شرح الرضيّ على الكافية

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


المحقق: يوسف حسن عمر
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات مؤسّسة الصادق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٢

لأجل الفرق ، صار الإعراب مقدرا ، كما في نحو : غلامي ، على مذهب المصنف (١).

وقال بعضهم : المضارع مع النونين مبني للتركيب ، إلّا إذا أسند إلى الألف نحو :

هل تضربان؟؟؟ ، أو الواو نحو : هل تضربون ، أو الياء نحو : هل تضربين ، لأن الضمائر؟؟؟ التركيب لفصلها بينهما ، والمحذوف للساكنين في حكم الثابت ، فنحو : يضربنّ ، وتضربنّ ، كيخشون وتخشين فالمسند إلى أحد الأحرف الثلاثة معرب مقدر الاعراب ، لاشتغال محله بحركة الفرق.

فإن قيل : فإذا كانت (٢) معربة فلم لم تعوّض النون من الحركة ، كما عوّض في نحو :

يضربان ويضربون وتضربين ، لمّا اشتغل محل الإعراب. أي لام الكلمة بالحركات المناسبة للحروف التي هي ضمائر؟

قلت : كراهة لاجتماع النونات؟

وإنما لم يدر الإعراب عند هؤلاء على نون التأكيد ، كما دار على ياء النسب ، وتاء التأنيث ، لمشابهتها للتنوين ، والإعراب قبل التنوين لا عليه ، ولتشابههما تقلب ألفا في نحو : «لَنَسْفَعاً (٣) ...».

قوله : «ولا نون جمع» ، اختلف فيه أيضا ، فالجمهور على أن الفعل مبني للحاقها ، قال سيبويه : إنّ «يضربن» شابه «ضربن» ، يعني أنه لما سكن آخره وإن لم يجتمع فيه أربعة متحركات حملا على «ضربن» ، جاز بناؤه ، أيضا ، حملا عليه ، وإذا جاز لك تشبيه الفعل بالاسم وإخراجه عن أصله من البناء ، فالأولى في الفعل المشابه للفعل أن يردّ إلى أصله من البناء ، مع أن هناك داعيا إلى بنائه وهو إلزامهم لمحل الإعراب الإسكان ، لمشابهته نحو : ضربن.

__________________

(١) للنحاة في المضاف إلى ياء المتكلم رأيان ، فيرى بعضهم أنه مبني ، ويرى ابن الحاجب انه معرب بحركات مقدرة وقد أيده الشارح ، انظر باب الإعراب في الجزء الأول.

(٢) أي صور المضارع المسندة إلى الأحرف المذكورة.

(٣) الآية ١٥ سورة العلق.

٢١

وقال بعضهم : هو معرب لضعف علة البناء ، مقدّر الإعراب لإلزامهم محلّه السكون ، ولم يعوّض النون من الإعراب خوفا من اجتماع النونين.

أوجه الإعراب

في المضارع

[قال ابن الحاجب] :

«وإعرابه رفع ونصب وجزم ؛ فالصحيح المجرد عن ضمير»

«بارز مرفوع للتثنية والجمع والمخاطب المؤنث : بالضمة»

«والفتحة والسكون ، والمتصل به ذلك بالنون وحذفها ، نحو :»

«يضربان ، ويضربون ، وتضربين ؛ والمعتل بالواو والياء :»

«بالضمة تقديرا والفتحة لفظا ، والحذف ؛ والمعتل بالألف :»

«بالضمة والفتحة تقديرا ، والحذف».

[قال الرضي] :

قوله : «وإعرابه رفع ونصب وجزم» ، قد مضى علة اختصاصه بالجزم (١).

قوله : «فالصحيح المجرد .. إلى آخره» ؛ تفصيل لأنواع الأفعال باعتبار الإعراب ، لأن الإعراب يختلف في أنواعها ، كما اختلف في أنواع الاسماء ، فنحا نحو تبيينه في الاسماء ، وبيّن ، ههنا ، اللفظي والتقديري في كل واحد من تلك الأنواع ، لسهولة أمره ، بخلاف الاسماء ، فانه بيّن هناك : التقديري ، ولم يبيّن اللفظي لعدم انحصاره.

قوله : «فالصحيح» ، احتراز عن المعتل نحو يغزو ، ويرمي ، ويخشى ، فإنه ليس بالضمة رفعا والسكون جزما.

__________________

(١) تقدم ذلك عند الكلام على أنواع الإعراب في أول الجزء الأول من هذا الشرح.

٢٢

قوله : «المجرد عن ضمير بارز» ، احتراز عن الملتبس بالضمير البارز المرفوع ، ثم بيّن أن ذلك الضمير لا يكون في المضارع إلا في المثنى والمجموع والمخاطب المؤنث ، نحو : يضربان ، ويضربون ، وتضربين ، وإنما احترز عن هذه الأمثلة الخمسة (١) ، لأنها لا تكون بالضمة والفتحة والسكون ، بل بالنون وحذفها ، كما يجيء ؛ وإنما قيّد الضمير بالبارز ، لأنه لو قال : المجرد عن الضمير ، وسكت ، لوجب ألّا يكون المتصل بالضمير المستكن ، نحو : زيد يضرب ، وهند تضرب ، وأنت تضرب ، وأضرب ، ونضرب : بالضمة (٢) والفتحة والسكون ؛ وإنما قيّد الضمير البارز بالمرفوع ، لأنه لو سكت على قوله : المجرد عن ضمير بارز ، لوجب ألّا يكون المتصل بالضمير البارز المنصوب نحو يضربك : بالضمة والفتحة والسكون.

قوله : «والمتصل به ذلك» ، أي المضارع المتصل به ذلك الضمير البارز المرفوع ، وهو الألف ، والواو ، والياء ، في الأمثلة الخمسة : يرتفع بالنون وينتصب وينجزم بحذفها.

وإنما أعرب هذا بالنون ، لأنه لمّا اشتغل محل الإعراب وهو اللام ، بالضمة لتناسب الواو ، وبالفتحة لتناسب الألف ، وبالكسرة لتناسب الياء : لم يمكن دوران الإعراب عليه ، ولم يكن فيه علة البناء حتى يمتنع الإعراب بالكلية ، فجعل (٣) النون بدل الرفع لمشابهته في الغنة للواو ، وإنما خصّ هذا الإبدال بالفعل اللاحق به الواو والألف والياء ، دون نحو : يدعو ويرمي ويخشى ، والقاضي ، وغلامي ، وإن كان الإعراب في جميعها مقدرا لمانع مع كونها معربة ، ليكون الفعل اللاحق به ذلك الضمير ، كالاسم المثنى والمجموع بالواو والنون ، وذلك لكون ألف «يضربان» ، مشابها لألف «ضاربان» ، وواو «يضربون» مشابها لواو «ضاربون» ، وإن كان بينهما فرق من حيث إن اللاحق للاسم حرف ؛ وحمل الياء في تفعلين على أخويه : الألف والواو ، في لحاق النون بهما.

__________________

(١) الأمثلة الثلاثة المتقدمة يزاد عليها صيغة المخاطب في الأوّلين.

(٢) خبر عن قوله : ألّا يكون المتصل .. الخ.

(٣) مرتبط بقوله : لم يمكن دوران.

٢٣

وإنما جاز وقوع علامة رفع الفعل بعد فاعله ، أعني الواو والياء والألف ، لأن الضمير المرفوع المتصل كالجزء ، وخاصّة إذا كان على حرف ، ولا سيّما إذا كانت تلك الحروف من حروف المدّ واللين ، فالكلمة معها : كمنصور ، ومسكين وعمّار ، وسقوط النون في الجزم ظاهر ، لكونه علامة الرفع ، وكذا في النصب ، لأن علامة الرفع لا تكون في حالة النصب ، إلّا أن الرفع في الواحد ، زال مع الناصب ، وجاء في موضعه الفتح ، وفي الأمثلة الخمسة ، زال الرفع لا إلى بدل ، كما كان البدل في الأسماء الستة ، لأن حروف العلة يبدل بعضها ببعض في الإعراب لكونها متولدة من حركات الإعراب القائم بعضها مقام بعض ، فصار النصب في الأمثلة الخمسة ، إذن ، في صورة الجزم ؛ وتحذف هذه النونات الخمس ، مع نوني التوكيد. أمّا عند من قال : الفعل معهما مبني ، فظاهر ، وأما عند من قال بإعراب الفعل معهما فلاجتماع النونات ، فيكون الإعراب معهما مقدرا ، كما في : قاض ، وتكسر النون بعد الألف غالبا ، لأن الساكن إذا حرّك فالكسر أولى.

وقرئ في الشواذ (١) : (أَتِعدانني ...) (٢) ، وتفتح بعد الواو والياء ، حملا على نون الجمع في الاسم ، وندر حذفها لا للأشياء المذكورة نظما ، ونثرا ، قال :

٦١٥ ـ أبيت أسري وتبيتي تدلكي

شعرك بالعنبر والمسك الذكي (٣)

قوله : «والمعتل بالواو والياء : بالضمة تقديرا» ، استثقلت الضمة على الواو والياء بعد الضمة والكسرة ، ولم تستثقل الفتحة بعدهما لخفتها ، وربما يظهر ، في الضرورة :

الرفع في الواو والياء ، كما يظهر في الاسم جرّ الياء ورفعها ، قال :

٦١٦ ـ ما إن رأيت ولا أرى في مدتي

كجوارى يلعبن في الصحراء (٤)

ويقدّر ، لأجل الضرورة كثيرا ، نصب الياء والواو ، نحو قوله :

__________________

(١) قرأ بها جماعة منهم الحسن وشيبة.

(٢) من الآية ١٧ سورة الأحقاف.

(٣) هذا الشاهد لا يعرف قائله ، ونقله البغدادي عن ابن جني وهو في الخصائص ج ١ ص ٣٨٨.

(٤) شرحه البغدادي ثم قال : انه مع كثرة تداوله في كتب النحو واللغة لم أقف على قائله.

٢٤

٦١٧ ـ فما سوّدتني عامر عن وراثة

أبى الله أن أسمو بأم ولا أب (١)

وكذا في الاسم ، قال :

٦١٨ ـ كأنّ أيديهن بالقاع القرق

أيدي جوار يتعاطين الورق (٢)

ويقدّر أيضا في السّعة ، كثيرا ، كقولهم في المثل : «أعط القوس باريها» وكذا يقدر ، في الضرورة : رفع الحرف الصحيح وجرّه ، قال :

٦١٩ ـ فاليوم أشرب غير مستحقب

إثما من الله ولا واغل (٣)

وإنما جاز حذف الواو والياء والألف في الجزم ، لأن الجازم عندهم ، يحذف الرفع في الآخر ، والرفع في المعتل محذوف للاستثقال قبل دخول الجازم فلما دخل ، لم يجد في آخر الكلمة إلا حرف العلة المشابه للحركة فحذفه ، وقد لا تحذف الأحرف الثلاثة في الضرورة ، قال :

٦٢٠ ـ إذا العجوز غضبت فطلّق

ولا ترضّاها ولا تملّق (٤)

__________________

(١) هذا البيت من قصيدة لعامر بن الطفيل ، وروايته هكذا بالفاء في أوله ، لأن قبله على ما رواه المبرّد :

فاني وإن كنت ابن فارس عامر

وفي السرّ منها والصريح المهذب

وبعضهم يروي بيت المبرد : اني بدون فاء ، قال لأنه أول القصيدة ، وفي البيت روايات أخرى.

(٢) القرق بقافين : قيل معناه الأملس ، وقيل : الخشن الذي فيه حصى ، والمراد بالورق بكسر الراء : الدراهم ، ويروى : أيدي نساء ، وقال البغدادي ان هذا الشاهد رواه ابن رشيق في العمدة منسوبا إلى رؤبة بن العجاج ، ثم قال : ولم أره في ديوانه ؛ وكأنه لا صلة له بالأرجوزة التي أولها :

وقاتم الأعماق خاوي المخترق

(٣) المستحقب : المكتسب ، وهو من قولهم استحقب أي وضع شيئا في الحقيبة ، والواغل : الذي يدخل على الشاربين من غير أن يدعوه ، والبيت من قصيدة لامرئ القيس بن حجر الكندي ، قالها بعد أن أخذ بثأر أبيه من قاتليه من بني أسد ؛ وكان قد حلف لا يشرب خمرا إلّا بعد أن يثأر لأبيه منهم ، وقبل هذا البيت :

حلّت لي الخمر وكنت امرءا

عن شربها في شغل شاغل

(٥) من رجز منسوب إلى رؤبة بن العجاج وقوله ترضاها وتملق أصلهما تترضاها وتتملق.

٢٥

وقال :

٦٢١ ـ ألم يأتيك والأنباء تنمي

بما لاقت لبون بني زياد (١)

فيقدر أنها كانت متحركة ، فحذفت حركتها للجزم ، أو يقال : إن الحروف حذفت للجزم ، والحروف الموجودة الآن للاشباع كما في قوله :

وإنني حيثما يدني الهوى بصري

من حيثما سلكوا أدنو فأنظور (٢) ـ ١١

وقوله :

ينباع من ذفرى غضوب حسرة

زيّافة مثل الفنيق المكدم (٣) ـ ١٢

وربما جاء نحو : لم يأتي ، في السّعة.

رفع المضارع وعامله

وما يخلصه للحال ، أو للاستقبال

[قال ابن الحاجب] :

«ويرتفع إذا تجرّد عن الناصب والجازم نحو : يقوم زيد».

[قال الرضي] :

هذا ، وإن لم يصرح بأن عامل الرفع هو التجرد عن العوامل ، كما هو مذهب الفراء (٤) ،

__________________

(١) الشاهد فيه قوله ألم يأتيك باثبات الياء في الفعل المعتل المجزوم ، وهذا أول أبيات قالها قيس بن زهير العبسي ، بعد أن أخذ إبلا للربيع بن زياد وكان الربيع أخذ درعا من قيس وامتنع من ردّها إليه في قصة طويلة ، وقوله تنمى أي تزيد ، والباء في بما لاقت زائدة في الفاعل وفي البيت توجيهات غير ما تقدم وهو في سيبويه ج ٢ ص ٥٩.

(٢ ، ٣) تقدم هذان البيتان متوالين كما هنا ، في الجزء الأول من هذا الشرح وأولهما مجهول القائل والثاني من معلقة عنترة بن شداد العبسيّ.

(٤) الفراء من متقدمي نحاة الكوفة وتقدم ذكره في الأجزاء السابقة.

٢٦

كالإيماء إلى ذلك المذهب ، ولعل اختيار الفراء لهذا ، حتى يسلم من الاعتراضات الواردة على مذهب البصريين ، وهو أن ارتفاعه بوقوعه موقع الاسم ، سواء وقع موقع اسم مرفوع ، كما في : زيد يضرب ، أي : ضارب ، أو مجرور أو منصوب ، نحو : مررت برجل يضرب ، ورأيت رجلا يضرب.

وإنما ارتفع بوقوعه موقع الاسم ، لأنه يكون ، إذن ، كالاسم ، فأعطي أسبق إعراب الاسم وأقواه وهو الرفع.

وتلك الاعتراضات (١) مثل أن يرتفع في مواضع لا يقع فيها الاسم ، كما في الصلة ، نحو : الذي يضرب ، وفي نحو : سيقوم وسوف يقوم ، وفي خبر «كاد» نحو : كاد زيد يقوم ، وفي نحو : يقوم الزيدان.

ويمكن الجواب عن نحو : الذي يضرب ، ونحو : يقوم الزيدان ، بأن يقال :

هو واقع موقعه ، لأنك تقول : الذي ضارب هو ، على أن «ضارب» خبر مبتدأ مقدم عليه ، وكذا : قائمان الزيدان ، ويكفينا وقوعه موقع الاسم ، وإن كان الإعراب مع تقديره اسما ، غير الإعراب مع تقديره فعلا ؛ وعن نحو : سيقوم ، بأن سيقوم ، مع السين ، واقع موقع «قائم» ، لا «يقوم» (٢) وحده ، والسين صار كأحد أجزاء الكلمة.

وعن نحو : كاد زيد يقوم ، بأنّ أصله صلاحية وقوعه موقع الاسم كما في قوله :

٦٢٢ ـ فأبت إلى فهم وما كدت آيبا

وكم مثلها فارقتها وهي تصفر (٣)

__________________

(١) أي التي وجهت إلى رأي البصريين.

(٢) أي أنه ليس قائما مقام «يقوم» وحده.

(٣) الآيب : اسم فاعل من آب يؤوب ، والقياس أن يقال آئب بابدال عين اسم الفاعل همزة ، ولكن استعمل هكذا بالياء ، تخفيفا لاجتماع الهمزتين وبينهما ألف ، والبيت من قطعة لثابت بن جابر «تأبط شرا» قالها وقد تخلص بحيلة من جماعة حاولوا أسره وأول هذه الأبيات :

إذا المرء لم يحتل وقد جدّ جدّه

أضاع وقاسى أمره وهو مدبر

ومن هذا الشعر : الشاهد الذي تقدم في باب المثنى في الجزء الثالث وهو قوله :

هما خطتا إما إسار ومنّة

وإمّا دم والقتل بالحر أجدر

٢٧

وإنما عدل عن ذلك الأصل ، لما يجيء في بابه (١).

وقال الكسائي : عامل الرفع فيه حروف المضارعة ، لأنها دخلت في أول الكلمة فحدث الرفع بحدوثها ، إذ أصل المضارع إمّا الماضي وإمّا المصدر ، ولم يكن فيهما هذا الرفع ، بل حدث مع حدوث هذه الحروف ، فإحالته عليها ، أولى من إحالته على المعنوي الخفي ، كما هو مذهب البصريين والفراء ، وإنما عزلها عامل النصب والجزم لضعفها وصيرورتها كجزء الكلمة ، فيعزلها الطارئ المنفصل.

ويتعيّن المضارع للحالية ب : «الآن» و : «آنفا» ، وما في معناهما من الظروف الدالة على الحال ؛ وبلام الابتداء عند الكوفيين ، كما مرّ (٢).

وقال بعضهم : يتعيّن له بنفيه بليس نحو : ليس زيد يقوم وب : «ما» ، نحو : ما يقوم زيد ، أو : ما زيد يقوم ، وب : «إن» نحو : إن يقوم زيد ، عند المبرد ؛ وقال أبو علي : (٣) «إن» لمطلق النفي ، و «ما» لنفي الحال ، وقد مضى الكلام على «ما» في بابها ، وسيجيء الكلام على ليس في بابه.

ويتخلّص للاستقبال بظرف مستقبل ، نحو : أضرب غدا ونحوه ، وبإسناده إلى متوقع ، كتقوم القيامة ، وباقتضائه طلب الفعل ، وذلك في الأمر والنهي والدعاء والتحضيض والتمني والترجي ، والإشفاق ، لأنّ طلب الحاصل محال ، وبكونه وعدا ، كقولك ، واعدا : أكرمك وأحسن إليك ، وبنوني التأكيد ، ولام القسم ، إذ الثلاثة توكيد ، وهو إنما يليق بما لم يحصل ، نحو : والله لأضرب ، على ضعف (٤) ، ولأضربنّ.

وأما الحاصل في الحال فإنه ، وإن كان محتملا للتأكيد ، وذلك بأن تخبر المخاطب أن الحاصل في الحال متصف بالتأكيد ، لكن لما كان موجودا ، وأمكن للمخاطب في

__________________

(١) في باب أفعال المقاربة في هذا الجزء.

(٢) في أول هذا الجزء ،

(٣) هو أبو علي الفارسي شيخ ابن جني وتكرر ذكره في هذا الشرح.

(٤) وجه ضعفه أن جواب القسم في مثل ذلك واجب التوكيد عند الجمهور.

٢٨

الأغلب أن يطلع على ضعفه وقوته لم يؤكّد.

وإذا كان القسم بما ، فهو للحال ، لظهور «ما» في الحالية ، كما مضى في بابها.

وينصرف إلى الاستقبال بكل ناصب أو جازم (١) ، فلذا كانت «إذن» الناصبة علامة للاستقبال ، وإذا ارتفع المضارع بعدها فهو للحال (٢) ، وينصرف إليه ، أيضا ، بلو ، المصدرية ، نحو قوله تعالى : (ودُّوالو تدهِنُ ...) (٣) ، وكذا بكل أداة شرط وإن لم تعمل ، إلّا «لو» فإنها موضوعة للشرط في الماضي ؛ ويجب كون الجزاء مستقبلا لأنه لازم الشرط الذي هو مستقبل ، ولازم الشيء واقع في زمانه.

ويتخلص ، أيضا بحرف التنفيس ؛ قال سيبويه ومن تبعه : (٤) وبلا للنفي أيضا ، وقال ابن مالك (٥) ، بل يبقى على صلاحيته للحال ، وليس ببعيد ؛ لقوله تعالى : (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ)(٦).

وينصرف المضارع إلى المضيّ ، بلم ولمّا الجازمة (٧) ، وقال بعضهم : هما يدخلان على لفظ الماضي فيقلبانه إلى لفظ المضارع ، ويبقى المعنى على ما كان ، والأوّل أولى ، لأنّ قلب المعنى أظهر وأكثر في كلامهم.

وينصرف ، أيضا ، إلى المضيّ بلو ، غالبا ، وبإذ ، وربّما ، فإنهما موضوعان للماضي.

__________________

(١) هذا التعميم في «كل جازم» ليس على ظاهره وسيأتي بعد أسطر انه يتصرف إلى المضيّ بعد لم ولمّا.

(٢) يأتي تفصيل ذلك في الكلام على اذن وقد أفاض الشارح هناك.

(٣) الآية ٩ سورة القلم.

(٤) ربما يستفاد هذا من قول سيبويه ج ٢ ص ٣٠٦ : وتكون «لا» نفيا لقوله يفعل ولم يقع الفعل فتقول لا يفعل.

(٥) الإمام جمال الدين بن مالك صاحب الألفية والتسهيل وينقل عنه الرضي كثيرا ويعبّر عنه بالمالكي وقوله هذا في التسهيل في شرح أحزاء الكلمة وبيان علامات كل قسم.

(٦) الآية ٣١ سورة هود.

(٧) احتراز من لما التي بمعنى حين وهي تدخل على الفعل الماضي.

٢٩

نصب المضارع

الأدوات الناصبة ، استعمالات أن

[قال ابن الحاجب] :

«وينصب بأن ، ولن ، وإذن ، وكي ، وبأن مقدرة بعد حتى»

«ولام كي ، ولام الجحود ، والفاء ، والواو ، وأو ؛ مثل :»

«أريد أن تحسن إليّ ، و : (أَنْ تَصُومُوا)(١) ، والتي تقع بعد»

«العلم مخففة من الثقيلة وليست هذه ؛ مثل : علمت أن»

«سيقوم ، وأن لا يقوم ، والتي تقع بعد الظن فيها الوجهان»

«ولن ، معناها نفي المستقبل مثل : فلن أبرح (٢) ؛ وإذن ،»

«إذا لم يعتمد ما بعدها على ما قبلها وكان الفعل مستقبلا ،»

«مثل : إذن تدخل الجنة ، وإذا وقعت بعد الواو ، والفاء»

«فوجهان ، وكي مثل : أسلمت كي أدخل الجنة ، ومعناها» «السببية».

[قال الرضي] :

ذكر النواصب جملة ، ثم ذكر منها ما يعمل مضمرا ؛ ثم أخذ يفصّل ، وهو قوله «فأن مثل أريد أن تحسن إليّ .. إلى آخره» ؛

__________________

(١) من الآية ١٨٤ سورة البقرة.

(٢) جزء من الآية ٨٠ في سورة يوسف.

٣٠

قوله : «والتي تقع بعد العلم مخففة من الثقيلة» ، اعلم أنّ «أنّ» الثقيلة يصح وقوعها في كل موضع تكون فيه مع اسمها وخبرها في موضع المفرد ، سواء كان معمول الفعل ، أو ، لا ، نحو : عندي أنك قائم ، ولو لا أنك قائم ، وسواء كان معمول فعل التحقيق نحو : عرفت أنك خارج وعلمت أنك داخل ، أو معمول فعل الشك نحو : شككت في أنك مسلم ؛ وقال سيبويه (١) : انه يضعف أن يقال : أرجو ، أو أطمع ، أو أخشى ، أو أخاف أنك تفعل ؛ وقال جار الله (٢) : ان الفعل الذي يدخل على أنّ المفتوحة ، مشدّدة كانت أو مخففة يجب أن يشاكلها في التحقيق ، وفيه نظر ، لقوله :

٦٢٣ ـ وددت وما تغني الودادة أنني

بما في ضمير الحاجبيّة عالم (٣)

وفي نهج البلاغة : «وددت أن أخي فلانا كان حاضرا (٤)» ، وكذا في تعليل المصنف للمنع من ذلك بقوله (٥) : لو قلت : أتمنى أنك تقوم ، لكان كالمتضاد ، قال : لأن التمني يدل على توقع القيام ، و «أنّ» تدل على ثبوت خبرها وتحققه ، وذلك (٦) لأنا لا نسلم أنّ «أنّ» دال على ثبوت خبره وتحققه ، بل على أن خبره مبالغ فيه مؤكد ، فيصح أن يثبت هذا المؤكد نحو قولك : تحقق أنك قائم ، وأن ينفى نحو قولك : لم يثبت أن زيدا قائم ، وأنا شاكّ في أنه قائم ، ولو كان بين معنى التمني ومعنى «أنّ» تنافيا ، أو كالتنافي لم يجز : ليت أنك قائم.

رجعنا إلى المقصود فنقول :

__________________

(١) ج ١ ص ٤٨٢.

(٢) جار الله الزمخشري ممن تكرر ذكرهم في الأجزاء السابقة.

(٣) هذا من شعر كثير بن عبد الرحمن صاحب عزة ، وهي المرادة بقوله : الحاجبيّة ، نسبها إلى أحد أجدادها : حاجب بن غفار.

(٤) مثله كثير في نهج البلاغة ومن ذلك قوله رضي الله عنه في أهل الكوفة : لوددت والله أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم ، الخ.

(٥) كلام المصنف هذا ربّما كان في شرحه هو على الكافية ، أو في شرحه على المفصل للزمخشري.

(٦) بيان لوجه النظر الذي أورده على كلام الزمخشري والمصنف.

٣١

إذا خفّفت «أنّ» المشددة ، تقاصرت خطاها ، فلا تقع مجرورة الموضع كالمشددة ، لا تقول : عجبت من أن ستخرج ولا تقع إلا بعد فعل التحقيق ، كالعلم وما يؤدي معناه ، كالتبيّن ، والتيقن والانكشاف ، والظهور ، والنظر الفكري ، والإيحاء ، والنداء ، ونحو ذلك ، أو بعد فعل الظن ، بتأويل أن يكون ظنا غالبا متأخّيا (١) للعلم ، فلا تقول : أعجبني أن ستخرج ولا : وددت أن ستخرج ، أو : رجوت أن ستخرج ، كما تقول ذلك في المثقلة ، وذلك أنها بعد التخفيف شابهت ، لفظا ومعنى : «أن» المصدرية ، أمّا لفظا فظاهر ، وأمّا معنى فلكونهما حرفي المصدر ، فأريد الفرق بينهما ، فألزم قبل المخففة فعل التحقيق أو ما يؤدي مؤدّاه أو ما يجري مجراه من الظن الغالب ، ليكون مؤذنا من أول الأمر أنها مخففة ، لأنّ التحقيق بأن المخففة التي فائدتها التحقيق : أنسب وأولى ، فلهذا لم يجئ بعد فعل التحقيق الصّرف : أن المصدرية ، وأمّا بعد فعل الظن وما يؤدي معنى العلم ، فتجيء المصدرية والمشددة ، والمخففة ، ولم يقنعوا بهذا ، لأن الأولوية لا تفيد الوجوب ، فنظروا : فإن دخلت المخففة على الاسمية ، كقوله :

٦٢٤ ـ في فتية كسيوف الهند قد علموا

أن هالك كل من يحفى وينتعل (٢)

أو الفعلية الشرطية كقوله تعالى : «.. أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ (٣) ..» و : (وأن لو استقاموا ..) (٤). لم يحتاجوا (٥) إلى فرق آخر ، إذ المصدرية تلزم الفعلية المؤوّلة معها بالمصدر ، فلا يحتمل أن تدخل على الاسمية والشرطية ؛ وإن دخلت على الفعلية الصّرفة ، فإن كان ذلك الفعل غير متصرف كقوله تعالى : (أم لم يُنبأ) (٦) أي : لم يعلم ، إلى قوله : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ) ،

__________________

(١) يقال تأخّيت فلانا أي اتخذته أخا. والمراد هنا أن يكون الظن لقوته كأنه أخو العلم.

(٢) هذا أحد أبيات القصيدة اللامية للأعشى ميمون بن قيس ، والتي يعدها بعضهم احدى المعلقات. ومنها شواهد أخرى في هذا الشرح. والبيت في سيبويه ج ١ ص ٢٨٢.

(٣) من الآية ١٤٠ سورة النساء.

(٤) الآية ١٦ سورة الجن.

(٥) جواب قوله : فان دخلت المخففة على الاسمية.

(٦) الآيات من ٣٦ إلى ٣٩ في سورة النجم.

٣٢

وقوله : (أولم ينظروا ..) (١) أي يتفكروا ، إلى قوله : (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) ، لم يحتاجوا ، أيضا ، إلى فرق آخر ، لأنّ «أن» المصدرية لا تدخل على الأفعال غير المتصرفة ، لأنها تكون مع الفعل بعدها بتأويل المصدر ، ولا مصدر لغير المتصرف.

وإن كان ذلك الفعل متصرفا ، وجب أن تفصل المخففة من الفعل ، إمّا بالسين ، نحو : (عَلِم أن سيكون) (٢) ، أو سوف يكون ، أو «قد» نحو : (ليعلم أن قد أبلغوا ..) (٣) أو بحرف نفي نحو : علمت أن لم يقم ، ولن يقوم ، ولا يقوم ، وما قام ، وما يقوم ؛ وذلك لأنّ «أن» المصدرية ، لا يفصل بينها وبين الفعل بشيء من الحروف المذكورة لكونها مع الفعل بتأويل المصدر معنى ، وعاملة في المضارع لفظا فلا يفصل بينها وبين الفعل ، وكذا لا يفصل بين «لو» و «كي» المصدريتين والفعل كما يجيء ، بلى ، قد تفصل «لا» بين المصدرية والفعل ، لأنها ، لكثرة دورانها في الكلام تدخل في مواضع لا تدخلها أخواتها ، نحو قولك : جئت بلا مال ؛

فإذا اتفق وقوع «لا» بعد المخففة ، فإن كانت المخففة بعد العلم ، لم تلتبس بالمصدرية لما قدّمنا : أنّ المصدرية لا تقع بعد فعل العلم ، وإن كانت بعد الظن ، جاز أن تكون مخففة ومصدرية ، كما في قوله تعالى : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ)(٤) ، قرئ بالرفع والنصب (٥) ، فالرفع على أن الحسبان ظن غالب ؛ فلا التباس بينهما على هذا ، إلا في مثل هذا الموضع ، ويسمّي النحاة الحروف التي بعد «أن» المخففة : حروف التعويض ، لأنها كالعوض من إحدى نوني أنّ.

وكما جاز أن يؤوّل الظن ، بالظن الغالب القريب من العلم فتقع بعده المخففة ،

__________________

(١) الآية ١٨٥ سورة الأعراف.

(٢) من الآية ٣٠ سورة المزمل.

(٣) الآية ٢٨ سورة الجن.

(٤) الآية ٧١ سورة المائدة.

(٥) الرفع قراءة أبي عمرو ، وحمرة والكسائي ، والنصب قراءة باقي السبعة.

٣٣

وذلك كثير ؛ وكذلك قد يشتد الخوف أو الرجاء ويقوى حتى يلحق باليقين فتقع بعدهما ، أيضا ، المخففة ، كقوله :

٦٢٥ ـ ولا تدفنّني في الفلاة فإنني

أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها (١)

جوّز (٢) بعضهم أن يؤول العلم بالظن مجازا فيقال : علمت أن يخرج زيد بالنصب ، أي ظننت.

وجوّز الفراء ، وابن الأنباري (٣) : وقوع المصدرية بعد فعل علم غير مؤول ، فيجوز أن يكون قوله :

٦٢٦ ـ فلما رأى أن ثمّر الله ماله

وأثّل موجودا وسدّ مفاقره (٤)

من هذا (٥) ، ويجوز أن تكون مخففة من غير عوض ، كما حكى المبرد عن البغاددة (٦) : علمت أن تخرج بالرفع ، بلا عوض (٧) ، وذلك شاذ.

فنقول : إن «أن» التي ليست بعد العلم ولا ما يؤدّي مؤدّاه ، ولا ما يؤدّي معنى القول ، ولا بعد الظن ، فهي مصدرية لا غير ، سواء كانت بعد فعل الترقب ، كحسبت ،

__________________

(١) من أبيات لأبي محجن الثقفي ، وهو شاعر إسلامي وكان مبتلى بشرب الخمر. وأقيم عليه الحدّ أكثر من مرة ، ولكنه تاب عنها باختياره في قصة جميلة وقعت له مع سعد بن أبي وقاص. وقد شرح البغدادي بيت الشاهد وذكر ما يتصل به.

(٢) مرتبط بقوله : وكما جاز أن يؤوّل الظن .. الخ.

(٣) ممن تكرر ذكرهم في الأجزاء السابقة.

(٤) أحد أبيات قالها النابغة الذبياني ، يذكر فيها ما كان بينه وبين يزيد بن سنان من بني مرة. وشبّهه بالرجل الذي قتلت الحيّة أخاه فأعدّ عدته للانتقام منها. وهي قصة طويلة ذكرها البغدادي أثناء شرحه لهذا الشاهد. وقوله سدّ مفاقره : المفاقر جمع مفقر وأصله مكان الفقر. والمراد : أزال سبب فقره.

(٥) خبر قوله ويجوز أن يكون قوله .. الخ.

(٦) جمع بغدادي والمراد نحاة بغداد.

(٧) أي بدون ذكر حرف من الحروف التي سماها عوضا عن التشديد.

٣٤

وطمعت ، ورجوت ، وأردت ؛ أو بعد غيره من الأفعال كقوله تعالى : «أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ (١) ..» و : أعجبني أن قمت و : (ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ. إِلَّا أَنْ قالُوا ..)(٢) ؛ أو لا بعد فعل كقوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ ..)(٣) ، و : أن تقوم خير من أن تقعد.

وقد تجيء المصدرية ولا تنصب المضارع كقوله :

٦٢٧ ـ أن تقرآن على أسماء ويحكما

منى السّلام وأن لا تشعرا أحدا (٤)

وفي حرف مجاهد (٥) : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ)(٦) ، وذلك إمّا للحمل على المخففة ، أو للحمل على «ما» المصدرية.

والتي بعد الظن إن كان بعدها غير «لا» من حروف العوض فمخففة لا غير ، وكذا إن كانت بعدها «لا» داخلة على غير الفعل. نحو : ظننت أن لا مال عندك.

وإن كانت بعدها «لا» داخلة على الفعل ، احتملت المخففة والمصدرية.

قوله : «والتي بعد العلم مخففة لا غير» ، وكذا التي بعد ما يؤدّي معنى العلم إن لم يكن فيه معنى القول ، كأمر ، ونزّل ، وأوحى ، ونادى ؛ فإنّ فيها معنى : أعلم وقال ، معا ؛ فنقول.

إن وليها فعل غير متصرف ، كناديته أن ليس عندنا شيء فهي مفسّرة ، أو مخففة ،

__________________

(١) الآية ١٩٧ سورة الشعراء.

(٢) الآية ٨٢ سورة الأعراف.

(٣) الآية ٣ سورة الحشر.

(٤) أحد أبيات ثلاثة رواها ابن جني ونقلها ابن يعيش في شرح المفصل ج ٧ ص ١٥. وذكرها البغدادي وقال انها قلما خلا منها كتاب من كتب النحو. ومع ذلك لم يعزها أحد إلى قائل ، ثم شرحها وأفاض في توجيهها.

(٥) نسبت هذه القراءة إلى غير ابن مجاهد أيضا.

(٦) لآية ٢٣٣ سورة البقرة.

٣٥

وإن وليها فعل متصرف من غير حرف عوض : احتملت أن تكون مصدرية وأن تكون مفسّرة ، ولا تحتمل المخففة لعدم العوض ، وذلك كقوله تعالى : (نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ)(١) ، بمعنى : أي بورك ، أو بمعنى : بالمباركة ، ولو قلنا إن «بورك» بمعنى الدعاء ، فهي مفسّرة لا غير ، وكذا في نحو : أمرته أن قم ، وذلك لأن صلة المخففة ، كما لا تكون أمرا ولا نهيا ولا غيرهما مما فيه معنى الطلب إجماعا ، فكذا صلة المصدرية ، أيضا ، على الأصح ، كما يجيء في الحروف المشبهة بالفعل (٢).

وأجاز سيبويه (٣) كون صلة المصدرية ذلك ، على أن يكون معنى : أمرته أن قم ، أي أمرته بأن قم أي بالقيام.

وقال أبو علي (٤) في قوله تعالى : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ..)(٥) : يجوز أن تكون مصدرية فتكون بدلا من «ما» أو من الهاء في «به» ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو أن اعبدوا ، وأن تكون مفسّرة.

وفي حكمه : ناديته أن يا زيد قم ، لأن الفصل بالنداء كلا فصل ، وكأنّ الفعل ولي «أن».

وإذا وليت ما فيه معنى القول ، ووليها فعل متصرف مصدر بلا جاز كونها مخففة ومفسّرة ومصدرية نحو قولك : أمرته أن لا يفعل ، وأوحي إليك أن لا تفعل ، فإن كانت مخففة ، ف : «لا» للنفي ، ولا يجوز أن تكون للنهي ، لأن المخففة ، كالمثقّلة لا تدخل على الطلبيّة ، فيرتفع الفعل ، وإن كانت مفسّرة جاز كون «لا» للنفي ، أو للنهي ، فيرتفع الفعل أو ينجزم ، وإن كانت مصدرية ، انتصب الفعل ، أي : أمرته بألّا يفعل ، ولا يجوز

__________________

(١) الآية ٨ سورة النمل.

(٢) وهي ان واخواتها ، في آخر هذا الجزء.

(٣) ج ١ ص ٤٧٩.

(٤) أي الفارسي وتقدم ذكره.

(٥) الآية ١١٧ سورة المائدة.

٣٦

أن تكون «لا» نهيا ، فينجزم الفعل إلا عند أبي علي ، كما تقدّم ؛

فإن وليت ما فيه معنى القول ، ووليها فعل متصرف مصدّر بغير «لا» من حروف العوض نحو : أوحي إليك أن ستفعل ، فمخففة أو مفسّرة ، وكذا قوله تعالى : (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا)(١) ، لأن الفصل بالنداء كلا فصل.

وإن وليت ما فيه معنى القول ولم يلها الفعل الصّرف ، بل وليها اسمية ، نحو : ناديته أن زيد في الدار ، فهي ، أيضا ، مفسّرة ، أو مخففة ، ولا يجوز كونها مصدرية ، لوجوب دخولها على الفعل.

وكذا إن وليتها الشرطية كقوله تعالى : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ ..)(٢) ، وقوله تعالى : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ) ، إلى قوله : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا ...)(٣).

وأجاز الأخفش (٤) أن تنصب «أن» الزائدة (٥).

وجوّز (٦) الكوفيون كون «أن» شرطية بمعنى «إن» المكسورة ، كما ذكرنا في قولك : أمّا أنت منطلقا انطلقت (٧) ؛ وقالوا في قوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ ..)(٨) إنّ فتح الهمزة وكسرها بمعنى واحد ، ومنع ذلك البصريون.

وجوّز بعضهم كون «أن» المفتوحة بمعنى «إن» المكسورة النافية.

__________________

(١) الآية ١٠٤ سورة الصافات.

(٢) الآية ١٤٠ سورة النساء.

(٣) من أول سورة الجن إلى الآية ١٦ منها.

(٤) الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة وتكرر ذكره كثيرا في الأجزاء السابقة.

(٥) استدل لذلك بقوله تعالى : (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية ٢٤٦ سورة البقرة وقد خرجها الجمهور على عدم الزيادة.

(٦) انتقال إلى ذكر معنى جديد لأن.

(٧) في خبر كان قسم المنصوبات في الجزء الثاني من هذا الشرح.

(٨) الآية ٢ سورة المائدة.

٣٧

ولا يتقدم على «أن» الموصولة معمول معمولها كما تقدم في باب الموصولات (١) ، وأجاز الفراء ذلك مستشهدا بقوله :

٦٢٨ ـ ربّيته حتى إذا تمعددا

وآض نهدا كالحصان أجردا

كان جزائي بالعصا أن أجلدا (٢)

وقوله :

٦٢٩ ـ هلّا سألت وخبر قوم عندهم

وشفاء غيّك خابرا أن تسألي (٣)

وهما نادران ، أو نقول : لا يتعلق «بالعصا» ب : «أن أجلدا» ، بل خبر مبتدأ مقدّر ، أو متعلق ب : «أجلد» مقدرا ، وكذا : «خابرا» منصوب ب : «تسألين مقدّرا».

لن ومعناها

قوله : «ولن معناها نفي المستقبل» ، هي تنفي المستقبل نفيا مؤكدا وليس للدوام والتأبيد كما قال بعضهم (٤).

قال الفراء : أصل «لن» و «لم» : «لا» ، فأبدل الألف نونا في أحدهما وميما في الآخر ، وقال الخليل : أصل «لن» : لا أن ، قال :

__________________

(١) في أول الجزء الثالث من هذا الشرح.

(٢) الشاهد في الشطر الأخير حيث تقدم الجار والمجرور «بالعصا» على «أن» وهو متعلق بالفعل المنصوب بها. والرجز للعجاج ومعنى تحعدد قال بعضهم : صار مثل معد بن عدنان أي صار مثل واحد منهم وفسّر بمعان أخرى. وآض بمعنى صار ، ونهدا : عاليا مرتفعا ، والمراد بذلك كله أنه ربّاه حتى اكتمل وصار غير محتاج إلى شيء.

(٣) الشاهد فيه تقديم خابرا على تسألي ، وقد بين الشارح وجه التأويل فيه وفي الذي قبله. والبيت من قصيدة لربيعة بن مقروم الضبي ، وهو أولها ، وبعده :

هل نكرم الاضياف ان نزلوا بنا

ونسود بالمعروف غير تمحّل

(٤) يريد به جار الله : الزمخشري ، وهذا الرأي مشهور عنه.

٣٨

٦٣٠ ـ يرجّي المرء ما لا أن يلاقي

وتعرض دون أدناه الخطوب (١)

أي : لن يلاقي ؛ وقال سيبويه (٢) : إنه مفرد ، إذ لا معنى للمصدرية في «لن» كما كانت في «أن» ، ولأنه جاء تقديم معمول معموله عليه ، حكى سيبويه عن العرب : عمرا لن أضرب.

وللخليل أن يقول : لا منع أن تتغيّر الكلمة بالتركيب عن مقتضاها معنى وعملا ، إذ هو وضع مستأنف ، ولا دليل على قول الفراء.

ونقل المصنف في «لا» منع تقديم معمول ما بعدها عليها ، فلا يجوز : عمرا لا أضرب ، والأصل جواز تقديم ما في حيّز حروف النفي عليها إلا «ما» كما ذكرنا في المنصوب على شريطة التفسير (٣).

إذن وأحكامها

قوله : «وإذن» إذا لم يعتمد ما بعدها على ما قبلها».

الذي يلوح لي في «إذن» ويغلب في ظني : أن أصله «إذ» ، حذفت الجملة المضاف إليها ، وعوّض منها التنوين ، كما قصد جعله صالحا لجميع الأزمنة الثلاثة بعد ما كان مختصا بالماضي.

وذلك أنهم أرادوا الإشارة إلى زمان فعل مذكور ، فقصدوا إلى لفظ «إذ» الذي هو بمعنى مطلق الوقت ، لخفة لفظه ، وجرّدوه عن معنى الماضي وجعلوه صالحا للأزمنة

__________________

(١) هذا أحد أبيات ثلاثة رواها أبو زيد ، وابن الاعرابي منسوبة إلى جابر بن رألان الطائي وهو شاعر جاهلي ، والاستشهاد به لمذهب الخليل بدليل ظهور أن بعد لا في البيت.

(٢) سيبويه ج ١ ص ٤٠٧ ، والمثال الذي أورده سيبويه هو : أما زيدا فلن أضرب.

(٣) في الجزء الأول ؛

٣٩

الثلاثة ، وحذفوا منه الجملة المضاف هو إليها ، لأنهم لمّا قصدوا أن يشيروا به إلى زمان الفعل المذكور ، دلّ ذلك الفعل السابق على الجملة المضاف إليها ؛ كما يقول لك شخص ، مثلا ، أنا أزورك ، فتقول : إذن أكرمك ، أي : إذ تزورني أكرمك ، أي وقت زيارتك لي أكرمك ، وعوّض التنوين من المضاف إليه لأنه (١) وضع في الأصل لازم الإضافة ، فهو ككلّ وبعض ، إلّا أنهما معربان و «إذ» مبني.

فإذن ، على ما تقرر ، صالح للماضي كقوله :

٦٣١ ـ إذن لقام بنصري معشر خشن

عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا (٢)

وللمستقبل نحو : إن جئتني ، إذن أكرمك ، وللحال نحو : إذن أظنك كاذبا.

وإذن ، ههنا هي «إذ» في نحو قولك : حينئذ ويومئذ ، إلا أنه كسر ذاله في نحو : حينئذ ، ليكون في صورة ما أضيف إليه الظرف المقدّم ، وإذا لم يكن قبله ظرف في صورة المضاف فكسره نادر ، كقوله :

نهيتك عن طلابك أمّ عمرو

بعاقبة وأنت إذ صحيح (٣) ـ

والوجه فتحه ليكون في صورة ظرف منصوب ، لأن معناه الظرف.

والغالب في المبني على الفتح تضمّن معنى الشرط ، وهو المعنيّ بقول سيبويه (٤) : إذن جزاء ؛ وإنما ضمّن معنى الجزاء لكونه كإذما ، وحيثما في حذف الجملة المضاف إليها ، فإن الظرف الواجب إضافته إلى الجملة يقطع عن الإضافة لتضمنه معنى الشرط ، وذلك لأن كلمات الشرط مبهمة ، والإضافة توجد في المضاف تخصيصا ، لكن لمّا كانت الجملة المضاف إليها «إذ» ثابتة من حيث المعنى ومبدل منها التنوين في اللفظ ، بخلاف : «إذما»

__________________

(١) الضمير راجع إلى «إذ».

(٢) أحد أبيات مشهورة لقريط بن أنيف العنبري ، وقد أغار قوم على ابل له فاستنجد بقومه فلم ينجدوه فقال هذه الأبيات وهي كثيرة التردد ومنها في هذا الشرح بعض الشواهد ؛

(٣) من قصيدة لأبي ذؤيب الهذلي وتقدم ذكره في باب الظروف من الجزء الثالث ؛

(٤) تفصيل الكلام على إذن ، في سيبويه ج ١ ص ٤١٠ وما بعدها ؛

٤٠