخل فاؤها على الأمر والنهي ، فإن ما قبل فاء «أمّا» ملزوم لما بعدها ، كما ذكرنا ؛

وأمّا قوله تعالى : (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ)(٣) ، وقوله : (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا ..)(٤) فلإجراء الظرف مجرى كلمة الشرط ، كما ذكر سيبويه في نحو قولهم : زيد حين لقيته فأنا أكرمه ، على ما مرّ في الجوازم ؛ وذلك في «إذ» مطرد ، على ما مرّ في الظروف المبنيّة ؛

ويجوز أن يكون قوله : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ)(٥) ، وقوله : (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ)(٦) ، من باب : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)(٧) أي : ممّا أضمر فيه «أمّا» ؛

وإنما جاز إعمال المستقبل الذي هو «فَسَيَقُولُونَ» و (فَأْوُوا) ، و : «فَأَقِيمُوا» : في الظروف الماضية التي هي : إذ لم يهتدوا ، و : (إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ) : (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) ، وإن

__________________

(١) تقدم في الجزء الأول ، باب المبتدأ والخبر

(٢) فيكون ما بعدها خبرا عن خولان ؛

(٣) الآية ١١ سورة الأحقاف ؛

(٤) الآية ١٣ سورة المجادلة ؛

(٥) الآية ١٦ سورة الكهف ؛

(٦) الآية السابقة ؛ قبل قليل ؛

(٧) الآية الخامسة في سورة المدثر وتقدمت قريبا ؛

٤٧٥

كان وقوع الفعل المستقبل في الزمن الماضي محالا لما ذكرنا في نحو : أمّا زيد فمنطلق ، من الغرض المعنوي ، أي قصد الملازمة ، حتى كأنّ هذه الأفعال المستقبلة ، وقعت في الأزمنة الماضية ، وصارت لازمة لها ، كل ذلك لقصد المبالغة ؛

قوله : «وهو معمول لما في حيّزها» ، أي : ما بين «أمّا» والفاء : معمول لما في حيّز الفاء ، أي لما بعدها ، وليس ذلك بمطلق عند المصنف ، لأن المبتدأ في نحو : أمّا زيد فقائم ، خارج عنه ، إذ العامل فيه الابتداء عنده ، وكذا أداة الشرط مع الشرط في نحو قوله : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ)(١) ، خارجة عنه ؛

قوله : «مطلقا» أي سواء كان ما بعد الفاء شيء يجب له صدر الكلام كإنّ ، وما ، النافية في نحو : أمّا يوم الجمعة فإنك مسافر ، أو لم يكن ، وذلك للغرض المذكور ؛

هذا مذهب المبرد ، واختاره المصنف ؛

وقال بعضهم : هو معمول للمحذوف مطلقا ، أي سواء كان بعد الفاء شيء يمنع من عمل ما بعد الفاء فيما قبلها ، أو ، لا ؛

فنحو أمّا زيد فقائم ، عنده ، بتقدير : أمّا ذكر زيد فهو قائم ، وأمّا يوم الجمعة ، فزيد قائم ، أي : أمّا ذكرت يوم الجمعة .. ؛

وليس ذلك بشيء ، إذ لو كان كذلك لجاز النصب في نحو : أمّا زيد فقائم ، على تقدير : أمّا ذكرت زيدا فهو قائم ، ولا يجوز اتفاقا ، ولجاز الرفع في أمّا يوم الجمعة فزيد قائم ، ولا يجوز إلا بتأويل بعيد أي قائم فيه ؛

وإنما ارتكب هؤلاء هذا المذهب ، نظرا إلى أن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها ، ولا يفصل بين المبتدأ والخبر بالفاء في نحو : أمّا زيد فقائم ؛

__________________

(١) الآية ٨٨ من سورة الواقعة وتقدمت قريبا ؛

٤٧٦

ولم يتنبّهوا إلى أن التقديم في مثل هذا المقام الخاص للأغراض المذكورة ؛

وذهب المازني إلى أنه : إن لم يكن بعد الفاء مستحق للتصدّر ، كإنّ ، و «ما» ، أو مانع آخر من عمل العامل فيما قبله ، ككون العامل صفة ومعموله قبل موصوفه ، نحو : أمّا زيدا فأنا رجل ضارب ؛ أو كون المعمول تمييزا وعامله اسم تام ، نحو : أمّا درهما فعندي عشرون ، أو كون العامل مع نون التأكيد نحو : أمّا زيدا فلأضربنّه ، أو صلة نحو : أمّا القميص فأن تلبس خير لك ؛ فإن لم يكن أحدها ، فالعمل لما بعد الفاء ، وإن كان بعد الفاء أحد هذه الموانع ، فالعامل هو المقدّر ، وهو معنى قوله : وإلّا فمن الثاني ؛

وليس ، أيضا بشيء ، لأنه إذا جاز التقديم للغرض المذكور مع المانع الواحد ، وهو الفاء ، فلا بأس بجوازه مع مانعين أو أكثر ، لأن الغرض مهم ، فيجوز ، لتحصيله ، إلغاء مانعين فصاعدا ، والدليل على ذلك : امتناع النصب في نحو : أمّا زيد ، فإنه قائم ، ولو كان معمولا لمقدّر لم يمتنع تقدير ناصب ، نحو : ذكرت ، وغيره ؛

قال ابن خروف (١) : وقد تبدل الميم الأولى من «أمّا» ياء ، قال :

٩٢٧ ـ رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت

فيضحى ، وأمّا بالعشيّ فيخصر (٢)

__________________

(١) أبو الحسن : علي بن محمد الأندلسي ، بن خروف من علماء القرن السادس وتقدم له ذكر ؛

(٢) من قصيدة طويلة لعمر بن أبي ربيعة ، وقد روى على الأصل : أمّا إذا الشمس ، ومن أبيات هذه القصيدة بعض الشواهد في هذا الشرح ؛

٤٧٧

[حرف الرّدع]

[وأوجه استعماله]

[قال ابن الحاجب :]

«حرف الردع : كلّا ، وقد جاء بمعنى : حقّا» ؛

[قال الرضي :]

الردع بمعنى الزجر ، تقول لشخص ، فلأن يبغضك ، فيقول : كلّا ، ردعا لك ، أي : ليس الأمر كما تقول ، وتكون ، أيضا ، ردعا للطالب ، كقوله تعالى : (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ، كَلَّا)(١) ؛ وقد يكون (كَلَّا) ، من كلام المتكلم بما قبلها ، وذلك إذا أخبر عن غيره بشيء منكر ، فيذكر بعده «كلّا» بيانا لكونه منكرا ، كقوله تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ، كَلَّا)(٢) ، وقد يكون (كَلَّا) بمعنى «حقّا» كقوله تعالى : (كَلَّا ، وَالْقَمَرِ)(٣) ، و : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى)(٤) ، فيجوز أن يجاب بجواب القسم ، كما في الآية ، وأن لا يجاب ، كقوله تعالى : (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ)(٥) ، و : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ)(٦) ، وليست للردع ، إذ لا معنى له إلّا بالنظر إلى ما قبلها ؛

وقد تحتمل المعنيين ، كما في قوله : (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ، كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً)(٧)

__________________

(١) من الآيتين ٩٩ ، ١٠٠ ـ المؤمنون ؛

(٢) الآيتين ٨١ ، ٨٢ سورة مريم.

(٣) الآية ٣٢ سورة المدثر ؛

(٤) الآية ٦ سورة العلق ؛

(٥) الآية ٢٠ سورة القيامة ؛

(٦) الآية ٢٦ سورة القيامة ؛

(٦) الآية ٢٦ سورة القيامة ؛

٤٧٨

وإن كانت بمعنى «حقا» لم يجز الوقف عليها ، لأنها من تمام ما بعدها ويجوز ذلك إذا كانت للردع ، لأنها ليست من تمام ما بعدها ، وكأنّ الفعل الذي هي من تمامه محذوف ، لأن الحرف لا يستقلّ ، أي : كلّا لا تقل ، أو ليس الأمر كذا ؛

وإذا كانت بمعنى «حقا» جاز أن يقال إنها اسم ، بنيت لكون لفظها كلفظ الحرفية ؛ ومناسبة معناها لمعناها ، لأنك تردع المخاطب عما يقوله تحقيقا لضدّه ، لكن النحاة حكموا بحرفيتها إذا كانت بمعنى «حقا» أيضا ، لما فهموا من أنّ المقصود تحقيق الجملة ، كالمقصود بإنّ ، فلم يخرجها ذلك عن الحرفية ؛

[تاء التأنيث]

[المراد منها. وأحكامها]

[قال ابن الحاجب :]

«تاء التأنيث الساكنة ، تلحق الماضي لتأنيث المسند إليه ،»

«فإن كان ظاهرا غير حقيقي فمخيّر ، وأمّا إلحاق علامة»

«التثنية والجمعين فضعيف» ؛

[قال الرضي :]

اعلم أنه إنما جاز إلحاق علامة التأنيث بالمسند ، مع أنّ المؤنث هو المسند إليه دون المسند ؛ للاتصال الذي بين الفعل ، وهو الأصل في الإسناد وبين الفاعل ، وذلك الاتصال من جهة احتياجه إلى الفاعل وكون الفاعل كجزء من أجزاء الفعل ، حتى سكن اللام من نحو : ضربت ، لئلا يتوالى أربع حركات فيما هو كالكلمة الواحدة ؛ ألا ترى إلى وقوع الفاعل بين الفعل وإعرابه في نحو يضربان ، وتضربون ، وتضربين ؛ فتأنيث الفعل لتأنيث فاعله مثل تثنية الفاعل وجمعه لأجل تكرير الفعل مرتين أو أكثر ، كقول الحجاج :

٤٧٩

يا حرسيّ : اضربا عنقه (١) ، أي : اضرب اضرب ، وقوله تعالى : (رَبِّ ارْجِعُونِ)(٢) ، أي : أرجعني ، أرجعني ، ارجعني (٣) ؛

وهذه التاء ساكنة بخلاف تاء الاسم ، لأن أصل الاسم الإعراب وأصل الفعل البناء ، فنبّه من أول الأمر بسكون هذه على بناء ما لحقته لأنها كالحرف الأخير مما تلحقه ، وبحركة تلك على إعراب ما وليته ؛ ودليل كونها كلام الكلمة : دوران الإعراب عليها في نحو : قائمة ؛

وتقلب الاسمية في الوقف هاء ، بخلاف الفعلية ، إذ القلب تصرّف وهو بالمعرب أولى ؛

ولكون أصل التاء الفعلية هو السكون ، لم تردّ اللام المحذوفة للساكنين في : رمتا ، وغزتا ؛ لأن التاء ، وإن تحركت لأجل الألف التي بعدها ، وهي كجزء الكلمة ، فالحركة باعتبارها كاللازمة ؛ إلّا أنّ أصل البناء السكون ، فالحركة عليها كلا حركة ، بخلاف حركة اللام في : لم يخافا ولم يخافوا ، و : خافا ، و : خافوا ، و : خافي ، و : خافنّ ، وبيعنّ وقولنّ ؛ فإن عين الفعل في هذه لم تحذف لأن سكون لام المضارع ليس بأصل حتى إذا تحرّك لعارض قلنا : الحركة كالعدم كما قلنا في التاء الفعلية ؛ بل أصله تحرك اللام ، وكذا الأمر ، أصله المضارع ، والأصل في ، اضرب : لتضرب ، كما بيّنا ، فأصل لام : لم يخافا ، وخافا ، ولم يقولا وقولا : هو الحركة ، وهي الآن متحركة بحركة كاللازمة ، لأنها لأجل اتصال الضمير المرفوع الذي هو كجزء الكلمة ، بخلاف نحو : لم يخف الله ، وخف الله ، ولم يبع الثوب ، وبع الثوب ، ولم يقل الحق ، وقل الحق ، لأن اللام وإن كان أصلها الحركة ، الّا أنها الآن عارضة ليست كاللازمة ، لأن الكلمة الثانية منفصلة ؛

وكذا لم تردّ اللام في : اخشونّ ، واخشينّ ، وإن تحركت الواو ، والياء ، لأن أصل هذين الحرفين : السكون ، كالتاء الفعلية ؛

__________________

(١) الحرسيّ واحد الحرس ، فهو مفرد ؛

(٢) الآية ٩٩ سورة المؤمنون وتقدمت مع ما بعدها ؛

(٣) بتكرير : ارجعني ، ثلاث مرات ، وهي أقل الجمع ، المستفاد من واو الجمع في الفعل ؛

٤٨٠