محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي
المحقق: يوسف حسن عمر
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات مؤسّسة الصادق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٢
[الأفعال الناقصة]
[معناها ، ألفاظها ، ما يتضمّن معناها]
[قال ابن الحاجب :]
«الأفعال الناقصة : ما وضع لتقرير الفاعل على صفة ،»
«وهي : كان وصار وأصبح وأمسى وأضحى وظل وبات»
«وآض وعاد وغدا وراح ، وما زال وما فتئ وما انفك وما»
«برح ، وما دام ، وليس ، وقد جاء : ما جاءت حاجتك»
«وقعدت كأنها حربة ؛ تدخل على الجملة الاسمية لإعطاء»
«الخبر حكم معناها ، فترفع الأول ، وتنصب الثاني ، مثل :»
«كان زيد قائما» ؛
[قال الرضي :]
إنما سميت ناقصة ، لأنها لا تتمّ بالمرفوع كلاما (١) ، بل بالمرفوع مع المنصوب بخلاف الأفعال التامة ، فإنها تتمّ كلاما بالمرفوع دون المنصوب ،
وما قال بعضهم من أنها سمّيت ناقصة لأنها تدل على الزمان دون المصدر ، ليس بشيء ؛ لأن «كان» في نحو : كان زيد قائما ، يدل على الكون الذي هو الحصول المطلق ، وخبره
__________________
(١) أي لا تصير مع المرفوع كلاما تامّا ، ومثله ما بعده ؛
يدل على الكون المخصوص ، وهو كون القيام ، أي حصوله ، فيجئ أولا بلفظ دالّ على حصول ما ، ثم عيّن بالخبر : ذلك (١) الحاصل ، فكأنك قلت : حصل شيء ثمّ قلت : حصل القيام ، فالفائدة في إيراد مطلق الحصول أوّلا ثم تخصيصه ، كالفائدة في ضمير الشأن قبل تعيين الشأن (٢) ، على ما مرّ في بابه ؛ مع فائدة أخرى ههنا ، وهي دلالته على تعيين زمان ذلك الحصول المقيّد ، ولو قلنا : قام زيد لم يحصل هاتان الفائدتان معا ، ف «كان» يدل على حصول حدث مطلق تقييده في خبره ، وخبره يدل على حدث معيّن واقع في زمان مطلق تقييده في «كان» ، لكن دلالة «كان» على الحدث المطلق أي الكون : وضعيّة ، ودلالة الخبر على الزمان المطلق : عقلية ؛ وأمّا سائر الأفعال الناقصة ، نحو : صار ، الدالّ على الانتقال ، وأصبح ، الدال على الكون في الصبح ، أو الانتقال ، ومثله أخواته (٣) ، وما دام الدال على معنى الكون الدائم ، وما زال ، الدال على الاستمرار وكذا أخواته (٤) ، وليس ، الدال على الانتفاء : فدلالتها على حدث معيّن لا يدل عليه الخبر : في غاية (٥) الظهور ؛ فكيف تكون جميعها ناقصة بالمعنى الذي قالوه ؛
قوله : «ما وضع لتقرير الفاعل على صفة» ، كان ينبغي أن يقيّد الصفة فيقول : على صفة غير مصدره ، فإن «زيد» في ضرب زيد ، أيضا ، متصف بصفة الضرب ، وكذا جميع الأفعال التامّة ، وأمّا الناقصة فهي لتقرير فاعلها على صفة ، متصفة بمصادر الناقصة ، فمعنى كان زيد قائما : أن زيدا متصف بصفة القيام المتصف بصفة الكون أي الحصول والوجود ، ومعنى صار زيد غنيا : أن زيدا متصف بصفة الغنى المتصف بصفة الصّيرورة أي الحصول بعد أن لم يحصل ؛
قوله «لتقرير الفاعل على صفة» ، أي جعله وتثبيته عليها ؛
__________________
(١) نائب فاعل : عين ؛
(٢) أي قبل تفسيره بذكر خبره ؛ وهو الإبهام ثم التفصيل ؛
(٣) المراد بأخواته : الأفعال الدالة على وقت. مثل أمسى وأضحى ؛
(٤) وكذلك هذا. المراد بأخواته ما دل على الاستمرار. مثله ؛
(٥) خبر عن قوله : فدلالتها على حدث معيّن ؛
قوله : «كان ، وصار ، إلى آخرها» ، لم يذكر سيبويه منها سوى «كان» ، و «صار» و «ما دام» و «ليس» ؛ ثم قال (١) : وما كان نحوهنّ من الفعل مما لا يستغني عن الخبر ؛ والظاهر أنها غير محصورة ؛ وقد يجوز تضمين كثير من التامة معنى الناقصة ، كما تقول : تتمّ التسعة بهذا عشرة ، أي تصير عشرة تامّة ، وكمل زيد عالما ، أي صار عالما كاملا ، قال تعالى : (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا)(٢) ، أي صار مثل بشر ، ونحو ذلك ؛
وقد زيد على عدد الأفعال التي ذكرها المصنف ، ونقص منه ، فالذي زيد من مرادفات «صار» : آل ، ورجع ، وحال ، وارتدّ ؛ كانت كلها في الأصل بمعنى «رجع» تامّا ، وكذا : استحال وتحوّل ، فإنهما كانا في الأصل بمعنى : انتقل ؛ وكذا كان أصل «صار» ؛ فكان حقّ جميعها أن تستعمل تامة فتتعدّى إلى ما هو مصدر لخبرها بإلى ، إن عدّيت ، نحو : صار إلى الغنى ، ثم ضمّنت كلها معنى : كان بعد أن لم يكن ، لأن الشخص إذا رجع إلى الفعل وانتقل إليه ، فذلك الفعل يصير كائنا بعد أن لم يكن ، ففاعلها في الحقيقة ، بعد صيرورتها ناقصة : مصدر خبرها مضافا إلى اسمها ، إذ معنى جميعها ناقصة : كان بعد أن لم يكن ، وذلك المصدر هو الكائن بعد أن لم يكن ، وفاعلها حين كانت تامة هو المرتفع بها لأنه الراجع والمنتقل ؛
ويجوز استعمال «صار» ومرادفاتها تامة على الأصل ، قال :
٧٠٦ ـ فصرنا إلى الحسنى ورقّ كلامها |
|
ورضت فذلّت صعبة أيّ إذلال (٣) |
وقال :
٧٠٧ ـ أيقنت أني لا محا |
|
لة ، حيث صار القوم صائر (٤) |
__________________
(١) سيبويه ج ١ ص ٢١ ؛
(٢) من الآية ١٧ سورة مريم ؛
(٣) من قصيدة طويلة لأمرئ القيس. تكرر في هذا الشرح ذكر شواهد منها ، وأول شاهد ورد في الجزء الأول في إعراب جمع المؤنث السالم. وهو قوله :
تنورتها من اذرعات وأهلها |
|
بيثرب : أدنى دارها نظر عالي |
(٤) هذا من أبيات لقس بن ساعدة الإيادي. ختم بها إحدى خطبه ، أولها : ـ
أي : مكان القوم منتقل ؛ وقال تعالى : (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ)(١) ، ولا بدّ في التامة أن يليها لفظة على ، وإلى ، ظاهرين أو مقدّرين ، لأن الرجوع والانتقال من الأمور النسبيّة ، لا يفهم من دون المنتقل عنه ، والمنتقل إليه ؛
وليس إلحاق مثل هذه الأفعال ، بصار ، قياسا ، بل سماع ، ألا ترى أن نحو ؛ انتقل ، لا يلحق به ، مع أنه بمعنى «تحوّل» ؛
وكذا ، زيد على (٢) «ما زال» ، من مرادفاتها : ما فتئ ، وما أفتأ ، وما انفكّ ، وما وني ، وما رام ، من رام يريم (٣) ، أي : برح ؛
وأصل ما زال ، وما برح ، وما فتىء وما فتأ (٤) ، وما انفك : أن تكون تامة بمعنى : ما انفصل ، فتتعدّى بمن إلى ما هو الآن مصدر خبرها ، فيقال في موضع ما زال زيد عالما : ما زال زيد من العلم ، أي : ما انفصل منه ، لكنها جعلت بمعنى : كان دائما ، فنصبت الخبر نصب «كان» ، وإنما جعلت بمعناه ، لأنه إذا لم ينفصل شخص عن فعل ، كان فاعلا له دائما ؛
وكذا أصل «برح» و «دام» ، أن يكونا تامّين ، بمعنى : زال عن مكانه ، فيتعدّيان بأنفسهما ، وبمن ، نحو : برحت بابك ومن بابك ، ورمت بابك ومن بابك ؛ وأصل «وني» : قصّر ، فكان الأصل أن يتعدّى بفي نحو : ما وني زيد في القيام ، فجعل الثلاثة بمعنى : كان دائما ، لأنه إذا كان لا ينفصل عن الفعل ، ولا يقصّر فيه ، يكون فاعلا له دائما ؛
__________________
في الذاهبين الأولين |
|
من القرون لنا بصائر |
والبيت المستشهد به آخرها ؛
(١) الآية ١٤ سورة الانشقاق ؛
(٢) تقدم أنه يريد الزيادة على ما ذكره ابن الحاجب في المتن ، وكثير مما ذكره مزيدا على ما زال : مكرر مع ما جاء في المتن. اللهم إلّا إذا كان هذا من اختلاف النسخ ؛
(٣) وأما ان كان من رام يروم فهو متعد بنفسه بمعنى قصد ؛
(٤) لم يذكر ما فتأ الثلاثي بين ما ذكره فيما زيد على ما زال. وذكره هنا في بيان أصلها.
وإنما أفاد دخول النفي على النفي (١) دوام الثبوت ، لأن نفي النفي إثبات ، وإذا قيّدت نفي الشيء بزمان ، وجب أن يعمّ ذلك النفي جميع ذلك الزمان ، بخلاف الإثبات ، فإنك إذا قيّدت إثبات الشيء بزمان ، لم يلزم استغراق الإثبات لذلك الزمان ؛ إذا قلت ، مثلا ، ضرب زيد ، كفى في صدق هذا القول : وقوع الضرب في جزء من أجزاء الزمن الماضي ؛
وأمّا قولك : ما ضرب ، فإنه يفيد استغراق نفي الضرب لجميع أجزاء الزمن الماضي ،
وذلك لأنهم أرادوا أن يكون النفي والإثبات المقيّدان بزمن واحد في طرفي نقيض ، فلو جعل النفي كالإثبات مقيّدا بوقوعه ، أي وقوع النفي في جزء غير معيّن من أجزاء الزمان المخصوص ، لم يكن يناقض ذلك الإثبات ، إذ يمكن كون الجزء الذي يقيّد الإثبات به غير الجزء الذي يقيّد النفي به ، فلا يتناقضان ، فاكتفي في الإثبات بوقوعه مطلقا ، ولو مرة ، وقصدوا في النفي الاستغراق ، إذ استمرار الفعل ، أصعب وأقلّ من استمرار الترك ، فصار نحو : ضرب ، وما ضرب ، كالموجبة الجزئية والسالبة الكلّية ، اللتين تناقض إحداهما الأخرى ؛
فتبيّن بهذا ، أن النهي يفيد التكرار ، على ما ذهب إليه أكثر الأصوليين ، فحصل من هذا كله ، أن نفي النفي يكون ، أيضا ، دائما ، ونفي النفي يلزم منه الإثبات ، فيلزم من نفي النفي إثبات دائم ، وهو المقصود ؛
ولا يجعل كلّ فعل مفيد للنفي ، داخل عليه النفي ، بمعنى : كان دائما ، بل ذلك موقوف على السماع ، فلا يقال : ما انفصل أو ما فارق ضاربا ، ولا يقال : ما زلت أميرا ، بضم الزاي ، ولا : ما أزول أميرا (٢) ؛
وما زال ، الناقص : واويّ ، مضارعه : ما يزال ، كخاف يخاف ، فأما زال ، يزول ، وقولك : زاله يزيله أي فرقه ، من الياء (٣) ، فتامّان ؛
__________________
(١) أي على النفي المستفاد من معاني هذه الأفعال ؛
(٢) مع أن في الفعل معنى النفي ؛
(٣) من الياء راجع إلى : راله يزيله ؛
وقد حكى سيبويه (١) وأبو الخطاب عن بعض العرب : ما زيل يفعل كذا ، وكيد يفعل كذا ، وأصلهما : زول وكود ، فنقلوا كسرة الواو فيهما إلى ما قبلها وقلبت ياء ، كما يفعل في المبني للمجهول في نحو : قيل ، وهو (٢) خلاف القياس ، والأكثر : ما زال ، وما كاد (٣) ؛
وقد يستعمل بعض هذه الأفعال المصدّرة بما ، للنفي : تامّا ، نحو : ما برح من موضعه ، قال تعالى : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ)(٤) ، و : ما ونى في أمره ، و : ما انفكّ من هذا الأمر ؛ وأمّا : ما زال ، أو : لا يزال ، وما فتئ ، أو : فتأ ، أو أفتأ ؛ فلا يستعملان (٥) إلا ناقصين ،
قال سيبويه : إن «به» في قولك : ما زلت به حتى فعل : مفعول به ، والأولى أن نقول هو الخبر ، أي : ما زلت معه ،
ونقص ابن مالك من أخوات أصبح : غدا ، وراح (٦) ، فقال : هما لا يكونان إلا تامّين ، وإن جاء بعد مرفوعهما منصوب فهو حال كقوله :
٧٠٨ ـ غدا طاويا يعارض الريح هافيا |
|
يخوت بأذناب الشعاب ويعسل (٧) |
__________________
(١) هذا في سيبويه ج ٢ ص ٣٦٠ وحقه أن يقول : وحكى سيبويه عن أبي الخطاب. لأن عبارة سيبويه : وحدّثنا أبو الخطاب .. الخ وأبو الخطاب هو الأخفش الأكبر شيخ سيبويه كما تقدم بيانه. وتكرر ذكره ؛
(٢) أي هذا النقل والإبدال بالنسبة للمبني للمعلوم ؛
(٣) ذكر «ما» مع كاد في التمثيل للأكثر. غير ضروري ولكن المراد : الأكثر من حيث كون الفعل واوي العين ؛
(٤) الآية ٨٠ سورة يوسف ؛
(٥) التثنية باعتبار أن المذكور نوعان من الأفعال هي : زال. وتصرفاتها. وفتئ وتصرفاتها ؛
(٦) ما نقله عن ابن مالك موجود في التسهيل. باب الأفعال الرافعة للاسم. الناصبة للخبر ؛
(٧) هذا البيت من قصيدة الشنفري المعروفة بلامية العرب. وهو من الجزء الذي يصف فيه الذئب الجائع حين يبحث عن قوته. وقبل ذلك شبه نفسه بهذا الذئب حيث يقول :
وأغدو على القوت الزهيد كما غدا |
|
أزل تهاداه التنائف أطحل |
وقوله يعارض الريح هافيا : أي سريعا. وقيل معناه : جائعا. يخوت. يصرخ. ويعسل من العسلان وهو مشى فيه اضطراب ؛ واشتهرت الذئاب بهذه المشية ؛ ومن هذه اللامية شواهد أخرى في هذا الشرح.
منها الشاهد الذي يأتي بعد قليل؟
أقول (١) : إذا كان «غدا» بمعنى مشى في الغداة ، كقوله تعالى : (أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ)(٢) ، وراح بمعنى رجع في الرواح وهو ما بعد الزوال إلى الليل ، نحو : راح إلى بيته ، فلا ريب في تمامهما ، وأمّا نحو قوله :
٧٠٩ ـ ولا خالف داريّة متغزل |
|
يروح ويغدو داهنا يتكحّل (٣) |
فإن كانا بمعنى يدخل في الرواح والغداة ، فهما أيضا تامّان ، والمنصوب بعدهما حال ؛ وإن كانا بمعنى يكون في الغداة والرواح فهما ناقصان ، فلا منع ، إذن ، من كونهما ناقصين ؛
ومن الملحقات : جاء ، في : ما جاءت حاجتك ، أي : ما كانت حاجتك ، و «ما» استفهامية ، وأنث الضمير الراجع إليه ، لكون الخبر عن ذلك الضمير مؤنثا ، كما في :
من كانت أمّك ؛ ويروى برفع حاجتك على أنها اسم «جاءت» و «ما» خبرها ؛ وأوّل من قال ذلك (٤) : الخوارج ، قالوه لابن عباس رضي الله عنهما حين جاء إليهم رسولا من عليّ رضي الله عنه ؛
ومنها «قعد» في قول الأعرابي : أرهف شفرته حتى قعدت كأنها حربة ، أي صارت ؛
قال الأندلسي : لا يتجاوز بهذين : أعني جاء ، وقعد ، الموضع الذي استعملتهما فيه العرب ، وطرده (٥) بعضهم ؛
__________________
(١) مناقشة لابن مالك في رأيه أن غدا وراح لا يكونان إلا تامّين ؛
(٢) الآية ٢٢ سورة القلم ؛
(٣) من لامية الشنفري التي منها الشاهد السابق. وهو من أبيات يصف فيها نفسه ، يقول : لست خالفا. والخالف الذي لا خير فيه من الرجال والداريّة : الملازم لداره لا يفارقها أو الملازم لامرأته. والداهن والمتكحل يريد بهما أنه ليس كالذي لا همّ له إلا التزين بالكحل والتطيب ؛
(٤) أي : ما جاءت حاجتك وفي سيبويه ج ١ ص ٢٥ : وزعم يونس أنه سمع رؤبة يقول : ما جاءت حاجتك فرفع ؛
(٥) أي جعله مطردا يقاس عليه ؛
وقال المصنف ، واجاد : الأولى طرد جاء ، في مثل : جاء البرّ قفيزين ، وقيل : هو حال ، وليس بشيء ، لأنه لا يراد أن البرّ جاء في حال كونه قفيزين ، ولا معنى له ، قال (١) : وأمّا «قعد» فلا يطرد ، وإن قلنا بالطرد فإنما يطرد في مثل هذا الموضع الذي استعمل فيه أوّلا ، يعني قول الأعرابي ؛ فلا يقال : قعد كاتبا ، بمعنى صار ، بل يقال : قعد كأنه سلطان ، لكونه مثل : قعدت كأنها حربة ؛
قوله : «تدخل على الجملة الاسمية لإعطاء الخبر حكم معناها» ، وذلك لما قدّمنا : أن مضمون الأفعال الناقصة صفة لمضمون خبرها ؛
قوله : «فترفع الأوّل وتنصب الثاني» ، تسمية مرفوعها اسما لها ، أولى من تسميته فاعلا لها ، إذ الفاعل ، كما ذكرنا ، في الحقيقة : مصدر الخبر مضافا إلى الاسم ، فكما لا يسمّى منصوبها المشبّه بالمفعول مفعولا : فالقياس ألّا يسمّى مرفوعها المشبه للفاعل فاعلا ، لكنهم سمّوه فاعلا على القلّة ولم يسمّوا المنصوب مفعولا ، لما مهّدوا (٢) من أن كل فعل لا بدّ له من فاعل وقد يستغني عن المفعول ؛
[تفصيل أحكام]
[الأفعال الناقصة]
[قال ابن الحاجب :]
«فكان ، تكون ناقصة لثبوت خبرها ماضيا ، دائما أو منقطعا»
«وبمعنى صار ، ويكون فيها ضمير الشأن ، وتكون تامّة»
«بمعنى ثبت ، وزائدة ؛ وصار ، للانتقال ، وأصبح وأمسى»
__________________
(١) أي المصنف ؛
(٢) أي وضعوا من القواعد والأصول التي تنفرع عنها الجزئيات ؛
«وأضحى لاقتران مضمون الجملة بأزمانها ، وبمعنى صار ،»
«وتكون تامّة ، وظل وبات لاقتران مضمون الجملة بوقتيهما ،»
«وبمعنى صار وما زال وما فتئ وما انفكّ لاستمرار خبرها»
«لفاعلها مذ قبله ، ويلزمها النفي ، وما دام لتوقيت أمر بمدة»
«ثبوت خبرها لفاعله ، ومن ثم احتاج إلى كلام لأنه ظرف ،
«وليس ، لنفي مضمون الجملة حالا ، وقيل مطلقا» ؛
[قال الرضي :]
شرع يذكر معاني هذه الأفعال الناقصة ، ويذكر ، أيضا ، مجيء بعضها تامّا أو زائدا ؛
قال : فكان ، تكون ناقصة بمعنيين : أحدهما ثبوت خبرها مقرونا بالزمان الذي تدل عليه صيغة الفعل الناقص ، إمّا ماضيا ، أو حالا ، أو استقبالا ، فكان ، للماضي ، ويكون للحال أو للاستقبال ، وذهب بعضهم إلى أن «كان» يدل على استمرار مضمون الخبر في جميع الزمن الماضي ، وشبهته قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً)(١) ، وذهل عن أن الاستمرار مستفاد من قرينة وجوب كون الله سميعا بصيرا ، لا من لفظ «كان» ، ألا ترى أنه يجوز : كان زيد نائما نصف ساعة فاستيقظ ، وإذا قلت : كان زيد ضاربا لم يفد الاستمرار ، وقول المصنف : دائما أو منقطعا : ردّ على هذا القائل ، يعني أنه يجيء دائما ، كما في الآية ، ومنقطعا كما في قولك : كان زيد قائما ، ولم يدلّ لفظ «كان» على أحد الأمرين ، بل ذاك إلى القرينة ؛
والمعنى الثاني : أن يكون بمعنى «صار» ، وهو قليل بالنسبة إلى المعنى الأول ، قال :
٧١٠ ـ بتيهاء قفر والمطيّ كأنها |
|
قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها (٢) |
__________________
(١) في الآية ١٣٤ سورة النساء ، والأمثلة على هذا كثيرة في القرآن الكريم ؛
(٢) قال البغدادي : انه من أبيات لابن أحمر. شاعر إسلامي مخضرم. وقبله :
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة |
|
صحيح السّرى والعيس تجري غروضها |
قوله : «ويكون فيها ضمير الشأن» أي يكون في «كان» الناقصة على أيّ معنى كانت من معنييها : ضمير الشأن مقدّرا ، فيرتفع المبتدأ والخبر بعدها ، منصوبة (١) المحل ، خبرا لكان ؛
وقال بعضهم : كان ، المضمر فيها الشأن تامة ، فاعلها ذلك الضمير ، أي : وقعت القصة ، ثم فسّرت القصة بالجملة ، والأوّل أولى ، لأنه لم يثبت في كلام العرب ضمير شأن إلا مبتدأ في الحال ، نحو : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)(٢) ، أو في الأصل كاسم «إنّ» ، وأوّل مفعولي ظننت ، نحو : انه زيد قائم ، وظننته : زيد قائم ؛
وتكون تامة بمعنى «ثبت» وقد تقدّم (٣) ما يرشدك إلى أن الناقصة ، أيضا ، تامّة في المعنى ، وفاعلها مصدر الخبر مضافا إلى الاسم ، فوزانهما وزان (٤) «علم» الناصبة لمفعول واحد ، وعلم ، الناصبة لمفعولين ، فهما بمعنى واحد ،
ونقل أن «كان» تجيء بمعنى : كفل ، وغزل (٥) ؛
قوله : «وزائدة» ، اعلم أن «كان» تزاد غير مفيدة لشيء ، إلا محض التأكيد ، وهذا معنى زيادة الكلمة في كلام العرب ؛ كقوله (٦) :
٧١١ ـ سراة بني أبي بكر تسامى |
|
على ، كان ، المسوّمة العراب (٧) |
__________________
= صحيح السرى ، أي غير جائر عن القصد ، وتشبيه الابل بالقطا التي تركت فراخها وهي خارجة من البيض. يراد به السرعة الزائدة ؛
(١) هكذا جاءت هذه الكلمة والمراد بها أن المبتدأ والخبر معا بعد كان : يصيران جملة منصوبة المحل ؛
(٢) أول آية في سورة الاخلاص ؛
(٣) في أول الباب ؛
(٤) أي تقديرها كتقدير علم ؛
(٥) في القاموس : يقال كان اليتيم كيانة أي كفله. وكان الغزل ، أي غزله ،
(٦) تمثيل لزيادة كان ، لا لمطلق الزيادة ؛
(٧) سراة : جمع سريّ وهو الكريم ، وتسامى أي تتسامى أي تتبارى. وقال البغدادي بعد أن شرح البيت : وهذا البيت مع شهرته وتداوله ، لم أقف له على خبر ؛
وكذا قيل في قوله تعالى : (مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا)(١) : انها زائدة ، غير مفيدة للماضي ، وإلّا ، فأين المعجزة (٢) ، و «صبيّا» على هذا ، حال ، وكذا قولهم : ولدت فاطمة بنت الخرشب (٣) : الكملة من عبس ، لم يوجد ، كان ، مثلهم ؛ وكذا قول الفرزدق :
٧١٢ ـ في لجة غمرت أباك بحورها |
|
في الجاهلية كان والإسلام (٤) |
وأمّا إذا دلّت «كان» على الزمان الماضي ولم تعمل ، نحو : ما كان أحسن زيدا ، وكذا قولهم : انّ من أفضلهم كان ، زيدا ؛ فهي زائدة عند سيبويه (٥) ؛
وقال المبرد : ان «زيدا» اسم إن ، وكان خبرها ، ومن أفضلهم ، خبر كان ، وردّ بأن خبر «إنّ» لا يتقدم على اسمها ، إلا إذا كان ظرفا ؛ ففي تسميتها زائدة ، نظر (٦).
لما ذكرنا : أن الزائد من الكلم عندهم ، لا يفيد إلا محض التأكيد فالأولى أن يقال : سميت زائدة مجازا ، لعدم عملها ، وإنما جاز ألّا تعملها مع أنها غير زائدة ، لأنها كانت تعمل ، لدلالتها على الحدث المطلق ، الذي كان الحدث المقيّد في الخبر يغني عنه ، لا لدلالتها على زمن ماض ، لأن الفعل إنما يطلب الفاعل والمفعول لما يدل عليه من الحدث ، لا للزمان ، فجاز لك أن تجرّدها في بعض المواضع عن ذلك الحدث المطلق ، لإغناء الخبر عنه فإذا جرّدتها لم يبق إلّا الزمان ، وهو لا يطلب مرفوعا ولا منصوبا ، فبقي (٧) كالظرف
__________________
(١) الآية ٢٩ سورة مريم.
(٢) يعني أن اعتبار كان مفيدة لمعنى الماضي أي غير زائدة تضيع معه المعجزة ، لأنه لو لم تكن زائدة لكان المعنى أنّه كلمهم بعد انقضاء فترة الطفولة ؛
(٣) الكملة : جمع كامل. وهو صفة أولاد فاطمة المذكورة. وقد اشتهروا بذلك ؛
(٤) من قصيدة للفرزدق في هجاء جرير وقبله :
وحسبت بحر بني كليب مصدرا |
|
فغرقت حين وقعت في القمقام |
ويروى : وحسبت حبل .. أي ظننت أن ارتباطك بهم ينجيك من هجائي ؛
(٥) نقل ذلك سيبويه عن الخليل في الجزء الأول ص ٢٨٩ ؛
(٦) مبتدأ خبره قوله في تسميتها زائدة. وهذا راجع إلى ما تقدم من القول بزيادتها في مثل ما ذكر ؛
(٧) الحديث عن كان ، وهو قد تحدث عنها من قبل بأسلوب التأنيث ثم قال فبقي ، أي لفظ كان وقد أشرنا من قبل كثيرا إلى أن تذكير الألفاظ وتأنيثها جائز في ذاته باعتبارها ألفاظا أو كلمات ، ولكن الرضي كثيرا ـ
دالّا على الزمان فقط ، فلذا جاز وقوعه موقعا لا يقع فيه غيره ، حتى الظرف ، تبيينا لإلحاقه بالظروف التي يتّسع فيها ، فيقع بين «ما» التعجب (١) ، وفعله ، وبين الجار والمجرور ، نحو : على كان المسوّمة (٢) ؛
فثبت أن «كان» المفيدة للماضي ، التي لا تعمل ، مجردة عن الحدث المطلق ؛
وقد ذكر السيرافي (٣) : أن فاعلها : مصدرها ، أي : كان الكون ، وهو هوس (٤) ، إذ لا معنى لقولك : ثبت الثبوت ؛
وقوله (٥) :
٧١٣ ـ لعلك والموعود حقّ لقاؤه |
|
بدا لك من تلك القلوص بداء (٦) |
معناه : رأى باد ، المصدر بمعنى اسم الفاعل ؛
ومذهب أبي علي (٧) ، أنه لا فاعل لها ، على ما اخترنا ، فعلى هذا ، قول الفرزدق :
٧١٤ ـ فكيف إذا مررت بدار قوم |
|
وجيران لنا كانوا كرام (٨) |
__________________
= ما يجمع بين الحالتين في عبارة واحدة ، مثل ما هنا ؛
(١) كلمة «ما» مضاف. والتعجب مضاف إليه أي بعد ما الدالة على التعجب ، ومثل هذا كثير في كلامه ؛
(٢) في الشاهد السابق ؛
(٣) شارح كتاب سيبويه ، وتكرر ذكره ؛
(٤) الهوس نوع من الجنون ، وهذا نقد لاذع من الرضي ، رحمه الله ؛
(٥) هذا مبتدأ ، خبره قول الشارح : معناه بار .. الخ ؛
(٦) بيّن الشارح وجه الاستشهاد بالبيت وهو من أبيات لمحمد بن بشير الخارجي ، كان رجل قد وعده بقلوص ثم مطله ، فقال هذه الأبيات ، يقول فيها :
فإن الذي ألقى إذا قال قائل |
|
من الناس : هل أحسستها ، لعناء |
وقوله هل أحسستها أي وجدت حسّها أي هل وصلت إليك ، يقول انه يلقي عناء إذا سأله أحد عن وصول القلوص إليه ؛
(٧) أي الفارسي وتكرر ذكره ؛
(٨) من قصيدة للفرزدق في هجاء جرير ، ووجه الشاهد فيه بيّنه الشارح ؛
«كانوا» فيه ، ليست بزائدة ، كما ذهب إليه المبرّد ؛ وإنما قال ذلك لثبوت فاعلها ، و «لنا» خبرها ، أي : جيران كرام كانوا لنا ؛
وقال سيبويه (١) : هي زائدة مع الفاعل ، لأنه كالجزء منها ؛ والأوّل أولى ، لإفادتها ، معنى ، وعملها لفظا ،
ثم اعلم أن الزائدة ، والمجرّدة للزمان ، أعني غير العاملة ، لا تقعان أوّلا ؛ لأن البداية تكون باللوازم والأصول ، والمجرّدة للزمان كالزائدة ، فلا يليق بهما الصدر ، وتقعان في الحشو كثيرا ، وفي الأخير ، على رأي ، نحو قولك : حضر الخطيب ، كان ، ولا تزاد ، ولا تجرّد إلا ماضية ، لخفتها ، وقد أجاز أبو البقاء (٢) : زيادة مضارع «كان» في قول حسان :
٧١٥ ـ كأن سبيئة من بيت رأس |
|
يكون مزاجها عسل وماء (٣) |
على رواية رفع مزاجها ، وعسل وماء (٤) ؛
قوله : «وصار للانتقال» ؛ هذا معناها إذا كانت تامة ، كما تقدم ، ومعناها إذا كانت ناقصة : كان بعد أن لم يكن ، فتفيد ثبوت مضمون خبرها ، بعد أن لم يثبت ، ومعنى يصير : يكون بعد أن لم يكن ؛
قوله : «وأصبح وأمسى وأضحى ، لاقتران مضمون الجملة بأزمانها» ، هذه الثلاثة تكون ناقصة ، وتامة ، والناقصة بمعنيين : إمّا بمعنى «صار» مطلقا ، من غير اعتبار الأزمنة
__________________
(١) سيبويه ج ١ ص ٢٨٩ ؛
(٢) أبو البقاء : عبد الله بن الحسين الضرير. العكبري. صاحب الكلّيات وشارح ديوان المتنبي ، من أبرز العلماء توفي سنة ٦١٦ ه ؛
(٣) من قصيدة طويلة لحسان بن ثابت. مما قاله في الإسلام دفاعا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم والبيت من مقدمتها الغزلية وفيها وصف الخمر. على عادتهم ، وبعده ، وفيه خبر كأن :
على أنيابها أو طعم غضّ |
|
من التفاح هصّره اجتناء |
(٤) وروى برفع عسل وماء ونصب «مزاجها» على أنه خبر يكون فلا ضمير شأن في الكلام.
التي يدل عليها تركيب الفعل ، أعني الصباح ، والمساء ، والضحى ، بل باعتبار الزمن الذي تدل عليه صيغة الفعل ، أعني الماضي والحال والاستقبال ؛
وإمّا (١) بمعنى : كان في الصبح ، وكان في المساء ، وكان في الضحى ، فيقترن ، في هذا المعنى الأخير ، مضمون الجملة أعني مصدر الخبر مضافا إلى الاسم ، بزمان الفعل ، أعني الذي يدل عليه تركيبه والذي تدل عليه صيغته ،.
فمعنى أصبح زيد أميرا : أن إمارة زيد مقترنة بالصبح في الزمان الماضي ، ومعنى يصبح قائما : أن قيامه مقترن بالصبح في الحال أو في الاستقبال ؛
وتكون تامة ، كقولك : أصبحنا والحمد لله ، وأمسينا والملك لله ، أي : وصلنا إلى الصبح والمساء ودخلنا فيهما ، وكذلك : أضحينا ، فيدل ، أيضا ، كلّ منها على الزمانين ؛
وحكى الأخفش زيادة «أصبح» و : «أمسى» ، بعد «ما» التعجب ، ككان ، في لفظين ، وهما : ما أصبح أبردها ، وما أمسى أدفأها ؛ وردّه أبو عمرو. وقال السيرافي :
أنه ليس في كتاب سيبويه ، وإنما كان حاشية في كتابه ؛
أقول : لو ثبت ما حكى الأخفش ، لكان كل منهما مجردا عن الحدث للزمانين ، أي الصبح والمساء ، والزمن الماضي ، كما كان لفظ «كان» مجردا للماضي ؛
قوله : «وظلّ وبات .. إلى آخره» ، يعني أن معنى ظلّ زيد متفكرا : كان في جميع النهار كذلك ، فاقترن مضمون الجملة ، وهو تفكّر زيد ، بجميع النهار مستغرقا له ، ويقترن ، أيضا ، بزمانه الآخر المدلول عليه بالصيغة أي : الماضي ، أو الحال ، أو الاستقبال ؛ وتصريفه : ظلّ يظلّ ظلولا ،
قالوا : ولم تستعمل «ظلّ» إلا تامة ؛ وقال ابن مالك : تكون تامة بمعنى طال ، أو دام ، والعهدة عليه (٢) ؛
__________________
(١) مقابل قوله : أما بمعنى صار بعد قوله والناقصة بمعنيين ؛
(٢) أورده ابن مالك في التسهيل في هذا الباب ؛
وقولك : بات زيد مهموما ، أي كان في جميع الليل كذلك ، فاقترن همّ زيد ، بزماني «بات» ، وهما : جميع الليل والزمن الماضي ؛ ومصدره : البيتوتة ، ومضارعه : يبيت ، ويبات كباع يبيع ، وهاب يهاب ؛
وتجيء تامة بمعنى : أقام ليلا ، ونزل ، سواء نام أو لم ينم ، وفي كلامهم : ليلة السبت ، سر ، وبت ؛ وقد جاءت «ظلّ» ناقصة بمعنى «صار» مجردة من الزمان المدلول عليه بتركيبها ، قال تعالى : (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا)(١).
وأمّا مجيء «بات» بمعنى صار ، ففيه نظر ؛ قال الأندلسي (٢) : جاء في الحديث بات بمعنى صار ، وهو : أين باتت يده (٣) ، قال (٤) : لأن النوم قد يكون بالنهار ، قال : ويحتمل أن يقال : انها أخرجت في هذا الخبر مخرج الغالب ، لأنّ غالب النوم بالليل ؛
قوله : «وما زال .. إلى آخره» ، قد ذكرنا أن معنى ما زال وأخواته : كان دائما ، فقولك ما زال زيد أميرا ، أي استمرت الإمارة ودامت لزيد مذ قبلها واستأهل لها ، وهو (٥) وقت البلوغ الذي يمكن قيامه بها فيه ، لا قبل ذلك ،
قوله : «ويلزمها النفي» ، إن كانت ماضية (٦) فبما ، ولم ، وبلا في الدعاء ، وإن كانت مضارعة فبما ولا ولن ؛
والأولى ألّا يفصل بين لا ، وما ، وبينها بظرف أو شبهه ، وإن جاز ذلك في غير هذه الأفعال ، نحو : لا اليوم جئتني ولا أمس ، وذلك لتركّب حرف النفي معها لإفادة الثبوت ؛
وقوله :
__________________
(١) الآية ٥٨ سورة النحل ؛
(٢) تكرر ذكره ؛
(٣) ورد هذا في الأمر بغسل اليد قبل الوضوء عند القيام من النوم. وهو : فانه لا يدري أحدكم أين باتت يده ؛
(٤) أي الأندلسي ؛
(٥) أي وقت قبوله لها واستحقاله لها ؛
(٦) أي ماضية ولو معنى كالمضارع المنفي بلم أو لمّا ، ولا يكون المضارع ماضيا في المعنى إلا بعدهما
٧١٦ ـ فلا ، وأبى دهماء ، زالت عزيزة |
|
على قومها ما فتّل الزند قادح (١) |
شاذ ؛ وليس مما حذف فيه حرف النفي كما في قوله تعالى : (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ)(٢) بتأويل : لا وأبي دهماء ، لا زالت ؛ لأن (٣) حذفهما (٤) لم يسمع إلا من مضارعاتها ، وإنما جاز حذفها لعدم اللبس ، إذ تقرّر أنها لا تكون ناقصة إلا معها ، قال :
٧١٧ ـ تنفكّ تسمع ما حييت |
|
بها لك حتّى تكونه (٥) |
وتحذف منها كثيرا في جواب القسم كقوله تعالى تالله تفتأ تذكر ، وقوله :
٧١٨ ـ تزال حبال مبرمات أعدها |
|
لها ما مشى يوما على خفّه جمل (٦) |
لأن حذف حرف النفي في جواب القسم ثابت في غير هذه الأفعال أيضا ، نحو : والله أقوم ، أي : لا أقوم ، فكيف بها (٧) ؛
__________________
(١) روي : لعمر أبي دهماء ـ فليس فيه فصل ، وإنما فيه حذف حرف النفي قبل زال وسيأتي أن ذلك خاص بالمضارع ، وقال البغدادي : لم أقف على قائل هذا البيت ولا تكملته ، يريد ما يتصل به من شعر قبله أو بعده.
(٢) الآية ٨٥ سورة يوسف ؛
(٣) تعليل لقوله : وليس مما حذف فيه حرف النفي ؛
(٤) أي حرف النفي ، وأراد «لا» بتأويل أنها كلمة ؛
(٥) هذا ثاني بيتين ، نسبهما أبو عبيد : القاسم بن سلام لشاعر اسمه بحليفة بن براز وهو شاعر جاهلي ، وكان سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يتمثل بهما ، والبيت الثاني هو :
والمرء قد يرجو الحياة |
|
مؤملا والموت دونه |
(٦) كان شاعر اسمه سالم بن قحفان. كريما. جاءه أحد أقاربه فأعطاه بعيرا وقال لامرأته هاتي حبلا يقرن به ما أعطيته ففعلت ، وتكرر هذا الأمر حتى قالت له : ما بقي عندي حبل ، فقال لها : عليّ الجمال وعليك الحبال ثم قال أبياتا. منها :
فلا تعذليني في العطاء ويسري |
|
لكل بعير جاء طالبه حبلا |
فألقت إليه بخمارها. وقالت : اجعله حبلا ثم قالت :
حلفت يمينا يا ابن قحفان بالذي |
|
تكفل بالأرزاق في السهل والجبل |
ترال حبال ، أي لا تزال ، وبهذا يتحقق شرط تقدم القسم ، وهو قولها حلفت يمينا ..
(٧) الباء في مثل هذا زائدة ، أي فكيف هي أي هذه الأفعال ، لأن ملازمة النفي لها في الاستعمال يكون قرينة عند حدفه ؛
ولكون ما زال ، وأخواتها بمعنى الإيجاب من حيث المعنى ، لا تتصل أداة الاستثناء بخبرها ، لأن الاستثناء المفرغ لا يكون في الموجب إلا في الفضلات ، كما مرّ في بابه ، وخبر (١) المبتدأ ليس بفضلة ، فلا يجوز : ما زال زيد إلا عالما ، لاستحالة استمرار زيد على جميع الصفات إلا العلم ؛
وأمّا خبر ليس ، وأخبار كان ، وصار ، وأخواتهما ، إذا كانت منفية فيجوز اقترانها بإلّا ، إذا قصدت الإثبات ؛
وقد يمتنع ذلك فيها ، أيضا ، وذلك إذا تقدمت أخبارها عليها ، فلا يجوز : إلّا قائما لم يكن زيد ، وإلّا غنيا لم يصر خالد ، لامتناع تصدر «الّا» ، كما مرّ في بابه (٢) ؛ وقد خطّئ ذو الرمة في قوله :
٧١٩ ـ حراجيج ما تنفك إلا مناخة |
|
على الخسف أو ترمي بها بلدا قفرا (٣) |
واعتذر بأن «تنفك» تامة ، أي : ما تفارق وطنها ، ومناخة : حال ، وعلى الخسف ، متعلق بمناخة ، جعل الخسف كالأرض التي تناخ عليها كقوله :
٧٢٠ ـ وخيل قد دلفت لها بخيل |
|
تحية بينهم ضرب وجيع (٤) |
وترمي ، عطف على مناخة ، نحو قوله تعالى : (صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ)(٥) ؛ وقيل : هي ناقصة ، خبرها على الخسف ، أي معه ، ومناخة حال ، وفيه ضعف من وجهين ، إن كان
__________________
(١) الذي هو خبر هذه الأفعال ؛
(٢) أي باب الاستثناء ، في الجزء الثاني ؛
(٣) من قصيدة لذي الرمة مطلعها :
لقد حشأت نفسي عشية مشرف |
|
ويوم لوى حزوى فقلت لها صبرا |
وحراجيج : جمع حرجوج وهي الناقة الطويلة على وجه الأرض ، وقيل هي الضامر ؛
(٤) من قصيدة لعمرو بن معد يكرب الزبيدي أولها :
أمن ريحانة الداعي السميع |
|
يؤرّقني وأصحابي هجوع |
وتقدم هذا المطلع شاهدا في صيغ المبالغة ، في الجزء الثالث من هذا الشرح ؛
(٥) الآية ١٩ سورة الملك ؛ والتشبيه في عطف الفعل على الاسم الذي بمعناه ؛
العامل في الحال ما تنفكّ ، أحدهما : أن المفرّغ قلّما يأتي في المثبت وإن كان المستثنى فضلة ، كالحال في مثالنا ، والثاني أن العامل قبل «إلّا» لا يعمل ، عند البصريين ، فيما بعد المستثنى الّا في تابعه أو في المستثنى منه ، كما مرّ في بابه (١) ؛
وإن كان العامل في الحال «على الخسف» ، ففيه ضعف من ثلاثة أوجه : أحدها أن المفرغ قلّما يأتي في المثبت ، والثاني أن عامل الحال يكون الظرف المتأخر عنه ، ولم يجزه سيبويه ، خلافا للأخفش ، والثالث أن المستثنى ، إذن ، يكون مقدّما في الاستثناء المفرغ على عامله ولا يجوز ذلك عند البصريين ، كما تقدم في باب الاستثناء.
قوله : «وما دام لتوقيت أمر .. إلى آخره» ، أي لتوقيت فعل بمدة ثبوت مصدر خبرها لفاعل ذلك المصدر ، فأنت في قولك : اجلس ما دام زيد قائما أبوه ، مؤقت لجلوس المخاطب بمدة ثبوت قيام أبي زيد ، وكذا إن كان فاعل الخبر ضمير اسم دام ، نحو : اجلس ما دام عمرو قائما ؛
قوله : «ومن ثمّ احتاج ..» ، أي : ومن أجل كونه توقيتا لشيء ، يكون ظرفا لذلك الشيء والظرف فضلة فلا بدّ من تقدم جملة ، اسمية ، كانت أو فعلية ، لفظا أو تقديرا ، كغيره من الفضلات ، و «ما» التي في أول «ما دام» مصدرية ، والمضاف الذي هو الزمان محذوف ، أي مدة دوام قيام زيد ؛
قوله : «وليس لنفي مضمون الجملة» قال سيبويه ، وتبعه ابن السّراج : ليس ، للنفي مطلقا ، تقول : ليس خلق الله مثله (٢) في الماضي ، وقال تعالى : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ)(٣) ، في المستقبل ؛
وجمهور النحاة على أنها لنفي الحال ؛ قال الأندلسيّ ، وأحسن (٤) ؛ ليس بين القولين
__________________
(١) شرح الرضي بإسهاب هذا في باب الفاعل في الجزء الأول. وذكره في باب الاستثناء في الجزء الثاني.
(٢) بمعنى : ما خلق الله مثله. فلفظ خلق بصيغة الماضي ؛ والمثال في سيبويه ج ١ ص ٣٥.
(٣) الآية ٩ سورة هود ؛
(٤) جملة معترضة ، قصد بها التعجيل بتزكية رأي الأندلسي ،
تناقض ، لأن خبر ليس ، إن لم يقيّد بزمان ، يحمل على الحال ، كما يحمل الإيجاب عليه في نحو : زيد قائم ، وإذا قيّد بزمان من الأزمنة فهو على ما قيّد به ؛ هذا قوله (١) ؛
وحكم «ما» كحكم «ليس» ، في كونها عند الإطلاق لنفي الحال ، وعند التقييد ، على ما قيّدت به ، وقد ذكرنا حكم «لا» في باب المضارع (٢) ؛
وأصل ليس : ليس ، كهيب ، كما يقال في علم : علم (٣) ، وإلزامهم تخفيفها بالإسكان ، وتركهم قلب يائها ألفا ، كما هو القياس في : هاب ، الماضي ، لمخالفتها أخواتها في عدم التصرف ، ولا يجوز أن يكون مفتوح الياء إذ الفتحة لا تحذف في العين تخفيفا ؛
وسيبويه والأكثرون على أنه فعل غير متصرّف ، وقال أبو علي في أحد قوليه : انه حرف ، إذ لو كان مخفف «فعل» كصيد في صيد ، لعادت حركة العين على الياء ، عند اتصال الضمير ، كصيدت ، ولو كان كهاب لكسرت الفاء ، كهبت ؛
والجواب : أن ذلك لمفارقته أخواته في عدم التصرّف ؛
قال أبو علي : وأمّا إلحاق الضمير به في : لست ولستما ولستم ، فلتشبيهه بالفعل ، لكونه على ثلاثة ، وبمعنى «ما» وكونه رافعا فناصبا ، كما ألحق الضمير في : هاء ؛ هائيا ، هاؤوا ، هائي ، هائيا ، هائين ، مع كونه اسم فعل ، تشبيها بالفعل ،
والأولى الحكم بفعليته ، لدلالة اتصال الضمائر به عليها ، وهي لا تتصل بغير صريح الفعل إلا نادرا ، كما ذكرنا في هاء (٤) ،
__________________
(١) أي قول الأندلسي ؛
(٢) في أول هذا الجزء ؛
(٣) أي فأكتفي في ليس بهذا التخفيف ، وبه يزول سبب قلب الياء ألفا. لأنها أصبحت ساكنة وإن كان ما قبلها مفتوحا ؛
(٤) في باب أسماء الأفعال ، في الجزء الثالث ؛
[تقديم الخبر على الاسم]
[وعلى الفعل الناقص]
[قال ابن الحاجب :]
«ويجوز تقديم أخبارها كلّها على أسمائها ، وهي في تقديمها»
«عليها على ثلاثة أقسام ، قسم يجوز ، وهو من : كان ، إلى»
«راح ، وقسم لا يجوز ، وهو ما في أوله «ما» ، خلافا لابن»
«كيسان في غير ما دام ، وقسم مختلف فيه وهو ليس.» ؛
[قال الرضي :]
ذكر ابن معط (١) : أن خبر ما دام لا يتوسط بينه وبين الاسم ، وهو غلط لم يذكره غيره ، وقد ذكرنا ذلك في باب الموصولات ؛
قوله : «من كان إلى راح» ، كل ما ليس في أوله «ما» مما ذكره المصنف ، وممّا لم يذكره ، من الأفعال الناقصة ، يجوز تقديم أخبارها عليها ، وفي «ليس» خلاف ، على ما يجيء ، وأمّا «ما دام» فلا خلاف في امتناع تقديم خبرها عليها كما ذكرنا في الموصولات ، وكذا لا يجوز فصل «ما» عن الفعل بالخبر ، كما مرّ هناك ؛ وأمّا غير «ما دام» مما في أوله «ما» من هذه الأفعال ، فأجاز الكوفيون غير الفراء ، ووافقهم ابن كيسان : تقديم خبرها عليها ، قالوا : لأن «ما» لزمت هذه الأفعال الناقصة وصارت معها بمعنى الإثبات ، فهي كجزئها ، بخلاف نحو : ما فارق ، وما انفصل ، فإنها لم تلزمها ، بل جاز حذفها لفظا ومعنى ، والفصل بينها وبين الفعل ولم يجز ذلك في هذه الأفعال ؛
__________________
(١) أبو الحسن : يحيى بن عبد المعطي ، من المغرب ، رحل إلى الشام وقدم إلى مصر وانتفع الناس بعلمه وبمؤلفاته ، ومنها الألفية التي أشار إليها ابن مالك في ألفيته ؛