شرح الرضيّ على الكافية

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


المحقق: يوسف حسن عمر
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات مؤسّسة الصادق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٢

«ضمير شأن مقدر فتدخل على الجمل مطلقا ، وشذ إعمالها»

«في غيره ، ويلزمها مع الفعل : السين أو سوف ، أو قد ،»

«أو حرف النفي» ؛

[قال الرضي :]

قوله : «فإن ، لا تغيّر معنى الجملة» ، أخذ في تفصيل معاني الحروف الستة ؛ فإنّ ، موضوعة لتأكيد معنى الجملة فقط ، غير مغيّرة لها ، وأنّ المفتوحة موضوعة لتكون بتأويل مصدر خبرها مضافا إلى اسمها ، فمعنى ، بلغني أن زيدا قائم : بلغني قيام زيد ، وكذا إن كان الخبر جامدا ، نحو بلغني أنك زيد ، أي : زيديّتك ، فإن ياء النسب إذا لحقت آخر الاسم وبعدها التاء أفادت معنى المصدر (١) ، نحو : الفرسيّة ، والضاربيّة والمضروبيّة ؛ وكذا بلغني أن زيدا في الدار ، أي : حصول زيد في الدار ، لأن الخبر في الحقيقة : حاصل المقدّر ؛

قوله : «ومن ثمّ وجب الكسر» ، أي من جهة عدم تغيير المكسورة لمعنى الجملة ، وتغيير المفتوحة لمعناها إلى المفرد ؛

قوله : «فكسرت ابتداء» أي مبتدأ بها ، سواء كان في أول كلام المتكلم نحو : إن زيدا قائم ، أو كان في وسط كلام ، لكنه ابتداء كلام آخر ، نحو : أكرم زيدا ، إنه فاضل ، فقولك : إنه فاضل ، كلام مستأنف ، وقع علة لما تقدمه ، ومنه قوله تعالى : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ؛ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً)(٢) ، وكذا تكسر بعد القول ، إذا قصدت به الحكاية ، لا الاعتقاد ، الشامل للعلم ، والظن ، فإنها تفتح ، إذن ، كما تفتح بعد الظن والعلم ؛ وإنما كسرتها بعد القول بمعنى الحكاية ، لأنه ابتداء الكلام المحكيّ ؛ وكسرت

__________________

(١) ويسمّونه المصدر الصناعي ، وهو قليل في الكلام العربي القديم ؛ مثل : الجاهلية ،

(٢) الآية ٦٥ سورة يونس ؛

٣٤١

بعد الموصول لأن الصلة لا تكون إلا جملة ، نحو : أكرمت الذي انه فاضل ، قال تعالى : (.. ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ)(١) ، وكذا كسرت في جواب القسم ، لأنه جملة لا محالة ، نحو : بالله إنك قائم ، وقد تفتح «انّ» في جواب القسم عند المبرد والكوفيين ، إذا لم يكن في خبرها اللام ، ولعلّ ذلك لتأويلهم لها بالمفرد ، أي أقسمت بالله على قيامك ، وفيه بعد ؛ إذ لا يقع المفرد الصريح جوابا للقسم ؛

وتكسر أيضا ، إذا كانت حالا ، نحو : لقيتك وإنك لراكب ، قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ)(٢) ، لأن الجملة تقع حالا ، ولا دليل على كونها في تأويل المفرد ، كما مرّ ؛

فإن قلت : أفتحها لتكون بتأويل المصدر ، فإن المصدر أيضا ، يقع حالا ؛

قلت : ذلك إذا كان صريح المصدر ، لا المؤوّل به ؛

وتكسر ، أيضا ، إذا كانت في موضع خبر عن اسم عين ، نحو : زيد إنه قائم ، وكان عمرو إنه قائم ، إذ لا دليل على أن الجملة إذا كانت خبر للمبتدأ ، في تأويل المفرد ؛

وأمّا إذا كان المبتدأ حدثا ، جاز (٣) فتح «ان» في الخبر ، نحو : مأمولي انك قائم ،

وتكسر أيضا إذا دخلت في مبتدأ ، في خبره لام الابتداء ، فإنها لا تجامع إلا المكسورة ، لأن وضع لام الابتداء لتأكيد مضمون الجملة ، كإن المكسورة ، فهما سواء في المعنى ؛

قوله : «وفتحت فاعلة» ، نحو : بلغني أنك قائم ، لأن الفاعل لا يكون إلا مفردا ، وكذا المفعول به نحو : علمت أنك قائم ، أي : علمت قيامك ، وكذا المبتدأ ، نحو : عندي أنك قائم ، وكذا المضاف إليه ، نحو : فعلت هذا كراهية أنك قائم ، وكذا المجرور

__________________

(١) من الآية ٧٦ سورة القصص ؛

(٢) من الآية ٢٠ سورة الفرقان ؛

(٣) هذا الاستعمال في كلام الرضي ، حيث يجوز جواب أما من الفاء وكان أسهل عليه أن يقول : وان كان المبتدأ حدثا : جاز .. الخ

٣٤٢

بحرف الجر ، نحو : عجبت من أنك قائم ؛

قوله : «وقالوا لو لا أنك» ، هو جواب سؤال مقدر ، وهو : أن لو لا تدخل على الجملة الاسمية فوجب كسر «إن» ، فأجاب بأن الجملة بعدها لا يجوز إظهار جزأيها ، كما تقدم في باب المبتدأ ، بل يجب حذف الخبر ، فلو كسرنا «انّ» ، لكان خبر الاسمية ظاهرا غير مقدر ، ولا يجوز ، ففتحناها لتكون «أن» مع جزأيها في موضع المبتدأ ، والخبر محذوف ؛

وأمّا على مذهب الفراء ، ومذهب الكسائي في رفع الاسم الواقع بعد «لولا» كما ذكرنا في باب المبتدأ ، ففتح «أن» ظاهر (١) ؛

قوله : «ولو أنك ، لأنه فاعل» ، يعني أن «لو» حرف شرط ، فلا بدّ من دخولها على الفعل ، فلو كسرنا «ان» ، لكانت داخلة على الاسمية ، ولا يجوز (٢) ، ففتحناها لتكون مع ما في حيّزها فاعل فعل مقدّر ، وهو ثبت ، كما مرّ في باب الفاعل (٣) ، وسيجيء في حروف الشرط ؛

وكذا يلزم فتحها بعد «ما» التوقيتية ، نحو : اجلس ما أنّ زيدا قائم ، لأنها لا تدخل إلا على الفعل ، وذلك أنها مصدرية ، ويندر دخولها على الاسمية ، كما يجيء ، فالتقدير : ما ثبت أن زيدا قائم ، كما في : لو أنك قمت ، سواء (٤) ؛

قوله : «فإن جاز التقديران» ، أي تقدير الجملة وتقدير المفرد ، جاز الأمران ، أي فتح «أن» وكسرها ، وذلك في مواضع :

بعد فاء الجزاء ، نحو : من يكرمني فإني أكرمه ، الكسر بتأويل فأنا أكرمه ، والفتح

__________________

(١) انظر تفصيل ذلك في الجزء الأول ، من آخر باب المبتدأ أو الخبر ؛

(٢) يعني : وذلك لا يجوز ؛

(٣) في الجزء الأول ؛

(٤) أي هما سواء على ما اختاره الرضي في مثل ذلك ؛

٣٤٣

على أن «أنّ» مع ما في حيّزها مبتدأ محذوف الخبر ، أي : فإكرامي له ثابت ؛

وكذا بعد «إذا» المفاجأة ، كقوله :

٨٣٠ ـ وكنت أرى زيدا كما قيل سيّدا

إذا انه عبد القفا واللهازم (١)

أي : انه عبد قفاه ، أي لئيم القفا ، يعني «صفعان» (٢) ، واللهزمتان : عظمان ناتئان في اللحيين تحت الأذنيين ، جمعهما الشاعر بما حولهما ، كقولك : جبّت مذاكيره ؛ فالكسر على تأويل : إذا هو عبد القفا ، والفتح على تأويل : فإذا عبودية قفاه ثابتة ؛

وكذا إذا وليت «إن» : الواو ، بعد قولك «هذا» أو «ذاك» تقريرا للكلام السابق ، قال تعالى : (ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ)(٣) ، فذلكم خبر مبتدأ محذوف ، و «انّ» عطف على هذا الخبر ، أي : الأمر ذلك ، والأمر أيضا أن الله موهن ، وإن كسرت ، فعلى عطف «إن» مع جزأيها على الجملة المتقدمة المحذوف أحد جزأيها ، قال :

٨٣١ ـ إني إذا خفيت نار لمرملة

ألفى بأرفع تلّ رافعا ناري (٤)

ذاك ، وإني على جاري لذو حدب

أحنو عليه بما يحنى على الجار

فهو مثل قوله تعالى : (ذلِكَ ، وَمَنْ عاقَبَ ..)(٥) الآية ، فالجملة الاسمية في الآية عطف على الجملة المتقدمة ؛

__________________

(١) من الأبيات التي لم يعرف لها قائل ، وهو من سيبويه ج ١ ص ٤٧٢ ؛ ولذلك لا يعرف من المراد بزيد ، وقد شرح الرضي بقية ألفاظ البيت ؛ وفي العيني : أن قوله عبد اللهازم كناية عن أنه عبد بطنه ؛

(٢) في اللسان : رجل مصفعاني ، أي يصفعه الناس ، وفي تاج العروس : وكذلك رجل صفعان ، ثم نقل عن الجوهري أن الصفع كلمة مولّدة ؛

(٣) الآية ١٨ سورة الأنفال ؛

(٤) المراد بالمرملة بضم الميم الأولى وكسر الثانية : الجماعة التي نفد زادها كأنه مأخوذ من الرمل ، كما يقال ترب الرجل أي افتقر بمعنى لصقت يده بالتراب والبيتان منسوبان إلى الأحوص الأنصاري ، وهما في سيبويه ج ١ ص ٤٦٣ وقبلهما قوله :

عودّت قومى إذا ما الضيف نبهني

عقر العشار على عسري وإيساري

(٥) الآية ٦٠ سورة الحج ؛

٣٤٤

وكذا إذا وليت نحو : أوّل قولي ، وأوّل كلامي .. فالفتح على أن «قولي» مصدر مضاف إلى فاعله ، وليس بمعنى المقول ، والتقدير : أول قولي أي أقوالي : حمد الله ، فلم يجمع لأن المصدر لا يجمع إلا مع قصد الاختلاف ؛ فيكون قد أخبر بالمصدر عن المصدر ؛ والكسر على أن «قولي» بمعنى «مقولي» أي أول مقولاتي ، فلم يجمع مع أنه بمعنى المفعول ، مراعاة لأصل المصدر ، والمعنى : أول مقولاتي هذا المقول وهذا الكلام وهو : إني أحمد الله ، فيكون قد قال كلاما أوله إني أحمد الله ، ثم أخبر عن ذلك ، كما تقول في أول السورة : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)(١) ، وقال عليه الصلاة والسّلام «أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلّا الله» ؛

ولا يكون قوله : إني أحمد الله ، معمولا للفظة قولي ؛ كيف ، وليس هو بمعنى المصدر بل بمعنى المقول ، فهو كقولك : مضروبي زيد ، فزيد مضروب من حيث المعنى ، وليس معمولا لمضروبي ؛

وقال أبو علي (٢) : قولي مصدر مضاف إلى الفاعل ، و : إني أحمد الله ، بالكسر مفعوله ، وخبر المبتدأ محذوف ، أي : أول قولي ونطقي بهذا الكلام : ثابت ؛

وردّه المصنف أحسن ردّ ، وذلك أن أفعل التفضيل بعض ما يضاف إليه ، فيكون لنطقه بهذا الكلام أجزاء : أول ووسط وآخر ، والجزء الأول باعتبار كلماته الثلاث : تلفظه بلفظ «إني» ، وباعتبار الحروف : تلفظه بهمزة «إني» ، فيكون المعنى : إذا صرّحنا به : تلفظي باني ، أو بهمزة اني : ثابت ، وهو خلف من الكلام ، وغير مقصود به للمتكلم ؛

ويجوز الوجهان بعد «أما» ، فإن فتحت ، فأما بمعنى : حقّا ، تقول : أحقا أنك قائم ، فأن ، فاعل ، أي : أحقّ ذلك حقا ، أو نقول : حقا ، في معنى الظرف ، أي :

__________________

(١) البسملة جزء من الآية ٣٠ في سورة النمل بالاتفاق وفي أوائل السور مختلف فيها ؛

(٢) أي الفارسي وتكرر ذكره ؛

٣٤٥

أفي حق ، فيكون ، «أنّ» امّا فاعلا أو مبتدأ ؛ على المذهبين ، كما مرّ في باب المبتدأ ، قال :

٨٣٢ ـ ألا أبلغ بني خلف رسولا

أحقّا أنّ أخطلكم هجاني (١)

ودليل كونه في معنى الظرف قوله :

٨٣٣ ـ أفي حق مواساتي أخاكم

بما لي ثم يظلمني السريس (٢)

فهو كقوله :

أحقا بني أبناء سلمى بن جندل

تهدّدكم إياي وسط المجالس (٣) ـ ٦٤

وإن كسرت ، فأما ، حرف استفتاح ، كألا ، تقول : أما إنك قائم ، قال تعالى : (أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ)(٤) ، وتقول أيضا ، أما والله أنه ذاهب ، أي : أفي حق والله أنه ذاهب ، أي ذهابه ، و : أما والله انه ذاهب كأنك قلت ألا إنه والله ذاهب ؛

و «حتى» إن كانت ابتدائية ، وجب كسر «إنّ» بعدها ، وإن كانت جارّة ، أو عاطفة للمفرد فالفتح ، نحو : عرفت أمورك حتى أنك صالح ، وعجبت من أحوالك حتى أنك تفاخر ؛

ولا يجوز كسر «ان» بعد مذ ، ومنذ ، وإن جاز وقوع الجملة والمفرد بعدهما نحو : ما لقيتك مذ زيد قائم ومذ قيام زيد ، رفعا وجرّا ، لأن الجملة بعدهما مضاف إليها ، كما

__________________

(١) بنو خلف هم رهط الأخطل التغلبي ، وكانت بينه وبين النابغة الجعدي مهاجاة ، فقال النابغة فيه ذلك ، كأنه يقول : انه لا يصدق إقدام الأخطل على هجائه ؛

(٢) لأبي زبيد الطائي ، والسريس معناه الضعيف ، أو الرجل الذي لم تكتمل رجولته ، وفسره بعضهم بالعنّين ، وهو يعاتب أخواله بني تغلب الذين ظلموه ولم يردوا إليه ما أخذوه منه وبعده :

فما أنا بالضعيف فتظلموني

ولا حظي اللّقاء ولا الخسيس

: اللقاء القليل ؛

(٣) تقدم الاستشهاد به في باب المبتدأ والخبر في الجزء الأول ؛

(٤) الآية ٦٠ سورة هود ؛

٣٤٦

مرّ ، في باب الظروف المبنية (١) ؛

والغالب بعد «لا جرم» : الفتح ، قال تعالى : (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ)(٢) ، فلا ، إمّا ردّ للكلام السابق ، على ما هو مذهب الخليل ، أو زائدة ، كما في : لا أقسم ، لأن في جرم معنى القسم ؛

وجرم ، فعل ماض عند سيبويه والخليل (٣) ، وقال سيبويه ، معنى جرم : حقّ ، فأنّ فاعله ؛ واستشهد بقوله :

٨٣٤ ـ ولقد طعنت أبا عيينة طعنة

جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا (٤)

برفع فزارة ، وأن يغضبوا : بدل اشتمال منها ؛ أي : حقّ غضب فزارة بعدها ؛ وقال الفراء : بل الرواية : جرمت فزارة ، بنصب فزارة ، أي : كسبت الطعنة فزارة الغضب ، أي : جرمت لهم الغضب ، كقوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ ..)(٥) ، أي : لا يجرمنّ لكم ، وبمثله فسرّ بعضهم الآية ، أي : جرم كفرهم : أن لهم النار ، فأن مفعول جرم ؛

وقال الفراء : هي ، أي لا جرم ، كلمة كانت في الأصل بمعنى : لا بدّ ، ولا محالة ، لأنه يروى عن العرب : لا جرم ، والفعل والفعل (٦) ، يشتركان في المصادر ، كالرّشد والرّشد ، والبخل والبخل ؛ والجرم : القطع ، أي : لا قطع من هذا ، كما أن : لا بدّ ، بمعنى : لا قطع ؛ فكثرت وجرت على ذلك حتى صارت بمعنى القسم للتأكيد الذي فيها ، فلذلك تجاب بما يجاب به القسم فيقال : لا جرم لآتينّك ، ولا جرم لقد أحسنت ، ولا

__________________

(١) في الجزء الثالث ؛

(٢) من الآية ٦٢ في سورة النحل ؛

(٣) تفصيل الكلام على : لا جرم في سيبويه ج ١ ص ٤٦٩ وفيه الشاهد الآتي ؛

(٤) في سيبويه ج ١ ص ٤٦٩ نسبة للغزاري ، ولم يزد الأعلم على أن قال : انه لرجل من فزارة ؛ ولم يعرف المراد من قوله : أبا عيينة ؛

(٥) في الآيتين : ٢ ، ٨ من سورة المائدة ؛

(٦) يعني المصدرين اللذين على هذين الورقتين ؛

٣٤٧

جرم انك قائم ، فمن فتح ، فللنظر إلى أصل : لا جرم ، كما تقول : لا بدّ أن تفعل كذا ، ولا محالة أنك تفعل كذا ، أي من أن تفعل ، ومن أنك تفعل ، ومن كسر ، فللمعنى العارض في لا جرم (١) ؛

وحكى الكوفيون فيها عن العرب وجوها من التغيير : لا جر ، بإسقاط الميم ، و :

لا ذا جرم ، بزيادة «ذا» ، و : لا ذا جر ، بغير ميم ، و : لا أن ذا جرم ، و : لا عن ذا جرم ، وأن : زائدة ، وعين «عن» بدل من الهمزة كما في قوله :

٨٣٥ ـ أعن ترسّمت من خرقاء منزلة

ماء الصبابة من عينيك مسجوم (٢)

وتقول : شدّ ما أنك ذاهب ، وعزّ ما أنك قائم ، بالفتح ، فشدّ ، وعزّ ، فعلان مكفوفان بما ، كقلّما ، وطالما ؛ وهما بمعنى «حقا» ، فمعنى شدّ ما أنك قائم : حقا أنك قائم ، أي : في حق ، الّا أن «في» لا تدخل على : شدّ ، وعزّ ، لكونهما في الأصل فعلين ، ويجوز أن يكون «ما» اسما معرفة تامّة ، كما هو مذهب سيبويه (٣) في : نعمّا صنيعك ، وبئسما عملك ، أي : نعم الصنيع صنيعك ، وبئس العمل عملك ، وقد ذكرنا أن جميع باب فعل مضموم العين ، يجوز استعماله استعمال نعم وبئس ؛

وتقول : زيد فاسق ، كما أنّ عمرا صالح ، ليس «ما» ههنا كافة ، كما كانت في قولك : زيد صديقي ، كما عمرو أخي ، ولو كانت كافة ، لوجب كسر «انّ» ، ولا يجوز إلا الفتح ؛

فقال الخليل : «ما» زائدة ، و «أنّ» مجرور بالكاف ، ودليل زيادتها قولهم : هذا حق مثل ما أنك ههنا ؛ لكنهم ألزموا الكاف مع أنّ ، هذه الزيادة ، كراهة أن يجيء لفظها مثل «كأنّ» ؛

__________________

(١) المراد : ما عرض لها من استعمالها استعمال القسم ؛

(٢) مطلع قصيدة لذي الرمة ، وخرقاء ، لقب كان يطلقه على ميّ التي يذكرها في قصائده ؛ ومسجوم أي منسكب ؛ والمراد بماء الصبابة : الدمع ؛

(٣) وهو أن «ما» معرفة تامة ، وتقدم ذلك في باب أفعال المدح والذم ؛

٣٤٨

ومعنى زيد فاسق كما أن عمرا صالح : أي هذا صحيح كصحة ذاك ؛

وتقول : حقا أنك ذاهب ، وجهد رأيي أنك قائم ، بالفتح لا غير ، لأن المعنى : في حق ، وفي جهد رأيي ؛ وإذا جئت بأمّا فقلت : أمّا حقا فإنك ذاهب ، وأمّا جهد رأيي فإنك قائم ، فالكسر هو الوجه ، لأنك لم تضطرّ مع «أمّا» إلى جعل الظرفين خبرين لأنّ ، كما كنت مضطرّا إليه من دون أمّا ، وذلك لأن معمول ما في حيّز «إن» يتقدم عليها مع «أمّا» ، لما يجيء في حروف الشرط ، نحو : أما يوم الجمعة فإنك سائر ، وأمّا زيدا فإنك ضارب ولا يتقدّم عليها من دون «أمّا» ، فاضطررت إلى فتح «أن» وجعل الظرف المتقدم خبرا ،

قال سيبويه (١) : يجوز : أمّا في رأيي فأنك ذاهب بالفتح ؛ والوجه الكسر ، لأنك غير مضطر إلى فتحها ؛

وتقول : أمّا في الدار فإنك قائم بالكسر ، إذا قصدت أن قيام المخاطب حاصل في الدار ، وأمّا إن أردت أن : في الدار هذا الحديث وهذا الخبر فإنه يجب الفتح ؛

والتعريف (٢) المذكور ، أعني : الفتح في مواضع المفردات ، والكسر في مظانّ الجمل ، أولى من تعريف أبي علي : «كل موضع يصلح للاسم والفعل فالكسر ، وكل موضع تعيّن لأحدهما فالفتح» ، لأن ما بعد فاء الجزاء يجوز فيه الفعل والاسم ، كقوله تعالى : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ)(٣) ، ولا يتعيّن الكسر فيه ، وأيضا ، ما بعد إذا المفاجأة ، يتعيّن للاسم ولم يتعيّن فيه الفتح ؛

__________________

(١) في الكتاب ، ج ١ ص ٤٦٩ ؛ وفي هذا الموضع من الكتاب كثير مما ذكره الشارح هنا ؛

(٢) يقصد الضابط الذي تعرف به مواضع كل من الفتح والكسر ؛

(٣) الآية ٩٥ سورة المائدة ؛

٣٤٩

[العطف على اسم إن]

[وأخواتها]

قوله : «ولذلك جاز العطف .. إلى آخره» ، يعني : ولأجل أن «إن» المكسورة لا تغيّر معنى الجمل ، كان اسمها المنصوب في محل الرفع ، لأنها كالعدم ، إذ فائدتها التأكيد فقط ، فجاز العطف على محل ذلك الاسم بالرفع ؛

ثم اعلم أنه تختلف عبارتهم في ذلك ؛ يقول بعضهم ، كما قال المصنف : يعطف على اسم «إن» المكسورة بالرفع ؛ وبعضهم يقول : على موضع «ان» مع اسمها ، كما قال الجزولي (١) ؛

وكأنّ الأوّل نظر إلى أن الاسم هو الذي كان مرفوعا قبل دخول «إنّ» ، ودخولها عليه كلا دخول ، فبقي على كونه مرفوعا ، لكن محلّا ، لاشتغال لفظه بالنصب ، فانّ ، كاللام في : لزيد ، ولا شك أن المرفوع فيه هو زيد وحده ، لا الاسم مع الحرف الداخل عليه ، فكذا ينبغي أن يكون الأمر مع «إن» ؛

ومن قال : على موضعها مع اسمها نظر إلى أن اسمها لو كان وحده مرفوع المحل ، لكان وحده مبتدأ ، والمبتدأ مجرد عن العوامل عندهم ، واسمها ليس بمجرد ؛

والجواب أنه باعتبار الرفع مجرد ، لأن «إنّ» كالعدم ، باعتباره ، وإنما يعتدّ بها إذا اعتبرت النصب ، ويشكل عليه ، بأن «إنّ» مع اسمها ، لو كانت مرفوعة المحل ، لكانت مع اسمها مبتدأة ، والمبتدأ : هو الاسم المجرد على ما ذكرنا ، وهي مع اسمها ، ليست اسما مجردا ؛

فالأولى أن يقال : العطف بالرفع ، على اسمها وحده ؛ وقد ذكرنا في باب الابتداء (٢) طرفا من هذا ؛

__________________

(١) تكرر ذكره في هذا الشرح ؛

(٢) باب المبتدأ والخبر في الجزء الأول من هذا الشرح ؛

٣٥٠

قوله : «لفظا أو حكما» راجع إلى المكسورة ، فالمكسورة لفظا نحو : إن زيدا قائم وعمرو ، والمفتوحة التي في حكم المكسورة ، نحو : علمت أن زيدا قائم وعمرو ، فانّ ، ههنا مع اسمها وخبرها ، وإن كانت في تقدير المفرد من جهة أن المعنى : علمت قيام زيد ، لكنها في تقدير اسمين ، إذ «أن» مع اسمها وخبرها سادة مسدّ مفعولي علمت ، كما أن «إن» المكسورة مع جزأيها بتقدير اسمين ، أي المبتدأ والخبر ، فحكم المفتوحة بعد فعل القلب : حكم المكسورة في قيامها ، مع ما في حيّزها مقام الاسمين ؛

وفيما قال المصنف ، مع هذا التحقيق البالغ ، والتدقيق الكامل : نظر ، وذلك لأنا بعد تسليم أن المفتوحة مع ما في حيزها ، بتقدير اسمين ، نقول : ان ذينك الاسمين بتقدير المفرد ، فعلمت أن زيدا قائم ، بتقدير : علمت زيدا قائما ، وعلمت زيدا قائما بتقدير : علمت قيام زيد ، كما مرّ في أفعال القلوب ؛ فكونها بتقدير اسمين ، لا يخرجها عن كونها مع جزأيها بتقدير المفرد ، إذ ، ذانك الاسمان بتقدير الاسم المفرد ، أعني المصدر الذي : ذانك الاسمان المنصوبان مؤوّلان به ،

وإنما دعا المصنف إلى هذا التكلف : أنه رأى سيبويه مستشهدا (١) على العطف على محل اسم «ان» المكسورة بقوله تعالى : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ، أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ)(٢) ، و : أذان ، بمعنى : إعلام ، وكذا استشهد سيبويه (٣) بقوله :

٨٣٦ ـ وإلّا فاعلموا أنا وأنتم

بغاة ما بقينا في شقاق (٤)

على العطف على محل اسم المكسورة ، بتقدير حذف الخبر من الأول ، والتقدير : أنا

__________________

(١) جاء ذلك في سيبويه ج ١ ص ٢٨٥ ؛

(٢) الآية ٣ سورة التوبة ؛

(٣) في الجزء الأول ص ٢٩٠ ؛

(٤) نسبه في سيبويه ج ١ ص ٢٩٠ إلى بشر بن أبي خازم. والبغاة : جمع باغ والمراد به : الساعي في الفساد. أو المتسبب في حصوله ؛

٣٥١

بغاة ، وأنتم بغاة ؛ فلولا أن المفتوحة بعد فعل القلب في حكم المكسورة لما صحّ منه الاستدلال المذكور ؛

وبعض النحاة ، لما رأى سيبويه يستشهد للمكسورة بالمفتوحة ، قال : إن المفتوحة حكمها مطلقا حكم المكسورة ، في جواز العطف على محل اسمها بالرفع ، لأنهما حرفان مؤكدان ، أصلهما واحد ، فيجوّز العطف بالرفع في نحو : بلغني أن زيدا قائم وعمرو ؛

والسيرافي (١) ، ومن تابعه ، لم يلتفتوا إلى استدلال سيبويه ، وقالوا : لا يجوز العطف بالرفع على محل اسم المفتوحة مطلقا ، إذ لم يبق معها الابتداء ، بل هي مع ما في حيّزها في تأويل اسم مفرد ، مرفوع أو منصوب أو مجرور ، كما ذكرنا ، فاسمها كبعض حروف الكلمة ؛

ونظر أبي سعيد (٢) : صحيح ، فنقول : إن قوله تعالى : «ورسوله» عطف على الضمير في «بريء» ، وجاز ذلك بلا تأكيد بالمنفصل ، لقيام الفصل بقوله : من المشركين ، مقام التأكيد ؛ أو نقول : رسوله مبتدأ خبره محذوف أي : ورسوله كذلك ، والواو اعتراضية ، لا عاطفة ؛ ونقول في قوله :

والا فاعلموا أنا وأنتم

بغاة ما بقينا في شقاق (٣) ـ ٨٣٦

ان : ما بقينا في شقاق ، خبر «أنا» وقوله : وأنتم بغاة ، جملة اعتراضية لكن لا يتم لنا مثل هذا في قوله :

٨٣٧ ـ ولا أنا ممّن يزدهيه وعيدكم

ولا أنني بالمشي في القيد أخرق (٤)

بعد قوله :

٨٣٨ ـ فلا تحسبن أني تخشعت بعدكم

لشيء ولا أني من الموت أفرق (٥)

__________________

(١) شارح كتاب سيبويه وتكرر ذكره ؛

(٢) كنية السيرافي المتقدم ذكره ؛

(٣) البيت المتقدم قريبا ؛

(٤ و ٥) هذان البيتان من قصيدة واحدة ، وثانيهما مقدم على أولهما في القصيدة ، وهي من شعر جعفر بن ـ

٣٥٢

لأن قوله : ولا أنني بالمشي في القيد أخرق ، عطف على : أني تخشعت ، فلو جعلنا قوله : ولا أنا ممن يزدهيه وعيدكم ، جملة اعتراضية ، لكانت «لا» داخلة على معرفة بلا تكرير ، ولا يجوز ذلك إلا عند المبرد ؛

ولو روي : ولا انني بالمشي في القيد ، بالكسر ، لارتفع الاشكال وكان قوله : ولا أنا ممّن يزدهيه ، مستأنفا ، و «لا» مكررة ؛

وحكم «لكنّ» في جواز العطف على محل اسمها : حكم «ان» المكسورة ، خلافا لبعضهم ، قال سيبويه (١) بعد ذكره جواز العطف على محل اسم «إن» بالرفع : لكنّ ، الثقيلة في جميع الكلام بمنزلة «ان» ، يعني في جواز العطف المذكور ، وتفارقها في أن اللام لا تدخل على ما في حيّزها ، دون «إن» ، كما يجيء ؛

وإنما كانت «لكن» مثل «إنّ» ، لأن معنى الابتداء بعدها لم يزل ، لأن الاستدراك في الحقيقة معنى راجع إلى ما قبله ، لا إلى ما بعده ، إذ هو حفظ الكلام السابق ، نفيا كان ، أو إثباتا ، عن أن يدخل فيه الاسم المنتصب بلكنّ ، فقولك ، ما قام زيد لكنّ عمرا قائم ، حفظت فيه عدم القيام عما توهّم من دخول عمرو فيه ، وكذا في : قام زيد ، لكنّ عمرا لم يقم ؛

وأجاز الفراء رفع المعطوف على اسم «كأنّ» ، و «ليت» ، و «لعلّ» أيضا ، لكونه في الأصل مبتدأ ، ومنعه غيره ، لخروجه عن معنى الابتداء ، بما أوردت فيه الحروف من المعاني ؛ وهو الحق ؛

والوصف ، وعطف البيان ، والتوكيد ، كالمنسوق عند الجرميّ ، والزجاج (٢) ، والفراء ،

__________________

= علبة الحارثي ، قالها بعد أن حكم عليه بالقتل قصاصا ، وقد أوردها أبو تمام في الحماسة ، ومنها بيت البلاغة المشهور :

هواي مع الركب اليمانين مصعد

جنيب ، وجثماني بمكة موثق

(١) هذا بنصه في سيبويه ج ١ ص ٢٨٦ ؛

(٢) تقدم ذكر هؤلاء كثيرا ؛

٣٥٣

في جواز الحمل على المحل ، ولم يذكر غيرهم ذلك ، لا منعا ولا إجازة ، والأصل الجواز ، إذ لا فارق ؛

قال الزجاج : قوله تعالى : (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) في قوله : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ ، عَلَّامُ الْغُيُوبِ)(١) ، صفة ربّي ، ويحتمل رفعه وجوها أخر (٢) ؛

ولم يذكروا البدل ، والقياس كونه كسائر التوابع في جواز الرفع ، تقول : إن الزيدين استحسنتهما ، شمائلهما ، بالرفع ، كما جاز ذلك في اسم «لا» التبرئة المشبّهة بإنّ ، نحو : لا غلام رجل في الدار إلا زيد ؛

فلا يحمل على المحلّ ، عند البصريين إلا عند مضيّ الخبر ، فلا يجوز ، عندهم ، أن زيدا وعمرو قائمان ، وأجازه الكسائي ؛

وإنما منعوا من ذلك لأن العامل في خبر المبتدأ عند جمهورهم : الابتداء ، والعامل في خبر «إنّ» : إنّ ، فيكون قائمان خبرا عن زيد وعمرو معا ، فيعمل عاملان مختلفان مستقلان في العمل ، رفعا واحدا فيه ، وذلك لا يجوز ، لأن عامل النحو ، عندهم ، كالمؤثر الحقيقي ، كما ذكرنا في صدر الكتاب (٣) ، والأثر الواحد الذي لا يتجزّأ : لا يصدر عن مؤثرين مستقلّين في التأثير ، كما ذكر في علم الأصول ، لأنه يستغنى بكل واحد منهما عن الآخر ، فيلزم من احتياجه إليهما معا : استغناؤه عنهما معا ؛

ولو فرّق الخبران بالعطف نحو : إن زيدا وهند : قائم وخارجة لم يأت الفساد المذكور ، فيجب جوازه ، ويكون الكلام من باب اللفّ كقوله تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)(٤) ،

__________________

(١) الآية ٤٨ سورة سبأ ؛

(٢) مثل أن يكون علّام خبر مبتدأ محذوف أي : هو علّام ؛

(٣) في الكلام على العامل في الجزء الأول ؛

(٤) الآية ٧٣ سورة القصص ؛

٣٥٤

فإذا قدّمت الخبر على العطف ، فاما أن تأتي للمعطوف بالخبر ظاهرا نحو : ان زيدا قائم ، وعمرو كذلك ، أو تحذفه وتقدره ، والأكثر الحذف ، نحو : إن زيدا قائم وعمرو ، ولا يجوز أن يكون هذا من باب عطف المفرد ، لأن «قائم» لا يكون خبرا عن الاسمين ؛

وإنما أجاز الكسائي نحو : إن زيدا وعمرو قائمان ، لأن العامل عنده في خبر «إن» : ما كان عاملا في خبر المبتدأ ، لأن «إنّ» وأخواتها ، لا تعمل عند الكوفيين في الخبر ، فالعامل في خبر «ان» اسمها ، لأن المبتدأ والخبر يترافعان عنده ، فلا يلزم صدور أثر عن مؤثرين ؛

والفراء ، توسّط مذهبي سيبويه والكسائي ، فلم يمنع رفع المعطوف مطلقا ، ولم يجوّزه مطلقا ، بل فصّل وقال : إن خفي إعراب الاسم بكونه مبنيا ، أو معربا مقدّر الإعراب : جاز الحمل على المحل قبل مضي الخبر نحو : انك وزيد قائمان ، وان الفتى وعمرو قاعدان ، وإلّا ، فلا ، لأنه لا ينكر في الظاهر ، كما أنكر مع ظهور الإعراب في المعطوف ، وذلك لأنّ خبرا واحدا عن مختلفين ظاهري الإعراب مستبدع ، ولا كذلك إذا خفي إعراب المتبوع ؛ ولا يلزمه ، أيضا ، توارد المستقلّين على أثر واحد لأن مذهبه في ارتفاع خبر «إن» : مذهب الكسائي ؛

وأمّا قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا مَنْ آمَنَ ...)(١) ، فعلى أنّ الواو في «والصابئون» ، اعتراضية لا للعطف ، وهو مبتدأ محذوف الخبر ، أي : والصابئون كذلك ، لسدّ خبر «إن» مسدّه ودلالته عليه ، كما في : يا تيم تيم عديّ (٢) ، على مذهب المبرد ، ومنه قوله :

٨٣٩ ـ فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فإني وقيار بها لغريب (٣)

__________________

(١) الآية ٦٩ سورة المائدة ؛

(٢) إشارة إلى الشاهد المتقدم في باب النداء من الجزء الأول ؛

(٣) البيت لضابئ البرجمي ، وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه قد حبسه ، وقيّار اسم فرسه ، والبيت في سيبويه ج ١ ص ٣٨ ؛

٣٥٥

أي : فإني ، وقيار كذلك ، بها لغريب ؛

وسمع سيبويه (١) قبل الخبر : توكيد اسم «ان» المبني ، وكذا المعطوف غير منوي الخبر ، نحو : انهم أجمعون ذاهبون ، وإنك وزيد ذاهبان ، و «ذاهبان» خبر عنهما بلا شك ، وسهّل ذلك وجوّزه بعض التجويز : بناء الاسم ؛

وأجاز الكسائي رفع المعطوف على أوّل مفعولي : ظن وأخواته ، أن خفي إعراب الثاني ، نحو : ظننت غلامك زائري وعمرو ؛ وليس بشيء ، لأن «ظن» عامل قوي ، أثّر في الاسمين اللذين بعده ، بأن صار به مضمونهما مفعولا به ؛ وإذا منعوا ذلك في ليت ولعلّ ، لما فيهما من معنى الفعل فكيف يجوز ذلك في الفعل الصريح ؛

وإنما اشترط خفاء إعراب الثاني ، ليكون المفعولان في الظاهر كاسم «ان» وخبرها ، فتقلّ الشناعة ؛

قوله : «خلافا للمبرد والكسائي» ، الظاهر أن هذا مذهب الفراء والإطلاق مذهب الكسائي ، كما هو مذكور في كتب النحو ؛

قوله : «ولكنّ كذلك» أي في أحكام الجمل على المحلّ ،

قوله : «ولذلك دخلت اللام» ، أي : ولأجل كون المكسورة ، مع جزأيها في تقدير الجملة ؛

قوله : «دونها» ، أي دون المفتوحة ؛

__________________

(١) انظر سيبويه ج ١ ص ٢٩٠ ؛

٣٥٦

[استطراد]

[في تفصيل أحكام لام الابتداء]

اعلم أن هذه اللام : لام الابتداء ، المذكورة في جواب القسم ، وكان حقها أن تدخل في أوّل الكلام ، ولكن لما كان معناها هو معنى «ان» ، سواء (١) ، أعني التأكيد والتحقيق ، وكلاهما حرف ابتداء ، كرهوا اجتماعهما ، فأخّروا اللام وصدّروا «إن» ، لكونها عاملة ، والعامل حريّ بالتقديم على معموله ، وخاصة إذا كان حرفا ، إذ هو ضعيف العمل ؛ وراعوا مع تأخير اللام شيئين : أحدهما : أن يقع بينهما فصل ، لأن المكروه هو الاجتماع ؛ والآخر : أنها لما سقطت عن مرتبتها وهي صدر الكلام ، أعني المبتدأ ، أو الخبر المقدم ، أو معمول الخبر المقدم ، كما مضى في جواب القسم ، نحو : لزيد قائم ، ولقائم زيد ، ولطعامك زيد آكل ، لا تدخل (٢) بعد التأخر إلا على أحد الثلاثة ، نحو : إن من الشعر لحكمة ، وان زيدا لقائم ، وان زيدا لفي الدار قائم ، ولا تدخل على متعلّق الخبر المتأخر عن الخبر ، فلا يقال : إن زيدا قائم لفي الدار ، لئلا يبخس حقها كلّ البخس ، بتأخير ما حقه صدر الكلام عن جزأي الكلام اللذين هما العمدتان ؛

وإنما تدخل على الاسم إذا فصل بينه وبينها بظرف هو الخبر ، نحو : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى)(٣) ، أو بظرف متعلق بالخبر نحو : ان في الدار لزيدا قائم ، ولا ينكر عمل ما بعد اللام فيما قبله لنقصان حقّه في التصدر ؛

وقوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ)(٤) ، الاولى فيه لام الابتداء ، والثانية جواب قسم محذوف ، والجملة القسمية صلة من ، أو صفته (٥) ،

__________________

(١) أي هما سواء كما تكرر التنبيه عليه ، وهو اختيار الرضي في مثل هذا التركيب ؛

(٢) مرتبط بقوله : لما سقطت عن مرتبتها ؛

(٣) الآية ١٢ سورة الليل ؛

(٤) من الآية ٧٢ سورة النساء ؛

(٥) أي على اعتبارها إما موصولة أو موصوفة ؛

٣٥٧

وإنما تدخل على الخبر إذا لم يكن ماضيا مجرّدا عن «قد» ، فلا يجوز : ان زيدا لقام ، كما يجوز : ان زيدا ليقوم ، بل تقول : ان زيدا لقد قام ، كما مضى في شرح جواب القسم ، ويجوز في نعم وبئس ، نحو : ان زيدا لنعم الرجل ، كما مرّ هناك ، وإذا كان الخبر مضارعا مصدّرا بحرف التنفيس ، جاز دخول هذه اللام عليه ؛ نحو : ان زيدا لسوف يقوم ، خلافا للكوفيين كما مرّ في باب المضارع ؛

ولا تدخل هذه اللام في حروف النفي ، كما مرّ في جواب القسم ، ولا في حرف الشرط ، فلا تقول : ان زيدا لئن ضربته يضربك ، ولا على اسم فيه معنى الشرط ، لأن اللام والشرط مرتبة كليهما الصدر ، فتنافرا ، ولا تدخل على جواب الشرط ، فلا تقول : إن زيدا من يضربه لأضربه ؛ لأن جواب الشرط وحده ، ليس هو الخبر ، بل هو مع الشرط ، وأجازه ابن الأنباري (١) ؛

ولا تدخل على واو المصاحبة المغنية عن الخبر ، فلا تقول : انّ كلّ رجل لوضيعته ، لأن أصلها لام الابتداء ، فلا تدخل إلا على ما كانت تدخل عليه ؛ وقد ذكرنا مواضعها ، وأجازه الكسائي ، نظرا إلى سدّها مسدّ الخبر ،

وإذا وقعت الاسمية خبر «انّ» ، فالوجه دخولها على الجزء الأول ، نحو : ان زيدا لأبوه قائم ، وقد حكي : ان زيدا وجهه لحسن ، وهو مثل دخولها على جواب الشرط الواقع موقع الخبر ، على ما أجازه ابن الأنباري وكلاهما ضعيف ، لأن حقها ، لما سقطت عن التصدّر : ألّا تتأخر عن الاسم ، وعن أول أجزاء الخبر ،

وإذا أردت إدخالها في خبر «إن» الذي في أوله لام القسم ، وجب الفصل بينهما ،

__________________

(١) إذا قيل ابن الأنباري ، فالمراد في الأغلب : أبو بكر : محمد بن القاسم بن الأنباري من علماء القرن الثالث والرابع الهجريين حيث توفي سنة ٣٢٧ ه‍ ، وقد يراد به صاحب الانصاف في مسائل الخلاف : أبو البركات عبد الرحمن بن محمد ، والأكثر أن يقال لهذا : الانباري فقط ، وكلاهما ممن نقل عنهم الرضي في هذا الشرح ؛

٣٥٨

لكراهة اجتماع اللامين ، قال تعالى : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ)(١) ، فصل بينهما بما ، الزائدة ، كما قلنا في : زيد صديقي ، كما أن عمرا أخي ؛

وإنما تدخل على معمول الخبر المتقدم على الخبر ، إذا لم يكن الخبر ماضيا مجرّدا عن «قد» نحو : إن زيدا لطعامك آكل ، وإني لبك واثق ، ولا تقول : ان زيدا لفي الدار قام ، كما ذكرنا في جواب القسم ، وأجازه الأخفش ، وقد تدخل على غير الثلاثة المذكورة ، وهو (٢) الفصل المسمّى عمادا كقوله تعالى : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)(٣) ، وذلك لوقوعه موقع الخبر فكأنها دخلت على الخبر ، مع أن كل فصل في مثل هذا المقام يحتمل أن يكون مبتدأ لارتفاع ما بعده ؛

وقد تكرّر اللام في الخبر وفي متعلقه المتقدم عليه ، نحو : إنّ زيدا لفيك لراغب ، وهو قليل ، منع منه المبرد ، وأجازه الزجاج قياسا ؛

وقد شذ دخول اللام على خبر المبتدأ المؤخر مجرّدا من «إنّ» نحو قوله :

٨٤٠ ـ أمّ الحليس لعجوز شهربه (٤)

وقدّر بعضهم : لهي عجوز ، لتكون في التقدير داخلة على المبتدأ ، كما شذ في خبر «أنّ» المفتوحة ، على قراءة سعيد بن جبير : (إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ)(٥) ، وكذا قرئ في الشواذ : (وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٦) بالفتح كما جاءت في الخبر معمولا لأضحى ،

__________________

(١) الآية ١١١ سورة هود ؛

(٢) وهو : أي المراد بغير الثلاثة ؛

(٣) من الآية ٨٧ سورة هود ؛

(٤) ينسب إلى شاعر اسمه عنترة بن عروس ، على وزن جعفر ، وينسب إلى رؤبة أيضا ، والذي في ديوان عنترة لفظه :

رب عجوز من سليم شهربه

ترضى من اللحم بعظم الرقبة

(٥) الآية ٢٠ سورة الفرقان وتقدمت ؛

(٦) الآية ٤٢ سورة الأنفال ؛

٣٥٩

نحو : أضحى زيد لمنطلقا ، ولأمسى ،

قال :

٨٤١ ـ مرّوا عجالا فقالوا كيف صاحبكم

فقال من سئلوا أمسى لمجهودا (١)

ولزال ، قال :

٨٤٢ ـ وما زلت من ليلى لدن أن عرفتها

لكالهائم المقصى بكلّ مكان (٢)

ولما ، في : ما زيد لقائما ؛ وقوله :

٨٤٣ ـ وأعلم أنّ تسليما وتركا

للامتشابهان ولا سواء (٣)

شاذ ، لدخولها على حرف النفي ؛ وشذ ، أيضا ، دخولها على «كأنّ ، ولولا» قال :

٨٤٤ ـ فباد حتى لكأن لم يكن

فاليوم أبكي ومتى لم يبكني (٤)

وقال :

٨٤٥ ـ للولا قاسم وندا بسيل

لقد جرّت عليك يد غشوم (٥)

واعلم أن أصل «شهدت» أن يتعدّى بالباء نحو : شهدت بكذا ، وشهدت بأن زيدا قائم ، ويجوز ، مع أنّ ، حذف الجار ، كما هو القياس ، نحو : شهدت أنك قائم ؛

__________________

(١) أورده ثعلب من غير نسبة ، وكل الذين استشهدوا به نقلوه عن ثعلب ولم ينسبه أحد منهم وعجالا جمع عجل ، وروي عجالى جمع عجلان ؛

(٢) هكذا أورده الرضي ، ونقله البغدادي : بكل مزأد ، ولعله كذلك في نسخته التي شرح عليها الشواهد ، قال البغدادي : وصوابه : بكل سبيل لأنه من قصيدة لأمية من شعر كثير عزة ، أولها :

ألا حيّيا ليلى أجدّ رحيلي

وآذن أصحابي غدا بقفول

(٣) نقل البغدادي عن ابن جني نسبته إلى أبي حزام العكلي وهو غالب بن الحارث من قبيلة عكل بضم العين وسكون الكاف ، وفسّر التسليم بأنه التسليم على الناس ، أو أن المراد : التسليم في الأمر وعدم المنازعة فيه ؛

(٤) قال البغدادي : الضمير في باد يرجع إلى المتحدث عنه بالهلاك في بيت قبله ؛ ولم يذكر شيئا قبله ولا بعده ، وإنما قال : لم أر هذا البيت إلا في : سرّ الصناعة ، لابن جني. ولم أقف على ما قبله ولا على شيء من خبره ؛

(٥) وكذلك قال البغدادي في هذا البيت إنه رآه في سر الصناعة ، وانه لم يقف له على خبر ؛ ولذلك لا يعرف المراد من قاسم وبسيل أكثر من أنهما رجلان ؛

٣٦٠