شرح الرضيّ على الكافية

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


المحقق: يوسف حسن عمر
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات مؤسّسة الصادق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٢

ولم يجوّز ذلك غيرهم ، نظرا إلى لفظ «ما» ، ولو لم يكن فيها معنى النفي ، لم يصر الكلام مثبتا بمعنى الدوام ؛

وأمّا توسط الخبر بين «ما» النافية والفعل ، في هذه الأفعال ، فلم يجوّزه أحد منهم ، لأنها لازمت هذه الأفعال حتى صارت كبعض حروفها ، فلا يجوز : ما قائما زال زيد ، كما جاز : ما قائما كان زيد ، اتفاقا ؛ وكل حكم ذكرناه في «ما» النفي ، فهو ثابت في «إن» النافية ؛ وأمّا غيرهما من حروف النفي نحو لم ، ولن ، ولا ، فإذا انتفى بها الأفعال المذكورة ، لم يجز توسيط الخبر بينها وبين الأفعال ، اتفاقا ، لما ذكرنا في «ما» ، ويجوز تقديمها عليها ، اتفاقا ، لأنها ليست كما في طلب التصدير ، كما مرّ في المنصوب على شريطة التفسير ؛

وأمّا ليس ، فالأكثرون على جواز تقديم خبرها عليها ، ومنع الكوفيّة من ذلك ، لأن مذهبهم أنها حرف ، كما ، فألحقوها بها ، كإن ، ووافقهم المبرد ، وإن كان مذهبه أنها فعل ، نظرا إلى عدم تصرفها ومشابهتها لما ؛ ولنقصان فعليتها ، جاز ترك نون الوقاية معها ، كما في قوله :

إذ ذهب القوم الكرام ليسى (١) ـ ٣٨٠

ولذلك ، أيضا ، أجاز بعضهم ابطال عملها بإلّا ، كما في قولهم : ليس الطيب إلا المسك بالرفع ؛

واستدلّ المجوّز بقوله تعالى : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ)(٢) ، قالوا : لأن المعمول لا يجوز وقوعه إلا حيث يجوز وقوع العامل ؛

ولا يطرد لهم ذلك ، فإنك تقول : زيدا لن أضرب ، ولم أضرب ؛ ولا منع أن يقال : ان (يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) ظرف لليس ، فإن الأفعال الناقصة تنصب الظروف لدلالتها على مطلق الحدث ؛

__________________

(١) تقدم ذكره في نون الوقاية ، والضمائر ، الجزء الثاني ؛

(٢) الآية ٩ سورة هود وتقدمت قريبا ؛

٢٠١

واعلم أنه لا تدخل الأفعال الناقصة على مبتدأ واجب الحذف ، كما ذكرنا في باب المبتدأ ، كما يكون للنعت المقطوع بالرفع ، وللممدوح أو المذموم ؛ ولا على مبتدأ لازم التصدر كأسماء الاستفهام والشرط ؛ ولا على مبتدأ عادم التصرف ، كما ، التعجبية ؛ ولا على مبتدأ يلزم الابتدائيّة لكونه في المثل ، كقولهم : الطعن يظئر (١) ، أو يلزمها لكونه في جملة كالمثل ، كالجمل الاعتراضية ، كقوله :

فأنت طلاق ، والطلاق عزيمة

ثلاثا ومن يخرق أعقّ وأظلم (٢) ـ ٢٣٦

أو يلزم الابتدائية لكونه بعد «أمّا» وإذا المفاجأة ، أو لتضمنه معنى الدعاء ، كسلام عليك ، فإنه يلزم الابتدائية ليفيد معنى الثبوت ، كما ذكرنا في باب المبتدأ ،

ولا تقع أخبار هذه الأفعال جملا طلبيّة ، وذلك لأن هذه الأفعال ، كما تقدم ، صفات لمصادر أخبارها في الحقيقة ، ألا ترى أن معنى كان زيد قائما : لزيد قيام له حصول في الزمن الماضي ، ومعنى صار زيد قائما : لزيد قيام له حصول في الزمن الماضي بعد أن لم يكن ، ومعنى أصبح زيد قائما : لزيد قيام له حصول في الزمن الماضي وقت الصبح ، وكذا سائرها ، إذ في كلها معنى الكون مع قيد آخر ، كما ذكرنا غير مرة ؛

فلو كانت أخبارها طلبية لم تخل هي من أن تكون خبريّة أو طلبية ، فإن كانت خبريّة ، تناقض الكلام ، لأن هذه الأفعال ، لكونها صفة لمصدر خبرها ، تدل على أن المصدر مخبر عنه بالحصول في أحد الأزمنة الثلاثة ، والطلب في الخبر ، يدل على أنه غير محكوم عليه بالحصول في أحدها فيتناقض ، وبعبارة أخرى : مصدر الخبر في جميعها فاعل للفعل الناقص ، كما مرّ تقديره ، فلو قلت : كان زيد هل ضرب غلامه ، كان ضربه

__________________

(١) أصل الظئر : المرأة التي ترضع ولد غيرها ويلزم منه العطف. وقالوا : الطعن ظئار أي سبب للتعطف والتصالح وكذلك يظئر ؛

(٢) تقدم ذكره في الجزء الثاني من هذا الشرح ؛ وهو أحد أبيات ثلاثة أرسل بها الكسائي إلى محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة يسأله عن حكم ما تضمنته من هذه الصورة لإيقاع الطلاق ، وفي الإجابة عن ذلك تفصيل واسع.

٢٠٢

لغلامه مخبرا عنه بكان ، ثابتا عند المتكلم ، مسئولا عنه بهل ، غير ثابت عنده ، وهو تناقض ؛

وأمّا قولهم : علمت أزيد عندك أم لا ، فقد ذكرنا أن : أزيد ، ليس لاستفهام المتكلم بهذا الكلام حتى يلزم التناقض ؛

وإن كانت الأفعال طلبية مع أخبارها ، وهي ، كما ذكرنا ، صفة للأخبار ، اكتفى بالطلب الذي فيها عن الطلب الذي في أخبارها إن كان الطلبان متساويين إذ الطلب فيها طلب في أخبارها ، تقول : كن قائما ، أي : قم ، وهل يكون قائما ، أي : هل يقوم ؛

وقد جاء الطلب فيهما معا في الشعر ، قال :

٧٢١ ـ وكوني بالمكارم ذكريني

ودلّي دلّ ماجدة صناع (١)

وإن اختلف الطلبان ، بأن يكون أحدهما أمرا ، مثلا ، والآخر استفهاما ، نحو :

كوني هل ضربت ، اجتمع طلبان مختلفان على مصدر الخبر في حالة واحدة وهو محال ؛

وأمّا إن كان خبرها مفردا متضمنا لمعنى الاستفهام ، جاز (٢) ، لأن ذلك المفرد يجب تقدمه عليها ، نحو : أين كان زيد ، وأيّهم كان زيد ، وكل كلمة استفهام تقدمت على جملة ، أحدثت فيها معنى الاستفهام ، فلا يبقى ، إذن ، في الفعل إخبار حتى يتناقض الكلام ؛

__________________

(١) أحد بيتين. أوردهما أبو زيد الأنصاري في نوادره لشاعر جاهلي من بني نهشل يقول لامرأته في البيت الذي قبل هذا :

ألا يا أم فارع لا تلومي

على شيء رفعت به سماعي

أي رفعت به ذكري بين الناس وهو الكرم. وأم فارع كأنه ترخيم فارعة وهو من أسماء النساء ، وقوله في بيت الشاهد : دلّي : أمر من دلّت المرأة بمعنى تدللت. ودلّ مفعول مطلق له ؛

(٢) هذا جواب قوله : واما إن كان خبرها. فحقه أن يكون جملة مقرونة بالفاء ، وكثيرا ما يأتي مثل هذا في كلامه. وكان يكفي أن يقول : وإن كان خبرها .. الخ ؛

٢٠٣

فإن قيل : فيجب أن يجوّز تقديم الجملة الطلبية. عليها ، على ما ذكرت ، نحو : أيّهم ضرب كان زيد ؛

قلت : إن كلمة الاستفهام تحدث في الجملة التي تليها بلا فصل ، معنى الاستفهام ، لا في جملة أخرى بعدها ؛

فعلى هذا يجوز وقوع أسماء الاستفهام أخبارا لهذه الأفعال إذا لم تكن مصدّرة بما ؛ النفي (١) ، فلا تقول : أين ، ما كان زيد ، ولا : متى ما زال عمرو ، لوجوب تصدّر «ما» النفي ، ويجوز : متى لم يزل زيد ، وأيّ وقت لم يزل سماحك ؛

ومنع الجزّولي والشلوبيني (٢) : ذلك ، في «ليس» نحو : أين ليس زيد ، فإن منعا ذلك بناء على منع تقدم خبر ليس عليه ، فقد مرّ الكلام عليه ، وإن منعاه لأدائه إلى المحال ، من حيث المعنى ، لأن زيدا ، لا يجوز أن يكون في جميع الأمكنة ؛ فالجواب أن ذلك على سبيل المبالغة ، ويفرض ذلك في غير المستحيل ، نحو : متى ليس وجود الله ، أو علمه ، أو قدرته ؛

ثم نقول : إذا كان الخبر مفردا مشتملا على ما له صدر الكلام ، وجب تقديمه على كان وأخواته ، إن لم تصدر بما ، وذلك (٣) : اما كلمة الشرط نحو : أين تكن أكن ، أو كلمة الاستفهام ، نحو : أين كنت وأيّهم كنت ؛

وإذا كان الخبر ظرفا والاسم نكرة ، وجب تأخير الاسم عن الخبر ، نحو : كان في الدار رجل ، وفي الدار كان رجل ، وكذا إن دخل «إلا» على الاسم نحو : لم يكن قائما إلا زيد ، أو : قائما لم يكن إلا زيد ، لما ذكرنا في باب الفاعل (٤) ، ويجب ، أيضا

__________________

(١) هذا كقوله ما التعجب بالإضافة ؛

(٢) الجزولي تقدم ذكره. وأما الشلوبين أو الشلوبيني بياء النسب فهو أبو علي عمر بن محمد المولود باشبيلية له تعليق على كتاب سيبويه توفي سنة ٦٤٥ ه‍. فهو قريب العهد من الرضي.

(٣) أي ما له صدر الكلام ؛

(٤) في الجزء الأول ؛

٢٠٤

تأخيره عن الخبر ، إذا كان لجزء الخبر ضمير في الاسم ، نحو : كان في الدار صاحبها ؛ وكذا إذا كان الاسم «إنّ» مع صلتها ، نحو : كان عندي أنك قائم ، وعندي كان أنك قائم ، إذ لو تأخر الخبر لاشتبهت المفتوحة بالمكسورة ، على تقدير إضمار الشأن في الفعل ؛ ويجب تأخير الخبر عن كان ، واسمه معا إن دخله «الا» نحو : ما كان زيد إلا قائما ، ويجب توسيطه أو تأخيره ، إذا كان الفعل مصدّرا بما يقتضي التصدّر ، وكان مما لا يفصل بينه وبين الفعل ، كهل وأسماء الاستفهام والشرط ، نحو : هل كان زيد قائما ، ومتى كان قائما زيد ، إذ لا تفصل هذه الكلم عن الفعل ، كما مضى في المنصوب على شريطة التفسير (١) ؛

وأمّا همزة الاستفهام ، وما ؛ النفي ، إذا لم يكن مع زال وأخواتها ، فيجوز توسيط الخبر بينهما وبين الفعل الناقص ، نحو : ما قائما كان زيد ، و : أقائما كان زيد ، ولا يجوز تقديمه عليهما ؛

ويجب تأخير الخبر أيضا عن الاسم إذا تأخر مرفوعه عنه نحو : كان زيد حسنا وجهه ، فلو قلت : كان حسنا زيد وجهه ، أو : حسنا كان زيد وجهه ، لفصلت بين العامل ومعموله الذي هو كجزئه ، بالأجنبي ؛

وأمّا إذا تأخر منصوبه ، فيجوز على قبح ، إذا لم يكن المنصوب ظرفا ، نحو : ضاربا كان زيد عمرا ، إذ المنصوب ليس كجزئه ؛ أمّا إذا كان منصوبه ظرفا فإنه يجوز بلا قبح ، نحو : ضاربا كان زيد اليوم أو في الدار ، إذ الظروف متسع فيها ؛

وألزم بعضهم تأخير الخبر إذا كان جملة ، ولا وجه لمنع توسطها أو تقدمها ، والأصل الجواز ؛

ولا يفصل ، عند البصرية ، بين كان وأخواته ، وبين المرفوع بها من معمولات الخبر إلا بالظرف ، أو الجار والمجرور ، نحو : كان أمامك زيد جالسا ، وذلك لكون الفعل

__________________

(١) في الجزء الأول أيضا ؛

٢٠٥

الناقص عاملا ضعيفا ، فلا يفصل بينه وبين معموله ، من الأجنبيات إلا بالظرف ، وإن كان العامل قويا ، جاز الفصل بينه وبين معموله ، بشرط أن يكون فضلة ، بغير الظرف أيضا ، نحو : عمرا كان زيد ضاربا ؛

وأجاز الكوفيون الفصل بين كان ومرفوعه بغير الظرف أيضا ، نحو : كان زيدا عمرو ضاربا ؛

وفرق بعض البصريين ، بين الخبر العامل المتصل بذلك المعمول الفاصل ، وبينه إذا لم يتصل ، فجوّز في المتصل ، نحو : كان زيدا ضاربا عمرو ، ولم يجوّز في المنفصل ، نحو : كان زيدا عمرو ضاربا ، وما أوهم خلاف ذلك ، قدّر فيه البصريون ضمير الشأن ، اسما لكان وأخواته نحو : كان زيد الحمّى تأخذ ، أو : كان زيدا تأخذ الحمّى ، قال :

٧٢٢ ـ قنافذ هدّاجون حول بيوتهم

بما كان إيّاهم عطيّة عوّدا (١)

ويجوز ، في البيت ، زيادة كان ؛

واعلم أنه يخبر في هذا الباب عن النكرة المحضة إذا حصلت الفائدة ، ولا يطلب التخصيص مع حصول الفائدة ، على ما ذكرنا في باب المبتدأ ، قال :

٧٢٣ ـ ما دام فيهن فصيل حيّا (٢)

وتقول : ما زال رجل واقفا بالباب ، وكذا في باب «إنّ» ، قال :

٧٢٤ ـ وإن شفاء عبرة مهراقة

فهل عند رسم دارس من معوّل (٣)

كذا أنشده سيبويه ؛

وقد يخبر ، في هذا الباب ، وفي باب «إنّ» بمعرفة عن نكرة ولم يجز ذلك في المبتدأ والخبر للالتباس ، لاتفاق إعراب الجزأين هناك واختلافهما هنا ؛

__________________

(١) من قصيدة للفرزدق في هجاء جرير ، وعطية هو أبو جرير ؛

(٢) من رجز منسوب إلى ابن ميادة وقبله : لتقربنّ قربا جلذيا ، وبعده : وقد دجا الليل فهيا هيا ؛

(٣) من معلقة امرئ القيس ، وهذه رواية سيبويه للبيت أي بتنكير شفاء ج ١ ص ٢٨٤ ويروى : وان شفائي بالإضافة إلى ياء المتكلم ؛

٢٠٦

وقد ذكرنا (١) أن سيبويه قال في نحو من زيد : إن «زيد» هو الخبر ؛

وقال الزمخشري (٢) : لا يخبر ههنا عن نكرة بمعرفة إلا ضرورة ، نحو قوله :

يكون مزاجها عسل وماء (٣) ـ ٧١٤

فيمن نصب «مزاجها» ، وقال :

قفي قبل التفرق يا ضباعا

ولا يك موقف منك الوداعا (٤) ـ ١٣٩

وقال ابن مالك : بل يجوز ذلك اختيارا (٥) ، لأن الشاعر أمكنه أن يقول :

ولا يك موقفي منك الوداعا

وأن يرفع «مزاجها» ، على إضمار الشأن في «كان» ، كما في الرواية الأخرى ،

ولا خلاف ، عند مجوّزه اختيارا ، أيضا : أنّ الأولى : جعل المعرفة اسما والنكرة خبرا ، ألا ترى أنهم قالوا : ان «أن» (٦) أولى بالاسمية مما تقدّم (٧) في نحو قوله تعالى : (ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا)(٨) ، مع كونهما معرفتين ، لمشابهتها المضمر من حيث لا توصف كالمضمر ؛

وإنما جرّأهم على تنكير الاسم وتعريف الخبر : عدم اللبس في بابي كان وإنّ ، لاختلاف إعراب الجزأين ؛

وأورد سيبويه (٩) للتمثيل بالاخبار عن النكرة بالمعرفة قوله :

__________________

(١) في باب المبتدأ والخبر ـ في الجزء الأول ؛

(٢) تكرر ذكره في هذا الجزء وفيما قبله ؛

(٣) تقدم ذكر هذا الشاهد قريبا ؛

(٤) تقدم في باب الترخيم في الجزء الأول وهو من شعر القطامي ؛

(٥) مبني على مذهبه في الضرورة وهي ما ليس للشاعر عنه مندوجة والجمهور يقولون هي ما وقع في الشعر ولو كان للشاعر عنه مندوحة ؛

(٦) يعني هي وما دخلت عليه من الفعل فيؤولان الصدر ؛

(٧) أي مما قبلها في الآية وهو «حجتهم» ؛

(٨) الآية ٢٥ سورة الجاثية ؛

(٩) أورد سيبويه الشواهد الثلاثة الآتية في ج ١ ص ٢٣ ؛

٢٠٧

٧٢٥ ـ أسكران كان ابن المراغة إذ هجا

تميما بجوف الشام أم متساكر

وقوله :

فإنك لا تبالي بعد حول

أظبي كان أمّك أم حمار (١) ـ ٥١٢

وقوله :

٧٢٦ ـ ألا من مبلغ حسّان عني

أطب كان سحرك أم جنون (٢)

وردّ عليه المبرد بأن اسم كان ، هو الضمير وهو معرفة ؛

وأجاب بعضهم المبرد عن سيبويه بأن همزة الاستفهام في : أظبي ، و : أطب ، و : أسكران : دخلت على اسم مرفوع بعده المفعل المسند إلى ضميره ، فارتفاع ذلك المرفوع بمضمر يفسّره الفعل أولى ، فاسم كان ، إذن ، نكرة ؛ وردّ الجواب بأن «أم» المتصلة يليها أحد المستويين والآخر ؛ الهمزة ، ولو قدرت بعد الهمزة فعلا ، لم يلهما المستويان ؛

وأجيب عن ردّ الجواب ، بأن الفعل لمّا كان محذوفا وجوبا لأجل المفسّر فكأنه معدوم ، وأيضا فإن استواء ما ولياهما قد لا يكون (٣) ، في ضرورة الشعر ، كما يجيء في باب العطف (٤) ؛

هذا ، ونحن قد ذكرنا في المنصوب على شريطة التفسير : أن المرفوع إنما يفسّر رافعه بظاهر ، إذا كان المرفوع بعد كلمة لازمة للفعل نحو : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ)(٥) وفي قوله خاصة : أظبي كان أمك أم حمار : الأولى أن يرتفع ظبي بكان المقدرة لما يجيء في باب العطف

__________________

(١) من شعر الفرزدق في هجاء جرير ؛

(٢) تقدم في باب المعرفة في الجزء الثالث ؛

(٣) قاله أبو قيس بن الأسلت الأنصاري الخزرجي في حسان بن ثابت وهو من الأوس ، ويروى : اسحر كان داؤك وكان شأنك وهذا ما يريده من طبك ؛

(٥) نبهنا غير مرة على هذا. وأنه مخالف لقواعد النحو. ويتردد كثيرا في كلام الرضي ؛

(٦) أي باب حروف العطف في قسم الحروف ، من هذا الجزء ؛

(٧) من الآية ١٧٦ سورة النساء ؛

٢٠٨

أنه بعد سواء ، ولا أبالي ، لا تدخل همزة التسوية إلا على الفعل ،

وأجاب بعضهم ، المبرد عن سيبويه بأن الضمير راجع إلى منكر فيكون منكرا ، وردّ جوابهم بأن الضمير الراجع إلى نكرة : معرفة بدليل وقوعه مبتدأ نحو : ضربت رجلا وهو راكب ، ولو كان نكرة لصح وصفه ؛

والجواب عن الردّ : أن الضمير إذا عاد إلى نكرة مختصة بوجه فهو معرفة نحو : جاءني رجل فضربته ، والّا فهو نكرة نحو : أرجل ضربته أم امرأة ، كما مرّ في حدّ المعرفة ؛ والنكرات المفسّرة للضمير في الأبيات الثلاثة : غير مختصة ، فالضمائر ، إذن ، نكرات ؛

واعلم أن «ليس» من بين أخواتها تختص بكثرة مجيء اسمها نكرة ، لما فيها من النفي ، وبجواز حذف خبرها كثيرا كقوله :

٧٢٧ ـ وإذا أقرضت قرضا فاجزه

إنما يجزي الفتى ليس الجمل (١)

أي ليس الجمل جازيا ، وقيل : بل حملت على «لا» فصارت حرف عطف مثلها ؛

وجميع هذه الأفعال متصرفة الا : ليس ، ودام ؛ ولتصاريفها ما لها ؛ ولا يستعمل لما زال وأخواتها مصدر ، واسم فاعل ، إلّا تامّين ، لأنها يلزمها حرف النفي ، وهو لا يدخل على المفرد ؛

وقد تحذف لام «تكن» للجزم ، تشبيها لنونها بالواو ، فحذفت مع أنه قد حذفت قبل ، حركتها للجزم ، وذلك لكثرة استعمالها ، قال تعالى : (لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً)(٢) ، كما حذفت كسرة لم أبال ، فقيل لم أبل ، بعد ما حذفت منه الياء ، لكثرة الاستعمال ، أيضا ؛

__________________

(١) من قصيدة جيدة قالها لبيد بن ربيعة العامري يقول فيها :

واكذب النفس إذا حدثتها

إن صدق النفس يزري بالأمل

غير أن لا تكذبنها في التقى

واخزها بالبر لله الأجلّ

(٢) الآية ٥٣ سورة الأنفال ؛

٢٠٩

قال سيبويه : إذا لاقى نون «يكن» المجزوم ، ساكنا بعدها لم يجز حذفها ، قال تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا)(١) ؛ لتقوّيها بالحركة ، وخروجها بها عن شبه حرف المدّ ؛ وأجازه يونس ، أنشد أبو زيد في نوادره :

٧٢٨ ـ لم يك الحق على أن هاجه

رسم دار قد تعفىّ بالسّرر (٢)

قال السيرافي : هذا شاذ ؛

قال سيبويه (٣) : تقديم الخبر إذا كان ظرفا : مستحسن ، ويسمّى ذلك الظرف مستقرّا بفتح القاف ، وكذا كل ظرف عامله مقدّر ، لأن ناصبه ، وهو : «استقرّ» مقدّر قبله ، فقولك : كان في الدار زيد ، أي : كان مستقرا في الدار زيد ، فالظرف مستقر فيه ، ثم حذف الجار ، كما يقال : المحصول ، للمحصول عليه ، ولم يستحسن تقديم الظرف اللغو ، وهو ما ناصبه ظاهر ، لأنه ، إذن ، فضلة فلا يهتمّ به ، نحو : كان زيد جالسا عندك ، وأمّا قوله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)(٤) ، فإنما قدّم اللغو فيه لأنه معقد الفائدة ، إذ ليس الغرض نفي الكفء مطلقا ، بل نفي الكفء له تعالى ، فقدّم اهتماما بما هو المقصور ، معنى ، ورعاية للفواصل لفظا ؛

__________________

(١) الآية الأولى من سورة البينة ؛

(٢) أحد بيتين نسبهما أبو زيد. لشاعر جاهلي اسمه حسيل بن عرفطة وبعد البيت الذي في الشارح :

غيّر الجدّة من عرقاته

خرق الريح وطوفان المطر

(٣) هذا بمعناه في كتاب سيبويه ج ١ ص ٢٧ ؛

(٤) آخر آية في سورة الاخلاص ؛

٢١٠

[أفعال المقاربة]

[تحديد معناها]

[قال ابن الحاجب :]

«أفعال المقاربة : ما وضع لدنوّ الخبر. رجاء أو حصولا ،» «أو أخذا فيه» ؛

[قال الرضي :]

الذي أرى ، أن «عسى» ، ليس من أفعال المقاربة ، إذ هو طمع في حقّ غيره تعالى ، وإنما يكون الطمع فيما ليس الطامع على وثوق من حصوله ، فكيف يحكم بدنوّ ما لا يوثق بحصوله ؛ ولا يجوز أن يقال : ان معناه رجاء دنو الخبر ، كما هو مفهوم من كلام الجزولي (١) ، والمصنف ، أي أن الطامع يطمع في دنوّ مضمون خبره ، كقولك : عسى الله أن يشفي مريضي ، أي : إني أرجو قرب شفائه ؛ وذلك لأن «عسى» ، ليس متعيّنا بالوضع للطمع في دنوّ مضمون خبره بل لطمع حصول مضمونه مطلقا ، سواء ترجّى حصوله عن قريب أو بعد مدّة مديدة ؛ تقول : عسى الله أن يدخلني الجنة ، وعسى النبي عليه السّلام أن يشفع لي ، فإذا قلت : عسى زيد أن يخرج ، فهو بمعنى لعله يخرج ، ولا دنوّ في «لعلّ» اتفاقا ؛

__________________

(١) تقدم ذكره في هذا الجزء والأجزاء السابقة ؛

٢١١

وكذا في عدّهم «طفق» ومرادفاته من أفعال المقاربة ، بمعنى كونها لدنو الخبر : نظر ؛ لأن معنى : طفق زيد يخرج : أنه شرع في الخروج وتلبّس بأول أجزائه ، ولا يقال : ان الخروج قرب ودنا من زيد ، إلّا قبل شروعه فيه ، لأن معنى القرب : قلة المسافة ، بلى ، يصح أن يقال فيمن شرع في الشيء : قرب تمام ذلك الشيء على يده وفراغه منه ؛

فعلى هذا ، ليس من أفعال المقاربة التي هي موضوعة لدنوّ الخبر ، إلا : كاد ومرادفاته ؛

وقول المصنف : «لدنو الخبر رجاء ، أو حصولا ، أو أخذا فيه» ، فيه خبط ، لأن نصب هذه المصادر (١) ، على التمييز في الظاهر ، وهو تمييز نسبة ، فيكون فاعلا (٢) للدنوّ ، في المعنى ، كما في قولك : يعجبني طيب زيد علما ، أي طيب علم زيد ، فيكون المعنى : لدنوّ رجاء الخبر ، أو لدنوّ حصوله ، أو لدنوّ الأخذ فيه ، وليس «عسى» لدنو رجاء خبره ، بل لرجاء دنوّ خبره ، على ما ذهب إليه ، وكذا «طفق» وأخواته ، ليست لدنوّ الأخذ فيه ، بل هي للأخذ فيه ، ولفظ الجزولي (٣) ، أي : أن عسى لمقاربة الفعل في الرجاء ، أوضح وأصح فيما قصده من المعنى ؛ ولو جعلنا المنصوب حالا (٤) من الخبر أي : لدنوّ الخبر مرجوّا أو حاصلا أو مأخوذا فيه ، على تكلف فيه ، إذ الحدّ لا يستعمل فيه مثل هذه المحتملات البعيدة ، لم يصح (٥) قوله : حصولا ، لأن الخبر في «كاد» ليس حاصلا ، بل هو قريب الحصول ، وتبيّن ، أيضا ، أن بين قرب الخبر ، وحصوله تنافيا ، لأن القريب : ما لم يحصل بعد ؛

__________________

(١) أي : رجاء وحصولا وأخذا ؛

(٢) أي قبل تحويله إلى التمييز. فهو من قبيل المحول عن الفاعل ؛

(٣) للجزولي كتاب في النحو ؛ اسمه الجزوليه. ولعل هذا النقل منه ؛

(٤) أي حالا بالتأويل كما سيبيّنه الشارح ؛

(٥) جواب لو في قوله ولو جعلنا المنصوب حالا ،

٢١٢

[أوجه استعمال]

[أفعال المقاربة]

[وتفصيل أحكامها]

[قال ابن الحاجب :]

«فالأول : عسى ، وهو غير متصرف ، تقول : عسى زيد»

«أن يخرج وعسى أن يخرج زيد ، وقد تحذف أن ؛ والثاني :»

«كاد ، تقول : كاد زيد يجيء ، وقد تدخل أن ، وإذا دخل»

«النفي على كاد ، فهو كالأفعال على الأصح ، وقيل يكون»

«للاثبات ، وقيل يكون في الماضي للإثبات ، وفي المستقبل»

«كالأفعال ، تمسكا بقوله تعالى : «وَما كادُوا يَفْعَلُونَ» ،»

«وبقول ذي الرمة :»

«إذا غيّر النأي المحبين لم يكد

رسيس الهوى من حب مية يبرح»

«والثالث : جعل ، وطفق ، وكرب ، وأخذ ، وهي مثل»

«كاد ، وأوشك ، وهي مثل عسى ، وكاد في الاستعمال» ؛

[قال الرضي :]

قوله : «فالأول عسى» ؛ أي الذي لرجاء مضمون الخبر ، قال سيبويه (١) : عسى ، طمع وإشفاق ، فالطمع في المحبوب ، والاشفاق في المكروه ، نحو : عسيت أن تموت ، ومعنى الإشفاق : الخوف ؛

وإنما لم يتصرّف في «عسى» بل لم يأت منه إلا الماضي ؛ لتضمنه معنى الحرف ، أي

__________________

(١) سيبويه : ج ٢ ص ٣١١ ؛

٢١٣

إنشاء الطمع والرجاء ، كلعلّ ، والإنشاءات ، في الأغلب ، من معاني الحروف ، والحروف لا يتصرّف فيها ؛ وأمّا الفعل ، نحو : بعت ، والجملة الاسمية نحو : أنت حرّ ، فمعنى الإنشاء عارض فيهما ؛

قال الجوهري (١) : عسى من الله واجبة ، لاستحالة الطمع والإشفاق عليه تعالى ، إذ لا يكونان إلّا في المجهول ، وقوله تعالى : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ)(٢) للتخويف ، لا للخوف والإشفاق ، كما أن «أو» في كلامه تعالى ، للإبهام ، والتشكيك ، لا للشك ؛

قال أبو عبيدة (٣) : عسى من الله إيجاب ، فجاء على إحدى لغتي العرب لأن «عسى» للرجاء ، ولليقين أيضا ، وأنشد لابن مقبل :

٧٢٩ ـ ظنّي بهم كعسى وهم بتنوفة

يتنازعون جوائز الأمثال (٤)

أي : ظني بهم يقين ، هذا كلامه (٥) ؛ وأنا لا أعرف «عسى» في غير كلامه تعالى لليقين ، فقوله «عسى» لليقين ، فيه نظر ؛ ويجوز أن يكون معنى ، ظني بهم كعسى ، أي مع طمع ؛

وقد يكسرون سين «عسى» ، إذا اتصل به ضمير المتكلم ، نحو : عسيت ، عسينا ، أو ضمير المخاطب نحو : عسيت عسيتما عسيتم ، عسيت عسيتما ، عسيتنّ ، أو نون جمع المؤنث نحو : عسين ؛

وزعم الزجاج أن عسى حرف ؛ لما رأى من عدم تصرفه ، وكونه بمعنى لعلّ ؛ واتصال المرفوع به يدفع ذلك ، إلّا أن يعتذر بما يعتذر به أبو علي (٦) في ليس ، كما تقدم ؛

__________________

(١) صاحب الصحاح وتقدم ذكره في الأجزاء السابقة ؛

(٢) الآية ٥ سورة التحريم ؛

(٣) معمر بن المثنى من قدامى النحويين وشيخ أبي عبيد ، القاسم بن سلام ؛

(٤) من شعر تميم بن أبي بن مقبل ، ويختصر اسمه إلى تميم بن مقبل ؛ والبيت في شرح ابن يعيش ٧ / ١٢٠

(٥) أي كلام أبي عبيدة ، ذكره ليعقب عليه ، وينقده ؛

(٦) أي الفارسي وتكرر ذكره ؛

٢١٤

قوله : «عسى زيد أن يخرج» ، المتأخرون على أن «عسى» يرفع الاسم وينصب الخبر ، ككان ، والمقرون بأن بعد اسمه منصوب المحل بأنه خبره ، استدلالا بالمثل النادر مثل الزبّاء ، عسى الغوير أبؤسا (١) ، وقوله :

أكثرت في العذل ملحّا دائما

لا تكثرن إني عسيت صائما (٢)

ونقل عن سيبويه (٣) منع كون «أن يفعل» خبره ؛ قيل : إنما قال ذلك ، لأن الحدث لا يكون خبرا عن الجثة ، وقوله : أبؤسا ، وصائما ، لتضمن «عسى» معنى «كان» فأجرى في الاستعمال مجراه ، عذر من جعله خبرا أن يقدّر مضافا ، إمّا في الاسم ، نحو : عسى حال زيد أن يخرج ، أو في الخبر ، نحو : عسى زيد صاحب أن يخرج ؛

قال أبو علي في القصريات (٤) : عسى زيد أن يقوم أي عسى زيد ذا قيام ، وفي هذا العذر تكلف ، إذ لم يظهر هذا المضاف إلى اللفظ أبدا ، لا في الاسم ولا في الخبر ؛ وقال بعضهم : «أن» زائدة ، وفيه ، أيضا ، نظر ، لأن الزائد لا يلزم إلّا مع بعض الكلم ، كزيادة «ما» في قولهم : «افعل هذا آثرا ما» (٥) ، ولزومه مطردا في موضع معيّن مع أي كلمة كانت : بعيد ؛

وقيل : المقترن بأن ، مشبّه بالمفعول به ، وليس بخبر ، كخبر كان ، حتى يلزم كون الحدث خبرا عن الجثة ، وذلك لأن المعنى الأصلي : قارب زيد أن يخرج أي الخروج ثم تغيّر معنى الكلام عن ذلك الأصل ، بإفادة «عسى» لإنشاء الطمع ، كما كان أصل معنى : ما أحسن زيدا ، شيء جعله حسنا ، ثم تغيّر عنه بإفادة إنشاء التعجب ، وكذا

__________________

(١) مما قاله الزباء في قصتها مع قصير الذي احتال عليها حتى قضى عليها ، وينسب هذا الكلام إلى غير الزباء ، أيضا ؛

(٢) نسبه بعضهم إلى رؤبة بن العجاج وقال البغدادي انه لم يجده في ديوان رجزه ؛

(٣) هذا مستفاد من كلام سيبويه في كتابه ج ١ ص ٤٧٧ ؛ ولفظه : وعسى محمولة عليها أن كما تقول : دنا أن يفعلوا ؛

(٤) من مؤلفات أبي علي الفارسي ، واسمه المسائل القصرية ، ومثله المسائل البغدادية وغيرها

(٥) بزيادة «ما» والمراد : افعل هذا مؤثرا له على غيره ، أي أبدأ به ؛

٢١٥

قالوا : أصل معنى : عسى أن يخرج زيد ، قرب أن يخرج زيد ، أي خروج زيد ، فهو في الاستعمال الأول كالفعل المتعدّي ، وفي الثاني كاللازم ؛

وفيه ، أيضا ، نظر ؛ إذ لم يثبت في عسى ، معنى المقاربة ، وضعا ، ولا استعمالا ، كما مرّ قبل ؛

وقال الكوفيون : إن «أن يفعل» في محل الرفع ، بدلا مما قبله ، بدل الاشتمال ، كقوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ ..)(١) ، إلى قوله : (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) ، أي لا ينهاكم عن أن تبروهم ؛

والذي أرى ، أنّ هذا وجه قريب ، فيكون في نحو : يا زيدون عسى أن تقوموا ، قد جاء بما كان بدلا من الفاعل مكان الفاعل ، والمعنى ، أيضا ، يساعد ما ذهبوا إليه ، لأن «عسى» بمعنى : يتوقّع ، فمعنى عسى زيد أن يقوم : أي يتوقع ويرجى قيامه ، وإنما غلب فيه بدل الاشتمال لأن فيه إجمالا ثم تفصيلا ، كما مرّ في باب البدل (٢) ، وفي إبهام الشيء ثم تفسيره وقع عظيم لذلك الشيء في النفس ، كما مرّ في ضمير الشأن (٣) ؛

وأما : عسيت صائما ، وعسى الغوير أبؤسا فشاذان ؛ وقال بعضهم التقدير ، عسى الغوير أن يكون أبؤسا ، وعسيت أن أكون صائما ، وجاز حذف «أن» مع الفعل مع كونها حرفا مصدريا ، لقوة الدلالة ، وذلك لكثرة وقوع «أن» بعد مرفوع «عسى» ، فهو كحذف المصدر وإبقاء معموله ، كما ذكرنا من مذهب سيبويه في المفعول معه ؛ ومثله ما قدّر الكسائي في البيت : إلّا أن يكون الفرقدان (٤) ؛ الّا أن القرينة ههنا أدلّ كما ذكرنا ؛

__________________

(١) الآية ٨ سورة الممتحنة ؛

(٢) في الجزء الثاني ؛

(٣) آخر الجزء الثاني ؛

(٤) إشارة إلى قول الشاعر :

وكل أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلا الفرقدان

وقد تقدم الاستشهاد به في باب الاستثناء في الجزء الثاني من هذا الشرح ؛

٢١٦

فعلى مذهب الكوفيين ، إذا حذفت «أن» في الخبر ، مع قلة ذلك ، قلنا انها مقدّرة لقوّة الدلالة عليه فيكون كقولهم تسمع بالمعيديّ لا أن تراه ،

قوله : «وعسى أن يخرج زيد» ، اعلم أن من ذهب إلى أنّ «أن» مع الفعل في : عسى زيد أن يخرج ، خبر عسى ، جاز أن يقول في عسى أن يخرج زيد : انه خبر ، أيضا ، وهو من باب التنازع ، فيقول في التثنية على اختيار البصريين : عسيا أن يخرج الزيدان ، وعلى اختيار الكوفيين : عسى أن يخرجا الزيدان ، وعلى هذا قياس الجمع والمؤنث ، وجاز أن يقول : إن «أن يخرج» فاعل «عسى» وزيد فاعل يخرج ، فيقول في التثنية : عسى أن يخرج الزيدان لا غير ؛

وقوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً)(١) ، لو جعلنا الفعلين متنازعين في «ربك» لم يجز اعمال الأول أعني «عسى» ، لكون «ربك» وهو أجنبي ، إذن ، فاصلا بين بعض الصلة وبعض ؛

وقوله تعالى : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً)(٢) ، يجوز أن يكون الفعلان متنازعين في «شيئا» وقد أعمل الثاني ، وأن يكون (أَنْ تَكْرَهُوا) فاعل «عسى» ، كما في قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) ، و : (عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ)(٣) ،

وأمّا نحو : الزيدان عسى أن يقوما ، والزيدون عسى أن يقوموا ، فأن ، فاعل «عسى» قولا واحدا ؛

ولا يضمر في «عسى» ضمير الشأن ، لأنه ليس من نواسخ الابتداء ، كما كان «كاد» منها ، وقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ)(٤) ، في «كاد» ضمير الشأن ، ويجوز أن يكون من باب التنازع وقد أعمل الأول ، ولو أعمل الثاني لقال

__________________

(١) الآية ٧٩ سورة الإسراء ؛

(٢) من الآية ٢١٦ سورة البقرة ؛

(٣) الآية ١١ سورة الحجرات ؛

(٤) الآية ١١٧ سورة التوبة ؛ على قراءة من قرأ تزيغ بالتاء

٢١٧

كادت ، إلا عند الكسائي فإنه يحذف الفاعل في مثله ، كما مرّ (١) ؛

وأمّا على قراءة من قرأ «كاد يزيغ» بالياء (٢) ، فليس من باب التنازع وإلّا وجب تأنيث أحد الفعلين لإسناده إلى ضمير المؤنث ، بل هو على إضمار الشأن في «كاد» ؛

وقولك : كاد يقوم زيد ، يحتمل التنازع ، فتعمل أيّهما شئت ، ويحتمل إضمار الشأن في «كاد» ، ومثله : «ليس خلق الله مثله» ،

وليس بمشهور إضمار الشأن ، من أفعال المقاربة ، إلّا في «كاد» ومن الأفعال الناقصة إلّا في «كان» و «ليس» ؛

ولا يتقدم «أن» مع الفعل على «عسى» ، أمّا عند من قال انه خبر ، فلضعف «عسى» لكونه غير متصرف ؛ وأمّا عند من قال هو بدل ، فلامتناع تقدمه على المبدل منه ؛

وقد يحذف الخبر من هذا الباب ان علم ، نحو :

٧٣١ ـ هممت ولم أفعل ، وكدت ، وليتني

تركت على عثمان تبكي حلائله (٣)

أي كدت أفعل ؛ وكذا تقول : كم «عسى زيد» ، إذا قيل لك : عسى زيد أن يقوم ، أي : كم «عسى زيد أن يقوم» ؛

ولا يخلو المرفوع في هذا الباب ، غالبا ، من اختصاص ، فلا يقال : كاد رجل أن يقوم ، ولا : عسى شخص أن يقوم ، الّا قليلا ،

قوله : «وقد يحذف «أن» ، كقوله :

__________________

(١) باب التنازع في الجزء الأول ؛

(٢) هي قراءة حمزة ، وحفص عن عاصم ، والباقون بالتاء ؛

(٣) من قصيدة لضابئ البرجمي ، وكان قد سجنه سيدنا عثمان بن عفان ولما طال سجنه استشفع إلى عثمان فأمر بإخراجه ، ولكنه اعتزم قتل عثمان وعرف عثمان هذا التدبير فأعاده إلى السجن فقال هذه القصيدة التي تدل على إصراره على الانتقام ،

٢١٨

٧٣٢ ـ عسى الكرب الذي أمسيت فيه

يكون وراءه فرج قريب (١)

وهو قليل ، وذلك لتشبيه «عسى» بكاد ، عند من قال هو خبر ، وقد مرّ أن ذلك عند الكوفيين بتقدير «أن» ؛

ويتعيّن في أخبار جميع أفعال المقاربة أن يكون فاعل أخبارها ضميرا عائدا إلى اسمها ، فلا تقول : كاد زيد يخرج غلامه ، إلا أن يكون المسند إلى سببه بمعنى الفعل المسند إلى ضمير الاسم ، نحو : كاد زيد تخرج نفسه ، هو بمعنى : كاد زيد يموت ؛

وقد يستعمل حرى زيد أن يفعل كذا ، واخلولق عمرو أن يقوم ، استعمال «عسى» بلفظ الماضي فقط ، ومعناهما : صار حريّا وحرى أي جديرا ، وصار خليقا ؛ وأصلهما :

حري بأن يفعل ، واخلولق بأن يقوم ، فحذف حرف الجر ، كما هو القياس مع أنّ وأن ؛

ويقال أيضا : هو حرى أن يفعل ، بفتح الراء والتنوين ، على أنه مصدر بمعنى الوصف ، فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث ، نحو : هنّ حرى أن يفعلن ، وإن قلت : هو حريّ ، على فعيل ، أو حر بكسر الراء كعم (٢) ، أن يكون ، (٣) ثنيت وجمعت وأنثت ، ويقال أيضا : بالحرى أن يكون ؛

وقد يقع بعد «اخلولق» : أن مع الفعل ، نحو : اخلولق أن يفعل زيد ، كما قلنا في : عسى أن يفعل زيد ؛

وقول الشاعر :

٧٣٣ ـ عسى طيّئ من طيّئ بعد هذه

ستطفئ غلّات الكلى والجوانح (٤)

السين فيه عند المتأخرين ، قائمة مقام «أن» لكونها للاستقبال ؛

__________________

(١) من قصيدة لهدبة بن الخشرم قالها وهو في السجن منها البيت المشهور :

فان يك صدر هذا اليوم ولّى

فإن غدا لناظره قريب

(٢) صفة مشبهة على وزن فعل ، مثل فرح فهو فرح ؛

(٣) راجع إلى الأمثلة التي قبل : عم ؛

(٤) من أبيات أوردها أبو تمام في باب المراثي من الحماسة ، وهذا البيت آخرها ، والغلات بضم الغين جمع غلة والكلى جمع كلية.

٢١٩

والوجه عند الكوفيين أن يكون فاعل «عسى» مضمون الجملة الاسمية التي بعده ، كما في قوله تعالى : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ)(١) أي : يتوقع إطفاء غلات الكلى ؛

قوله : «والثاني كاد» ، أي ما وضع لدنوّ حصول الخبر : كاد ، وهو من كدت تكاد كيدا ومكادة ، مثل : هبت تهاب ؛

وحكى الأصمعي (٢) : كودا بالواو ، فيكون ، كخفت تخاف خوفا ومخافة والأول أشهر ؛ وأوشك بمعناه ، ومعنى «كاد» في الأصل : قرب ، ولا يستعمل على أصل الوضع ، فلا يقال : كاد زيد من الفعل ، ومعنى أوشك في الأصل : أسرع ، ويستعمل على الأصل ، فيقال : أوشك فلان في السير ؛

ومن مرادفات كاد وأوشك : أولى ، وكرب وهلهل ؛ وكرب في الأصل بمعنى قرب ، يقال كربت الشمس أي دنت للغروب ، وأمّا أولى فمعناه الأصلي قارب ، قال :

٧٣٤ ـ فعادى بين هاديا يتين منها

وأولى أن يزيد على ثلاث (٣)

أي قارب وكاد ، ولا يستعمل إلا مع «أن» ، والأظهر كونها مفعولا لأولى ،

ويجب تجريد خبر «هلهل» من «أن» ، وأما كاد وكرب وأوشك ، فتستعمل أخبارها مع أن ، ومجردة ، والتجريد مع كاد وكرب أكثر وأعرف ، وإذا كانت مع أن فهو بتقدير حرف الجر ، أي : كاد أو كرب من أن يقوم ، وأوشك في أن يقوم ، ثم حذف حرف الجر على القياس ، وأوجبوا ههنا حذفه لكثرة الاستعمال ، و «أن» إما منصوبة أو مجرورة كما مرّ ؛

وقد يقع بعد أوشك : أن ، مع الفعل نحو أوشك أن يخرج زيد ، أي أسرع خروجه ،

__________________

(١) الآية ٣٥ من سورة يوسف ؛

(٢) عبد الملك بن قريب الأصمعي : أحد أئمة اللغة ورواة الشعر ، وتكرر ذكره في هذا الشرح ؛

(٣) البيت في وصف فرس ، ونقله البغدادي عن الأصمعي من غير نسبة إلى أحد ؛

٢٢٠