شرح الرضيّ على الكافية

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


المحقق: يوسف حسن عمر
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات مؤسّسة الصادق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٢

[قال الرضي :]

الإفضاء : الوصول ، والباء بعده للتعدية ، أي لإيصال فعل ... والمراد بايصال الفعل إلى الاسم : تعديته إليه ، حتى يكون المجرور مفعولا به لذلك الفعل فيكون منصوب المحل ، فلذا جاز العطف عليه بالنصب في قوله تعالى : (وَأَرْجُلَكُمْ)(١) ،

ويسمّيها بعضهم حروف الإضافة ، لهذا المعنى ، أي تضيف الأفعال إلى الأسماء أي توصلها إليها ، ومن هذا سمّيت حروف الجرّ ، لأنها تجرّ معناها إليها ، والأظهر أنه قيل لها حروف الجر ، لأنها تعمل إعراب الجرّ ، كما سميت بعض الحروف حروف الجزم ، وبعضها حروف النصب ،

وأراد بقوله : شبه الفعل : اسم الفاعل ، واسم المفعول ، والصفة المشبهة ، والمصدر ، كما ذكرنا في الحال (٢) ؛ نحو : مررت بزيد ، وأنا مارّ بزيد ، وزيد ممرور به ، ومروري بزيد حسن ، وزيد بعيد عن الأذى ؛

ويعني بمعناه : الظرف ، والجار والمجرور نحو قولك : زيد عندك أو في الدار لاكرامك ، فاللام في : لإكرامك ؛ يعدّي الظرف إلى إكرامك ، وهو في الحقيقة معدّ للفعل المقدر ، أو لشبهه ، وذلك لأن التقدير : زيد استقرّ أو مستقرّ ، لكن لمّا سدّ الظرف مقام (٣) الفعل أو شبهه ، جاز أن يقال : إن الجارّ معدّ للظرف ، وكذا في : يا زيد ، فإن «يا» قائم مقام أنادي ،

وأورد المصنف لتمثيل تعديته معنى الفعل : هذا في الدار أبوه (٤) ، ولا أراه من ذلك

__________________

(١) جزء من الآية ٦ في سورة المائدة ؛

(٢) تقدم ذكر هذه الأشياء في باب الحال في أول الجزء الثاني من هذا الشرح ؛

(٣) مرتبط بقوله سدّ الظرف ، اما على اعتبار انه مؤوّل بقام ، أو بأن مقام مؤوّل بمسدّ ، والرضي يسلك هذا الأسلوب كثيرا ؛

(٤) القصد أن تكون الإشارة إلى الأب فيكون اسم الإشارة مبتدأ وأبوه خبر ؛

٢٦١

لأن : في الدار ، حال ، والعامل فيه معنى الإشارة ، كما في : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً)(١) ، ولو صرّحت بما هو معناه لقلت : أشير إليه في الدار ، أي كائنا في الدار ، فلفظ أشير ، يعمل النصب في لفظ «في الدار» لكونه حالا ، لقيامه مقام الحال المحذوف ، وعمل الشيء في الحال غير عمله في المفعول به ، وكلامنا في عمل معنى الفعل في المفعول به بواسطة الحرف ، وعمل الفعل أو شبهه أو معناه في الحال لا يحتاج إلى حرف الجر ؛

ومن أمثلة تعدية الحرف لمعنى الفعل قولهم : أين أنت منيّ ، لأن معنى أين : أنت بعدت ؛

وقد مضى الكلام على ما اختلف فيه ، هل هو حرف جرّ ، أو ، لا ، من : لو لا ، وكي ، ولات (٢) ، وقد اختلف في «لعل» وسيجيء الكلام عليه ،

قال المصنف : فالعشرة الأول ، لا تكون إلا حروفا ، والخمسة التي تليها تكون حروفا وأسماء ، والثلاثة البواقي تكون حروفا وأفعالا ؛

قال : ولم أعدّ «على» اسما وفعلا وحرفا ، لأني أراعي في العدّ أن يكون بين الكلمتين المتخالفتين في النوع ، المتماثلتين في اللفظ توافق وتناسب من حيث المعنى ، كتشارك «على» الحرفية والاسمية في معنى العلوّ ، فلهذا لم أعدّ «من» فعلا أيضا ، مع أنه يكون أمرا من : مان يمين ، وكذا «في» مع كونه أمرا للمؤنث من وفي بفي ، و «له» أمرا من : ولي يلي ، وكذا ، لم أعدّ «إلى» اسما ، مع كونه يجيء بمعنى النعمة (٣) ، كلّ ذلك لاختلاف المعنيين ؛ قال : وأراعي ، أيضا ، في العدّ ، مع التشارك في المعنى : التساوي في أصل الوضع ، و «على» ، إذا كان فعلا يكتب بالألف وأصله الواو ، بخلافه إذا كان اسما أو حرفا ؛ وكذا «من» و «في» ، و «له» أفعالا ، أصلها : امين ، واوفى ، واولى ؛

__________________

(١) من الآية ٧٢ في سورة هود ؛

(٢) تقدم كل منها في موضعه ؛

(٣) وجمعها آلاء كقوله تعالى (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ؛)

٢٦٢

وفيما قال نظر ، لأن «على» الاسمية تكتب ألفا ، وأصله واو اتفاقا لكنها إذا أضيفت إلى الضمير ، ينقلب الألف ياء ، تشبيها بعلى الحرفية ،

وقوله :

٧٥٧ ـ باتت تنوش الحوض نوشا من علا

نوشا به تقطع أجواز الفلا (١)

«علا» فيه ، مبني على الضم ، كقولهم : من عل ، بحذف المضاف إليه ،

ثم اعترض على نفسه (٢) ، وقال : فحاشا وخلا وعدا ، الحرفيّة ، لا أصل لألفاتها ، بخلافها فعلية ، وأجاب ، بأنها لما تضمنت معنى الاستثناء أشبهت الحرف في عدم التصرف ، فصارت كأنها لا أصل لألفاتها ؛

وهذا عذر بارد (٣) ؛

قوله : «فمن للابتداء» ، كثيرا ما يجري في كلامهم أن «من» لابتداء الغاية ، و «إلى» لانتهاء الغاية ؛ ولفظ الغاية يستعمل بمعنى النهاية وبمعنى المدى ، كما أن الأمد ، والأجل ، أيضا ، يستعملان بالمعنيين ، والغاية تستعمل في الزمان والمكان ، بخلاف الأمد والأجل ، فإنهما يستعملان في الزمان فقط ؛ والمراد بالغاية في قولهم : ابتداء الغاية ، وانتهاء الغاية : جميع المسافة ، إذ لا معنى لابتداء النهاية وانتهاء النهاية ؛

فمن ، للابتداء في غير الزمان عند البصريّة ، سواء كان المجرور بها مكانا نحو : سرت من البصرة ، أو غيره ، نحو قولهم : هذا الكتاب من زيد إلى عمرو ؛

__________________

(١) تنوش أي تتناول أي أنها لا تمعن في الشرب ، وهو في وصف ناقة أو في وصف ابل ، والبيت من شواهد سيبويه التي لم يعرف لها قائل وهو في سيبويه ج ٢ ص ١٢٣ ، ونسبه بعضهم إلى غيلان بن حريث ، أحد الرّجّاز ؛

(٢) أي اعترض على نفسه في القاعدة التي وضعها في عدّ الكلمات المشتركة بين الحرفية وغيرها ؛

(٣) كثيرا ما يعبّر الرضي في نقده بمثل هذا التعبير القاسي ؛

٢٦٣

وأجاز الكوفيون استعمالها في الزمان ، أيضا ، استدلالا بقوله تعالى : (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ)(١) ، وقوله تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ)(٢) ،

وقوله :

٧٥٨ ـ لمن الديار بقنة الحجر

أقوين من حجح ومن دهر (٣)

وأنا لا أرى في الآيتين معنى الابتداء ، إذ المقصود من معنى الابتداء في «من» ، أن يكون الفعل المتعدّي بمن الابتدائية شيئا ممتدّا ، كالسّير ، والمشي ونحوه ، ويكون المجرور بمن : الشيء الذي منه ابتداء ذلك الفعل نحو : سرت من البصرة أو يكون الفعل المتعدي بها أصلا للشيء الممتدّ ، نحو : تبرّأت من فلان إلى فلان ، وكذا خرجت من الدار ، لأن الخروج ليس شيئا ممتدّا ، إذ يقال : خرجت من الدار ، إذا انفصلت عنها ولو بأقل من خطوة ؛ وليس التأسيس والنداء حدثين ممتدّين ، ولا أصلين للمعنى الممتدّ ، بل هما حدثان واقعان فيما بعد «من» وهذا معنى «في» ، فمن في الآيتين بمعنى «في» ، وذلك لأن «من» ، في الظروف كثيرا ما تقع بمعنى «في» نحو : جئت من قبل زيد ، ومن بعده ، و : (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ)(٤) ؛ وكنت من قدّامك ، وقد ذكرنا ذلك في الظروف المبنية (٥) ، وإقامة بعض حروف الجر مقام بعض غير عزيزة ، وكذا الإقواء (٦) ، لم يبتدئ من الحجج ، بل المعنى من أجل مرور حجج وشهر ؛ والظاهر مذهب الكوفيين ، إذ لا منع من مثل قولك : نمت من أول الليل إلى آخره ؛ وصمت من أول الشهر إلى آخره ،

__________________

(١) من الآية ١٠٨ في سورة التوبة ؛

(٢) الآية ٩ في سورة الجمعة ؛

(٣) المشهور أن هذا البيت مطلع قصيدة لزهير بن أبي سلمى في مدح هرم بن سنان. ومن العلماء من ينكر ذلك ويقول ان حمادا الراوية صنعه مع بضعة أبيات ليكون مطلع قصيدة زهير التي بدأها بقوله :

دع ذا وعد القول في هرم

خير البداة وسيد الحضر

(٤) الآية ٥ سورة فصلت ؛

(٥) في الجزء الثالث من هذا الشرح ؛

(٦) المستفاد من قوله في البيت السابق : أقوين ؛

٢٦٤

وهو كثير الاستعمال ؛ وتعرف «من» الابتدائية ، بأن يحسن في مقابلتها «إلى» أو ما يفيد فائدتها ، نحو قولك أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، لأن معنى أعوذ به : ألتجئ إليه وأفرّ إليه ، فالباء ههنا أفادت معنى الانتهاء ؛ وإذا قصدت بمن مجرّد كون المجرور بها موضعا انفصل عنه الشيء وخرج منه ، لا كونه مبتدأ لشيء ممتدّ ، جاز أن يقع موقعه «عن» لأنها لمجرد التجاوز ، كما يجيء ، تقول : خرجت من المكان وأخرج عنه ، وانفصلت منه وعنه ، ونهيت من كذا وعنه ، وسقاه من العيمة (١) وعنها ، أي بعّده عنها ؛

وأمّا «من» التفضيلية فهي ، وإن كانت لمجرد المجاوزة ، كما مرّ ، لكنه لا يستعمل «عن» مكانها ، لأنها صارت علما في التفضيل ، وكبعض حروف أفعل التفضيل ، فلا تغيّر ولا تبدّل ؛

وأجاز ابن السرّاج ، كون «من» لابتداء غايتي الفاعل والمفعول ، لكون الفعل مشتركا بينهما ، نحو : رأيت الهلال من مكاني من خلل السحاب ، فمبدأ رؤيتك : مكانك ، ومبدأ كون الهلال مرئيّا : خلل السحاب ، وكذا قولهم شممت المسك من داري من الطريق ؛

ومثال التبعيض : أخذت من الدراهم ، والمفعول الصريح لأخذت : محذوف ، أي أخذت من الدراهم شيئا ، وإذا لم تذكر المفعول الصريح أو ذكرته معرفا ، نحو : أخذت من الدراهم : هذا (٢) ، فمن متعلقة بأخذت ، لا غير ، لأنه يقام مقام الفاعل نحو : أخذ من الدراهم ، والدراهم مأخوذ منها ، ولو ذكرته بعد المفعول المنكر ، نحو : أخذت شيئا من الدراهم جاز أن يكون الجارّ متعلقا بالفعل المذكور ، وأن يكون صفة لشيء ، فيتعلق بمقدر ، أي : شيئا كائنا من الدراهم ، فيجوز ، إذا تقدم على النكرة أن يكون ، أيضا ، حالا عن النكرة المؤخرة ، قال تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً)(٣) ،

وتعرف «من» التبعيضيّة ، بأن يكون هناك شيء ظاهر ، وهو بعض المجرور بمن ،

__________________

(١) العيمة : شهوة الإنسان إلى اللبن ، فالمعنى ، كما يقول الشارح : بعّده منها أي عنها بسبب السقي ؛

(٢) أي بالإشارة إلى درهم معيّن ؛

(٣) من الآية ١٠٣ سورة التوبة ؛

٢٦٥

نحو : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) ، أو مقدر ، نحو : أخذت من الدراهم ، أي : من الدراهم شيئا ؛

قال المبرد ، وعبد القاهر ، والزمخشري (١) ، ان أصل «من» المبعّضة : ابتداء الغاية ، لأن الدراهم في قولك أخذت من الدراهم : مبدأ الأخذ ؛

قوله : «وللتبيين» ، كما في قوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ)(٢) ، وتعرفها بأن يكون قبل «من» ، أو بعدها ، مبهم ، يصلح أن يكون المجرور بمن ، تفسيرا له ، وتوقع اسم ذلك المجرور على ذلك المبهم ، كما يقال ، مثلا ، للرجس : إنه الأوثان ، ولعشرين ، إنها الدراهم في قولك : عشرون من الدراهم ، وللضمير في قولك : عزّ من قائل : إنه القائل ؛ بخلاف التبعيضية ، فإن المجرور بها لا يطلق على ما هو مذكور قبله أو بعده ، لأن ذلك المذكور بعض المجرور ، واسم الكل لا يقع على البعض ؛ فإذا قلت عشرون من الدراهم ، فإن أشرت بالدراهم إلى دراهم معيّنة أكثر من عشرين فمن مبعّضة ، لأن العشرين : بعضها ، وإن قصدت بالدراهم : جنس الدراهم فهي مبيّنة ، لصحة إطلاق اسم المجرور على العشرين ؛

ولا يلزم أن يكون المأخوذ في نحو : أخذت من الدراهم ، أقلّ من النصف ، كما قال بعضهم ، لأنه لا يمتنع أن تصرّح وتقول : أخذت من الثلاثين : عشرين ، ومن العشرة : تسعة ؛

وقال الزمخشري (٣) : كونها للتبيين : راجع إلى معنى الابتداء ؛

وهو بعيد ، لأن الدراهم هي العشرون في قولك : عشرون من الدراهم ، ومحال أن يكون الشيء مبدأ نفسه ، وكذلك الأوثان : نفس الرجس ، فلا تكون مبدأ له ؛ وإنما

__________________

(١) أبو العباس المبرد ، وعبد القاهر الجرجاني ، وجار الله : الزمخشري ، كلهم تقدم ذكرهم ؛

(٢) من الآية ٣٠ سورة الحج ؛

(٣) انظر شرح ابن يعيش على المفصل ج ٨ ص ١٠ ؛

٢٦٦

جاز تقديم «من» المبيّنة على المبهم في نحو قولك : أنا من خطّه في روضة ، ومن رعايته في حرم ، وعندي من المال ما يكفي ، ومن الخيل عشرون ؛ لأن المبهم الذي فسّر بمن التبيينية مقدم تقديرا ، كأنك قلت : أنا في شيء من خطه في روضة ، وعندي شيء من المال ما يكفي ، وكذا قولك : يعجبني من زيد كرمه ، أي من خصال زيد ، كأنك قلت يعجبني شيء من خصال زيد : كرمه ، ومثله : كسرت من زيد يده ، أي : شيء من أعضاء زيد : يده ؛

ففي جميع هذا : المعطوف عليه محذوف والذي بعد «من» عطف بيان له ، كما ذكرنا في باب عطف البيان (١) ؛ كل ذلك ليحصل البيان بعد الإبهام ، لأن معنى يعجبني من زيد ، أي شيء من أشيائه بلا ريب فإذا قلت : وجهه ، أو كرمه ، فقد بينت ذلك الشيء المبهم ؛

وأمّا ما يسمّى «من» التجريدية ، نحو : لقيت من زيد أسدا ، فليس من هذا ، بل هو مثله في حذف المضاف ، أي لقيت من لقاء زيد أسدا ، أي حصل لي من لقائه لقاء أسد ، والمراد تشبيهه بالأسد ؛

وكذا الباء التجريدية في نحو قوله تعالى : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً)(٢) وقولك لقيت بزيد أسدا ، أي : سل بسؤاله خبيرا ، ولقيت بلقاء زيد أسدا ؛

وقد تكون «من» للبدل ، في نحو قوله تعالى : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ)(٣) ، وقوله :

٧٥٩ ـ فليت لنا من ماء زمزم شربة

مبرّدة باتت على الطهيان (٤)

وتعرف بصحة قيام لفظ «بدل» مقامها ؛

__________________

(١) في الجزء الثاني من هذا الشرح ؛

(٢) من الآية ٥٩ سورة الفرقان ؛

(٣) من الآية ٣٠ سورة التوبة ؛

(٤) قائله يعلى الأحول الأزدي وكان أحد الفتّاك واللصوص. والبيت أحد أبيات يذكر فيها عددا من الأماني ـ

٢٦٧

قوله : «وزائدة في غير الموجب» ، هو إمّا نفي ، نحو : ما رأيت من أحد ، أو نهي ، نحو : لا تضرب من أحد ، أو استفهام نحو : هل ضربت من أحد ؛

وغير الأخفش والكوفيين شرط فيها شرطين : كونها في غير الموجب ، ودخولها في النكرات ، والكوفيون والأخفش لا يشترطون ذلك استدلالا بقوله تعالى : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)(١) ، فمن : في حيّز الإيجاب ، وهي داخلة على المعرفة ؛

وهي ، عند سيبويه : مبعّضة ، أي يغفر لكم من ذنوبكم شيئا ، قالوا : فقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً)(٢) ، يناقضه ، وأجيب بأن قوله تعالى : «لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» : خطاب لقوم نوح ، عليه السّلام ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) ، خطاب لأمة محمد ، صلّى الله تعالى عليه وسلم ؛ ولو كانا أيضا ، خطابا لأمة واحدة ، فغفران بعض الذنوب لا يناقض غفران كلها ، بل عدم غفران بعضها يناقض غفران كلها ؛

واستدلوا بما حكى البغداديون من قول العرب : قد كان من مطر ، وأجيب بأنه على سبيل الحكاية ، كأنه سئل : هل كان من مطر ، فأجيب قد كان من مطر ، فزيدت في الموجب ، لأجل حكاية المزيدة في غير الموجب ، كما قال : دعني من تمرتان ، كما مرّ في الموصولات (٣) ؛

وقول المصنف : شيء من مطر ، ومن ، للتبعيض أو التبيين ، فيه نظر ؛ لأن حذف الموصوف وإقامة الجملة أو الظرف مقامه بلا شرط ذكرناه في باب الموصوف (٤) : قليل ؛ وخاصّة إذا كان الموصوف فاعلا ، لأن الجارّ والمجرور ، لا يكون فاعلا للفعل المبني للفاعل ،

__________________

= التي يشتهيها، وهو يرتبط ببيت تقدم في باب الضمائر ، جاء شاهدا على حذف الحركة من الضمير وهو قوله:

فبت لدى البيت العتيق أريغه

ومطواي مشتاقان له أرقان

(١) من الآية ٤ سورة نوح ؛

(٢) من الآية ٥٣ سورة الزمر ؛

(٣) في أول الجزء الثالث ، والجملة المنقولة في سيبويه ج ١ ص ٤٠٣ ؛

(٤) وهو أن يكون الموصوف بعض اسم متقدم مجرور بمن أو في ، انظر باب النعت في الجزء الثاني ؛

٢٦٨

إلا إذا كان الجار زائدا ، نحو : كفى بزيد ، لأن حرف الجر موصّل للفعل القاصر إلى ما كان يقصر عنه لولاه ، والفعل لا يقصر عن فاعله ؛

ولو صح تأويله ، لجاز أن يكون الكاف في قوله :

٧٦٠ ـ أتنتهون ، ولن ينهى ذوي شطط

كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل (١)

حرف جر وقد حذف الفاعل وأقيم الجار مقامه ، فلا يصح الاستدلال بالبيت على أن الكاف اسم ؛

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ)(٢) ، يجوز أن يستدلّ به على ما ذهب إليه المصنف ؛ ويجوز أن يقال : إن ضمير : «جاء» للقرآن ، وقوله : من نبأ ، حال ؛

والدليل على زيادة «من» الاستغراقية : دخولها على ما لا توصّل الفعل إليه ، أعني الفاعل ، في نحو : ما جاءني من أحد ؛ فعند سيبويه : لا تزاد «من» إلا استغراقية ، وعند الكوفيين والأخفش ، تزاد غير استغراقية كما في الموجب ؛ وفائدة «من» الاستغراقية : ما ذكرنا في باب «لا» التبرئة (٣) ، أعني التنصيص على كون النكرة مستغرقة للجنس ، إذ لولاها لاحتمل احتمالا مرجوحا أن يكون معنى ما جاءني رجل : ما جاءني رجل واحد بل جاءني رجلان أو أكثر ، فهي ، إذن ، لتأكيد ما استفيد من النكرة في غير الموجب من الاستغراق ، وذلك أن النكرة كانت في الظاهر للاستغراق ، لكنها كانت تحتمل غير ذلك ؛ وليس كذا : زيادة الباء في نحو : ألقى بيده ، فإنها ليست للتنصيص على أحد المحتملين ؛

__________________

(١) من قصيدة الأعشى ، ميمون بن قيس ، التي تعد إحدى المعلقات والتي أولها :

ودع هريرة إن الركب مرتحل

وهل تطيق وداعا أيها الرجل

ومنها شواهد كثيرة في هذا الشرح ؛

(٢) من الآية ٣٤ سورة الأنعام ؛

(٣) في الجزء الثاني. وقد فسّرنا أكثر من مرة وجه تسميتها «لا» التبرئة ؛

٢٦٩

وقيل : إن أصل «من» الاستغراقية في الأصل : ابتدائية ، أي : ما جاءني من أحد ، إلى ما لا يتناهى ؛

وقد تجيء للتعليل ، نحو : لم آتك من سوء أدبك ، أي من أجله ، وكأنها ابتدائية ، لأنّ ترك الإتيان ، حصل من سوء الأدب ؛

وتكون «من» مضمومة الميم ، ومكسورتها ، بمعنى تاء القسم ، ولا تدخل إذن ، إلا على لفظ «الرّبّ» كاختصاص التاء بالله ، وشذ دخول كل واحدة منهما على معمول الأخرى ، نحو : تربّي ، و : من الله ، وهي حرف جرّ عند سيبويه ، جاز ضم ميمه في القسم خاصة ، وقيل : المكسورة الميم ، مقصورة من يمين ، والمضمومتها مقصورة من أيمن ؛

وتكون «من» في الظروف بمعنى «في» كما تقدم ؛ وتختص «من» بجرّ : قبل ، وبعد ، وعند ، ولدى ، ومع ؛ يقال جئت من معه أي من عنده ، وكذا «بله» نحو : فمن بله أن يأتي بالصخرة ، وقد ذكرنا ذلك في أسماء الأفعال (١) ؛

واختصّت أيضا بجرّ : عن ، وعلى ، اسمين ؛

[إلى ـ حتى]

[في ـ الباء ـ اللام]

[قال ابن الحاجب :]

«وإلى ، للإنتهاء ، وبمعنى «مع» قليلا ؛ وحتى ، كذلك»

«وبمعنى مع ، كثيرا ، وتختص بالظاهر ، خلافا للمبرد ،»

«وفي ، للظرفية وبمعنى على ، قليلا ، والباء للإلصاق ،»

__________________

(١) في الجزء الثالث من هذا الشرح ؛

٢٧٠

«والإستعانة والمصاحبة والمقابلة ، والتعدية ، والظرفية ، وزائدة»

«في الخبر في النفي والاستفهام قياسا ، وفي غيره سماعا ، نحو :»

«بحسبك زيد ، وألقى بيده ؛ واللام للاختصاص ، والتعليل

«وزائدة وبمعنى عن مع القول ، وبمعنى الواو في القسم»

«للتعجب» ؛

[قال الرضي :]

اعلم أن «إلى» تستعمل في انتهاء غاية الزمان والمكان بلا خلاف ، نحو : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ)(١) ، والأكثر عدم دخول حدّي الابتداء ، والانتهاء في المحدود ، فإذا قلت : اشتريت من هذا الموضع إلى ذلك الموضع ، فالموضعان لا يدخلان ظاهرا في الشراء ، ويجوز دخولهما فيه مع القرينة ؛ وقال بعضهم ، ما بعد «إلى» ظاهره الدخول فيما قبلها ؛

فلا تستعمل في غيره إلا مجازا ، وقيل : إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها نحو : أكلت السمكة حتى رأسها ، فالظاهر الدخول ، وإلا ، فالظاهر عدم الدخول ، نحو : ثم أتموا الصيام إلى الليل ، والمذهب هو الأول ؛

قوله : «وبمعنى مع ، قليلا» ، كما في قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ)(٢) والتحقيق أنها بمعنى الانتهاء ، أي تضمّونها إلى أموالكم ، وكذا قوله تعالى : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ)(٣) ، أي مضافة إلى المرافق ، و : الذّود إلى الذود ابل ؛ أي : مضافة إلى الذود ؛ وقوله :

__________________

(١) من الآية ١٨٧ سورة البقرة ؛

(٢) من الآية الثانية في سورة النساء ؛

(٣) من الآية ٦ سورة المائدة ؛

٢٧١

٧٦١ ـ وأنت التي حبّبت شغبا إلى بدا

إليّ ، وأوطاني بلاد سواهما (١)

أي : مضافا إلى بدا ، كما في قوله :

٧٦٢ ـ فلا تتركنّي بالوعيد كأنني

إلى الناس مطليّ به القار أجرب (٢)

والظاهر أنها بمعناها ، وذلك لأن معنى مطليّ به القار أجرب : مكرّه مبغض ، والتكريه يتعدى بإلى ، قال تعالى : (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ ..)(٣) ، حملا على التحبّب المضمّن معنى الامالة ، قال تعالى : (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ)(٤) ، كما قيل : بعت منه ، حملا على : اشتريت منه ، ورضيت عليه ، حملا على سخطت ، قال :

٧٦٣ ـ إذا رضيت عليّ بنو قشير

لعمر الله أعجبني رضاها (٥)

وقيل : إن «إلى» في نحو : أنت إليّ حبيب أو بغيض ، وجلست إليه بمعنى «عند» ، والأولى بقاؤها على أصلها ، كما ذكرنا ، وكذا هي في قوله :

٧٦٤ ـ وإن يلتق الحيّ الجميع تلاقني

إلى ذروة البيت الكريم المصمّد (٦)

بمعنى منتسب إلى ذروة ، لا بمعنى «في» كما قيل ؛

قوله : «وحتى كذلك» ، أي لانتهاء الغاية مثل «إلى» ، إلّا أن بينهما فرقا ، كما يجيء ؛ وعتىّ ، بالعين لغة هذلية ؛ وهي على ثلاثة أضرب : حرف جر ، وحرف عطف ،

__________________

(١) شنب ، وبدا ، اسمان لمكانين ، والبيت منسوب إلى كثير عزة وإلى جميل بثينة وبعده :

حلّلت بهذا حلّة ثم حلّة

بهذا ، فطاب الواديان كلاهما

(٢) من قصيدة للنابغة الذبياني مما اعتذر به إلى النعمان بن المنذر وقوله مطليّ به العار ، من باب القلب المعنوي ، والمقصود : كأنني مطليّ بالقار ؛

(٣ و ٤) الجزآن ، من الآية ٧ سورة الحجرات ؛

(٥) البيت لشاعر اسمه : القحيب العجليّ. يمدح حكيم بن المسيّب القشيريّ ، ويتصل به بيت يستشهد به النحويون على زيادة الباء في الحال. وهو قوله :

فما رجعت بخائبة ركاب

حكم بن المسيّب منتهاها

(٦) من معلقة طرفة بن العبد ، ومن أبياتها بعض الشواهد في هذا الشرح ، وأراد بقوله : وإن يلتق الحي .. لقاءهم للتفاخر. وذروة البيت أعلاه ومراده بيت الشرف الرفيع والمصمّد الذي يعتمد إليه أي يقصد ؛

٢٧٢

وحرف استئناف ؛ فإذا كانت حرف جرّ ، فلها معنيان : «إلى» ، و «كي» ، ولا تجر ؛ بمعنى «كي» ، إلا مصدرا مؤوّلا به الفعل المنتصب بعدها بأن المضمرة ، نحو : أسلمت حتى أدخل الجنة ، ولا تقول : حتى دخول الجنة ؛ والتي بمعنى «إلى» تجر ذلك ؛ نحو : سرت حتى تغيب الشمس ، وتجر الاسم الصريح أيضا ، نحو : (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)(١) ؛ وينبغي أن يكون المجرور بها مؤقتا ، لأنه حدّ ، والتحديد بالمجهول لا يفيد ، ونحو قوله تعالى : (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ)(٢) ، بمعنى المؤقت ، أي : حين أخذهم ؛

ومذهب الكسائي : أن جرّ ما بعدها بإلى ، لا بحتّى ، لأن العامل ينبغي أن يكون لازما لأحد القبيلين و «حتى» تدخل على الأسماء والأفعال فهي ، ك «ما» ، في لغة تميم عنده ، وقد ذكرنا ذلك في النواصب (٣) ؛

وأمّا العاطفة فهي مثل الجارة في معنى الانتهاء ، ولا تكون بمعنى «كي» ويجب توقيت ما بعدها ، كما في حتى ، الجارّة ، فلا تقول : جاءني القوم حتى رجل ، لأنه حدّ فلا فائدة في إبهامه ؛

وتشترك الجارّة والعاطفة في أنه لا بدّ قبلهما من ذي أجزاء ، إلّا أن ذلك يجب إظهاره في العاطفة حتى يكون معطوفا عليه ، نحو : قدم الحجاج حتى المشاة ، وأما في الجارّة فيجوز إظهاره نحو : ضربت القوم حتى زيد ويجوز تقديره أيضا ، نحو : نمت حتى الصباح ، أي : نمت الليلة حتى الصباح ؛ ويتفارقان ، أيضا ، بأنّ ما بعد «حتى» العاطفة يجب أن يكون جزءا مما قبلها نحو : ضربت القوم حتى زيدا ، أو كجزئه بالاختلاط ، نحو : ضربني السادة حتى عبيدهم ، أو جزءا لما دلّ عليه ما قبلها ، كما في قوله :

ألقى الصحيفة كي يخفف رحله

والزاد حتى نعله ألقاها (٤) ـ ١٥٢

__________________

(١) آخر آية في سورة القدر ؛

(٢) الآية ٥٤ من سورة المؤمنون ؛

(٣) في قسم الأفعال في هذا الجزء ؛

(٤) تقدم ذكره في الجزء الأول. باب المنصوب على شريطة التفسير ؛

٢٧٣

عند من قال : إن نعله عطف على الصحيفة ، أي ألقى جميع ما معه ، لأنه إذا ألقى الصحيفة التي لا يمشي إلا لها (١) ، فقد ألقى كل شيء ؛

ويجب أيضا دخول ما بعدها في حكم ما قبلها ، فالضرب في : ضربت القوم حتى زيدا ، لا محالة واقع على زيد أيضا ، وأمّا الجارّة فالأكثرون على تجويز كون ما بعدها متصلا بآخر أجزاء ما قبلها ، كنمت البارحة حتى الصباح ، وصمت رمضان حتى الفطر ، كما يكون جزءا منه نحو : أكلت السمكة حتى رأسها ، بالجرّ ؛ .. والسيرافي (٢) ، مع جماعة ، أوجبوا أن يكون ما بعدها جزءا أيضا مما قبلها ، كما في العاطفة ، فلم يجيزوا : نمت البارحة حتى الصباح ، جرّا ، كما لم يجيزوا نصبه ؛ وهو مردود بقوله تعالى : (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)(٣) ،

وأمّا دخول الفجر (٤) ، المجرور بحتى في حكم ما قبلها ، ففيه أقوال ؛ جزم جار الله (٥) ، بالدخول مطلقا ، سواء كان جزءا مما قبلها ، أو ملاقي آخر جزء منه ، حملا على العاطفة ، وتبعه المصنف ؛ وجوّز ابن مالك الدخول وعدم الدخول ؛ جزءا كان ، أو ملاقي آخر جزء منه ؛

وفصّل عبد القاهر ، والرمّاني ، والأندلسيّ (٦) ، وغيرهم فقالوا : الجزء داخل في حكم الكل ، كما في العاطفة ، والملاقي غير داخل ؛ وقال الأندلسيّ : إنما ذكرت «زيدا» مع دخوله في القوم ، في قولك ضربت القوم حتى زيد بالجرّ ، لغرض التعظيم أو التحقير ،

__________________

(١) إشارة إلى قصة المتلمس وما فعل من إلقاء الصحيفة التي كان يرجو من ورائها خيرا كثيرا كما ذكر عند شرح البيت في المكان المشار إليه ؛

(٢) أبو سعيد السيرافي. شارح كتاب سيبويه. وتكرر ذكره ؛

(٣) آخر سورة القدر وتقدمت قريبا ؛

(٤) أي في الآية المذكورة لأن دخول مطلعه دخول له ؛

(٥) أي الزمخشري ؛ وقوله هذا في متن المفصل في شرح ابن يعيش عليه ج ٨ ص ١٥ ؛

(٦) تقدم ذكر هؤلاء جميعا في هذا الجزء وفي الأجزاء السابقة ؛

٢٧٤

واستدلّ بأنّ حتى ، كالتفصيل لما قبلها ، فإذا دخل في الإجمال ، دخل في التفصيل ، وإذا لم يدخل ، لم يدخل ؛

ومذهب ابن مالك قريب ، لكن الدخول مطلقا أكثر وأغلب ؛

واعلم أنه لا يلزم أن يكون ما بعد «حتى» العاطفة ، آخر أجزاء ما قبلها حسّا ، ولا آخرها دخولا في العمل ، بل قد يكون كذلك ، وقد لا يكون (١) ، لكنه يجب فيها أن يكون آخر الأجزاء ، إذا رتبت الأجزاء : الأقوى فالأقوى ، فإذا ابتدأت بقصدك من الجانب الأضعف مصعدا ، كان آخر الأجزاء أقواها ، نحو : مات الناس حتى محمد صلّى الله عليه وسلم ، بالعطف ، وليس هو ، عليه الصلاة والسّلام ، آخرهم حسّا ، ولا دخولا ، بل هو آخرهم قوة وشرفا ؛ وإذا ابتدأت بعنايتك (٢) من الجانب الأقوى منحدرا ، كان آخر الأجزاء أضعفها ، نحو : قدم الحجاج حتى المشاة ، عطفا ، ويجوز أن يكونوا قادمين قبل الركاب ، أو معهم ؛

وأمّا الجارة فيجوز أن يكون ما بعدها كذلك ، وألّا يكون ، فإذا لم يكن ، وجب أن يكون آخر الأجزاء حسّا أو ملاقيا له ، نحو قولك : قرأت القرآن حتى سورة الناس ، جرّا ؛ ولهذا جاء بعدها ما هو ملاق ، أيضا ؛

والتزم صاحب المغني (٣) : التحقير والتعظيم فيما بعد «حتى» الجارة أيضا ، وليس بمشهور ؛ وكأنّ الجارة محمولة على «إلى» ، في جواز عدم كون ما بعدها جزءا ، خلافا للسيرافي ، وفي جواز عدم دخوله في حكم ما قبلها ، كما قال ابن مالك ، وفي جواز قصد كونه آخر الأجزاء حسّا ، لا قوة ، ولا ضعفا ، لأنك إذا لم تقصد كونه آخرها ضعفا ،

__________________

(١) تكررت الإشارة إلى ضعف هذا التركيب ، ويغني عنه : ربما لا يكون ، والرضي يكرره ؛

(٢) أي بقصدك ؛

(٣) منصور بن فلاح اليمني ولا يذكره الرضي إلا بقوله صاحب المغني وهو معاصر للرضي ، وتقدم ذكره أكثر من مرة ؛

٢٧٥

أو قوة ، وجب في حتى كونه آخرها حسّا ، كما ذكرنا ؛ فلا يجوز : أكلت السمكة إلى نصفها وإلى ثلثها ؛

والعاطفة كواو العطف في دخول ما بعدها في حكم ما قبلها ، وليست بمعنى الواو ، خلافا لمن توهم ذلك ، لأن «حتى» لا بدّ فيها من معنى الانتهاء ، بخلاف الواو ؛

وهذا كما توهّم المصنف ، لدخول ما بعد «حتى» الجارة كثيرا فيما قبلها كما بعد «مع» : أن حتى تكون بمعنى «مع» فقال : وبمعنى مع كثيرا ؛

وإذا عطفت بحتى العاطفة على مجرور ، فالاختيار إعادة الجار ، دفعا لتوهم كونها جارّة ، نحو : مررت بالقوم حتى بزيد ؛

وقد يكون ذو الأجزاء الذي قبل «حتى» ، جارّة كانت أو عاطفة ، من تمام جملة ما بعد حتى ؛ نحو : القوم حتى زيدا رأيت ، عطفا وجرّا ؛

وكل ما ذكرنا من الأحكام : هو لحتى العاطفة للاسم ، وأما العاطفة للجملة فنحو : نظرت إليه حتى أبصرته ، ويجوز أن يقال : ان حتى في مثله ابتدائية ، وانها لا تعطف الجملة أبدا ،

قوله : «وتختص بالظاهر خلافا للمبرد» ، إذا كانت عاطفة جاز دخولها على المضمر نحو : جاءني القوم حتى أنت ، ورأيت القوم حتى إياك ، ومررت بالقوم حتى بك ، وأمّا الجارة فلا تدخل على المضمر ، اجتزاء بإلى ، لكون «إلى» أشد تمكنا وأوسع تصرّفا ، فلهذا تدخل آخر الأجزاء وأوسطها وتقوم مقام الفاعل نحو : قيم إلى زيد ، ولا يقال : قيم حتى عمرو ،

وشبهه المبرد قوله :

٧٦٥ ـ وأكفيه ما يخشى وأعطيه سؤله

وألحقه حتّاه بالقوم لاحق (١)

__________________

(١) شرحه البغدادي وبين وجه الشاهد فيه كما قال الشارح ، ولم يذكر مرجع الضمائر فيه ، ثم قال : هذا البيت لم أقف له على خبر. والله أعلم ؛

٢٧٦

وليس ما في البيت بمعنى الجارة ، وإلا لم يكن لرفع «لاحق» وجه ، بل هي ابتدائية ، أي حتى هو كما في قوله :

فبيناه يشري رحله قال قائل .. البيت (١) ـ ٣٦٩

؟؟؟ بقوله أيضا :

٧٦٦ ـ فلا والله ، لا يلفى أناس

فتى حتّاك يا ابن أبي زياد (٢)

وهو شاذ ؛

ومن الفرق بين حتى ، وإلى ، أنّ حتى يلزمه تقدم ذي الأجزاء إما لفظا أو تقديرا ، كما ذكرنا ، بخلاف إلى ، وأن الأظهر دخول ما بعد حتى في حكم ما قبلها كما اخترنا ، بخلاف إلى ، فإن الأظهر فيها عدم الدخول إلا مع القرينة ، وإن كان أيضا ، جزءا ؛

وقال الأندلسي : لا فرق بينهما من هذا الوجه ، فإذا كان ما بعدهما جزءا مما قبلهما ، فالظاهر الدخول فيهما ، وإن لم يكن جزءا ، فالظاهر فيهما عدم الدخول وما اخترناه : أظهر عند النحاة ؛

ومن الفرق بينهما أن الفعل المتعدي بحتّى ، يجب أن يستوفي أجزاء المتجزئ الذي قبل حتى ، شيئا فشيئا ، حتى ينتهي إلى ما بعد حتى ، من الجزء ، أو الملاقي ، وأما «إلى» ، فإن كان قبلها ذو الأجزاء وبعدها الجزء أو الملاقي ، فحكمها أيضا كذلك ، وإلّا فلا ، نحو : قلبي إليك ؛

ولا خلاف في صحة وقوع الملاقي بعد «إلى» وأما بعد «حتى» ففيه الخلاف كما مرّ ؛

واعلم أن «حتّى» لا يكون مستقرّا (٣) ، إلا في نحو : كان سيري حتى أدخلها بنصب

__________________

(١) تقدم ذكره في المضمرات ، آخر الجزء الثاني ؛

(٢) روي يا ابن أبي زياد كما روي يا ابن أبي يزيد ، وقال البغدادي ، لست أدري معنى الانتهاء فيه ؛ لأن لا يعرف مراد الشاعر من المذكور حتى يبين معنى الانتهاء ، ثم قال : لعله مصنوع ؛

(٣) المستقر من الظروف بفتح القاف هو ما كان تعلقه بمحذوف وجوبا ، ومعنى مستقر : أنه استقر فيه الضمير بعد حذف المتعلق ، وتفصيل ذلك في باب المبتدأ والخبر في الجزء الأول ؛

٢٧٧

أدخل ، وأعني بالمستقر : ما يتعلق بمقدّر ؛

وأما حتى الابتدائية فقد ذكرناها في نواصب المضارع ، ويقع بعدها الفعلية والاسمية كما ذكرناه هناك ، وفائدة الابتدائية ، أيضا ، إمّا التحقير ، كما في قوله :

٧٦٧ ـ فواعجبا حتى كليب تسبّني

كأن أباها نهشل أو مجاشع (١)

أو التعظيم كقوله :

٧٦٨ ـ فما زالت القتلى تمجّ دماءها

بدجلة حتى ماء دجلة أشكل (٢)

ويلزم في الاسمية أن يكون خبر المبتدأ من جنس الفعل المتقدم نحو : ركب القوم ، حتى الأمير راكب ، ولو قلت : حتى الأمير ضاحك لم يفد ؛

ويجوز حذف الخبر مع القرينة ، نحو : أكلت السمكة حتى رأسها ، أي رأسها مأكول ؛

قوله : «وفي للظرفية» ، إمّا تحقيقا ، نحو : زيد في الدار ، أو تقديرا ، نحو نظر في الكتاب ، وتفكر في العلم ، وأنا في حاجتك ؛ لكون الكتاب ، والعلم والحاجة شاغلة للنظر والفكر والمتكلم ، مشتملة عليها اشتمال الظرف على المظروف ، فكأنها محيطة بها من جوانبها ؛ وكذا قوله عليه الصلاة والسّلام : «في النفس المؤمنة مائة من الإبل» ، أي : في قتلها فالسبب الذي هو القتل متضمّن للدية تضمّن الظرف للمظروف ، وهذه هي التي يقال انها للسببية ؛

__________________

(١) من قصيدة للفرزدق في هجاء جرير ، ومنها بعض الشواهد في هذا الشرح ؛

(٢) دجلة بفتح الدال وكسرها ؛ نهر بالعراق ، والأشكل الذي تخالظه حمرة ، والبيت من قصيدة لجرير في هجاء الأخطل ، منها بيت يستشهد به النحاة على استعمال اللام بمعنى من وهو قوله :

لنا الفضل في الدنيا وأنفك راغم

ونحن لكم يوم القيامة أفضل

أي ونحن منكم أفضل ؛

٢٧٨

وقوله تعالى : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)(١) ، قيل ان «في» فيه ، وفي قوله :

٧٦٩ ـ بطل كأن ثيابه في سرحة

يحذي نعال السبت ليس بتوأم (٢)

بمعنى «على» ، والأولى أنها بمعناها ، لتمكن المصلوب من الجذع تمكن المظروف في الظرف.

وقيل انها بمعنى الباء في قوله :

٧٧٠ ـ ويركب يوم الروع منا فوارس

بصيرون في طعن الأباهر والكلى (٣)

والأولى أن تكون بمعناها ، أي لهم بصارة (٤) وحذق في هذا الشأن ؛

وقيل : هي بمعنى «إلى» في قوله تعالى : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ)(٥) ، والأولى أن نقول هي بمعناها والمراد التمكن ؛

وقيل : هي بمعنى «مع» في قوله تعالى : (فَادْخُلِي فِي عِبادِي)(٦) ، وبمعنى الباء في قوله :

٧٧١ ـ نحابي بها أكفاءنا ونهينها

ونشرب في أثمانها ونقامر (٧)

__________________

(١) من الآية ٧١ سورة طه ؛

(٢) من معلقة عنترة العبسي ؛ ومنها شواهد متعددة في هذا الشرح ، وبطل بالجر صفة لمدجج في بيت قبله ، وكنى عن طوله بقوله كأن ثيابه في سرحة أي شجرة عظيمة ويحذى نعال السبت كناية عن تنعمه ، ونعال السّبت بكسر السين نعال تتخذ من جلود البقر ، وليس بتوأم كناية عن قوته لأنه لم يشاركه في بطن أمه أخ يزاحمه في غذائه فتضعف بنيته ؛

(٣) من أبيات لزيد الخيل الطائي يرد فيها على كعب بن زهير وكان قال شعرا ذكر فيه زيد الخيل فردّ عليه زيد بهذه الأبيات ؛

(٤) مصدر بصر بضم الصاد ؛

(٥) من الآية ٩ في سورة ابراهيم ؛

(٦) الآية ٢٩ سورة الفجر ؛

(٧) نحابي من المحاباة قال البغدادي هو من باب المغالبة من حبا يحبو بمعنى أعطى أي نغالب أكفاءنا في منحها ،

٢٧٩

والأولى في الموضعين كونها بمعناها ، أي : حاصلة في زمرة عبادي ، أو بمعنى : ادخلي أيتها الروح في أجسام عبادي ، والشاعر جعل أثمانها ظرفا للشرب والقمار مجازا ؛

وقولهم : في الله من كل فائت خلف ، أي : في ألطافه ؛ وقولهم : أنت أخي في الله ، أي في رضاء الله ، أي : رضاه تعالى مشتمل على مؤاخاتنا ، لا تخرج عنه إلى الأغراض الدنيويّة ، وكذا قولهم : الحب في الله ، والبغض في الله ؛

قوله : «والباء للإلصاق» ، نحو : به داء ، أي التصق به ، وقولك : مررت به ، أي : ألصقت المرور بمكان يقرب منه ؛

ومنه : أقسمت بك ، وبحياتك أخبرني ، وتكون مستقرّا نحو : الذي به : ضعف ، وبه داء ؛ وتكون للاستعانة نحو : كتبت بالقلم ، وخطت بالابرة ، وبتوفيق الله حججت ، وهذا المعنى مجاز عن الإلصاق ؛

وتكون بمعنى «مع» ، وهي التي يقال لها : باء المصاحبة ، نحو (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ ، وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ)(١) ، واشتر الدار بآلاتها ؛ قيل : ولا تكون بهذا المعنى إلا مستقرّا ، أي : كائنين بالكفر ، وكائنة بآلاتها ، والظاهر أنه لا منع من كونها لغوا ، وتكون للمقابلة نحو : اشتريته به ، وبدّلته به ، وتكون مستقرّا أيضا ، نحو : هذا بذاك ؛

قوله : «وقد تكون للتعدية» ؛ جميع حروف الجر : لتعدية الفعل القاصر عن المفعول ، إليه (٢) ، لكن معنى التعدية المطلقة : أن ينقل (٣) معنى الفعل ، كالهمزة والتضعيف ، ويغيّره ؛

__________________

= والبيت لسبرة بن عمرو الفقعسي من عدة أبيات ، ونقل البغدادي أن بعضهم يفسر نحابي بأنه بمعنى نحبو ، ونعطي ؛

(١) الآية ٦١ سورة المائدة ؛

(٢) متعلق بقوله لتعدية الفعل القاصر ؛

(٣) أي الحرف الذي جيء به للتعدية ؛

٢٨٠