شرح الرضيّ على الكافية

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


المحقق: يوسف حسن عمر
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات مؤسّسة الصادق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٢

وأمّا قوله تعالى : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ)(١) ، فنشهد ، محمول على نعلم لأن أصل الشهادة أن تكون عن علم ، ونشهد ، معلق ، كعلمت ، في نحو : علمت لزيد قائم ، إلا أن شهدت ، لا ينصب المفعولين نصب علمت ، فلا تقول : شهدت زيدا قائما ؛

وعلمت ، يجري مجرى القسم على ضعف ، فتقول ، إذن ، علمت إن زيدا قائم بكسر إن ، وكذا شهدت ، تقول ، في الشعر ، أشهد إنك ذاهب ، والمشهور الفتح فيهما ؛

وكذا ، قد يجيء : أشهد لقد رأيته كذا ، كأنه قيل : والله لقد رأيته ، وكذا : أشهد لأخرجنّ ، قال :

ولقد علمت لتأتينّ منيتي

ان المنايا لا تطيش سهامها (٢) ـ ٧٠٠

وقد يقال : ظننت لتموتنّ ، لكونه بمعنى علمت ، وإجراؤها مجرى القسم ضعيف ، كما أن حذف اللام المعلّقة بعدها ضعيف ، كعلمت : زيد قائم ، وشهدت : زيد فاضل ، كقوله :

إني وجدت ملاك الشيمة الأدب (٣) ـ ٦٩٧

والدليل على جواز إجراء الشهادة مجرى اليمين قوله تعالى : (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)(٤) ، ففي قولك : شهدت أن زيدا لقائم ، وأشهد : لزيد قائم ، يجوز أن يكون «شهدت» فيه معلّقا كظننت لزيد قائم ، ويجوز أن يكون مجرى مجرى القسم ، واللام ، وإنّ ، جوابه ، ولا يجوز إجراء شهدت مع الباء مجرى علمت ، نحو : أشهد بان زيدا لقائم ، لأن حرف الجرّ لا يعلّق ، ولا يجوز : أشهد أنه ذاهب وإنك لقائم ، لعطفك الجملة على المفرد (٥) ؛

__________________

(١) أول سورة : المنافقون ؛

(٢) تقدم في هذا الجزء ص ١٦٠ وهو من شعر لبيد بن ربيعة ؛

(٣) تقدم أيضا في هذا الجزء ، ص ١٥٦

(٤) الآية ٦ سورة النور ؛

(٥) في النسخة المطبوعة : لعطفك الجملة على الجملة ، وجاء في بعض النسخ : على المفرد ، وهو ما أثبتناه ؛

٣٦١

واعلم أن من العرب من يقول : لهنّك لرجل صدق ، قال :

٨٤٦ ـ أبائنة حبّي ، نعم وتماضر

لهنّا لمقضيّ علينا التهاجر (١)

وقال :

٨٤٧ ـ لهنّي لأشقى الناس إن كنت غارما

لدومة بكرا ضيّعته الأراقم (٢)

وقد تحذف اللام وهو قليل ، كقوله :

٨٤٨ ـ ألا ياسنا برق على قلل الحمى

لهنّك من برق عليّ كريم (٣)

وفيه (٤) ثلاثة مذاهب : أحدها لسيبويه (٥) ، وهو أن الهاء بدل من همزة «ان» ، كايّاك وهيّاك ؛ فلما غيّرت صورة «إن» بقلب همزتها هاء ، جاز مجامعة اللام إياها بعد الامتناع ؛

والثاني قول الفراء ، وهو أن أصله : والله إنك ، كما روي عن أبي أدهم الكلابي : له ربّي لا أقول ذلك ، بقصر اللام ثم حذف حرف الجر ، كما يقال : الله لأفعلنّ ، وحذف لام التعريف ، أيضا ، كما يقال : لاه أبوك ، ثم حذف ألف «فعال» (٦) ، كما يحذف من الممدود إذا قصر ، كما يقال : الحصاد ، والحصد ، قال :

__________________

(١) حبىّ بضم الحاء والألف المقصورة من أسماء النساء ، وكذلك : تماضر ، والتهاجر : أن يهجر كل واحد صاحبه ، وقد أورد البغدادي هذا الشاهد مرويّا عن أبي علي الفارسي ، وقد أورد له نظائر وشرحها. ثم قال : لم أر هذا البيت مرويا عن غير الفارسي ولا أعرف قائله ؛

(٢) البيت بهذه الصورة وهذا العجز ، مروي أيضا عن الفارسي ، ولم يذكر البغدادي شيئا عنه أكثر من ذلك ثم شرح وجه الشاهد فيه وبيّن المراد بالأراقم وأنها ستة أحياء من العرب. ثم ذكر صدر هذا البيت مختوما بشطرين آخرين : أحدهما في شعر خداش بن زهير ، والثاني في شعر : تليد الضبيّ ، وأورد شيئا من شعر كل منهما ؛

(٣) لم ينسبه البغدادي ولا أحد ممن ذكره غير أنه مروي عن ثعلب والمبرد ، ورواه ابن جني وجاء في سند روايته اسم محمد بن يزيد بن سلمة ، فنسبه بعضهم إلى محمد بن سلمة وأخذ بذلك العيني في الشواهد الكبرى وهو من أبيات جميلة المعنى منسوبة لأحد أسرى بني تميم ؛

(٤) أي في الجمع بين إنّ واللام ؛

(٥) في سيبويه ج ١ ص ٤٧٤ وبهامشها تلخيص للأقوال الثلاثة منقول عن السيرافي ؛

(٦) أي الألف في : إله ، لأنه على وزن فعال ؛

٣٦٢

٨٤٩ ـ ألا لا بارك الله في سهيل

إذا ما الله بارك في الرجال (١)

ثم حذفت همزة «إنك» ، وفيما قال : تكلفات كثيرة ؛

والثالث ما حكى المفضل بن سلمة عن بعضهم أن أصله لله إنك ، واللام للقسم ، فعمل به ما عمل في مذهب الفرّاء ؛ وقول الفراء أقرب من هذا ، لأنه يقال : لهنّك لقائم ، بلا تعجّب (٢) ؛

وأمّا قولهم : ان زيدا ليضربنّ ، بنون التأكيد ، و : ان زيدا لقام بدون «قد» ، فاللام فيهما جواب قسم مقدّر ، أي : والله ليضربنّ ، و : والله لقام ، وإنما جاز حذف «قد» في الماضي مع لام جواب القسم ، دون لام «ان» ، وإن كان كلاهما في الأصل لام الابتداء ؛ لأن القسم يحتمل الحذف أكثر ، لأن هناك جملتين في حكم جملة واحدة ، ألا ترى إلى تخفيفات : أيمن ، ووجوب حذف الخبر في : لعمرك ، و : أيمن الله ، وجواز حذف الجار في : ألله لأفعلنّ ؛

ولا تجيء لام الابتداء ، من جملة الحروف الستة ، إلا بعد «ان» المكسورة ؛ وألحق الكوفيون بها «لكنّ» مستدلين بقوله :

٨٥٠ ـ ولكتّني من حبّها لعميد (٣)

قالوا : إن ذلك لأنها لا تغيّر معنى الابتداء ، كإنّ ، ولذا جاز العطف على محل اسمها بالرفع ؛

__________________

(١) نقله البغدادي مع بيت آخر يشبهه ، عن ابن عصفور ، ونقل عنه أن قطرب هو الذي أنشدهما ، وقطرب هو محمد بن المستنير ، ونقل البغدادي عن المبرد عن أبي عبيدة أن أبا حاتم السجستاني نسب البيت الآخر إلى قطرب وقال انه هو الذي صنعه ؛

(٢) لأنه تقدم أن لفظ الجلالة إذا استعمل في القسم باللام ، فإنما يكون ذلك في الأمور العظام التي يتعجّب منها. ونحو : لهنك قائم ، لا تعجب فيه لأنه أمر عاديّ ؛

(٣) لم يذكر أحد ممن استشهد بهذا الشطر ، تكملة له وأجمعوا على أنه غير معروف القائل وقد ورد في شرح ابن الناظم وله صدر هو قوله : يلومونني في حب ليلى عواذلي ؛

٣٦٣

وأمّا البصريون فقالوا : كان حق اللام ألّا تجامع «إنّ» المكسورة ، أيضا ، لأنها تسقط بسببها عن مرتبة الصدر ، لكن ، جازت مجامعتها لها ، لشدّة تناسبهما بكونهما بمعنى واحد ، فاغتفر لذلك سقوطها عن مرتبتها ، بخلاف «لكنّ» ، فإنها لا تناسبها معنى ، فلم يغتفر معها ، سقوطها عن مرتبتها ؛ وما أنشدوه ، فإمّا أن يكون شاذا كما في قوله :

أمّ الحليس لعجوز شهربه (١) ـ ٨٤٠

وإمّا أن يكون في الأصل : لكن انني ، فخفف بحذف الهمزة ونون «لكن» ، كما خففت في : (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي)(٢) ، اتفاقا منهم ، بحذف الهمزة ، وأصله : لكن أنا ؛

واعلم أن «إنّ» المكسورة ترادف «نعم» ، كما يجيء في حروف التصديق ، فلا تعمل ؛

وترادف المفتوحة «لعلّ» ، فتعمل ؛ والمفتوحة لكونها مع جزأيها : اسما مفردا ، تقع اسما لهذه الأحرف الستة ، لكن يجب فصلها عنها بالخبر ، كراهة اجتماعهما ، نحو : إنّ عندي أنك قائم ، وليت في قلبك أنك تعطيني ، وكذا في البواقي ؛

و «أنّ» مع ما في حيّزها : بدل اشتمال من «إحدى» في قوله تعالى : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ)(٣) ، ومن «كم» ، في قوله : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ)(٤) ،

وأمّا قوله تعالى : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ)(٥) فقوله مخرجون ، خبر لأنكم الأولى ، وانكم الثانية معادة لتأكيد الأولى ، لمّا تراخى ما بينها

__________________

(١) الشاهد المتقدم في ص ٣٥٩ ؛

(٢) الآية ٣٨ سورة الكهف ؛

(٣) الآية ٧ سورة الأنفال ؛

(٤) الآية ٣١ سورة يس ؛

(٥) الآية ٣٥ سورة المؤمنون ؛

٣٦٤

وبين الخبر ؛ كما كرر «فلا تحسبهم» لما تراخى ما بين مفعولي (لا تَحْسَبَنَّ) في قوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا ، فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ)(١) ، ومثله قوله تعالى : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ)(٢) ، وهذا قول الجرمي (٣) ، وهو الحق ؛ وقال المبرّد : أنكم مخرجون : مبتدأ ، خبره : إذا متم ، والجملة الاسمية : خبر أنكم الأولى ، أي أنكم وقت موتكم إخراجكم ؛

ويجوز وقوع «انّ» المكسورة خبرا للأحرف الستة ، كقوله :

٨٥١ ـ إن الخليفة ، إن الله سربله

لباس ملك به تزجى الخواتيم (٤)

وقوله :

٨٥٢ ـ لقد علم الحيّ اليمانون أنني

إذا قلت أما بعد : إني خطيبها (٥)

بكسر «إن» ، وروي : أني بالفتح ، على أن يكون «أني» تكريرا لأنني الأولى ، كما قلنا في الآية الكريمة ؛

[تخفيف إنّ]

[مفتوحة ومكسورة وأثره]

قوله : «وتخفف المكسورة .. إلى آخره» ، إذا خفّفت المكسورة ، بطل اختصاصها بالأسماء فيغلب الإلغاء ، قال تعالى في الاعمال : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ). بتخفيف

__________________

(١) الآية ١٨٨ سورة آل عمران ؛

(٢) من الآية ٣٧ في سورة يوسف ، والآية ٧ في سورة فصلت ،

(٣) أبو اسحاق الجرمي ممن تكرر ذكرهم في هذا الشرح ؛

(٤) من قصيدة لجرير في مدح عمر بن عبد العزيز ، قال البغدادي : والذي رأيته في ديوانه في نسخة صحيحة قديمة : يكفي الخليفة أنّ الله .. الخ وعليه فلا شاهد فيه على ما قال الشارح ؛ ثم أورد بعض أبيات من تلك القصيدة ؛

(٥) منسوب إلى سحبان بن وائل خطيب العرب في الجاهلية ، وروى صدره : ـ

٣٦٥

«إن» (١) ، ولا يجوز عند الكوفيين اعمال المخففة ، والآية رد عليهم ؛

قال المصنف : ويلزمها اللام مع التخفيف ، سواء أعملت أو أهملت ، أمّا مع الإهمال فللفرق بين المخففة والنافية ، وأما مع الاعمال فللطرد ، وهو خلاف مذهب سيبويه ، وسائر النحاة ، فإنهم قالوا : المعملة لا يلزمها اللام ، لحصول الفرق بالعمل ؛

وقال ابن مالك ، وهو حسن : يلزمها اللام إن خيف التباسها بالنافية ، فعلى قوله ، تلزم اللام إن كان الاسم مبنيا أو معربا مقصورا ؛

وأمّا إن دخلت على الأفعال : لزمت (٢) اللام ؛ وقولهم : أما إن جزاك الله خيرا ، لم تدخل فيه اللام ، لأن الدعاء لا تدخله «إن» النافية (٣) ؛

فإذا دخلت المخففة على الفعل ، لزم عند البصرية ، كونه من نواسخ الابتداء ، حتى لا تخرج «ان» بالتخفيف عن أصلها بالكلية ،

والكوفيون يعمّمون جواز دخولها على الأفعال كلها ، قياسا ، كقوله :

٨٥٣ ـ تالله ربّك إن قتلت لمسلما

وجبت عليك عقوبة المتعمد (٤)

وقولهم : إن يزينك لنفسك ، وإن يشينك لهبه ، وهو عند البصريين شاذ ؛

واختلف في هذه اللام الفارقة ، فمذهب أبي علي وأتباعه أنها غير لام الابتداء التي

__________________

= وقد علمت قيس بن عيلان أنني ... وتأنيث الفعل في علمت باعتبار أن «قيس» قبيلة ووصفها بابن باعتبار أن أصل قيس اسم لأبي هذه القبيلة ؛

(١) مع تخفيف الميم من «لما» ؛

(٢) كثر هذا الاستعمال في كلام الرضي ، وهو عدم قرن جواب أمّا بالفاء ، وكان يكفي أن يقول : وإن دخلت ...

لزمت اللام ؛

(٣) فلا يحتاج إذن ، إلى اللام الفارقة لأنه لا يلتبس ؛

(٤) روي : شلّت يمينك ، وهي الرواية المشهورة عند كل من استشهدوا به ، وهو من شعر عاتكة بنت زيد العدوية ، ترثي زوجها الزبير بن العوام الذي قتله ابن جرموز وتدعو عليه بالشلل في يده ، ومعناه : ما قتلت إلا رجلا مسلما ، وفي ألفاظ البيت روايات كثيرة ، وقد وضح الشارح المقصود من ذكره ؛

٣٦٦

تجامع المشدّدة ، بل هي لام أخرى للفرق ، إذ لو كانت للابتداء لوجب التعليق في : إن علمت لزيدا قائما ، ولما دخلت فيما لا تدخله لام الابتداء في نحو : إن قتلت لمسلما ، وإن يزينك لنفسك ؛

وذهب جماعة إلى أنها لام الابتداء ؛ والجواب عن قولهم : إن علمت لزيدا قائما : أن التعليق واجب ، لو دخلت على أوّل مفعولي أفعال القلوب ، إلّا أنها لا تدخل بعد الأفعال الناسخة للابتداء إلا على الجزء الأخير وهو الخبر ؛ وتدخل مع المثقّلة ، إمّا على المبتدأ المؤخر ، أو الخبر ، أو القائم مقامه ، وفي الأمثلة الواردة في التنزيل : لم تدخل إلا على ما كان خبرا في الأصل ، نحو : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً)(١) ، و : (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ)(٢) ، و : (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ)(٣) و : (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ)(٤) ؛ ولمّا نصب الأوّل لخلوه عن مانع ومعلق ، فلا بدّ من نصب الثاني ، وإن دخله لام الابتداء ، قال تعالى : (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ)(٥) ، و : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ)(٦) ؛

وأمّا قوله : إن قتلت لمسلما ، و : ان يزينك لنفسك ، فشاذ ؛

وفرق الكسائي بين «إن» مع اللام في الأسماء ، وبينها معها في الأفعال ، فجعلها في الأسماء : المخففة ؛ وأمّا في الأفعال فقال : إن ، نافية ، واللام بمعنى «إلّا» ، لأن المخففة بالاسم أولى ، نظرا إلى أصلها ، والنافية بالفعل أولى ، لأن معنى النفي راجع إلى الفعل ،

وغيره من الكوفيين قالوا : إنها نافية مطلقا ، دخلت في الفعل ، أو في الاسم ، واللام بمعنى «إلّا» ؛

__________________

(١) الآية ١٤٣ سورة البقرة ؛

(٢) الآية ٢ سورة يوسف ؛

(٣) الآية ١٠٢ سورة الأعراف ؛

(٤) الآية ١٨٦ سورة الشعراء ؛

(٥) من الآية ٥١ سورة القلم ؛

(٦) الآية ٧٣ سورة الإسراء ؛

٣٦٧

وقال البصريون : لو كانت اللام بمعنى «إلّا» ، لجاز : جاءني القوم لزيدا أي : إلا زيدا ؛ ولا يلزم ما قالوا (١) ، إذ ربّما اختص بعض الأشياء ببعض المواقع ، كاختصاص «لمّا» بالاستثناء بعد النفي ؛

ومنع أبو علي في المكسورة المخففة المهملة ، من تقدير ضمير الشأن بعدها وجوّز ذلك بعضهم قياسا على المفتوحة ، وقد مرّ ذلك في باب الضمائر (٢) ؛

قوله : «وتخفف المفتوحة فتعمل في ضمير شأن مقدّر» ، قد مرّ ذلك في ضمير الشأن ، مع الخلاف في ذلك (٣) ؛ وحكى بعض أهل اللغة اعمالها في المضمر في السعة نحو قولهم : أظن أنك قائم ، وأحسب أنه ذاهب ، وهذه رواية شاذة غير معروفة ، وأمّا في الضرورة فجاء في المضمر فقط ، قال :

فلو أنك في يوم الرخاء سألتني

طلاقك لم أبخل وأنت صديق (٤) ـ ٣٩٦

وقال :

٨٥٤ ـ بأنك ربيع وغيث مريع

وأنك هناك تكون الثمالا (٥)

قوله : «ويلزمها مع الفعل .. إلى آخره» ، قد مضى شرحه في نواصب المضارع (٦) ؛

__________________

(١) دفاع من الرضي عن مذهب الكوفيين ؛

(٢) في آخر الجزء الثاني ؛

(٣) في بحث ضمير الشأن في الجزء الثاني ؛

(٤) تقدم ذكره في باب الضمائر ، في بحث ضمير الشأن ؛ في آخر الجزء الثاني. وهو بيت مجهول القائل مع كثرة ذكره في كتب النحو ، وقوله وأنت صديق وإن كان صديق فعيلا بمعنى فاعل ، قد ترك تأنيثه حملا على فعيل بمعنى مفعول ، ومبرره أن يكون مثل ضده وهو عدو ، فعول بمعنى فاعل ؛

(٥) من شعر جنوب بنت العجلان الهذلية في رثاء أخيها عمرو بن العجلان الملقب بذي الكلب ؛ وقبله :

لقد علم الضيف والمرملو

ن إذا اغبرّ أفق وهبّت شمالا

وخلّت عن أولادها المرضعا

ت ولم تر عين لمزن بلالا.

(٦) في أول هذا الجزء ؛

٣٦٨

وإذا دخلت على الجملة الاسمية ، فقد تكون الجملة مجرّدة ، كقوله :

في فتية كسيوف الهند قد علموا

أن هالك كل من يحفى وينتعل (١) ـ ٦٢٤

وقد تكون مصدّرة بلا ، نحو : علمت أن لا شيء لك ، أو بأداة الشرط ، نحو : علمت أن من يضربك أضربه ، أو : بربّ ، نحو : علمت أن ربّ خصم لي ، على مذهب الكوفيين ، أو : بكم ، نحو : علمت أن كم غلام لي ؛

[بقيّة الأحرف]

[معانيها واستعمالاتها]

[قال ابن الحاجب :]

«كأنك ، للتشبيه ، وتخفف ، فتلغى على الأصح ، ولكنّ ،» «للاستدراك يتوسط بين كلامين متغايرين معنى ، وتخفف» «فتلغى ، ويجوز معها الواو ، وليت للتمني ، وأجاز الفراء :» «ليت زيدا قائما ولعلّ ، للترجّي ، وشذ الجرّ بها» ؛

[قال الرضي :]

في «كأنّ» قولان ، قال بعضهم : انها غير مركّبة ، لعدم الدليل عليه ، ومذهب الخليل (٢) : أن أصل كأنّ زيدا أسد : إن زيدا كالأسد ، قدّمت أداة التشبيه لتؤذن من أول الأمر بقصد التشبيه ، فوجب فتح «انّ» المكسورة ، رعاية للفظ الكاف ، لأنها لا تدخل إلا على لفظ المفردات ، ففتحت لفظا ، وهي في المعنى باقية على حالها ، لم تصر

__________________

(١) تقدم ذكره في هذا الجزء ص ٣٢ ؛

(٢) قال سيبويه ج ١ ص ٤٧٤ : وسألت الخليل عن كأنّ ، فزعم أنها أنّ لحقتها الكاف .. الخ ؛

٣٦٩

بالفتح حرفا مصدريا ، فصار الكاف مع «ان» كلمة واحدة ، فلا عمل للكاف ، كما كان لها حين كانت في محل خبر «إن» ، لصيرورتها كجزء الحرف ، كما ذكرنا في كاف «كذا» و «كأيّن» (١) ، ولا تقتضي ما تتعلق به ، كما كانت تقتضيه حين كانت في محلّ الخبر ، لأنها خرجت بالجزئية عن كونها جارّة ؛

فإذا خففت «كأنّ» فالأصح إلغاؤها ، وقد جاء :

٨٥٥ ـ كأن وريديه رشاء خلب (٢)

وقال :

٨٥٦ ـ وصدر مشرق اللون

كأن ثدياه حقّان (٣)

وإذا لم تعملها لفظا ، ففيها ضمير شأن مقدّر عندهم ، كما في «أن» المخففة ، ويجوز أن يقال : ان ذلك غير مقدّر بعدها لعدم الداعي إليه ، كما كان في «أن» المخففة ، لكن لمّا لزم الفعلية التي تليها ، ما لزم «أن» المخففة من حروف العوض (٤) ، قوي إضمار الشأن بعدها ، إجراء لها مجرى «أن» ؛ ولزوم حرف العوض بعدها في الفعلية ، يقوّي كونها مركبة من الكاف وأنّ ؛

ويجيء بعد المهملة : اسمية ، كقوله :

__________________

(١) انظر باب الكنايات في الجزء الثالث ؛ من هذا الشرح ؛

(٢) روي قبله : ومعتد فظ غليظ القلب ؛ وبعد الشاهد : تركته مجدّلا كالكلب. وهو في سيبويه ج ١ ص ٤٨٠ ؛ ونسبه بعضهم لرؤبة بن العجاج ، والرشاء الحبل الذي يستقى به ، والخلب أراد به البئر ؛

(٣) روي : ووجه ، كما روي : ونحر ، وأنسب الروايات : وصدر كما هو هنا ، وهو أحد أبيات سيبويه التي لم يعرف قائلوها. وكثر تشبيه الشعراء للثدي بالحق. لأنه كان ينحت أحيانا من العاج ؛

(٤) الحروف التي تقدم ذكرها في الكلام على أن المفتوحة إذا خففت وعملت في ضمير الشأن ؛

٣٧٠

٨٥٧ ـ عبأت له رمحا طويلا وألة

كأن قبس يعلى بها حين تشرع (١)

وفعلية ، كقوله تعالى : (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ)(٢) ، وقوله رضي الله عنه في نهج البلاغة : «كأن قد وردت الأظعان» (٣) ، وقوله :

أفد الترحل غير أن ركابنا

لما تزل برحالنا وكأن قد (٤) ٥١٣

أي : وكأن قد زالت بها ؛ وإن جاء بعدها مفرد كقوله :

٨٥٨ ـ تمشّي بها الدرماء تسحب قصبها

كأن بطن حبلى ذات حولين متئم (٥)

فالمحذوف غير ضمير الشأن ، أي : كأن بطنها بطن حبلى ؛ وقوله :

٨٥٩ ـ ويوما توافينا بوجه مقسّم

كأن ظبية تعطو إلى وارق السّلم (٦)

برفع ظبية ، يجوز أن يكون «ظبية تعطو» جملة اسمية ، وأن يكون «تعطو» صفة ظبية ، واسم كأن محذوف ، أي : كأنها ظبية ،

ويروى : كأن ظبية بالنصب على إعمال «كأن» ، ويروى بجرّها ، على أنّ «أن» زائدة ، أي : كظبية ؛

__________________

(١) من أبيات أوردها أبو تمام في الحماسة ؛ ونسبت لشاعر اسمه مجمّع بن هلال كما في شرح المرزوقي على الحماسة ، وقوله : ألّة بفتح الهمزة وتشديد اللام من الأليل وهو البريق واللمعان ، يريد بها السنان وقال في اللسان هي الحربة العظيمة النصل ؛

(٢) الآية ٢٤ سورة يونس ؛

(٣) أسلوب يراد به قرب وقوع الشيء ؛ وهو كثير في الكلام العربي الفصيح ، ومثله هذا قوله رضي الله عنه : كأنّ قد حلّ بكم الموت ؛

(٤) تقدم الاستشهاد به في باب المعرفة والنكرة من الجزء الثالث ؛

(٥) في الخزانة نسبه إلى رجل من بني سعد بن زيد مناة ، مع بيت قبله وهو :

وخيفاء ألقي الليث فيها ذراعه

فسرّت وساءت كل ماش ومصرم

وأورد صاحب الإنصاف البيتين معا ، وفي اللسان نسبتهما إلى ذي الرمة ؛

(٦) قيل. إن قائله باعث بن صريم اليشكري ، وليس زيد بن أرقم ، وهو من شواهد سيبويه ج ١ ص ١٨١ وقد نسبه لباعث ووافقه الأعلم ، وفي اللسان منسوب لشاعر آخر اسمه كعب بن أرقم اليشكري قاله في امرأته. قال ابن منظور وهو الصحيح ؛

٣٧١

قوله : «ولكنّ» ، هي عند البصريين مفردة ، وقال الكوفيون : هي مركبة من «لا» و «إنّ» المكسورة ، المصدّرة بالكاف الزائدة ، وأصله : لا كإنّ ، فنقلت كسرة الهمزة إلى الكاف ، وحذفت الهمزة ، ف «لا» تفيد أن ما بعدها ليس كما قبلها بل هو مخالف له نفيا وإثباتا ، و «إن» تحقق مضمون ما بعدها ؛

ولا يخفى أثر التكلف فيما قالوا ، وهو نوع من علم الغيب ، وفيه نقل الحركة إلى المتحرك ، وهو كما قالوا ان «كم» مركبة من الكاف و «ما» ، والأصل عدم التركيب ؛

قوله : «بين كلامين متغايرين معنى» ، أي : في النفي والإثبات ، والمقصود : التغاير المعنوي لا اللفظي ، فإن اللفظي قد يكون نحو : جاءني زيد ، لكن عمرا لم يجئ ؛ وقد لا يكون (١) ؛ كقوله تعالى : (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً)(٢) إلى قوله : (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) ، أي : ولكن الله لم يركهم كثيرا ، وتقول : زيد حاضر ، لكن عمرا مسافر ، ولا يلزم التضاد بينهما تضادّا حقيقيا بل يكفي تنافيهما بوجه ما ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)(٣) ، فإن عدم الشكر غير مناسب للإفضال ، بل اللائق به أن يشكر المفضل ، ومثله كثير ؛

فإذا خففت ألغيت ، والأخفش ويونس ، أجازا إعمالها مخففة ، ولا أعرف به شاهدا ؛

ويجوز دخول الواو عليها مشدّدة ومخففة ، ويجوز كون الواو عاطفة للجملة على الجملة ؛ وجعلها اعتراضية أظهر من حيث المعنى ؛

وجاء في الشعر حذف نون المخففة للساكنين ، قال :

__________________

(١) نبهنا كثيرا إلى ضعف هذا الأسلوب ؛

(٢) من الآية ٤٣ في سورة الأنفال ؛

(٣) الآية ٢٤٣ سورة البقرة ؛

٣٧٢

٨٦٠ ـ فلست بآتيه ولا مستطيعه

ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل (١)

قوله : «وليت للتمني .. إلى آخره» ، قد مضى شرحه في أول هذا الباب (٢) ،

قوله : «ولعلّ للترجي ، وشذ الجرّ بها» ، فيها إحدى عشرة لغة ؛ أشهرها : لعلّ ،؟؟؟ جاء : لعنّ بعين غير معجمة ، و : لغنّ ، بغين معجمة ، وآخرهما نون ؛ وجاء : رعن ، ورغنّ ، بجعل الراء مقام اللام ، ولأنّ ، وأنّ ؛ ولعاء بالمدّ ، قال :

٨٦١ ـ لعاء الله فضلكم علينا

بشيء أنّ أمّكم شريم (٣)

وقد يقال : لعلّت ، كربّت ؛

وعقيل : يجرّون بلعلّ ، مفتوحة اللام الأخيرة ومكسورتها ، وكذا ، بعلّ ، مكسورة اللام ومفتوحتها ؛ قال :

٨٦٢ ـ فقلت ادع أخرى وارفع الصوت جهرة

لعلّ أبي المغوار منك قريب (٤)

وهي مشكلة ، لأن جرّها ، عمل مختص بالحروف ، ورفعها ، لمشابهة الأفعال ، وكون حرف عاملا عمل الحروف والأفعال في حالة واحدة مما لم يثبت ، وأيضا ، الجارّ لا بدّ له من متعلق ، ولا متعلّق لها هنا ، لا ظاهرا ولا مقدّرا ، فهي مثل «لولا» ، الداخلة على المضمر المجرور ، عند سيبويه : جارّة لا متعلق لها ؛

__________________

(١) من أبيات في وصف الذئب ، قالها قيس بن عمرو بن مالك وشهرته النجاشي يصف لقاءه للذئب وأنه دعاه مشاركته في طعامه ومصادقته ، فقال له الذئب إني لا أستطيع أن أخرج من طبعي .. الخ والبيت في سيبويه ج ١ ص ٩ ؛

(٢) ص ٣٣٢ في هذا الجزء ؛

(٣) المشهور الذي أورده كل من استشهد به من شراح الألفية وغيرهم : لعلّ ؛ باللام المشدّدة كما هو المشهور في استعمالها وقوله شريم يقال امرأة شريم أي مفاضة اختلط قبلها بدبرها ؛ وهو من العيوب ؛ والبيت مجهول القائل ؛

(٤) من قصيدة لكعب بن سعد الغنوي ؛ وأبو المغوار اسم رجل يرثيه كعب بهذه القصيدة ، ويروى لعل أبا المغوار على اللغة الفصحى ، وقبل هذا البيت قوله :

وداع دعا يا من يجيب نداءه

فلم يستجبه عند ذاك مجيب ..

٣٧٣

وفي البيت الذي أنشدناه ، إن روي بفتح اللام الأخيرة ، يحتمل أن يقال : اسم لعلّ ، وهو ضمير الشأن ، مقدّر ، وأبي المغوار مجرور بلام مقدرة ، حذفت لتوالي اللامات ، أي : لعله لأبي المغوار منك : جواب قريب ، ويجوز أن يقال : ثاني لامي لعلّ محذوف ، واللام المفتوحة جارّة للمظهر ، كما نقل عن الأخفش أنه سمع من العرب فتح لام الجر ، الداخلة على المظهر ، ونقل أيضا ، ذلك عن يونس وأبي عبيدة (١) والأحمر (٢) ؛ وإن روي بكسر اللام ، فضمير الشأن ، أيضا مقدر ، مع حذف ثاني لامي لعلّ ، لاجتماع الأمثال ، ثم أدغمت الأولى ، في لام الجر ؛ ويجوز في هذه الرواية أن يقال : الأصل : لعا ، أي انتعش ، دعاء له ، فأدغم تنوينه في لام الجر ؛

وهذه الوجوه (٣) متعذرة فيما أنشده أبو عبيدة :

٨٦٣ ـ لعلّ الله يمكنني عليها

جهارا من زهير أو أسيد (٤)

بجرّ «الله» ؛

واللام الأولى في «لعلّ» زائدة عند البصرية ، أصلية عند الكوفية ، لأن الأصل عدم التصرف في الحروف بالزيادة ، إذ مبناها على الخفة ، والبصرية نظروا إلى كثرة التصرف فيها والتلقّب بها ، وجواز زيادة التاء فيها ؛

فإن سمّي بها لم تنصرف عند البصريين ، للتركيب والعلمية ، وكذا عند الكوفيين ، لشبه العجمة والعلمية ، لأنها ليست من أوزان كلامهم ؛

__________________

(١) يونس بن حبيب ، وأبو عبيدة : معمر بن المثنى ، وخلف الأحمر ، تقدم ذكرهم جميعا ؛

(١) يونس بن حبيب ، وأبو عبيدة : معمر بن المثنى ، وخلف الأحمر ، تقدم ذكرهم جميعا ؛

(٢) أي المذكورة في لعلّ ؛ إذا جرّت ؛

(٣) من أبيات قالها خالد بن جعفر من بني عامر ، وهو شاعر جاهلي فارس ، وزهير وأخوه أسيد بفتح الهمزة وكسر السين ، ابني جذيمة بن رواحة العبسيّ كانت بينهما وبين بني عامر خصومة وقتل خالد زهيرا في قصة ذكرها البغدادي ؛

٣٧٤

[أحوال الاسم والخبر]

[بعد هذه الأحرف]

واعلم أن حال الاسم والخبر بعد دخول هذه الأحرف عليهما كحالهما قبل دخولها ، لكنه يجب تأخير الخبر ههنا ، إلا أن يكون ظرفا أو جارّا أو مجرورا ، فيجوز توسطه بين هذه الحروف وأسمائها ، نحو : ان في الدار زيدا ، وإن كان الاسم مع ذلك نكرة ، وجب تأخيره ، نحو : (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً)(١) كما في المبتدأ والخبر ، وكل ذلك قد ذكرناه في باب المرفوعات ، في خبر «انّ» (٢) ؛ ولا يجوز حذف أسمائها التي ليست بضمير الشأن إلا في الشعر ، على قلة وضعف ، كقوله :

٨٦٤ ـ فلو كنت ضبّيا عرفت قرابتي

ولكنّ زنجيّ غليظ المشافر (٣)

فيمن روى برفع «زنجيّ» أي : ولكنك زنجي ، ومن روى بنصبه ، فالخبر محذوف ، أي : ولكن زنجيا هكذا ، لا يعرف قرابتي ؛

وأمّا ضمير الشأن فيجوز حذفه في الشعر كثيرا ، كقوله :

إنّ من لام في بني بنت حسّا

ن ، ألمه وأعصه في الخطوب (٤) ـ ٣٩٥

وقوله :

__________________

(١) الآية ١٢ سورة المزمّل ؛

(٢) في الجزء الأول ؛

(٣) هو من شعر الفرزدق ، وصوابه : غلاظا مشافره ، لأنه من قصيدة موصولة بالهاء كما قال محقق الانصاف ، والاستشهاد لا يتغيّر ؛ والمشافر جمع مشفر بفتح الميم وكسرها وهو من البعير بمنزلة الشفة في الإنسان ، وقصد الشاعر الشفاه وسماها مشافر تشبيها له بالإبل ؛

(٤) من شعر الأعشى ميمون بن قيس وتقدم ذكره في الجزء الثاني ، في بحث ضمير الشأن ؛

٣٧٥

إن من يدخل الكنيسة يوما

يلق فيها جآذرا وظباء (١) ـ ٧٧

وذلك لأن أداة الشرط ، لا تعمل فيها العوامل اللفظية المتقدمة ؛

وأمّا في غير الشعر ففيه خلاف ، والأصح جوازه قليلا ، لكن بشرط ألّا يلي الأحرف فعل صريح ، لكراهة دخول الأحرف المختصة بالاسم على الفعل الصريح ، فلا تقول : انّ قام زيد بمعنى إنه قام زيد ؛

وحكى الخليل (٢) عن بعض العرب : إنّ بك زيد مأخوذ ، أي : إنه ، وتقول : إنّ في الدار يجلس أخواك ، قال :

٨٦٥ ـ كأنّ على عرنينه وجبينه

أقام شعاع الشمس أو طلع البدر (٣)

وإنما جاز حذف ضمير الشأن من غير ضعف ، لبقاء تفسيره ، وهو الجملة فهو كالزائد ؛ وجاء في الخبر : «انّ من أشدّ الناس عذابا يوم القيامة : المصوّرون» ؛ وعند الكسائي : «من» فيه زائدة ، وعند ابن كيسان (٤) الحروف في مثله ، غير عاملة لفظا ، كالمكفوفة ؛

وإذا علم الخبر جاز حذفه مطلقا ، سواء كان الاسم معرفة أو نكرة ، والكوفيون يشترطون تنكير الاسم ، لكثرة ما جاء كذلك ، نحو قوله :

٨٦٦ ـ إن محلّا وإن مرتحلا

وإن في السّفر إذ مضوا مهلا (٥)

أي : ان لنا محلا في الدنيا ، ومرتحلا في الآخرة ، وإن في رحيل السّفر إذ مضوا إلى الآخرة مهلا ، أي سبقا ، أي : لا يرجع الراحلون إلى الآخرة ؛

__________________

(١) تقدم ذكره في باب المبتدأ والخبر في الجزء الأول وفي ضمير الشأن في آخر الجزء الثاني ؛

(٢) نقله عنه سيبويه في الجزء الأول ص ١٨١ ؛

(٣) قال البغدادي لم أقف على قائل هذا البيت ولم أره إلا في كتاب الضرائر ، ثم ذكر ما يشبهه في معناه وأورد بيتا يتفق معه في صدره منسوبا إلى خارجة بن فليح الملكي ثم قال : لم أدر السابق منهما ؛

(٤) تكرر ذكره في هذا الجزء وفي الأجزاء السابقة ؛

(٥) من شعر الأعشى ميمون بن قيس واستشهد به كثير من النحاة ، وهو في سيبويه ج ١ ص ٢٨٤ ، وقد شرحه الرضي ، وبيّن وجه الاستشهاد به ؛

٣٧٦

وتقول : إن مالا وإن ولدا ، وإن غيرها ابلا أو شاء ، أي : إن لنا ذلك ؛ والفراء يشترط في جواز حذف أخبارها : تكرير «ان» ، كما قيل ، ان أعرابيا قيل له : إن الزبابة الفأرة (١) ، فقال : ان الزبابة ، ان الفأرة ، أي : هما مختلفان ؛

والردّ على المذهبين : ما روي أن المهاجرين قالوا : يا رسول الله ، ان الأنصار نصرونا ووصلونا ، قد فضلونا ، وآوونا ، وفعلوا بنا ، فقال عليه الصلاة والسّلام : ألستم تعرفون ذلك ، قالوا : بلى يا رسول الله ، فقال عليه السّلام : انّ ذلك ؛ أي : ان ذلك كذلك ، وما روي من قول عمر بن عبد العزيز ، لمن متّ إليه (٢) بقرابة : ان ذلك ، أي مصدّق ، ثم ذكر الماتّ حاجته ، فقال عمر : لعل ذلك ، أي : لعل مطلوبك حاصل ،

وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)(٣) ، أي : هلكوا ، وقيل : الخبر : يصدون ، والواو زائدة ؛ وقال الشاعر :

٨٦٧ ـ خلا أنّ حيّا من قريش تفضلوا

على الناس أو أن الأكارم نهشلا (٤)

قال ابن يعيش (٥) : لم يأت خبر «ان» المحذوف ، الّا ظرفا أو جارّا ومجرورا ، قال : والجيّد أن يقدّر في : ان ذلك ، ولعلّ ذلك : الظرف ، أيضا ؛ أي ان لك ذلك ، ولعلّ لك ذلك (٦) ؛

وأقول : لا ملجئ إلى جعل جميع الأخبار المحذوفة ظروفا ، فلم نرتكبه؟ بل نقدّر

__________________

(١) الزبابة بالزاي : فأرة صمّاء يقال فيها أسرق من زبابة ، فهي نوع من الفئران ؛

(٢) يقال متّ إليه بقرابة ، أي اتصل به على وجه من أوجه القرابة ؛

(٣) الآية ٢٤ سورة الحج ؛

(٤) ينسب إلى الأخطل التغلبي ، وممن نسبه إلى الأخطل : ابن الشجري في أماليه ، وقال ان البيت آخر القصيدة ، قال البغدادي : وللأخطل قصيدة على هذا الوزن والروي ، ولم أجده فيها ؛ والأكارم جمع أكرم ، ونهشل بن دارم أبو قبيلة من العرب ؛

(٥) في شرحه على المفصل ، ج ١ ص ١٠٣ ؛

(٦) أي في الجمل التي تقدمت في قصة عمر بن عبد العزيز مع من متّ إليه بقرابة ؛

٣٧٧

ما يستقيم به معنى الكلام ، ظرفا كان ، أو ، لا ؛

وقد يسدّ مسدّ الخبر : واو المصاحبة ، نحو : انّ كلّ رجل وضيعته ، والحال نحو : ان ضربي زيدا قائما ؛

وأمّا قولك : ليت شعري ؛ فالشعر بمعنى الفطنة ، مصدر من شعرت اشعر كنصرت أنصر ، أي فطنت له ؛ قال سيبويه (١) : أصله : ليت شعرتي حذفوا الهاء في الإضافة كما في قولهم : أبو عذرها (٢) ؛ فلعلّه لم يثبت عنده مصدرا إلا بالهاء ، كالنّشدة ، والّا فلا موجب لجعل المصدر من باب الهيئة كالجلسة والرّكبة ؛

والتزم حذف الخبر في : ليت شعري ؛ مردفا باستفهام ، نحو : ليت شعري : أتأتيني أم لا ، وهذا الاستفهام مفعول «شعري» ، كما ذكرنا في أفعال القلوب في نحو : علمت أزيد عندك أم عمرو ، أي ليت علمي بما يسأل عنه بهذا الاستفهام حاصل ، وقال المصنف : هذا الاستفهام قائم مقام الخبر ، كالجار والمجرور ، في : ليتك في الدار ؛ وفيه نظر ، لأن «شعري» مصدر ، معناه متعلق بمضمون الجملة الاستفهامية فهي من حيث المعنى مفعول «شعري» ، ومفعول المصدر لا يكون ذلك المصدر حتى يخبر به عنه ، لأن علمك بالشيء : غير ذلك الشيء ؛

وقال ابن يعيش (٣) : الاستفهام سادّ مسدّ الخبر ، كسدّ جواب «لولا» مسدّ خبر المبتدأ ؛ وفيه ، أيضا ، لأن محل خبر «شعري» الذي هو مصدر ، بعد جميع ذيوله ، من فاعله ومفعوله ، فمحله بعد الاستفهام ، فكيف يكون الاستفهام في مقام الخبر ، ومقامه بعده ، بل هو خبر وجب حذفه بلا سادّ مسدّه ، لكثرة الاستعمال ؛

__________________

(١) ذكره سيبويه في باب المصادر التي تجيء على وزن فعلة .. ج ٢ ص ٢٢٩ ؛

(٢) العذرة : البكارة في المرأة ، وبها سميت عذراء وأبو عذرتها وعذرها كأنه أخذ بكارتها ؛ ويقال لمن فعل أمرا انفرد به ، ولم يفعله غيره ؛

(٣) انظر شرحه على المفصل ج ١ ص ١٠٤ ، ١٠٥ ؛

٣٧٨

وقد يحذف الاستفهام مع العلم ، نحو قوله :

٨٦٨ ـ ليت شعري مسافر بن أبي عمرو ،

وليت يقولها المحزون (١)

أي : ليت شعري أنجتمع أم لا ، ومسافر ، منادى ؛

وقد يخبر ههنا ، بشرط الإفادة ، عن نكرة بنكرة ، لأنا ذكرنا في باب المبتدأ ، أن التخصيص غير مشروط في المبتدأ ، مع حصول الفائدة ، وإنما لم يخبر عن المبتدأ المنكر بخبر مؤخر ، لئلا يلتبس المبتدأ بالخبر ، وذلك لتوافق اعرابيهما ، وأما ههنا فالإعرابان مختلفان ، قال :

فإن شفاء عبرة مهراقة (٢) ... ـ ٧٢٤

على ما أنشد سيبويه ؛

ويجوز ، أيضا ، الإخبار عن النكرة بالمعرفة ، نحو : انّ كريما أبوك ، قال تعالى : (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ)(٣) ، كما قلنا في باب كان ، في :

.. أظبي كان أمّك أم حمار (٤) ـ ٥١٢

ويجوز أن يكون «كفافا» في قوله :

٨٦٩ ـ فليت كفافا كان خيرك كله

وشرك عني ما ارتوى الماء مرتوي (٥)

__________________

(١) أورده سيبويه في ج ٢ ص ٣٢ ، وليت ، الثانية منونة مرفوعة لأنه قصد لفظها وفي شرح الشواهد للأعلم أن مسافر بن أبي عمرو ، رجل من قريش كان صديقا لأبي طالب فرثاه ، وبعد البيت :

بورك الميت القريب كما بو

رك نضج الرمان والزيتون

وهي في خزانة الأدب ؛

(٢) تقدم في ص ٢٠٦ من هذا الجزء ؛

(٣) من الآية ٦٢ سورة الأنفال ؛

(٤) تقدم في الجزء الثالث وفي هذا الجزء.

(٥) من قصيدة ليزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي ، في عتاب عبد الرحمن بن عثمان بن أبي العاص ، وهو ابن عمه ، وهي قصيدة جيّدة ، أولها قوله : ـ

٣٧٩

اسم ليت ، والجملة خبره ، على أن يروى «خيرك» بالنصب ، فيكون اسم كان ، أيضا نكرة ، لكونه ضميرا راجعا إلى «كفافا» ، وإن روي برفعه ، فاسم «ليت» ، ضمير شأن محذوف ، وقوله «خيرك وشرك» اسم كان ، وكفافا ، خبره ، ولم يثنّ لكونه مصدرا في الأصل ، و «عنّي» متعلق بكفافا ، أي ، مكفوفين عني ؛ والماء ، على هذا الوجه ، منصوب ، أي : ما ارتوى من الماء مرتو ،

وقيل : شرّك مرتو ، بتقدير : مرتويا : اسم وخبر ، معطوف على اسم كان وخبره ، أعني خيرك كفافا ، أي : كان خيرك كفافا وشرّك مرتويا عني ، أي كافّا ، فحذف النصب (١) ضرورة كما في قوله :

٨٧٠ ـ فلو أن واش باليمامة داره

وداري بأعلى حضرموت ، اهتدى ليا (٢)

ويكون الماء ، على هذا الوجه ، مرفوعا ، فاعل «ارتوى» ، أي : ما دام الماء ريّان ؛

__________________

تكاشرني كرها كأنك ناصح

وعينك تبدي أن صدرك لي دوى

وشرح الرضي بيت الشاهد بما فيه الكفاية ؛ والقصيدة بتمامها في الأمالي ج ١ ص ٦٨ ؛

(١) أي حركته والحرف المتحرك بها في حالة التنوين. فعومل معاملة المرفوع والمجرور ؛

(٢) واش : اسم أن ، وحقه أن يكون : واشيا ؛ والبيت من قصيدة لمجنون بني عامر : قيس بن الملوح ، قال البغدادي : هي من أشهر قصائده ، ومنها قبل هذا البيت :

خليليّ لا والله ، لا أملك الذي

قضى الله في ليلى ، ولا ما قضى ليا

قضاها لغيري وابتلاني بحبها

فهلّا بشيء غير ليلى ابتلانيا

٣٨٠