شرح الرضيّ على الكافية

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


المحقق: يوسف حسن عمر
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات مؤسّسة الصادق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٢

[حروف العطف]

[الواو ، الفاء ، ثم ، حتى]

[معانيها وأحكامها]

[قال ابن الحاجب :]

«الحروف العاطفة : الواو ، والفاء ، وثم ، وحتى ، وأو ،»

«وإمّا ، وأم ، ولا ، وبل ، ولكن ، فالأربعة الأولى للجمع»

«فالواو للجمع مطلقا ، لا ترتيب فيها ، والفاء للترتيب ، وثم»

«مثلها بمهلة ، وحتى مثلها ، ومعطوفها جزء من متبوعه»

«لتفيد قوة أو ضعفا» ؛

[قال الرضي :]

اعلم أن بعضهم عدّ «أي» المفسّرة منها ، وعند الأكثرين : أن ما بعدها عطف بيان لما قبلها ؛ كما قال بعضهم : ان «بل» التي بعدها مفرد ، نحو : جاءني زيد بل عمرو ، أو : ما جاءني زيد بل عمرو ، ليست منها ، لأن ما بعدها بدل غلط مما قبلها ؛ وبدل الغلط بدونها غير فصيح ، وأمّا معها ففصيح مطرد في كلامهم ، لأنها موضوعة لتدارك مثل هذا الغلط ؛

قوله : «للجمع» ، مراد النحاة بالجمع ههنا : ألّا تكون لأحد الشيئين أو الأشياء ، كما كانت «أو» و «إمّا» ، وليس المراد : اجتماع المعطوف والمعطوف عليه في الفعل ،

٣٨١

في زمان أو في مكان ، فقولك جاءني زيد وعمرو ، أو : فعمرو ، أو : ثمّ عمرو ، أي حصل الفعل من كليهما ، بخلاف : جاءني زيد أو عمرو ، أي حصل الفعل من أحدهما دون الآخر ؛

قوله : «فالواو للجمع مطلقا» ، معنى المطلق ، أنه يحتمل أن يكون حصل من كليهما في زمان واحد ، وأن يكون حصل من زيد أوّلا ، وأن يكون حصل من عمرو أوّلا ، فهذه ثلاثة احتمالات عقلية ، لا دليل في الواو على شيء منها ؛

هذا مذهب جميع البصريين والكوفيين ، ونقل بعضهم عن الفراء والكسائي وثعلب ، والرّبعي ، وابن درستويه (١) ، وبه قال بعض الفقهاء : انها للترتيب ، دليل الجمهور : استعمالها فيما يستحيل فيه الترتيب ، وفيما : الثاني فيه قبل الأول ، كقوله :

٨٧١ ـ أغلى السّباء بكلّ أدكن عاتق

أو جونة قدحت وفضّ ختامها (٢)

وقوله تعالى : (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي)(٣) ، وقوله تعالى : (نَمُوتُ وَنَحْيا)(٤) ، والأصل في الاستعمال : الحقيقة ؛ ولو كانت للترتيب ، لتناقض قوله تعالى : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ)(٥) ، وقوله تعالى في موضع آخر : (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً)(٦) ، إذ القصة واحدة ؛

ثم اعلم أن الواو ، مرة تجمع وتشرك الاسمين فصاعدا ، في فعل واحد ، نحو : قام زيد وعمرو ، أي حصل منهما القيام ، ومرّة تجمع الفعلين فصاعدا في اسم واحد نحو :

__________________

(١) تقدم ذكر هؤلاء جميعا في أجزاء هذا الشرح ؛

(٢) من معلقة لبيد بن ربيعة العامري ، وقوله أغلى السباء ، أي اشترى الخمر بالثمن الغالي ، والمراد بالأدكن الزق الذي يوضع فيه الخمر ، والجونة : الخابية المطلية بالقار والباء في بأدكن بمعنى في ، أي اشترى الخمر الموضع في الزق الأدكن أو الجونة .. الخ ؛

(٣) من الآية ٤٣ في سورة آل عمران ؛

(٤) من الآية ٢٤ سورة الجاثية ؛

(٥) الآية ٥٨ سورة البقرة ؛

(٦) الآية ١٦١ سورة الأعراف ؛

٣٨٢

زيد قام وقعد ، أي حصل كلا الفعلين من زيد ، ومرّة تجمع مضموني الجملتين فصاعدا في الحصول ، نحو : قام زيد ، وقعد عمرو ، ونحو : زيد قائم وعمرو قاعد ؛

فإن قلت : لو لم تجئ بالواو في عطف الجملة ، لعلم ، أيضا ، حصول مضموني الجملتين ، فما فائدتها؟

قلنا : بلى ، ولكن كان يحتمل احتمالا مرجوحا : أن يكون الكلام الأول غلطا ، ويحتمل حصول أحد الأمرين ؛ فبالواو صار نصّا في حصول الأمرين معا ، ففائدة الواو في مثله ، كفائدة «لا» في مثل قولك : ما جاءني زيد ولا عمرو ، كما يجيء ، فكأنه زائد يفيد النص ، وإن لم يعدّه النحاة في الزوائد ؛

واعلم أنك إذا نفيت نحو : جاءني زيد وعمرو ، مثلا ، وقلت : ما جاءني زيد وعمرو ، بلا قيد ، فهو في الظاهر نفي للاحتمالات الثلاثة ، أي : لم يجيئا ، لا في وقت واحد ، ولا مع الترتيب

والأكثر على ألّا يعطف على المنفي بالواو ، الّا وبعد الواو «لا» ، نحو : ما جاءني زيد ولا عمرو ؛ وذلك لأن الواو ، وإن كان في الظاهر للجمع المشتمل على الاجتماع في وقت ، وعلى الترتيب ، إلّا أنه ، لما كان يستعمل كثيرا للاجتماع في وقت ، كما في المفعول معه ، وواو الصّرف (١) ، ومع العطف أيضا ، نحو : كل رجل وضيعته ، وكيف أنت وقصعة من ثريد ؛ خيف أن يكون مراد المتكلم : ما جاءني زيد مع عمرو ، فيكون قد نفى الاجتماع في وقت ؛ لا ترتّب مجيء أحدهما على مجيء الآخر ، فجيء بلا ، في الأغلب دفعا لهذا التوهم ، وبيان أن المراد نفي الاحتمالات الثلاثة ؛

وقد تزاد فيما لا يحتمل الترتيب طردا ، كقوله تعالى : «وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا

__________________

(١) المراد بها الواو التي ينصب بعدها المضارع في جواب الأمور المعروفة ، لأنها تصرف ما بعدها عن ظاهر العطف الذي هو أصلها ، وانظر تفصيل ذلك في نواصب المضارع أول هذا الجزء.

٣٨٣

السَّيِّئَةُ» (١) ، وقوله : (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ)(٢) ؛

وإن أردت نفي بعض الاحتمالات دون بعض ، فلا بدّ من القيد ؛ نحو : ما جاءني زيد وعمرو معا ، أو ما جاءني زيد أوّلا وعمرو ثانيا ، أو : ما جاءني زيد ثانيا وعمرو أوّلا ؛ فينتفي بعد أن تقيّد بأحد الاحتمالات الاحتمالان الآخران ؛

وأمّا لو كررت العامل فقلت : ما جاءني زيد ، وما جاءني عمرو ، فهو ، عند سيبويه : نفي للمجيئين ، المنقطع أحدهما عن الآخر ، كأن المخاطب توهّم أنه حصل مجيء كل واحد منهما ، لكن منقطعا عن مجيء الآخر ، فرفعت بهذا الكلام وهمه ؛

وعند المازني (٣) : هو أيضا ، نفي للاحتمالات الثلاثة ، كما كان من دون تكرير العامل ، وهذا القول أقرب ، وتكون فائدة تكرير الفعل المنفي ، كفائدة زيادة «لا» بعد الواو ، وأكثر ؛

قوله : «والفاء للترتيب» ، اعلم أن الفاء تفيد الترتيب ، سواء كانت حرف عطف أو ، لا ؛ فإن عطفت مفردا على مفرد ، ففائدتها : أن ملابسة المعطوف لمعنى الفعل المنسوب إليه وإلى المعطوف عليه : بعد ملابسة المعطوف عليه بلا مهلة ، فمعنى قام زيد فعمرو : أي حصل قيام عمرو عقيب قيام زيد بلا فصل ، ومعنى ضربت زيدا فعمرا ، أي وقع الضرب على عمرو عقيب وقوعه على زيد ،

وإذا دخلت على الصفات المتتالية والموصوف واحد ، فالترتيب ليس في ملابستها لمدلول عاملها ، كما كان في نحو : جاءني زيد فعمرو ، بل في مصادر تلك الصفات ، كقولك : جاءني زيد ، الآكل فالنائم ، أي : الذي يأكل فينام ، كقوله :

__________________

(١) الآية ٣٤ سورة فصلت ؛

(٢) الآية ٢٢ سورة فاطر ؛

(٣) أبو عثمان المازني ممن تكرر ذكرهم في هذا الشرح ؛

٣٨٤

يا لهف زيّابة للحارث الصا

ثح فالقائم فالآيب (١) ـ ٣٤٠

أي : الذي يصبح فيغنم فيؤوب ؛

وإن لم يكن الموصوف واحدا ، فالترتيب في تعلق مدلول العامل بموصوفاتها كما في الجوامد نحو قولهم في صلاة الجماعة : يقدّم الأقرأ ، فالأفقه ، فالأقدم هجرة ، فالأسنّ (٢) ، فالأصح ؛

وإن عطفت الفاء جملة على جملة ، أفادت كون مضمون الجملة التي بعدها عقيب مضمون الجملة التي قبلها بلا فصل ، نحو : قام زيد فقعد عمرو ؛

وقد تفيد الفاء العاطفة للجمل : كون المذكور بعدها ، كلاما مرتّبا على ما قبلها في الذكر ، لا أن مضمونها عقب مضمون ما قبلها في الزمان ، كقوله تعالى : (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)(٣) ، وقوله : (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ ، نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ)(٤) ؛ فإن ذكر ذمّ الشيء أو مدحه يصح بعد جري ذكره ؛

ومن هذا الباب عطف تفصيل المجمل ، على المجمل ، كقوله تعالى : (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ ، فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي)(٥) ، الآية ؛ وتقول : أجبته فقلت لبيك ؛ وذلك أن موضع ذكر التفصيل ، بعد الاجمال ، ومنه قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً)(٦) ، لأن تبييت البأس تفصيل للإهلاك ، المجمل ؛

وقد تجيء الفاء العاطفة للمفرد ، بمعنى «إلى» ، على ما حكى الزجاجيّ (٧) ، تقول

__________________

(١) تقدم ذكره وانظر فهرس الشواهد ؛

(٢) أي الأكبر سنّا ؛

(٣) الآية ٧٢ من سورة الزمر ؛

(٤) الآية ٧٤ سورة الزمر ؛

(٥) الآية ٤٥ سورة هود ؛

(٦) الآية ٤ سورة الأعراف ؛

(٧) الزجاجي : عبد الرحمن بن اسماعيل ، منسوب إلى الزجاج لأنه تلميذه ؛

٣٨٥

العرب : مطرنا ما زبالة فالثعلبية (١) ، بحذف «بين» مع كونه مرادا ، ويقيم (٢) المضاف إليه مقام المضاف ويعربه بإعرابه ؛ وهذا كما تقول : هي أحسن الناس ما بين قرن إلى قدم ؛ وما بين قرن فقدم ، وما قرنا فقدما ، ولا يجوز حذف «ما» لكونه موصولا فلا تقول : مطرنا زبالة فالثعلبية ، ولا : هي أحسن الناس قرنا فقدما ، وحكي اجازته عن هشام (٣) ؛

ومثل قوله :

٨٧٢ ـ قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل (٤)

فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها

لما نسجتها من جنوب وشمأل

الفاء فيه بمعنى «إلى» ، أي : منازل بين الدّخول إلى حومل ، إلى توضح إلى المقراة ؛

فإن قلت : كيف هذا وأنت لا تقول : خرجت إلى زيد إلى عمرو ، إذ الفعل لا يتعلق به حرفا جرّ بمعنى واحد ، كما مرّ ، بلا عطف ،

قلت : يستعمل في تحديد الأماكن ، نحو قولك : اشتريت ما بين الموضع الفلاني ، إلى دار زيد ، إلى دار عمرو ، إلى دار خالد ؛ بحذف الواو تخفيفا ، لدلالة الكلام عليه ؛ قال النابغة الجعدي :

٨٧٣ ـ أيا دار سلمى بالحرورية اسلمي

إلى جانب الصّمّان فالمتثلّم (٥)

أقامت به البردين ثم تذكرت

منازلها بين الدّخول فجرثم

ومسكنها بين العروب إلى اللوى

إلى شعب ترعى بهنّ فغيهم

__________________

(١) مكانان بالعراق ؛

(٢) أي المتكلم بهذا الأسلوب الذي حكاه الزجاجي ؛

(٣) هشام بن معاوية الضرير ، تقدم ذكره ؛

(٤) مطلع معلقة امرئ القيس ، وتكرر الاستشهاد بأبياتها في هذا الشرح ؛ والدخول وحومل ، وتوضح ، والمقراة ، كلها أسماء أمكنة ؛

(٥) الأبيات الثلاثة مطلع قصيدة للنابغة الجعدي ؛ وفي ألفاظها اختلاف في الرواية كما أن في ترتيبها هكذا خلاف أيضا ، وكل ما فيها أسماء لأمكنة ، والبردين تثنية برد ، والمراد : البرد في أول النهار والبرد في آخره ؛

٣٨٦

فإذا كثر ذلك مع حرف الجر ، أعني «إلى» فحذفه مع فاء العطف التي هي بمعناه : أولى ، بل هو واجب لامتناع اجتماع حرفي عطف ؛

ويجوز أن يكون المعنى : قفا نبك بين منازل الدّخول فمنازل حومل ، فمنازل توضح فمنازل المقراة ؛ وكذا في غير هذا الموضع ؛

وأما قوله :

٨٧٤ ـ يا دارمية بالعلياء فالسند

أقوت وطال عليها سالف الأمد (١)

فالفاء فيه لإفادة الترتيب في الذكر ، لأنه يذكر في تعريف الأمكنة : الأخصّ بعد الأعم ، فكأنّ العلياء موضع وسيع ، تشتمل على مواضع منها السّند ؛ فهو كقولك : داري ببغداد فالكرخ ؛

فإذا نفيت ، مثلا ، قولك : جاءني زيد فعمرو ، فقلت : ما جاءني زيد فعمرو ، فأنت ناف لتعقيب مجيء عمرو لمجيء زيد ، فيمكن أن يحصل المجيئان في حالة ، وأن يحصل مجيء عمرو قبل مجيء زيد ؛

هذا الذي ذكرنا كله ، حكم فاء العطف ؛

والتي لغير العطف ، أيضا ، لا تخلو من معنى الترتيب ، وهي التي تسمّى فاء السببيّة ، وتختص بالجمل ، وتدخل على ما هو جزاء ، مع تقدم كلمة الشرط نحو : إن لقيته فأكرمه ، ومن جاءك فأعطه ، وبدونها ، نحو : زيد فاضل فأكرمه ، وتعريفه (٢) بأن يصلح تقدير «إذا» الشرطية قبل الفاء ، وجعل مضمون الكلام السابق شرطها ، فالمعنى في مثالنا : إذا كان كذا ، فأكرمه ، وهو كثير في القرآن المجيد ، وغيره ، قال تعالى : (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ، فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ)(٣) ؛ وقال تعالى : «قالَ أَنَا

__________________

(١) مطلع قصيدة النابغة الذبياني التي تعد إحدى المعلقات في رأي بعض العلماء ؛

(٢) أي الضابط الذي يمكن معرفته به ؛

(٣) الآية ١٠ سورة ص ؛

٣٨٧

خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ، قالَ فَاخْرُجْ مِنْها» (١) ، أي : إذا كان عندك هذا الكبر فاخرج ، وقال : «رَبِّ فَأَنْظِرْنِي» ، أي إذا كنت لعنتني فأنظرني ، وقال : (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) ، أي إذا اخترت الدنيا على الآخرة فإنك من المنظرين ، (قالَ فَبِعِزَّتِكَ) ، أي إذا أعطيتني هذا المراد فبعزتك (لَأُغْوِيَنَّهُمْ) وكثيرا ما تكون فاء السببية بمعنى لام السببية ، وذلك إذا كان ما بعدها مسببا لما قبله ، كقوله تعالى : (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ)(٢) ؛ وتقول : أكرم زيدا فإنه فاضل ، فهذه تدخل على ما هو الشرط في المعنى ، كما أن الأولى دخلت على ما هو الجزاء في المعنى ؛ وذلك أنك تقول : زيد فاضل فأكرمه ، وتعكس فتقول : أكرمه فإنه فاضل ؛

ثم اعلم أنه لا تنافي بين السببية والعاطفة ، فقد تكون سببية وهي مع ذلك عاطفة جملة على جملة ، نحو : يقوم زيد فيغضب عمرو ، لكن لا يلازمها العطف نحو إن لقيته فأكرمه ؛

ثم إنه قد يؤتى في الكلام بفاء موقعها موقع السببية ، وليست بها ، بل هي زائدة ، وفائدة زيادتها : التنبيه على لزوم ما بعدها لما قبلها لزوم الجزاء للشرط ، كما تقدم في الظروف المبنية (٣) ؛

وقد تجيء زائدة في غير هذا الموضع المذكور ، نحو : زيد فوجد ، عند الأخفش ؛ وقوله :

لا تجزعي ان مفغسا أهلكته

فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي (٤) ـ ٤٦

ثم اعلم أن إفادة الفاء للترتيب ، لا ينافيها كون الثاني المترتب يحصل بتمامه في زمان طويل ، إذا كان أوّل أجزائه متعقبا لما تقدم ، كقوله تعالى : «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً

__________________

(١) هذا وكل ما سيذكره الشارح من الآيات : ٧٦ إلى ٨٢ في سورة ص ؛

(٢) الآية ٣٤ سورة الحجر ؛

(٣) في الجزء الثالث ؛

(٤) تقدم الاستشهاد به في الجزء الأول باب المبتدأ والخبر ، وتكرر في مواضع أخرى ، وهو في سيبويه ج ١ ص ٦٧ ، وهو للنمر بن تولب ؛

٣٨٨

فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً» (١) ، فإن اخضرار الأرض ، يبتدئ بعد نزول المطر ، لكن يتم في مدّة ومهلة ، فجيء بالفاء ، نظرا إلى أنه لا فصل بين نزول المطر وابتداء الاخضرار ، ولو قال : ثم تصبح ، نظرا إلى تمام الاخضرار ، جاز ؛ وكذا قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً)(٢) ، نظرا إلى تمام صيرورتها علقة ، ثم قال : «فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً ، فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً» ؛ نظرا إلى ابتداء كل طور ، ثم قال : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) ، إمّا نظرا إلى تمام الطور الأخير ، وإمّا استبعادا لمرتبة هذا الطور الذي فيه كمال الإنسانية ، من الأطوار المتقدمة ؛

قوله : «وثمّ مثلها بمهلة» ، أي مثل الفاء في الترتيب ، إلا أنها تختص بالمهلة والتراخي ، ومن ثمّ قال سيبويه في : مررت بزيد ثم عمرو : ان المرور : مروران (٣) ؛

ولا تكون إلا عاطفة ، ولا تكون للسببية ، إذ لا يتراخى المسبب عن السبب التامّ ، ولا تعطف المفصل على المجمل كالفاء ؛ وقد تجيء في الجمل خاصة ، لاستبعاد مضمون ما بعدها عن مضمون ما قبلها ، وعدم مناسبته له كما ذكرنا في قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) ، وكقوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)(٤) ، فالإشراك بخالق السموات والأرض مستبعد ، غير مناسب وهذا المعنى : فرع التراخي ومجازه ، وكذا في قوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) ثم قال : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا)(٥) ، فإن الإيمان بعيد المنزلة من فكّ الرقبة ، والإطعام ، بل لا نسبة بينه وبينهما ، وكذا قوله (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ)(٦) ، فإن بين توبة العبد ، وهي انقطاع العبد إليه بالكلّية وبين طلب المغفرة بونا بعيدا ؛

__________________

(١) الآية ٦٣ سورة الحج ؛

(٢) الآيتان ١٣ ، ١٤ سورة المؤمنون ؛

(٣) يعني أن المرور حصل مرتين ؛

(٤) أول آية في سورة الأنعام ؛

(٥) من الآية ١١ إلى ١٧ سورة البلد ؛

(٦) الآية ٣ سورة هود ؛

٣٨٩

وقد تجىء «ثم» لمجرد الترتيب في الذكر ؛ والتدرّج في درج الارتقاء وذكر ما هو الأولى ثم الأولى من دون اعتبار التراخي والبعد بين تلك الدرج ولا أنّ الثاني بعد الأول في الزمان ، بل ربّما يكون قبله ، كما في قوله :

٨٧٥ ـ إنّ من ساد ثم ساد أبوه

ثم قد ساد قبل ذلك جدّه (١)

فالمقصود ترتيب درجات معالي الممدوح ، فابتدأ بسيادته ، ثم بسيادة أبيه ، ثم بسيادة جدّه ، لأن سيادة نفسه أخصّ ثم سيادة الأب ثم سيادة الجد ؛

وإن كانت سيادة الأب مقدمة في الزمان على سيادة نفسه ، فثمّ ، ههنا ، كالفاء في قوله تعالى (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)(٢) كما ذكرنا ؛

وقد تكون ثم ، والفاء ، أيضا ، لمجرّد التدرج في الارتقاء ، وإن لم يكن الثاني مترتبا في الذكر على الأول ، وذلك أن تكرر الأول بلفظه ، نحو : بالله ، فبالله أو : والله ثم والله ، وقوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ، ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ)(٣) ، وقوله : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ)(٤) ؛

وأمّا قوله تعالى : (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ)(٥) ؛ فأقام العلة مقام المعلول (٦) ؛ وقوله تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى)(٧) ، أي بقي على ذلك الهدى من التوبة والإيمان والعمل الصالح ، كما قيل في : «اهْدِنَا الصِّراطَ

__________________

(١) من أبيات لأبي نواس : الحسن بن هاني في مدح العباس بن عبيد الله بن جعفر والرواية : قل لمن سار .. الخ وبعده : وأبو جدّه فساد إلى أن يتلاقى نزاره ومعدّه ، وليس القصد به الاستشهاد وإنما هو تمثيل لأمر معنوي ؛

(٢) الآية ٧٢ المتقدمة من سورة الزمر ؛

(٣) الآيتان ١٧ ، ١٨ سورة الانفطار ؛

(٤) الآيتان ٣ ، ٤ سورة التكاثر ؛

(٥) الآية ٤٦ سورة يونس ؛

(٦) لأن التقدير : ثم نعذبهم لأن الله شهيد ...

(٧) الآية ٨٢ سورة طه ؛

٣٩٠

الْمُسْتَقِيمَ» (١) ، أي أبقنا عليه ، فاستعمل «ثمّ» ، نظرا إلى تمام البقاء ، واستبعادا لمرتبة البقاء عليها من مرتبة ابتدائها ، لأن البقاء عليها أفضل ، فيكون كما قلنا في قوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ)(٢) ، من الوجهين ؛

[همزة الاستفهام]

[مع هذه الأحرف]

وقد تدخل همزة الاستفهام المفيدة للإنكار على واو العطف ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ)(٣) ، الآية ، فقوله : أو كلما ، عطف على (لَقَدْ أَنْزَلْنا) ، والهمزة لإنكار الفعل (٤) ، وقد يكون الاستفهام للتوبيخ ، أو التقرير ، إذا دخلت همزته على جملة منفية ، كقوله تعالى : (قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى ، أَوَلَمْ يَكْفُرُوا ..)(٥) ، عطف (لَمْ يَكْفُرُوا) على : «قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ» ؛

وكذا تدخل على فاء العطف ، للإنكار ، كقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ، أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ)(٦) ، فقوله (فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ) ، عطف على : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ) ، أي بعضهم يستمع إليك غير سامع في الحقيقة ، أفأنت تسمع هؤلاء الصمّ ؛

__________________

(١) الآية ٦ سورة فاتحة الكتاب ؛

(٢) في آية «المؤمنون» السابقة ؛

(٣) الآيتان ٩٩ ، ١٠٠ سورة البقرة ؛

(٤) الذي هو النبذ في قوله نبذه فريق منهم ؛

(٥) الآية ٤٨ سورة القصص ؛

(٦) الآية ٤٢ سورة يونس ؛

٣٩١

وكذا قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ، أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ)(١) ، أي ينظر إليك ، غير مبصر في الحقيقة ؛

وتكون الهمزة للتوبيخ أو التقرير إذا دخلت على النفي ، وقد تدخل على فاء السببيّة كقوله تعالى : (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ ، أَفَلا تَسْمَعُونَ)(٢) ، أي إذا كان كذا فلم لا تسمعون ؛ وكذا قوله تعالى : (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ)(٣) فالفاء للسببية والهمزة للتوبيخ ، أو التقرير ؛

وكذا تدخل همزة الإنكار على «ثمّ» ، المفيدة للاستبعاد ، كقوله تعالى : (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ، أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ)(٤) ، فثمّ ، ههنا ، مثلها في قوله تعالى : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)(٥) ، لأن الإيمان بالشيء مستبعد من استعجاله ، استهزاء ؛

وهذه الحروف ، ليست بعاطفة على معطوف عليه مقدّر ، كما يدّعيه جار الله في الكشاف ، ولو كانت كما قال ، لجاز وقوعها في أوّل الكلام ، قبل تقدم ما يكون معطوفا عليه ؛ ولم تجئ إلا مبنيّة على كلام متقدم ؛

[زيادة هذه الأحرف]

وهذه الحروف الثلاثة ، تجيء عند الأخفش زائدة ؛ والبصريون يؤوّلون فيما يقبل التأويل ، صيانة للحروف من الزيادة ؛

__________________

(١) الآية ٤٣ سورة يونس ؛

(٢) الآية ٧١ سورة القصص ؛

(٣) الآية ٧٢ سورة القصص ؛

(٤) الآيتان ٥٠ ، ٥١ سورة يونس ؛

(٥) أول سورة الأنعام وتقدمت قريبا ؛

٣٩٢

أما الواو ، فمثل قوله تعالى : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ)(١) ، قال البصريون : جواب «لمّا» محذوف ، أي .. وتله للجبين وناديناه ، كان هناك ما لا يوصف من ألطافه تعالى ، وكذا قوله :

٨٧٦ ـ فلما أجزنا ساحة الحيّ وانتحى

بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل (٢)

وأما قوله :

٨٧٧ ـ ولمّا رأى الرحمن أن ليس فيهم

رشيد ، ولا ناه أخاه عن الغدر (٣)

وصبّ عليهم تغلب ابنة وائل

فكانوا عليهم مثل راغية البكر

فالمعنى : غضب عليهم ، وصبّ بحذف المعطوف عليه ، وكذا قوله :

٨٧٨ ـ فاذا وذلك يا كبيشة لم يكن

إلا كلمّة حالم بخيال (٤)

أي : فإذا إلمامك وذلك الإلمام ؛

وأمّا الفاء ففي قوله :

أراني إذا ما بتّ ، بتّ على هوى

فثمّ إذا أصبحت ، أصبحت غاديا (٥) ـ ٦٤٠

قيل : الفاء زائدة ، وقيل : بل الزائد «ثمّ» لحرمة التصدّر ؛

وأجاز الأخفش : زيد فوجد ، وزيد فقائم ، قياسا على زيادة الفاء مستدلا بقول الشاعر :

__________________

(١) الآيتان ١٠٣ ، ١٠٤ سورة الصافات ؛

(٢) من معلقة امرئ القيس ؛ التي تكرر الاستشهاد بأبيات منها. والخبت باطن الأرض الملساء ، والحقاف جمع حقف وهو الرمل المنعطف ، العقنقل : المجتمع الكثير ؛

(٣) البيتان من قصيدة للأخطل التغلبي ، ويروى : أمال عليهم تغلب فيخرج بذلك عن موضوع الاستشهاد ، وتغلب قبيلة الأخطل وقال : ابنة بهذا الاعتبار ثم قال فكانوا باعتبار الحيّ ؛

(٤) من أبيات لتميم بن مغيل ، وأورد البغدادي نظائر لهذا الشاهد ، من كلام أبي كبير الهذلي ، وربيعة بن مقروم الضبيّ ؛ واللّمة بفتح اللام المشدّة بمعنى الإلمام وهو ملابسة الشيء على وجه سريع ؛

(٥) تقدم في هذا الجزء ص ٤٩ وهو من قصيدة لزهير بن أبي سلمى ؛

٣٩٣

وقائلة خولان فانكح فتاتهم

واكرومة الحيّين خلو كما هيا (١) ـ ٧٦

والفاء في قوله :

أبا خراشة أمّا أنت ذا نفر

فان قومي لم تأكلهم الضبع (٢) ـ ٢٤٠

زائدة عند البصريين دون الكوفيين ، كما مرّ في بابه ؛

وأمّا «ثمّ» فقال الأخفش : هي زائدة في قوله تعالى : (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ، وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ ، وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ، ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ)(٣) ، ولا منع من ارتكاب حذف المعطوف عليه ، أي : ألهمهم الإنابة ، ثم تاب عليهم ؛

وكل ما جاء من مثله ، فإن أمكن الاعتذار عنه ، فهو أولى ، وإلّا ، فليحكم بزيادة الحرف ؛

وأنشد أبو زيد (٤) لزيادة «أم» قول الراجز :

٨٧٩ ـ يا دهر ، أم ما كان مشيي رقصا

بل قد تكون مشيتي توقّصا (٥)

قوله : «وحتى مثلها» ، يعني : مثل «ثم» في الترتيب والمهلة ؛

وقال الجزولي (٦) : المهلة في «حتى» ، أقلّ منها في «ثمّ» فهي متوسطة بين الفاء ، التي لا مهلة فيها ، وبين «ثم» ، المفيدة للمهلة ؛

والذي أرى : أن «حتى» لا مهلة فيها ، بل «حتى» العاطفة ، تفيد أنّ المعطوف هو

__________________

(١) تقدم في الجزء الأول ، باب المبتدأ والخبر ؛

(٢) من شعر العباس بن مرداس ، وتقدم في الجزء الثاني ، في باب خبر كان وأخواتها ؛

(٣) من الآية ١١٨ سورة التوبة ؛

(٤) المراد أبو زيد الأنصاري صاحب النوادر ؛

(٥) الرّقص بفتح الراء والقاف المشي الخفيف قال ابن دريد هو شبيه بالنقزان ، أي القفز ، والتوقص الخطو المتقارب ، ولم ينسب هذا الرجز بأكثر من روايته عن أبي زيد ؛

(٦) تقدم ذكره كثيرا ؛

٣٩٤

الجزء الفائق ، إمّا في القوّة أو في الضعف على سائر أجزاء المعطوف عليه ؛ وقد يكون تعلق الفعل في المعطوف عليه والمعطوف ، بما (١) بعد «حتى» أسبق من تعلقه بالأجزاء الأخر ، كقولك : توفّى الله كلّ أب لي ، حتى آدم ؛ وقد يكون تعلقه به في أثناء تعلقه بالأجزاء الأخر ، نحو : مات الناس حتى الأنبياء ؛

فالمقصود : أن الترتيب الخارجي ، لا يعتبر فيها ، أيضا ، كما لا يعتبر فيها المهلة ، بل المعتبر فيها ترتيب أجزاء ما قبلها ، ذهنا ، من الأضعف إلى الأقوى ، كما في مات الناس حتى الأنبياء ، أو من الأقوى إلى الأضعف ، كما في : قدم الحجّاج حتى المشاة ؛

[أو ، إمّا ، أم]

[أم المتصلة ، والمنقطعة]

[قال ابن الحاجب :]

«وأو ، وإمّا ، وأم ، لأحد الأمرين مبهما ، وأم المتصلة»

«لازمة لهمزة الاستفهام ، يليها أحد المستويين والآخر الهمزة ،»

«بعد ثبوت أحدهما ، لطلب التعيين ، ومن ثمّ ، لم يجز :»

«أرأيت زيدا ، أم عمرا ، ومن ثمّ كان جوابها بالتعيين»

«دون : نعم ، أو : لا ؛ والمنقطعة ، كبل والهمزة ، مثل :»

«إنها لأبل أم شاء ؛ و : إمّا ، قبل المعطوف عليه لازمة مع»

«إمّا ، جائزة مع أو» ؛

[قال الرضي :]

اعلم أن الأحرف الثلاثة لأحد الأمرين ، أو أحد الأمور ، و «أو» ، و «إمّا»

__________________

(١) متعلق بقوله وقد يكون تعلق الفعل ؛

٣٩٥

العاطفتان في المعنى سواء ، الّا في شيء واحد ، وهو أنّ «أو» ، تجيء بمعنى «إلى» أو «إلّا» (١) ، وتجيء ، أيضا ، للإضراب بمعنى «بل» فلا يكون ، إذن ، بعدها الّا الجمل ، فلا تكون حرف عطف ، بل حرف استئناف وإذا كانت حرف عطف ، فقد تعطف المفرد على المفرد ، نحو : جاءني زيد أو عمرو ، وقد تعطف الجملة على الجملة ، نحو : ما أبالي : أقمت أو قعدت ؛

وتقول في الاستئناف : أنا أخرج اليوم ، ثم يبدو لك الإقامة فتقول : أو أقيم ، أي : بل أقيم على كل حال ، وهي في هذه الصورة محتملة للعطف فتكون على ذلك التقدير متردّدا بين الخروج والإقامة ؛

وأمّا قوله :

٨٨١ ـ بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى

وصورتها أو أنت في العين أملح (٢)

فلا يحتمل العطف إذ لا يصح قيام الجملة بعدها مقام قوله : قرن الشمس ، كما هو حق المعطوف ؛ وكذا في قوله تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ)(٣) ، أي : (بل يزيدون) ؛ وإنما جاز الاضراب ببل في كلامه تعالى ، لأنه أخبر عنهم بأنهم مائة ألف ، بناء على ما يحزر (٤) الناس من غير تعمق ، مع كونه تعالى عالما بعددهم وأنهم يزيدون ، ثم أخذ ، تعالى ، في التحقيق ، فأضرب عمّا يغلط فيه غيره بناء منهم على ظاهر الحزر ، أي أرسلناه إلى جماعة يحزرهم الناس مائة ألف وهم كانوا زائدين على ذلك ؛

وكذا قوله تعالى : (كَلَمْحِ الْبَصَرِ)(٥) ، بناء على ما يقول الناس في التحديد ثم أضرب

__________________

(١) أي يصح أن يقع في موقعها أحدهما ، وانظر ص ٧٥ من هذا الجزء في نواصب المضارع ؛

(٢) قوله : وصورتها بالجر ، عطفا على قوله قرن الشمس أي هي مثل قرن الشمس أو مثل صورتها ثم أضرب ملتفتا إلى قوله أو أنت .. ونسب ابن جني البيت إلى ذي الرمة وقال البغدادي : لم أجده في ديوانه ؛

(٣) الآية ١٤٧ سورة الصافات ؛

(٤) أي يقدرون تقديرا مبنيا على التخمين والحدس ؛

(٥) من الآية ٧٧ في سورة النحل ؛

٣٩٦

عمّا يغلطون فيه ، في هذه القضية ان قالوا ذلك ، وحقق وقال : «أو هو أقرب» ، أي بل هو أقرب ؛

وقالوا : انّ ل : أو ، إذا كان في الخبر ثلاثة معان : الشك ، والإبهام ، والتفصيل ، وإذا كان في الأمر ، فله معنيان : التخيير والإباحة ؛

فالشك : إذا أخبرت عن أحد الشيئين ولا تعرفه بعينه ، والابهام إذا عرفته وتقصد أن تبهم الأمر على المخاطب ؛ فإذا قلت : جاءني زيد أو عمرو ، ولم تعرف الجائي منهما ، فأو ، للشك ، وإذا عرفته وقصدت الإبهام على السامع ، فهو للإبهام ، كقول لبيد :

٨٨٢ ـ تمنّى ابنتاي أن يعيش أبوهما

وهل أنا الّا من ربيعة أو مضر (١)

والظاهر (٢) : أنه كان يعرف أنه من أيّهما ، وقال الله تعالى : (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً)(٣) ؛

والتفصيل : إذا لم تشك ، ولم تقصد الإبهام على السامع ، كقولك : هذا إمّا أن يكون جوهرا أو عرضا ، إذا قصدت الاستدلال على أنه جوهر لا عرض أو على أنه عرض لا جوهر ، أو على أنه لا هذا ولا ذاك ؛

وأمّا في الأمر ، فإن حصل للمأمور بالجمع بين الأمرين فضيلة وشرف ، في الغالب ، فهي للإباحة ، نحو : تعلّم الفقه أو النحو ، وجالس الحسن أو ابن سيرين ، وإلّا فهي للتخيير ، نحو : اضرب زيدا أو عمرا ؛

والفرق بينهما أن الإباحة يجوز فيها الجمع بين الفعلين والاقتصار على أحدهما ، وفي التخيير يتحتم أحدهما ، ولا يجوز الجمع ؛

__________________

(١) قوله : تمنّى : أصله تتمنى بتاءين ، وليس فعلا ماضيا ، ومن أبيات لبيد هذه قوله :

إلى الحول ثم اسم السّلام عليكما

ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

(٢) يريد أن يقول انه من الواضح أن لبيدا يعرف أنه من أيّ القبيلتين ؛

(٣) الآية ٢٤ سورة يونس ؛

٣٩٧

هذا ما قيل ، وينبغي أن تعرف أن جواز الجمع بين الأمرين في نحو : تعلّم الفقه أو النحو ، لم يفهم من «امّا» و «أو» ، بل ليستا إلّا لأحد الشيئين في كل موضع ، وإنما استفيدت الإباحة مما قبل العاطفة وما بعدها معا ، لأن تعلم العلم خير ، وزيادة الخير خير ؛ فدلالة «أو» و «إمّا» في الإباحة والتخيير ، والشك والإبهام والتفصيل على معنى أحد الشيئين أو الأشياء على السواء ، وهذه المعاني تعرض في الكلام ، لا من قبل «أو» ، و «إمّا» بل من قبل أشياء أخر ؛ فالشك من قبل جهل المتكلم وعدم قصده إلى التفصيل أو الإبهام ، والتفصيل من حيث قصده إلى ذلك ، والإباحة ، من حيث كون الجمع يحصل به فضيلة ، والتخيير من حيث لا يحصل به ذلك ؛

وأمّا في سائر أقسام الطلب ، فالاستفهام نحو : أزيد عندك أو عمرو ، لا يعرض فيه شيء من المعاني المذكورة ؛ وأمّا التمني نحو : ليت لي فرسا أو حمارا ، فالظاهر فيه جواز الجمع ، إذ في الغالب من العادات أنّ من يتمنى أحدهما لا ينكر حصولهما معا ؛ وأمّا التحضيض ، نحو : هلّا تتعلم الفقه أو النحو ، وهلّا تضرب زيدا أو عمرا ، والعرض نحو : ألا تتعلم الفقه أو النحو وألا تضرب زيدا أو عمرا ، فكالأمر ، في الإباحة والتخيير بحسب القرينة ؛ ولما كثر استعمال «أو» في الإباحة التي معناها جواز الجمع ، جاز استعمالها بمعنى الواو ، قال :

وكان سيّان أن لا يسرحوا غنما

أو يسرحوه بها واغبرّت السّوح (١) ـ ٣٤٥

فإن «سيّان» بمعنى : مستويان ، وهو بين الشيئين ، وقال :

٨٨٣ ـ سيّان كسر رغيفه

أو كسر عظم من عظامه (٢)

وقد تجيء «أو» بمعنى «إلى» أو «إلّا» كما تقدّم في نواصب المضارع ، وإذا نفيت الخبر ، نحو : رأيت زيدا أو عمرا ، فإن أردت نفي رؤيتهما معا ، قلت : ما رأيت واحدا

__________________

(١) تقدم ذكره في الجزء الثاني آخر باب العطف ؛

(٢) هو من شعر محمد بن يحيى اليزيدي وهو من المحدثين يهجو شخصا بالبخل ، اسمه أبو المقاتل. وقبله :

استبق ودّ أبي المقا

تل حين تدنو من طعامه ؛

٣٩٨

منهما أو : ما رأيت أحدهما ، أو : ما رأيت زيدا ولا عمرا ، وإن أردت نفي رؤية أحدهما لا رؤيتهما ، فإن تعيّن عندك ذلك الواحد ، وقصدت تعيينه للمخاطب ، سمّيته ، نحو : ما رأيت زيدا ، أو : ما رأيت عمرا ، وإن لم يتعيّن عندك ، أو تعيّن وقصدت الإبهام قلت : ما رأيت زيدا أو عمرا ، فيكون المعنى : ما رأيت أحدهما ورأيت الآخر ؛

وكذا إن نفيت الأمر وهو النهي ، كما إذا قلت مثلا في : اضرب زيدا أو عمرا : لا تضرب زيدا أو عمرا ، فالقياس يقتضي أن يكون المعنى : لا تضرب أحدهما واضرب الآخر ، كما كان في الأمر معناه : اضرب أحدهما ولا تضرب الآخر ؛

فإن قلت : فلا يبقى ، إذن ، فرق بين الأمر والنهي ، ولا بين الخبر المثبت والمنفي في : رأيت زيدا أو عمرا ، وما رأيت زيدا أو عمرا ؛

قلت : لا يبقى فرق في أصل الوضع ، إلا إذا كان المعدود (١) أكثر من اثنين فإنك إذا قلت : اضرب زيدا أو عمرا أو خالدا ، فالمعنى اضرب أحدهم ولا تضرب الباقيين ، وإذا قلت : لا تضرب زيدا أو عمرا أو خالدا ، فالمعنى : لا تضرب أحدهم واضرب الباقيين ، وكذا في الخبر ، نحو : رأيت زيدا أو عمرا أو خالدا ، وما رأيت زيدا أو عمرا أو خالدا ، وهذا القياس هو مقتضى أصل الوضع ، ثم بعد ذلك ، جرت عادتهم أنه إذا استعمل لفظ «أحد» ، أو ما يؤدّي معناه ، في الإثبات ، فمعناه : الواحد فقط ، وإذا استعمل في غير الموجب فمعناه ، العموم في الأغلب ، ويجوز أن يراد الواحد فقط ، أيضا ؛

تفسير ذلك : أنك إذا قلت في الموجب مصرّحا بالواحد : رأيت واحدا من زيد وعمرو ، مثلا ، وكذلك فيما يؤدي معنى الواحد ، نحو : رأيت رجلا منهما ، أو : رأيت زيدا أو عمرا ، فإن كل واحد من الألفاظ الثلاثة أفاد أنك رأيت واحدا منهما فقط ، وإذا قلت في غير الموجب : ما رأيت واحدا منهما ، أو : ما رأيت رجلا منهما ، أو : ما رأيت زيدا أو عمرا ، فإن كل واحد من الألفاظ الثلاثة ، وإن احتمل أن تريد به الواحد

__________________

(١) أي المذكور في الكلام والمقصود منه ؛

٣٩٩

فقط فيكون المعنى : ما لقيت واحدا منهما ولقيت الآخر ، لكن الأظهر والأغلب في الاستعمال ، أن يكون المراد : ما لقيت واحدا منهما فكيف بما فوق الواحد ، أي أن المراد نفي رؤيتهما كليهما ، وإنما كان كذلك لأن الأصل عدم الرؤية ، فإذا قلت : لقيت واحدا منهما أو ما يؤدي معناه نحو : لقيت زيدا أو عمرا فقد أخرجت واحدا منهما مما كان أصله ، أي عدم الرؤية ، فيبقى الآخر على أصله ، أي غير مرئيّ ؛

وأمّا إذا قلت : ما لقيت واحدا منهما ، أو ما يؤدّي معناه ، وهو : ما لقيت زيدا أو عمرا ، والأصل عدم الرؤية ، ولم يصرّح فيه إلا بعدم رؤية واحد منهما ، فبقاء الآخر على أصله من عدم الرؤية أولى ، فيكون نفيا لمطلق الرؤية ؛

فإن قلت : فإذا كان الأصل عدم الرؤية ، كان عليك ألّا تأتي بمفعول لرأيت ، لا واحدا ولا أكثر ، حين تخشى توهم المخاطب أن هذا الأصل لم يبق على حاله ، بل كان يكفيك أن تقول : ما لقيت من جنس الرجال ، فما دعاك إلى تقييد نفي الرؤية بواحد؟

قلت قصد المبالغة ، وبيان ذلك أن الأصل ، أي عدم الرؤية ، بقي على حاله ، ولم ينتف بتعلقها بأقل ما يكون أي الواحد ، فما زاد ؛

وإذا تقرّر هذا ظهر لك علة قولهم : ان النكرة في غير الواجب تفيد العموم في الأغلب ، وذلك أن النكرة تفيد الوحدة ، والوحدة في غير الموجب تفيد العموم في الأغلب ، كما مضى ؛

فإن قصدت التنصيص على العموم قلت : ما لقيت من رجل ، ومن واحد ، وإذا قلت : ما لقيت رجلين ، أو رجالا ، فالمعنى : ما لقيت مثنى واحدا من هذا الجنس ، وما لقيت جماعة واحدة منه ؛ فمع عدم «من» يحتملان الاستغراق وغيره ، ومع «من» يصير الأول نصا في استغراقه لجميع مثنيات هذا الجنس ، والثاني نصا في استغراقه لجميع جماعاته ؛

فظهر أن معنى : ما رأيت زيدا أو عمرا : ما رأيت زيدا ولا عمرا ، في الأظهر ، وكذا معنى ، لا تضرب زيدا أو عمرا ؛ ويحتمل احتمالا مرجوحا : لا تضرب أحدهما

٤٠٠