محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي
المحقق: يوسف حسن عمر
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات مؤسّسة الصادق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٢
ويجوز أن يكون على التنازع ، فأوشك لمقاربة الفعل نحو كاد ؛ لكن يستعمل استعمال كاد ، أي مجرد الخبر من أن ، ويستعمل استعمال عسى ، على الوجهين المعلومين ؛
وإذا حذفت أن من أخبار هذه الأفعال الثلاثة ، فإمّا أن تقدر مع الحذف ، كما في : تسمع بالمعيديّ (١) ، وإمّا أن تحذف رأسا بلا تقدير ، لاستعمال كاد وكرب وأوشك ، لشدة دلالتها على مقاربة الفعل : استعمال كان ؛
ولاستعمال كاد مثل كان ، جاء في الضرورة ؛
فأبت إلى فهم ، وما كدت آيبا |
|
وكم مثلها فارقتها وهي تصفر (٢) ـ ٦٢٢ |
ولهذا أضمر ضمير الشأن فيه في نحو : (كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ)(٣) ؛
واستعمل ، أيضا ، الأفعال التي للشروع في الفعل ، استعمال «كان» ، وهي طفق ، وأخذ ، وأنشأ ، وأقبل ، وقرّب ، وهبّ ، وعلق ، وجعل ؛ وكانت بذلك ، أولى من كاد ، وأخواتها ، لأن أخبارها حاصلة المضمون ، كأخبار كان ، بخلاف خبر كاد ؛
وكان أصل استعمالها ، أن يقال : طفق زيد في الفعل ، وأخذ في الفعل ، وجعل الفعل ، من قوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ)(٤) ، أي أوجد ، وكذا أنشأ الفعل ، وأقبل على الفعل ، وقرّب الفعل ، وهبّ في الفعل ، من قولهم : هبّ البعير في سيره ، أي نشط فيه ؛ فاستعملت استعمال كان لتضمينها معناها ،
وأمّا هلهل ، فإنما لزم تجريد خبره من أن ، مع أنه بمعنى كاد ، لا بمعنى طفق ، لأن المبالغة في القرب فيه أكثر ، ومثل هذا التركيب يدل على المبالغة مثل زلزل ، وصرصر (٥) ،
__________________
(١) الفائدة من تقديرها تأويل الفعل بالمصدر. وتكرر ذكر هذا المثل وبيان ما فيه من روايات ؛
(٢) تقدم في الكلام على إعراب المضارع في أول هذا الجزء ؛
(٣) تقدمت قريبا. وهي الآية ١١٧ سورة التوبة.
(٤) الآية الأولى من سورة الأنعام ؛
(٥) يرى بعض العلماء أن أصل مضعف الرباعي كزلزل أنه مضعف الثلاثي فلما أريد تضعيفه : قيل زلّل. وكراهة توالى ثلاثة أمثال أبدلوا أحدها من جنس الفاء. ومن هنا تأتي المبالغة التي أشار إليها الشارح ؛
فكأنه ، للمبالغة في القرب ، لاحق بالأفعال الدالة على الشروع فاستعمل خبره بغير أن ، نحو : هلهلت أقوم ؛
ولكون أفعال المقاربة ، أي كاد ، ومرادفاته ، وأفعال الشروع أي طفق ومرادفاته فروعا لكان ومحمولة عليها ؛ لم تقدّم أخبارها عليها كما كان يتقدم خبر كان عليه ؛
وإنما ألزم كون أخبار أفعال الشروع فعلا مضارعا مجردا عن أن ، دون الاسم والماضي والمضارع المقترن بأن ؛ لأن المضارع المجرّد عن علامات الاستقبال ظاهر في الحال ، كما مضى في بابه ؛ فهو من حيث الفعلية يدل على الحدوث دون الاسم ، بدليل أنك إذا قلت : كان زيد وقت الزوال قائما ، لم يدل على حدوث القيام في ذلك الوقت ، ومن حيث ظهوره في الحال ، يدل على كونه مشتغلا به ، دون الماضي ، بدليل أنك إذا قلت : كان زيد وقت الزوال قام ، دلّ على أنه كان فرغ من القيام في ذلك الوقت ، وإذا قلت : كان زيد وقت الزوال يقوم ، دلّ على اشتغاله بالقيام في ذلك الوقت مع حدوث القيام ، فلما حملت هذه الأفعال على كان ، وقصد المعنيان ، أي حدوث مصدر خبرها وكون فاعلها مشتغلا به ، وجب ألّا يكون اسما ، ولا ماضيا ، ولا مضارعا بأن ؛
وإنما غلب في أفعال المقاربة ، أعني كاد ومرادفاته ، كون أخبارها كذلك ، وجوّز اقترانها بأن ، لكونها من شدة القرب الذي فيها ، كأنها للانتقال والشروع أيضا ، فهي ليست متضمنة لمعنى كان ، مثل أفعال الشروع ، بل محمولة عليه من حيث الاستعمال فقط ، فجاز في بعضها : اقتران الخبر بأن ، كقوله :
٧٣٥ ـ قد كاد من طول البلى أن يمصحا (١)
ولم يجز ذلك في خبر فعل الاشتغال ؛
وأمّا التزامهم في خبر عسى كونه مضارعا بأن ، ومنعهم من أن يكون مصدرا ، نحو :
__________________
(١) من رجز نسبه بعضهم لرؤبة وأورد قبله : ربع عفا من بعد ما قد انمحى وقال البغدادي : لم أجده في ديوان رؤبة ؛
عسى زيد القيام ، وكذا منعوا من : عسى قيام زيد ، فلأن المضارع المقترن بأن للاستقبال خاصّة ، والطمع والإشفاق مختصان بالمستقبل ، فهو أليق بعسى من المصدر ، ومن ثمّ قد تحمل لعلّ وإن كانت من أخوات «إنّ» عليه ، نحو : لعلّك أن تقوم (١) ،
[دخول النفي](٢)
[على كاد]
قوله : «وإذا دخل النفي على كاد .. إلى آخره» ، قال بعضهم في كاد : ان نفيه إثبات وإثباته نفي ، بخلاف سائر الأفعال ؛
أمّا كون إثباته نفيا ، فإن أرادوا به أنك إذا قلت : كاد زيد يقوم وأثبتّ الكود (٣) ، أي القرب فهذا الإثبات نفي ، فهذ غلط فاحش وكيف يكون إثبات الشيء نفيه ؛ بل في : كاد زيد يقوم ، إثبات القرب من القيام بلا ريب ؛
وإن أرادوا أن إثبات كاد ، دالّ على نفي مضمون خبره ، فهو صحيح وحقّ ، لأن قربك من الفعل لا يكون إلا مع انتفاء الفعل منك ، إذ لو حصل منك الفعل لكنت آخذا في الفعل ، لا قريبا منه ؛
وأمّا كون نفيه إثباتا فنقول ، أيضا : إن قصدوا أن نفي الكود أي القرب في : ما كدت أقوم : إثبات لذلك المضمون ، فهو من أفحش الغلط ، وكيف يكون نفي الشيء إثباته ، وكذا إن أرادوا أن نفي القرب من مضمون الخبر إثبات لذلك المضمون ، بل هو أفحش ،
__________________
(١) يعني دخول أن في خبرها ؛
(٢) أفردت هذا البحث بعنوان خاص. وإن كان داخلا فيما ذكره ابن الحاجب في المتن لأنه موضع جدل بين النحاة. وقد أفاض الرضي رحمه الله في شرحه ؛
(٣) تقدم أنه نقل هذا المصدر عن الأصمعي ؛
لأن نفي القرب من الفعل أبلغ في انتفاء ذلك الفعل من نفي الفعل نفسه ، فإن : ما قربت من الضرب ، آكد في نفي الضرب من : ما ضربت ، بلى ، قد يجيء مع قولك : ما كاد زيد يخرج ، قرينة تدل على ثبوت الخروج بعد انتفائه وبعد انتفاء القرب منه ، فتكون تلك القرينة دالة على ثبوت مضمون خبر كاد في وقت ، بعد وقت انتفائه وانتفاء القرب منه ؛ لا لفظ كاد (١) ؛
ولا تنافي بين انتفاء الشيء في وقت ، وثبوته في وقت آخر ، وإنما التناقض بين ثبوت الشيء وانقفائه في وقت واحد ، فلا يكون ، إذن ، نفي كان مفيدا لثبوت مضمون خبره ، بل المفيد لثبوته تلك القرينة ، فإن حصلت قرينة هكذا ، قلنا بثبوت مضمون خبر كاد ، بعد انتفائه ، كما في قوله تعالى : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ)(٢) ، أي : ما كادوا يذبحون قبل ذبحهم وما قربوا منه ؛ إشارة إلى ما سبق قبل ذلك من تعنتهم في قولهم : «أَتَتَّخِذُنا هُزُواً .... ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ * ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها ، .. ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ ..» ، وهذا التعنت دأب من لا يفعل ولا يقارب الفعل أيضا ؛
وإن لم يثبت قرينة هكذا ، كقولك : مات زيد وما كاد يسافر ، قلنا بقي مضمون خبر كاد على انتفائه وعلى انتفاء القرب منه ، كما في قوله تعالى : (لَمْ يَكَدْ يَراها)(٣) ، وقوله :
٧٣٦ ـ إذا غيّر النأي المحبين لم يكد |
|
رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح (٤) |
إذ ليس في هذه المواضع ما يدل على حصوله بعد انتفائه ، ومثل هذه القرينة هي الشبهة لمن قال ان نفي كاد إثبات ، فقال بعضهم إنه للإثبات ، في الماضي كان ، كقوله تعالى «وَما
__________________
(١) يعني أن هذا المعنى مستفاد من القرينة ، لا من لفظ كاد ؛
(٢) هذا الجزء ، وما سيذكره الشارح من الآيات ٦٧ إلى ٧١ في سورة البقرة ؛
(٣) من الآية ٤٠ سورة النور ؛
(٤) قد أورده المصنف في المتن وهو من قصيدة لذي الرمة أولها :
أمنزلتي ميّ سلام عليكما |
|
على النأي ، والنائي يود وينصح |
كادُوا يَفْعَلُونَ» (١) ، أو في المستقبل ، واستدلّ على كونه في المستقبل أيضا للإثبات ، بتخطئة الشعراء ذا الرمة في قوله : إذا غيّر النأي ... البيت ، وقولهم (٢) : نراه قد برح ؛ حتى أدّى ذلك إلى أن غيّر ذو الرمة ، لم يكد ، إلى : لم أجد ، ولم يكد ، مستقبل ، لأنه جواب إذا ، فلولا أنهم فهموا الإثبات ، لم يخطئوه ؛
والجواب عن الاستدلال بقوله تعالى : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) أن اثبات الفعل مفهوم من القرينة ، أي قوله تعالى (فَذَبَحُوها) لا من (كادُوا) كما تقدم ؛ ولهذا لم يفد الإثبات في قولنا : مات زيد وما كاد يسافر ، لما لم تكن قرينة ؛
وأمّا الجواب عن تخطئة الشعراء .. فبأنّ تخطئتهم وتصويب ذا الرمة في بديهته ؛ بناء على الدليل المذكور ، أي أنّ نفي القرب من الفعل لا يكون إثباتا له ، وقد خطا المخطئين ، وذا الرمة ، في رويّته : من قال حين سمع تلك الحكاية : أصابت بديهته وأخطأت رويته (٣) ؛
وقال بعضهم : ان نفي الماضي إثبات ، لشبهة قوله تعالى : (فَذَبَحُوها ، وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) ، ونفي المضارع نفي ، لقوله : (لَمْ يَكَدْ يَراها) ، وقول ذي الرمة : لم يكد يبرح ؛
وعند الأخفش يجوز زيادة كاد ؛
قوله : «والثالث» أي الذي يفيد شروع فاعله في مضمون الخبر ، وقد ذكرنا مرادفات طفق ، وأحوالها ، يقال : طفق يطفق طفقا ، كغرق يغرق غرقا ، وحكى الأخفش عن بعضهم : طفوقا ، وقد جاء : طفق يطفق ، كجلس يجلس ، ويستعمل مضارع : كاد ، وأوشك ، خصوصا من بين جميع الأفعال المذكورة في هذا الباب ؛
__________________
(١) الآية ٧١ سورة البقرة ؛
(٢) أي قول الشعراء الذين خطّأوا ذي الرمة وقولهم نراه قد برح معناه أنهم فهموا من لم يكد يبرح أنه قد برح وزال وهذا وجه الخطأ ؛
(٣) معناه أن قوله الأول لم يكد يبرح كان على البديهة من غير تفكر ، وقوله الثاني نشأ عن رؤية وتفكير بعد اتهام الشعراء له بالخطأ ؛ وفي الخزانة أفاض البغدادي في شرح هذا البيت ؛
قوله : «وهي مثل كاد في الاستعمال» ، وقد يجيء خبر جعل جملة اسمية ، قال :
٧٣٧ ـ وقد جعلت قلوص بني سهيل |
|
من الأكوار مرتعها قريب (١) |
وقد يجيء شرطية مصدّرة بإذا ، نحو قولك : جعل زيد إذا كلمته يغضب ، على أن الجزاء : المضارع ، قال :
٧٣٨ ـ وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني |
|
ثوبي فأنهض نهض الشاب الثّمل (٢) |
__________________
(١) من أبيات الحماسة ولم ينسبه أحد. وهو يرتبط بالشاهد المتقدم في باب العطف في الجزء الثاني من هذا الشرح وهو قوله :
فلست بنازل إلا ألمّت |
|
برحلي أو خيالتها الكذوب |
(٢) جاء هذا البيت في أكثر كتب النحو : الشارب الثمل ، كما هو هنا ، وقال البغدادي إن الصواب فيه : الشارب السّكر ، قال : لأنه من أبيات رائية نسبها إلى عمرو بن أحمر الباهلي وبعده :
وكنت أمشي على رجلين معتدلا |
|
فصرت أمشي على أخرى من الشجر |
يقصد العصا ، ونسبه الجاحظ في الحيوان : لأبي حيّة النميري وهو من المعمّرين ؛
[فعل التعجب]
[معنى التعجب وصيغه]
[شروط صوغه]
[قال ابن الحاجب :]
«فعل التعجب ما وضع لإنشاء التعجب ، وهو صيغتان :»
«ما أفعله وأفعل به ، وهي غير متصرفة ، مثل : ما أحسن»
«زيدا وأحسن به ، ولا يبنيان إلا مما يبنى منه أفعل التفضيل ،»
«ويتوصّل في الممتنع بمثل : ما أشد استخراجه ، وأشدد»
«باستخراجه ولا يتصرف فيهما بتقديم ولا تأخير ولا فصل ،»
«وأجاز المازني الفصل بالظرف ، و : ما ، ابتداء ، نكرة»
«عند سيبويه ، ما بعدها الخبر ؛ موصولة عند الأخفش»
«والخبر محذوف ؛ وبه ، فاعل عند سيبويه ، فلا ضمير»
«في أفعل ، مفعول عند الأخفش والباء للتعدية ، أو زائدة ،»
«ففيه ضمير» ؛
[قال الرضي :]
قوله : «ما وضع لإنشاء التعجب» ، أي فعل وضع لإنشاء التعجب ، لأنه في قسم الأفعال ، فلا ينتقض الحدّ بنحو : ناهيك به ، ولله دره ، وواها له ، ويا لك رجلا ،
وكاليوم رجلا ، وويلمه رجلا (١) ؛
بلى ، ينتقض بنحو : قاتله الله من شاعر ، ولا شلّ عشره ، (٢) فإنه فعل وضع لإنشاء التعجب ، وليس بمحض الدعاء ؛ وكذا قولهم : أبرحت ربّا (٣) ؛ إلّا أن يقول : إن هذه الأفعال ليست موضوعة للتعجب ، بل استعملت لذلك بعد الوضع ، وأمّا نحو : تعجبت ، وعجبت ، فهو ، وإن كان فعلا : ليس للإنشاء ؛
واعلم أن التعجب : انفعال يعرض للنفس عند الشعور بأمر يخفى سببه ، ولهذا قيل :
إذا ظهر السبب بطل العجب ؛
ولا يجوز التعجب ، منه (٤) تعالى ، حقيقة ، إذ لا يخفى عليه شيء ؛
ففعل التعجب في اصطلاح النحاة ، هو ما يكون على صيغة : ما أفعله ، أو : أفعل به دالّا على هذا المعنى ، وليس كل فعل أفاد هذا المعنى ، يسمّى عندهم فعل التعجب ؛
قوله : «وهي غير متصرفة» لمشابهتها بالإنشاء للحروف وهي غير متصرفة ، وأيضا ، كل لفظ منها صار علما لمعنى من المعاني ، وإن كان جملة ، فالقياس ألّا يتصرّف فيه ، احتياطا لتحصيل الفهم ، كأسماء الأعلام ، فلهذا ، لم يتصرّف في : نعم ، وبئس ، وفي الأمثال ؛
قوله : «ولا يبنيان إلّا مما يبنى منه أفعل التفضيل» ، قد مضى ذلك في باب أفعل التفضيل (٥) ، ويزيد عليه فعل التعجب بشرط ، وهو أنه لا يبنى إلّا مما وقع في الماضي واستمر ، بخلاف التفضيل فإنك تقول : أنا أضرب منك غدا ، ولا يتعجّب إلا مما حصل في الماضي
__________________
(١) تقدم كثير من هذه الأمثلة في باب التمييز ـ في الجزء الثاني من هذا الشرح ؛
(٢) عشره أي عشر أصابعه ، وهو كقوله لا شلت يداه ؛
(٣) إشارة إلى قول الأعشى : أبرحت ربا وأبرحت جارا ، وقد تقدم في باب التمييز أيضا ؛
(٤) أي لا بصدر منه تعالى على الحقيقة ، فقوله «منه» متعلق بيجوز ؛
(٥) في أواخر الجزء الثالث من هذا الشرح ؛ وقد أحال الرضي هنا كثيرا على أفعل التفضيل ؛
واستمر ، حتى يستحق أن يتعجّب منه ، أمّا الحال الذي لم يتكامل بعد ، والمستقبل الذي لم يدخل بعد في الوجود ، والماضي الذي لم يستمر فلا تستحق التعجب منها ، فلهذا كان أشهر صيغتي التعجب ، على الماضي أعني : ما أفعل (١) ،
قيل : لا يبنى فعل التعجب إلّا من فعل ، مضموم العين في أصل الوضع ، أو من المنقول إلى فعل ، إذا كان من غيره ، نحو : ما أضرب وما أقتل ، ليدلّ بذلك على أن المتعجّب منه صار كالغريزة ، لأن باب فعل موضوع لهذا المعنى ، وكذا قيل في أفعل التفضيل ، فكأنّ أصل : ما أضربك لزيد ، وما أقتلك له ، وأنت أضرب لزيد وأقتل له : ضرب لزيد وقتل له ، ولم يستعمل هذا الأصل ، لأن نقل الفعل إلى فعل ، لبناء التعجب منه ، لا لذاته ، فلهذا لا يتعديان إلى المفعول الذي كان الفعل الثلاثي يتعدى إليه بنفسه ، إلّا باللام ، كما رأيت ؛
ولا يبنى فعل التعجب من المبني للمفعول ، لما مرّ في أفعل التفضيل ، ويجوز تعليل امتناع مجيئهما للمفعول بكونهما مأخوذين من فعل المضموم العين كما ذكرنا ، وهو لازم ؛ وربّما يبنى من المفعول إذا أمن التباسه بالفاعل نحو : ما أجنّه ، وما أشهره ، وما أمقته إليّ ، وما أعجبه إليّ وما أشهاه إليّ ، فيتعدى ، كما ذكرنا في أفعل التفضيل ، إلى ما هو الفاعل في المعنى بإلى ، أو بعند ، نحو : أحظى عندي ، وذلك إذا تضمن معنى الحب ، أو البغض ؛
قال سيبويه : جميع ذلك مبني على فعل ، وإن لم يستعمل ، فكأن : أبغضه وأعجبه ، وأمقته ، من بغض ، وعجب ، ومقت ، وإن لم يستعمل ، وأشهاه ، من شهو ، كما يقال : رموت اليد يده ؛
وقياس التعجب من المبني للمفعول أن يكون الفعل المبني له صلة ل «ما» المصدرية ،
__________________
(١) اقتصر على التمثيل بالصيغة الأولى لأن في الثانية خلافا وإن كان المشهور أنها صيغة فعل ماض حوّلت إلى صورة الأمر وسيأتي تفصيل الكلام عليها واختيار الرضي فيها ؛
القائمة مقام المتعجب منه بعد : ما أشدّ ، وأشدد ونحوهما نحو : ما أشدّ ما ضرب ، وأشدد بما سجن ؛
ويبنى ، أيضا من باب أفعل إفعالا ، قياسا عند سيبويه ، سماعا عند غيره ، نحو : ما أعطاه للمعروف ، وما أبغضني له ؛
والأخفش والمبرد ، جوّزا بناءه من جميع الثلاثي المزيد فيه ، كما مرّ في أفعل التفضيل ؛ وربّما بني من غير فعل نحو : ما أحنك هذه الشاة ، كما قيل : هو أحنك الشاتين ، أي آكلهما ، وكذا يقال : ما آبله ، وما أفرسه ، وإن لم يستعمل منهما الفعل كما مرّ ، ويستعمل منهما الفاعل ، نحو : آبل وفارس ، وقد يبنى من غير متصرّف ، نحو : ما أنعم وما أبأس ، ويجوز أن يبنى من العيوب الباطنة كأفعل التفضيل ، نحو : ما أحمقه وما أنوكه ، وما ألدّه ؛ وندر : ما خيره وما شرّه بحذف الهمزة ، بخلاف خير ، وشرّ في التفضيل ؛
ويتعدى إلى غير المتعجب منه ، كما يتعدّى إليه أفعل التفضيل ، سواء
ولمشابهة أفعل التعجب ، لأفعل التفضيل في الوزن ، والأصل المبني منه ، وشرائط بنائه ، وتصحيح العين في نحو : ما أقوله وما أبيعه ، وتعدّيه بما يتعدى به أفعل التفضيل ، توهّم غير الكسائي من الكوفيين أن أفعل التعجب : اسم كأفعل التفضيل ، وقوّى وهمهم تصغيرهم إياه في قوله :
ياما أميلح غزلانا شدنّ لنا |
|
من هؤليّائكنّ الضال والسّمر (١) ـ ٦ |
وأمّا الكسائي فوافق البصريين في فعليته ، ولو لا انفتاح أفعل التعجب وانتصاب المتعجب منه بعده ، انتصاب المفعول به ، لكان مذهبهم جديرا بأن ينصر ؛ وقد اعتذروا لفتح آخره بكونه متضمنا لمعنى التعجب الذي كان حقيقا بأن يوضع له حرف ، كما مرّ في بناء اسم الإشارة ، فبني لتضمنه معنى الحرف ، وبني على الفتح لكونه أخفّ ، فما مبتدأ ، وأحسن خبره : أي : شيء من الأشياء متعجّب من حسنه ، و «ما» نكرة غير موصوفة ؛ واعتذروا
__________________
(١) تقدم ذكره في الجزء الأول في علامات الاسم ؛
لنصب المتعجب منه بعد أفعل : بكونه مشابها للمفعول لمجيئه بعد أفعل المشابه لفعل مضمر فاعله ، فموقعه موقع المفعول به ، فانتصب انتصابه ، فهو نحو قوله :
٧٣٩ ـ ونأخذ بعده بذناب عيش |
|
أجبّ الظهر ليس له سنام (١) |
بنصب الظهر ، وهو ضعيف ؛ لأن النصب في مثل أجبّ الظهر وحسن الوجه توطئة لصحة الإضافة إلى ذلك المنصوب ، كما مرّ في الصفة المشبهة (٢) ، ولا يضاف أفعل إلى المتعجب منه ؛
والجواب عن تصحيح العين في نحو : ما أقوله وما أبيعه ، وأقول به وأبيع به : أن الأعلال نوع تصرف ، وفعل التعجب غير متصرف ، ومن ثمّ ، لم يجز الإدغام في نحو : أشدد به (٣) في التعجب ، كما جاز في غيره ،
وأما التصغير فمع كونه شاذا مقصورا على السماع ، إلا عند الكسائي ، فإنه (٤) يدّعي إطراده ، ويقيس عليه أفعل به في جواز التصغير ؛ فإنما (٥) جاز ذلك ، لأنه بعدم التصرف فيه شابه أفعل ، الاسمي كأبيض ، وأقول منك ؛
قوله : «ويتوصّل في الممتنع» ، يعني بالممتنع : ما لا يكون ثلاثيا ، نحو : ما أحسن استخراجه ودحرجته ؛ أو كان من الألوان والعيوب الظاهرة ، نحو ما أشدّ بياضه ، أو عوره ؛ أو لم يكن تامّا نحو : ما أشدّ كونه قائما ؛
أمّا ما لزم النفي ، كما نبس (٦) ، أو كان مصوغا للمفعول ، أو عادما لمصدر مشهور ،
__________________
(١) من أبيات للنابغة الذبياني ، وكان قد جاء معتذرا فعلم أنه مريض يتنقل على سرير من الخشب ، وقيل هذا البيت :
فإن يهلك أبو قابوس ، يهلك |
|
ربيع الناس والبلد الحرام |
(٢) في الجزء الثالث من هذا الشرح ؛
(٣) مع وجود موجبه وهو اجتماع المثلين ولو أدغم لقيل : أشدّ ؛
(٤) أي الكسائي ؛
(٥) جواب قوله : وأما التصغير ؛
(٦) أي ما نطق ، يقال : ما نبس ببنت شفة ؛
فلا يمكن التوصل بمصادرها إلى التعجب منها ، ولا إلى بيان التفضيل فيها ، إذ لا مصدر منفيا لنحو : نبس ، أو مصوغا (١) للمفعول لنحو جنّ ، وكذا لا مصدر لنعم وبئس ، ويذر ويدع ؛ حتى يوقع (٢) شيئا منها بعد ما أشدّ ، وأشدّ منك ؛
وربما استغنوا عن بعض ما يصح التعجب منه ، بمثل التوصّل المذكور كما لم يقل : ما أقيله ، استغناء بما أكثر قائلته (٣) ؛
قوله : «ولا يتصرف فيهما بتقديم ولا تأخير» ، كل واحد من التقديم والتأخير يستلزم الآخر ، لأنك إذا قدّمت شيئا على شيء ، فقد أخّرت المقدم عليه عن المقدم ، يريد أنك لا تقول : زيدا ما أحسن ، ولا : ما زيدا أحسن ، ولا بزيد أحسن ، لما ذكرنا من الوجهين في عدم تصرفهما في أنفسهما ؛ وأمّا الفصل بين الفعلين ، والمتعجب منه ، فإن لم يتعلق الفصل بهما ، فلا يجوز اتفاقا ، للفصل بين المعمول وعامله الضعيف بالأجنبي ، فلا يجوز : لقيته فما أحسن أمس زيدا ، على أن يتعلق «أمس» بلقيت ؛ وكذا ان تعلّق بهما وكان غير ظرف ، نحو : ما أحسن قائما زيدا ، وذلك لأنه نوع تصرف في علم التعجب (٤) ؛ وإن كان بين الفعل والفضلة ؛ وأمّا بالظرف فمنعه الأخفش (٥) والمبرد ، وأجازه الفرّاء والجرمي ، وأبو علي ، والمازني ، نحو : ما أحسن بالرجل أن يصدق وأحسن اليوم بزيد ؛ وأجاز ابن كيسان توسيط الاعتراض بلو لا الامتناعية ، نحو : ما أحسن ، لو لا كلفه (٦) ، زيدا ؛
ويفصل بكان ، وحدها ، بين «ما» وأفعل ، وهي مزيدة على ما ذكرنا في باب
__________________
(١) أي ولا مصدر مصوغا للمفعول من نحو جنّ ؛
(٢) أي يؤتى بمصدر هذه الأفعال بعد ما أشدّ أو أشدد ؛ وقوله حتى يوقع بالبناء للمعلوم أي يوقع المتكلم شيئا منها ؛
(٣) القائلة بمعنى القيلولة وهي النوم ظهرا ؛
(٤) أي في اللفظ المختص بالتعجب كاختصاص العلم بمسماه ؛
(٥) سعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط ؛
(٦) الكلف بفتحتين : بقع تظهر في الوجه مغايرة للونه الأصلي فتعيبه بعض العيب ؛
كان (١) ؛ وقال السيرافي : «كان» خبر «ما» وفيها ضميره ، وأحسن زيدا ، خبر «كان» ، وفيه بعد ؛ لأن «كان» ليس على صيغة التعجب وفعل التعجب لا بدّ أن يكون على «أفعل» ،
وفائدة الفصل بكان في نحو : ما كان أحسن زيدا : أنه كان في الماضي حسن واقع دائم ، الّا أنه لم يتصل بزمان التكلم ، بل كان دائما قبله ،.
وشذّ الفصل بأصبح ، وأمسى ، في قولهم : ما أصبح أبردها والضمير للغداة ، وما أمسى أدقأها ، والضمير للعشية ، ولا يتجاوز المسموع فيهما ولا يقاس «يكون» على «كان» في الفصل به ، خلافا لابن كيسان ؛
قوله : «وما ، ابتداء» أي مبتدأ مع كونه نكرة عند سيبويه ، والأخفش في أحد قوليه ، وذلك لأن التعجب ، كما ذكرنا ، إنما يكون فيما يجهل سببه ، فالتنكير يناسب معنى التعجب ، فكأنّ معنى ما أحسن زيدا ، في الأصل : شيء من الأشياء ، لا أعرفه جعل زيدا حسنا ، ثم نقل إلى إنشاء التعجب ، وانمحى عنه معنى الجعل ، فجاز استعماله في التعجب من شيء يستحيل كونه بجعل جاعل ، نحو : ما أقدر الله ، وما أعلمه ، وذلك لأنه اقتصر من اللفظ على ثمرته وهي التعجب من الشيء ، سواء كان مجعولا وله سبب ، أو ، لا ؛
فهمزة أفعل ، لتعدية ما كان لازما بالأصالة ، نحو : ما أحسنه ، أو لتعدية ما صار لازما بالنقل إلى فعل ، إلى (٢) مفعول غير مفعوله الأول ، وهو فاعل أصل الفعل ، نحو : ضرب زيد عمرا ، في : ما أضرب زيدا لعمرو ، فما مبتدأ ، وأفعل ، خبره ، وفيه ضمير راجع إلى «ما» وهو فاعله ، والمنصوب بعده مفعوله ؛
وقال الأخفش في القول الآخر : ما موصولة ، والجملة بعدها صلتها والخبر محذوف ،
__________________
(١) باب الأفعال الناقصة في هذا الجزء ؛
(٢) متعلق بقوله : لتعدية ما كان .. الخ.
أي : الذي أحسن زيدا : موجود ، وفيه بعد ، لأنه حذف الخبر وجوبا مع عدم ما يسدّ مسدّه ؛ وأيضا ليس في هذا التقدير معنى الإبهام اللائق بالتعجب ، كما كان في تقدير سيبويه ، ومذهب سيبويه ضعيف من وجه ، وهو أن استعمال «ما» نكرة غير موصوفة : نادر ، نحو : (فَنِعِمَّا هِيَ)(١) ، على قول ، ولم تسمع مع ذلك مبتدأة ؛
وقال الفراء ، وابن درستويه : ما استفهامية ، ما بعدها خبرها ، وهو قويّ من حيث المعنى ، لأنه ، كأنّه جهل سببه فاستفهم عنه ، وقد يستفاد من الاستفهام معنى التعجب ، نحو قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ)(٢) ،
و : أتدري من هو ، و : لله درّه أيّ رجل كان ، قال :
٧٤٠ ـ فأومأت إيماء خفيا لحبتر |
|
ولله عينا حبتر أيّما فتى (٣) |
قيل : مذهبه (٤) ضعيف ، من حيث أنه نقل من معنى الاستفهام إلى معنى التعجب ، فالنقل من إنشاء إلى إنشاء مما لم يثبت ،
وأما أحسن بزيد ، فعند سيبويه : أفعل صورته أمر ومعناه الماضي ، من أفعل ، أي صار ذا فعل ، كألحم أي صار ذا لحم ، والباء بعده زائدة في الفاعل لازمة ، وقد تحذف إن كان المتعجب منه «أن» وصلتها نحو : أحسن أن تقول ، أي بأن تقول ، على ما هو القياس ،
وضعّف قوله ، بأن الأمر بمعنى الماضي ممّا لم يعهد ، بل جاء الماضي بمعنى الأمر ، نحو : اتّقى امرؤ ربّه (٥) ؛ وبأنّ أفعل بمعنى صار ذا كذا ، قليل ، ولو كان منه ، لجاز
__________________
(١) من الآية ٢٧١ سورة البقرة ؛
(٢) الآية ١٧ سورة الانفطار ؛
(٣) للراعي النميري ، وحبتر : اسم غلامه وهو يذكر في الأبيات التي منها هذا : ما وقع له من نزول ضيف في سنة جدباء وكانت ابل الراعي غائبة فأومأ بعينه إلى حبتر فنحر ناقة الضيف .. ثم لما عادت ابله أعطاه ناقة بدلا منها وزاده أخرى ؛
(٤) أي الفراء ومن أخذ برأيه ؛
(٥) معناه : ليتق كل امرئ ربه ؛
ألحم بزيد ، وأشحم بزيد ، وبأن زيادة الباء في الفاعل قليلة ، والمطرد زيادتها في المفعول ؛
فقال الفراء ، وتبعه الزمخشري وابن خروف : إنّ أحسن أمر لكل واحد بأن يجعل زيدا حسنا ، وإنما يجعله حسنا كذلك بأن يصفه بالحسن ، فكأنه قيل : صفه بالحسن كيف شئت ، فإن فيه منه كل ما يمكن أن يكون في شخص ، كما قال :
٧٤١ ـ وقد وجدت مكان القول ذا سعة |
|
فإن وجدت لسانا قائلا فقل (١) |
وهذا معنى مناسب للتعجب بخلاف تقدير سيبويه ، وأيضا ، همزة الجعل أكثر من همزة : صار ذا كذا ، وان لم يكن شيء منهما قياسا مطردا ؛
وإنما لم يصرّف على هذا القول ، أفعل ، وإن خوطب به مثنى أو مجموع أو مؤنث ، فلم يقل : أحسنا ، أحسنوا ، أحسني ، أحسنّ ، لما ذكرنا من علة كون فعل التعجب غير متصرف ، وسهّل ذلك انمحاء معنى الأمر فيه كما انمحى في : ما أفعل ، معنى الجعل ، وصار معنى أفعل به كمعنى ما أفعل ، وهو محض إنشاء التعجب ، ولم يبق فيه معنى الخطاب حتى يثنى ويجمع ويؤنث باعتبار تثنية المخاطب وجمعه وتأنيثه ؛ فهمزة أفعل ، على هذا للجعل ، كهمزة ما أحسن ، والباء مزيدة في المفعول وهو كثير ، كما يجيء في حروف الجر ؛
وأجاز الزجاج أن تكون الهمزة للصيرورة ، فتكون الباء للتعدية ، أي : اجعله ذا حسن ، والأول أولى ، لقلة همزة الصيرورة ،
ثم ان الزجاج اعتذر لبقاء «أحسن» في الأحوال ، على صورة واحدة بكون الخطاب لمصدر الفعل ، أي : يا حسن أحسن بزيد ، وفيه تكلف وسماجة من حيث المعنى ، وأيضا ، نحن نقول : أحسن بزيد يا عمرو ، ولا يخاطب شيئان في حالة واحدة ، إلّا أن نقول : معنى خطاب الحسن قد انمحى ،
ويجب كون المتعجب منه مختصّا ، فلا يقال : ما أحسن رجلا ، لعدم الفائدة ، فإن
__________________
(١) هذا من شعر المتنبي في مدح سيف الدولة ، وليس هنا للاستشهاد وإنما ذكره تأييدا للمعنى الذي ذكره في شرح صيغة التعجب ؛
خصّصته بوصف نحو : رجلا حاله كذا ، جاز ؛
وإذا علم المتعجّب منه جاز حذفه ، نحو : لقيت زيدا وما أحسن ، قال تعالى : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ)(١) ، فلفظ «بهم» إنما جاز حذفه عند الفراء لكونه مفعولا ، وأما عند سيبويه فإنه وإن كان فاعلا والفاعل لا يجوز حذفه إلّا أنه بملازمته للجرّ ، وبكون الفعل قبله ، في صورة ما فاعله مضمر والجار والمجرور بعده مفعوله (٢) ، أشبه الفضلة فجاز حذفه ، اكتفاء بما تقدم ، فإن لم يلزمه (٣) الجر ، كما في : ما جاءني من رجل ، وكفى بزيد ، لم يجز حذفه ،
ولا يؤتى لفعلي التعجب ، ولا لأفعل التفضيل بمفعول مطلق ، خلافا لمن أجاز لك ، لأنها ، لجمودها صارت كنعم وبئس ، مما لا مصدر له ؛
ولا يجوز العطف على الضمير المستتر في : ما أحسن زيدا ، ولا في : أحسن بزيد ، ولا سائر التوابع ، ولا الاخبار عنه بالذي أو باللام ، لأنه انمحى عنه معنى الفاعلية كما قدمنا ، بل معناه الآن ، أيّ حسن حسن زيد ؛ فلو جيء بتوابعه ، أو أخبر عنه ، لاعتبر بعد انمحائه ، وأجاز ذلك قوم بعد المنصوب ، وأمّا قبله فلا ، لما تقدم أنه لا يفصل إلا بالظرف ؛
__________________
(١) الآية ٣٧ سورة مريم ؛
(٢) أي في صورة المفعول بواسطة حرف جر ؛
(٣) أي الفاعل في ذاته ، وإن لم يكن في صيغه تعجب ؛
[أفعال المدح والذم]
[معناها ـ شرط فاعلها ـ المخصوص وإعرابه]
[قال ابن الحاجب :]
«أفعال المدح والذم : ما وضع لإنشاء مدح أو ذمّ ، فمنها : نعم» «وبئس ، وشرطها أن يكون الفاعل معرّفا باللام ، أو مضافا» «إلى المعرّف بها ، أو مضمرا مميّزا بنكرة منصوبة ، أو : بما ،» «مثل : فنعمّا هي ، وبعد ذلك المخصوص ، وهو مبتدأ ما» «قبله خبره ، أو خبر مبتدأ محذوف مثل : نعم الرجل» «زيد ، وشرطه مطابقة الفاعل ؛ و : بئس مثل القوم الذين ،» «وشبهه متأوّل ، وقد يحذف المخصوص إذا علم مثل :» «نعم العبد و : فنعم الماهدون ؛ وساء ، مثل بئس ؛ ومنها» «حبّذا ، وفاعله : ذا ، ولا يتغيّر ، وبعده المخصوص» «وإعرابه كإعراب مخصوص نعم ، ويجوز أن يأتي ، قبل» «المخصوص أو بعده ، تمييز ، أو حال ، على وفق» «مخصوصه» ؛
[قال الرضي :]
قوله : «ما وضع لإنشاء مدح أو ذمّ» ، هذا ، كما تقدم في باب الكنايات (١) ،
__________________
(١) في الجزء الثالث من هذا الشرح ؛
في بيان أن «كم» الخبرية متضمنة للإنشاء ، وذلك أنك إذا قلت : نعم الرجل زيد ، فإنما تنشئ المدح وتحدثه بهذا اللفظ ، وليس المدح موجودا في الخارج في أحد الأزمنة مقصودا مطابقة هذا الكلام إيّاه ، حتى يكون خبرا ؛ بلى ، تقصد بهذا الكلام مدحه على جودته الموجودة خارجا ؛ ولو كان إخبارا صرفا عن جودته خارجا لدخله التصديق والتكذيب ، فقول الأعرابي لمن بشّره بمولودة وقال ، نعم المولودة : والله ما هي بنعم الولد (١) .. ، ليس تكذيبا له في المدح إذ لا يمكن تكذيبه فيه ، بل هو إخبار بأن الجودة التي حكمت بحصولها في الخارج ليست بحاصلة ، فهو إنشاء جزؤه الخبر ، وكذا الإنشاء التعجبي ، والإنشاء الذي في «كم» الخبرية ، وفي : ربّ ؛
هذا غاية ما يمكن ذكره في تمشية (٢) ما قالوا ، من كون هذه الأشياء للإنشاء ؛ ومع هذا كله فلي فيه نظر ، إذ يطرد ذلك في جميع الأخبار لأنك إذا قلت : زيد أفضل من عمرو ، ولا ريب في كونه خبرا ؛ لم يمكن أن تكذّب في التفضيل ويقال لك : إنك لم تفضّل ، بل التكذيب إنما يتعلّق بأفضليّة زيد ؛ وكذا إذا قلت : زيد قائم وهو خبر بلا شك ، لا يدخله التصديق والتكذيب من حيث الاخبار ، إذ لا يقال أنك أخبرت أو لم تخبر ، لأنك أوجدت بهذا اللفظ : الإخبار ، بل يدخلانه من حيث القيام فيقال : إن القيام حاصل أو ليس بحاصل ، فكذا قوله : ليس بنعم المولودة (٣) ، بيان أن النعميّة (٤) ، أي الجودة المحكوم بثبوتها خارجا ، ليست بثابتة ، وكذا في التعجب ، وفي كم ، وربّ ؛
قوله : «فمنها نعم وبئس» اعلم أن نعم وبئس ، في الأصل ، فعلان على وزن فعل بكسر العين ، وقد اطّرد في لغة تميم ، كما يجيء في التصريف (٥) ، في «فعل» إذا كان فاؤه مفتوحا وعينه حلقيا : أربع لغات ، سواء كان اسما ، كرجل لعث ، أو فعلا ، كشهد ؛
__________________
(١) بقيته : نصرها بكاء ، وبرّها سرقة ، وسيأتي ؛
(٢) أي جعله مستقيما غير قابل للنقد ؛
(٣) هذا حكاية للعبارة السابقة بمعناها ؛
(٤) نسبة إلى كلمة نعم وهي مصدر صناعي ؛
(٥) في شرحه على الشافية لابن الحاجب أيضا ؛
إحداها فعل وهي الأصل ، والثانية : فعل ، بإسكان العين مع فتح الفاء ، والثالثة : فعل بإسكان العين مع كسر الفاء ، والرابعة : فعل ، بكسر الفاء إتباعا للعين ؛
وكذا ، اطرد اتباع الفاء للعين في فعيل إذا كان عينه حلقيا لمشاكلة العين ، قالوا : رغيف ، وشهيد ، وشعير ؛
والأكثر في هذين الفعلين خاصة : كسر الفاء وإسكان العين ، إذا قصد بهما المدح والذمّ ، عند بني تميم وغيرهم ؛
قال سيبويه : كأنّ عامّة العرب اتفقوا على لغة تميم ، وقد استعمل طرفة «نعم» على الأصل في قوله :
٧٤٢ ـ نعم الساعون في الأمر المبرّ (١)
ومنه قوله تعالى : (فَنِعِمَّا هِيَ)(٢) ، بفتح الفاء وكسرها على القراءتين (٣) ، ولم يجز إسكان كسرة العين مع «ما» لقصد الإدغام ، وقرأ يحيى بن وثاب في الشاذ : (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)(٤) ، بفتح الفاء وسكون العين ، ولم يأت «بئس» في القرآن إلا مكسور الفاء ساكن العين ؛
وإنما لم يتصرّف فيهما لكونهما علمين في المدح والذم ، كما ذكرنا في باب التعجب (٥) ؛
قوله : «وشرطه أن يكون الفاعل معرّفا باللام أو مضافا إلى المعرّف بها» ، نحو :
__________________
(١) هذا شطر بيت من قصيدة لطرفة بن العبد ، وقد اختلف في ألفاظه وفي صدره اختلافا كثيرا ، ومن ذلك ما قيل أن صدره : ما أقلت قدم ناعلها ، كما رواه صاحب الإنصاف ، وقد استوفى الكلام عليه : البغدادي في خزانة الأدب وذكر كل ما يتعلق به ؛
(٢) من الآية ٢٧١ سورة البقر ؛
(٣) كسر النون والعين. قراءة أبي عمرو. وورش عن نافع ، وحفص عن عاصم. وفتح النون وكسر العين : قراءة حمزة والكسائي ؛
(٤) الآية ٢٤ سورة الرعد ؛
(٥) في الباب الذي قبل هذا ؛
نعم صاحب القوم (١) ، أو مضافا إلى المضاف إلى ذي اللام ، وهلمّ جرّا (٢) ، نحو : نعم وجه فرس غلام الرجل ؛
واعلم أن اللام في نحو : نعم الرجل زيد ، ليست للاستغراق الجنسي ، كما ذهب إليه أبو علي وأتباعه ، لما ذكرنا في باب المعرفة أن علامة المعرف باللام الجنسية : صحة اضافة «كلّ» إليه ، كما في قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ)(٣) ، ولا يصح أن يقال : نعم كل الرجل زيد ، وكيف يكون زيد كل الرجال ،
فإن قلت : بل هذا على سبيل المجاز والمبالغة ، كما تقول : أنت الرجل كل الرجل ؛
قلت : امتناع التصريح في مثل هذا بنحو : نعم كل الرجل ، يدل على أنه لم يقصد به ذلك المعنى ، وكل قائل (٤) بنحو : نعم الرجل ، يجد من نفسه أنه لا يقصد ذلك المعنى ، وأيضا ، فإنه لا يقصد معنى المبالغة المذكورة إلا مع التصريح بلفظ «كل» ، فلا يقال : أنت الرجل بمعنى أنت كل الرجل ، بل معنى أنت الرجل ، إذا قصدت المدح : أنّ من سواك كأنه بالنسبة إليك ليس برجل ؛
وليست اللام في نعم الرجل للإشارة إلى ما في الذهن ، كما قال المصنف ، لما بيّنا في باب المعرفة (٥) ؛
ودليل فعليتهما : لحاق التاء التي لا تقلب هاء في الوقف بهما ، وهي إنما تلحق الفعل ، وأربعة أحرف (٦) ، احداها : لات ، مع أن بعض الكوفيين يقول هي التاء التي تزاد في
__________________
(١) ورد مثله في بيت سيذكره الشارح في هذا الباب ؛
(٢) أسلوب يقصد به الاستمرار في صور القاعدة المذكورة ويرى بعض النحاة أنه مولّد ، وتقدم ذكره في الأجزاء السابقة وأشرنا إلى ما قيل فيه ؛
(٣) الآية ٢ سورة العصر ؛
(٤) أي وكل متكلم أو ناطق ، حتى يصح تعديته بالباء ؛
(٥) في الجزء الثالث من هذا الشرح ؛
(٦) أي كلمات. حتى يشمل «ربّ» على رأي الرضي القائل باسميتها كما سيأتي في قسم الحروف ؛