شرح الرضيّ على الكافية

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


المحقق: يوسف حسن عمر
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات مؤسّسة الصادق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٢

وقد يجري نحو : علم الله ، مجرى القسم ، فيجاب بجوابه ، فتجيء بعده «إنّ» المكسورة ، نحو : علم الله إنك قائم ، أي : والله .. ؛

والفعل المعلّق ، قد يدخل على الجملة الفعلية ، نحو : علمت بمن تمرّ ، وعلمت أيّهم ضربت ، بنصب «أيّهم» على أنه مفعول ضربت ، وعلمت أيّ يوم سرت ، وعلمت أقمت أم قعدت ؛

وإعراب الجملة المعلّق عنها كاعرابها إذا لم يتقدم عليها فعل القلب ، فيجوز في : علمت أيّ يوم : الجمعة ، رفع «أيّ» على أنه خبر مقدم على المبتدأ ، أي : أي يوم يوم الجمعة ، ونصبه على أن الجمعة بمعنى الاجتماع ، فيكون كعلمت أيّ يوم الخروج ، قال :

٧٠١ ـ لقد علمت أيّ يوم عقبتي (١)

والمنصوب ، أيضا ، خبر ، لكنه ظرف ؛

وإذا صدّر المفعول الثاني بكلمة الاستفهام ، فالأولى أن لا يتعلّق فعل القلب عن المفعول الأول ، نحو : علمت زيدا من هو ، وعلمت بكرا أبو من هو ، وجوّز بعضهم تعليقه عن المفعولين ، لأن معنى الاستفهام يعمّ الجملة التي بعد «علمت» ، كأنه قيل : علمت أبو من زيد ،

وليس بقويّ ، لا تفاقهم على النصب في نحو : علمت زيدا ما هو قائما مع أن المعنى : علمت ما زيد قائما ،

وأمّا قولهم : أرأيت زيدا ما صنع ، بمعنى أخبرني ، فليس من هذا الباب ، حتى يجوز الرفع في «زيد» ، بل النصب فيه واجب ؛ ومعنى أرأيت : أخبر ، وهو منقول من

__________________

(١) أورده سيبويه في ج ١ ص ١٢٢ بصورة لا تدل على أنه شعر. ولهذا لم يكتب عليه شراح شواهده ومنهم الأعلم. وقال البغدادي في خزانة الأدب إن أبا جعفر النحاس أورده مع أبيات من الرجز منها :

أأنت يا بسيطة التي التي

هيّبنيك في المقيل صحبتي

وقال ان البسيطة أرض بالعراق ، وهيّبنيك ، أي خوّفني منك أصحابي ؛

١٦١

رأيت بمعنى أبصرت أو عرفت ، كأنه قيل : أأبصرته وشاهدت حاله العجيبة ، أو : أعرفتها : أخبرني عنها ، فلا يستعمل إلا في الاستخبار عن حالة عجيبة لشيء ؛

وقد يؤتى بعده بالمنصوب الذي كان مفعولا به لرأيت نحو : أرأيت زيدا ما صنع ، وقد يحذف ، نحو : (أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ)(١) ، الآية ، و «كم» (٢) ليس بمفعول كما يجيء ، بل هو حرف خطاب ؛

ولا بدّ ، سواء أتيت بذلك المنصوب أو لم تأت به ، من استفهام ظاهر أو مقدر ، يبيّن الحال المستخبر عنها ، فالظاهر نحو : أرأيت زيدا ما صنع ، و : (أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً ، هَلْ يُهْلَكُ)(٣) و : (أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا)(٤) ، والمقدر نحو قوله تعالى : «أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ، لَئِنْ أَخَّرْتَنِ (٥) ..» أي أرأيتك هذا المكرّم ، لم كرّمته ؛ وقوله تعالى : (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ) كلام مستأنف ؛

وقد تكون الجملة المتضمنة للاستفهام جوابا للشرط ؛ كقوله تعالى : (أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ ...) الآية ، وقوله : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى ، عَبْداً إِذا صَلَّى)(٦) ، إلى قوله : (أَلَمْ يَعْلَمْ) ، وقوله : (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ) ، كرر «أرأيت» للتوكيد ، ولا محل للجملة المتضمنة لمعنى الاستفهام ، لأنها مستأنفة لبيان الحال المستخبر عنها ، كأنه قال المخاطب لمّا قلت أرأيت زيدا : عن أيّ شيء من حاله تسأل؟ فقلت : ما صنع ، فهو بمنزلة قولك : أخبرني عنه ما صنع ، وليست الجملة المذكورة مفعولا ثانيا لرأيت ، كما ظنّ بعضهم ؛

__________________

(١) الآية ٤٠ في سورة الأنعام. وهي أيضا أول الآية ٤٧ من السورة نفسها وستأتي ؛

(٢) المراد الضمير المتصل بالفعل أرأيت. والذي قال عنه انه حرف خطاب وسيأتي مثل هذا الصنيع منه في بعض أمثلة أخرى ؛

(٣) الآية ٤٧ من سورة الأنعام التي تقدمت الإشارة إليها وهي تتفق مع الآية ٤٠ في صدر كل منهما ؛

(٤) الآية ٤ سورة الأحقاف ؛

(٥) الآية ٦٢ سورة الإسراء ؛

(٦) الآيات من ٩ إلى ١٤ سورة العلق ؛

١٦٢

وتلحق الكاف الحرفية بأرأيت الذي بمعنى أخبر ، لأنه لمّا صار بمعنى أخبر ، كان كاسم الفعل المنقول إلى الفعلية (١) عن شيء آخر ، نحو : النجاءك فاستغنى بتصريف الكاف تثنية وجمعا وتأنيثا عن تصريف تاء الخطاب ، فبقيت التاء في الأحوال مفردة مفتوحة ، سواء كان المخاطب مذكرا ، أو مؤنثا ، مفردا ، أو مثنى ، أو مجموعا ؛ وفاعل : أرأيتك : التاء ، لا «أنت» المقدر في نحو : رويدك ، لأن مفعوله بقي منصوبا على حاله مع صيرورته بمعنى أخبرني ، نحو : أرأيتك زيدا ما صنع ، فلا منع من بقاء فاعله أيضا ؛

وقال الفراء : بل أزيل الإسناد عن التاء إلى الكاف ، وهو مثل رويدك ، والنجاءك ، كما مضى في أسماء الأفعال (٢) ، أعني أن الكاف مرفوع المحل ؛

فإذا أردت برأيت ، فعل القلب ، فالكاف الملحق به : اسم يتصرّف بتصرّف المفعول الثاني ، وكذا التاء : يتصرف بتصرفهما ، نحو : أرأيتك زيدا ، و : أرأيتما كما الزيدين ، و : أرأيتموكم الزيدين ، وأرأيتك هندا ، و : أرأيتما كما الهندين ، و : أرأيتن كنّ الهندات ،

واعلم أنك إذا قلت : قد علمت من قام ، وجعلت «من» إما موصولة أو موصوفة ، فالمعنى : عرفت ذات القائم بعد أن لم أعرفها ؛

وإن جعلتها استفهامية ، فليس في الكلام دلالة على هذا المعنى ؛ بل المعنى : علمت أيّ شخص حصل منه القيام ، وربّما كنت تعرف قبل ذلك ذات القائم وأنه زيد ، مثلا ، وذلك لأن كلمة الاستفهام يستحيل كونها مفعولا ، لما تقدم (٣) لفظه عليها ؛ لاقتضائها صدر الكلام ، فيكون مفعول علمت ، إذن ، مضمون الجملة ، وهو قيام الشخص المستفهم عنه ، أعني زيدا ؛ وأمّا إن كانت موصولة أو موصوفة ، فالعلم واقع عليها ، فكأنك قلت : علمت زيدا الذي قام ؛

__________________

(١) أي إلى كونه اسم فعل ، وتعبيره فيه تساهل ؛

(٢) في الجزء الثالث من هذا الشرح ؛

(٣) اي للعامل الذي تقدم عليها لفظا ؛

١٦٣

ويتبيّن الاستفهام من غيره في «أيّ» لكونه معربا ، تقول في الاستفهام : علمت أيّهم قام ، برفع «أيّ» ، وإذا كان موصولا قلت : علمت أيّهم قام ، بنصبه ؛

وليست أداة الاستفهام التي تلي باب علم في نحو : علم زيد أيّهم قام ، مفيدة لاستفهام المتكلم بها ، للزوم التناقض في نحو : علمت أيهم قام ، وذلك لأن «علمت» ؛ المقدّم على «أيهم» : مفيد أن قائل هذا الكلام عارف بنسبة القيام إلى هذا القائم المعيّن ، لما ذكرنا أن العلم واقع على مضمون الجملة ، فلو كان «أيّ» لاستفهام المتكلم لكان دالّا على أنه لا يعرف انتساب القيام إليه ، لأن : أيهم قام ، استفهام عن مشكوك فيه هو انتساب القيام إلى معيّن ، ربّما يعرفه الشاكّ بأنه زيد أو غيره ، فيكون المشكوك فيه ، إذن ، : النسبة ، وقد كان المعلوم هو تلك النسبة ، وهو تناقض ؛ فنقول : أداة الاستفهام ، إذن ، لمجرّد الاستفهام ، لا لاستفهام المتكلم ، والمعنى : عرفت المشكوك فيه الذي يستفهم عنه وهو أن نسبة القيام إلى أيّ شخص هي ، وذلك الشخص في فرضنا : زيد ، فالمعنى : عرفت قيام زيد ؛ وإنما لم يصرح باسم القائم ولم يقل : علمت زيدا قائما ، أو : علمت قيام زيد ، لأن المتكلم قد يكون له داع إلى إبهام الشيء على المخاطب مع معرفته بذلك المبهم كما يكون له داع إلى التصريح به ؛ كقوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(١) ؛ ومثله كثير ؛

فعلى هذا يجوز وقوع الاستفهام الذي جوابه : لا ، أو ، نعم ، بعد فعل القلب ، نحو : علمت أزيد قائم ، أو : هل زيد قائم ، والمشكوك فيه ، الذي يستفهم عنه ههنا :

انتساب القيام إلى زيد ، أو عدم انتسابه كما كان المشكوك فيه مع الهمزة وأم ، ومع أسماء الاستفهام : أن انتساب الفعل إلى هذا المعيّن أو إلى ذلك من الأشخاص الواقعة عليها كلمة الاستفهام ؛

وكذا يجوز : علمت : أزيد قام أو عمرو ، وعلمت : هل زيد قام ، أو عمرو ،

__________________

(١) الآية ٢٤ سورة سبأ ؛ وتمثيله بها لمطلق الابهام بصرف النظر عن موضوع البحث ؛

١٦٤

وجوابها : لا ، أو نعم ، والمشكوك فيه ، المستفهم عنه ههنا : نسبة القيام إلى واحد من المذكورين ، أو عدم النسبة إليه ، فالمعنى في جميع ذلك : علمت هذا الذي يشكّ فيه فيستفهم عنه ؛

ومنع قوم من وقوع استفهام جوابه : لا ، أو ، نعم ، بعد فعل القلب ، استدلالا بأن مضمون الجملة الاستفهامية ، لا يصح أن يكون متعلّقا للعلم إلا بتأويل ، وهو أن يقال : متعلّقه : ما يقال في جواب هذا الاستفهام والذي يقال في جواب الاستفهام بأم ، وبأسماء الاستفهام : شيء معيّن منسوب إليه الحكم المذكور في الاستفهام ، فمعنى علمت أزيد قائم أم عمرو : علمت أحدهما بعينه على صفة القيام ، لأنه هو الذي يقال في جوابه : إمّا : زيد ، أي زيد قائم ، وإمّا عمرو ؛ وأمّا إذا قلت : علمت هل زيد قائم ، فليس جوابه نسبة القيام إلى زيد أو نفيها ، حتى يقال : ان العلم يتعلق بتلك النسبة أو نفيها ، وإنما جوابه : نعم ، أو ، لا ، وليس فيه النسبة ، والعلم لا يتعلق إلا بالنسبة ؛

والجواب عما قالوا : أنا لا نسلّم ، أوّلا ، أن مضمون الجملة الاستفهامية لا يكون متعلّقا للعلم ، بلى ، مضمون استفهام المتكلم لا يصح أن يكون متعلّقا للعلم ، للتناقض المذكور في نحو : علمت أيهم قائم ، ولو سلّمنا ذلك قلنا : ان «نعم» أو «لا» ، في الجواب ، متضمن ، أيضا ، لمعنى النسبة ونفيها ، لأن المعنى : بلى زيد قائم ، وما زيد بقائم ، فحصل المقصود أي المحكوم عليه والمحكوم به في الجواب ، وهو المصحح لتعلق العلم ؛

ثم اعلم أن جميع أدوات الاستفهام ، ترد على الوجه المذكور ، أي لمجرّد الاستفهام ، لا لاستفهام المتكلم ، بعد كل فعل شك لا ترجيح فيه لأحد الجانبين على الآخر ، لتبيين (١) المشكوك فيه ، نحو. شككت : أزيد في الدار أم عمرو ، و : نسيت ، أو تردّدت : أأقوم أم أقعد ؛ كما ترد بعد كل فعل يفيد معنى العلم ، كعلمت ، وتبيّنت ، ودريت ،

__________________

(١) متعلق بقوله : ترد على الوجه المذكور ؛

١٦٥

وبعد كل فعل يطلب به العلم ، كفكّرت ، وامتحنت ، وبلوت ، وسألت ، واستفهمت ، وجميع أفعال الحواس الخمس ، كلمست ، وأبصرت ، ونظرت ، واستمعت ، وشممت ، وذقت ؛ تقول : فكرت : أزيد يأتيني أم عمرو ؛

وقد يضمر الدال على التفكر ، كقوله تعالى : (يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ)(١) ، أي متفكرا ، أيمسكه أم يدسّه ، وفي نهج البلاغة : (٢) «يتخالسان أنفسهما : أيهما يسقي صاحبه كأس المنون» ، أي : متفكرين : أيهما يسقي ، ولم يسمع مثل ذلك في الظن الذي هو لترجيح أحد المجوّزين على الآخر ؛

وجوّز يونس (٣) ، تعليق جميع الأفعال ، نحو : ضربت أيّهم في الدار ، وقتلت أيّهم في البيت ، وقد مضى ذلك في باب الموصولات (٤) ؛

ويجوز في نحو : سألتك هل زيد قائم ، واستفهمت : أقام زيد ، أن ينوى بعده القول ، والجملة مفعول لذلك المنوي ، على ما هو مذهب البصريين ، أو يضمّن السؤال معنى القول ، فيلحق به في الحكاية بعده ، على ما هو مذهب الكوفيين ، كما يجيء بعد ، من مذهب الفريقين ؛

فنقول : الجملة بعد الفعل المعلّق في موضع النصب ، وهي : إمّا في موضع مفعول ينصب بنزع الخافض ، وذلك بعد كل فعل يفيد معنى الشك ، نحو : شككت أزيد في الدار أم عمرو ، أي : شككت في هذا الأمر ؛ أو في موضع مفعول تعدّى إليه الفعل بنفسه ، إمّا لاقتضاء الفعل إيّاه وضعا ، وإمّا لتضمن الفعل ما يقتضيه ؛ والأول : صريح العلم والمعرفة ، وهذا الفعل إمّا أن يطلب مفعولا واحدا ، نحو : عرفت هل زيد في الدار ،

__________________

(١) الآية ٥٩ سورة النحل ؛

(٢) ورد هذا في إحدى خطب سيدنا علي في نهج البلاغة طبع مطابع الشعب بالقاهرة ص ٧٢ ـ وهي في وصف المؤمنين وقتالهم مع أعدائهم ؛

(٣) يونس بن حبيب. شيخ سيبويه. وتقدم ذكره في الأجزاء السابقة ؛

(٤) أول الجزء الثالث ؛

١٦٦

فالجملة المعلق عنها في موضع مفعوله ، أي : عرفت هذا الأمر ، وإمّا أن يطلب أكثر ، فتكون تلك الجملة ، إمّا في مقام المفعول الأول والثاني ، نحو : علمت هل زيد في الدار ، أو في مقام الثاني والثالث نحو : أعلمتك هل زيد في الدار ، أو في مقام الثاني وحده نحو : علمت زيدا أبو من هو ، وكذا قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ)(١) ، فان «أدرى» يتعدى إلى مفعولين ، كأدريتك الحق ، وإن كان بمعنى أعلم ؛ أو في مقام الثالث وحده ، نحو : أعلمتك زيدا ، أبو من هو ،

وأمّا الثاني ، أي المتضمن لمعنى العلم ، فهو كل فعل ذكرنا أنه ممّا يطلب به العلم ، نحو : فكرت هل زيد في الدار ، فإن «فكرّ» لازم وضعا لكن يتعدى إلى مفعول لتضمينه معنى «تعرّف» ، أي : تعرفت هذا الأمر ، بالتفكير فيه ؛ وكذا قولك : انظر إليه : أقائم هو أم قاعد؟ أي : تعرّف هذا الحكم بالنظر إليه ؛

ورفع «زيد» في مثل : انظر ، وسل ، وزيد أبو من هو ، لكونه بمعنى : انظر وسل أبو من زيد : أهون من رفعه في نحو : اعلم زيد أبو من هو ، لأن النظر الذي بمعنى تفكر ، وسل ، الذي بمعنى : سل الناس ، لا ينصبان زيدا ، لو سلطتهما عليه ، كما ينصبه «اعلم» ، إذا سلطته عليه ؛

وكذا الحكم إن كان الفعل المطلوب به العلم متعديا بالوضع ، تعطيه من المفاعيل ما اقتضاه وضعه ، ثم تجيء بالجملة المعلق عنها في موضع المفعول الزائد له بسبب تضمينه معنى التعرّف ، نحو : امتحنت زيدا : هل هو كريم ، أي تعرّفت كرمه بامتحانه ، وأبصرت زيدا : هل هو في الدار ، أي : تعرّفت كونه في الدار بإبصاره ، وكذا قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها)(٢) ، أي يترقّبون وقت إرسائها بسؤالك عنها ، وهذا كما قلنا في المفعول المطلق في : عمرك الله (٣) ، ان الكاف مفعول أصل الفعل و :

__________________

(١) الآية ١٧ سورة الانفطار ؛

(٢) الآية ٤٢ سورة النازعات ؛

(٣) شرح الرضي هذا التعبير وأمثاله وبيّن الأوجه الإعرابية فيه ، ومراده بأصل الفعل : التعمير أي إطالة العمر. ـ

١٦٧

الله ، مفعول الفعل المضمّن ؛

وقد تكون الجملة المعلّق عنها بدلا مما قبلها ، نحو : شككت في زيد هل هو قائم ، أو ، لا ، أي : شككت في قيامه ، فهي في محل الجرّ ، وتقول : عرّفتك الحال : أزيد في الدار أم عمرو ، فهي في محل النصب بدل من «الحال» ، وكذا : عرفت زيدا أبو من هو : الجملة فيه بدل من «زيدا» ؛

هذا ، وقد أوجب الأخفش : إن زيدا لظننت أخوه قائم ، قال ، وإنما لم يجز : لظننت أخاه قائما ، لأن اللام للابتداء ، فلا تدخل على الماضي كما يجيء في باب «إنّ» ، فهي في التقدير داخلة على «أخوه» ، كأنك قلت : ظننت لأخوه قائم ؛

وأمّا الإلغاء والتعليق في : أعلم وأرى ، عن المفعولين الأخيرين فالظاهر ، كما ذهب إليه ابن مالك (١) ، أنه يجوز الإلغاء والتعليق بالنسبة إليهما كما جاء ذلك في علم ورأى ، تقول : أعلمتك لزيد منطلق ، وأزيد قائم أم عمرو ، وما زيد قائما ، وزيد أعلمتك قائم ، وزيد قائم أعلمتك ؛

وكذا الحكم إذا بنيت باب أعلم لما لم يسمّ فاعله ، نحو : أعلمت ما زيد قائما ، وزيد أعلمت قائم ؛

وقال الأندلسيّ (٢) : الذي أعوّل عليه : امتناع التعليق والإلغاء بالنسبة إليهما ؛

وفي بعض نسخ الجزوليّة (٣) ، ما يدل على أنك إذا بنيت الفعل للفاعل امتنع إلغاؤه

__________________

= وأراد بالفعل المضمّن : سألت ، لأن تقديره سألت الله تعميرك أي إطالة عمرك ، وهذا أحد الأوجه التي قالها في باب المفعول المطلق. في الجزء الأول من هذا الشرح ؛

(١) جاء بهامش الأصل المطبوع ، أن بعض النسخ جاء فيها في هذا المكان التعبير بالمالكي بدلا من ابن مالك ؛ والرأي المنقول عنه قاله في التسهيل في باب أفعال القلوب ، وهذا مما جعلني أرجح أن مراده بالمالكي هو :

ابن مالك. والله أعلم ؛

(٢) تقدم ذكر الأندلسي كثيرا ؛

(٣) الجزولية رسالة صغيرة للجزولي الذي تقدم ذكره ؛

١٦٨

وتعليقه ، وإذا بنيته للمفعول جاز ؛

والذي أرى ، أنه لا منع من الإلغاء والتعليق سواء بني الفعل للفاعل أو للمفعول ؛

وقال ابن جعفر (١) : لو ألغيت فقلت : زيد أعلمتك قائم ، أو علّقت فقلت : أعلمتك لزيد قائم ، لحصل الإلغاء والإعمال في حالة واحدة ، لأنه لا بدّ من إعماله في المفعول الأول ، وكذا يحصل التعليق والإعمال في حالة واحدة ؛

وليس ما قال بشيء ، لأن اعماله بالنسبة إلى شيء ، وإلغاءه ، أو تعليقه بالنسبة إلى شيء آخر ، فهو مثل : زيد علمت قائم ، أعملته في الفاعل وألغيته عن المفعول ، وكذا في : علمت لزيد قائم : أعملته في الفاعل وعلقته عن المفعول ، وأيضا ، المعمل معنى الهمزة ، أي التصيير والملغى أو المعلق : أصل علم ، فالملغى غير المعمل ؛

واعلم أنه لا خلاف في أنه لا يلغى ولا يعلق عن المفعول الأول إذ هو كأول مفعولي أعطيت ؛

قوله : «ومنها أنه يجوز أن يكون فاعلها ومفعولها ضميرين لشيء واحد» ؛ هذه الأفعال المذكورة في متن الكافية ، ولفظة «هب» بمعنى : احسب ، ورأى ، الحلمية ، يجوز أن يكون فاعلها ومفعولها ضميرين متصلين متحدي المعنى نحو : علمتني قائما ، وقال تعالى : (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً)(٢) ، وكذا إن كان أحدهما بعض الآخر ، نحو : رأيتنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، و : رأيتماك (٣) تقول كذا ؛ وقد يجري مجراها «رأى» البصريّة ، حملا على «رأى» القلبية ، وكذا : عدم ، وفقد ، حملا على وجد ، لأنهما ضدّاه في أصل الوضع ؛

وإنما لم يجز ذلك في غير الأفعال المذكورة ، لأن أصل الفاعل أن يكون مؤثرا والمفعول به متأثر منه ، وأصل المؤثر أن يغاير المتأثر ، فإن اتحدا معنى كره اتفاقهما لفظا ، فلذا

__________________

(١) تقدم ذكره في هذا الجزء ؛

(٢) من الآية ٣٦ في سورة يوسف ؛

(٣) أي إذا كان الخطاب لاثنين والمراد أحدهما.

١٦٩

لا تقول : ضرب زيد زيدا ، وأنت تريد : ضرب زيد نفسه ، فلم يقولوا : ضربتني ، ولا ضربتنا ، وإن تخالفا لفظا ، لاتحادهما معنى ولاتفاقهما من حيث كون كل واحد منهما ضميرا متصلا ؛

فقصد ، مع اتحادهما معنى : تغايرهما لفظا بقدر الإمكان ، فمن ثمّ قالوا ضرب زيد نفسه ، لأنه صار النفس بإضافته إلى ضمير زيد كأنه غيره ، لغلبة مغايرة المضاف للمضاف إليه ، فصار الفاعل والمفعول في ضرب زيد نفسه ، مظهرين (١) ، متغايرين في الظاهر ؛

وأما أفعال القلوب ، فإن المفعول به فيها ، ليس المنصوب الأول في الحقيقة بل هو مضمون الجملة كما مضى ؛ فجاز اتفاقهما لفظا ، لأنهما ليسا في الحقيقة فاعلا ومفعولا به ، والقياس جواز : ظنّ زيد زيدا قائما ، أي نفسه ؛

وأمّا إن كان أحدهما منفصلا والآخر متصلا ، فيجوز في غير أفعال القلوب ، أيضا ، سواء وقع المنفصل بعد «إلّا» أو معناها ، أو لم يقع ، نحو : ما ضربت إلّا إياك و : إنما نقتل إيانا (٢) ، وإياك فاضرب ، وما ضربك إلّا أنت ؛

وأمّا إن كان الفاعل والمفعول متحدين معنى ، وأحدهما ضمير متّصل والآخر ظاهر ، نحو : زيدا ظنّ قائما ، وظنه زيد قائما ، لم يجز المثال الأول مطلقا ، وجاز الثاني في أفعال القلوب خاصة ،

وإن كان الضمير منفصلا ، جاز مطلقا ، وقد تقدم جميع ذلك بعلته في المنصوب على شريطة التفسير (٣) ؛

__________________

(١) أي حالة كونهما مظهرين ، ومتغايرين : خبر صار ؛

(٢) إشارة إلى بيت تقدم ذكره في باب الضمائر ، في آخر الجزء الثاني ، وهو قول الشاعر :

كأنّا يوم قرّى

إنما نقتل إيانا

والبيت في سيبويه ج ١ ص ٢٧١ ؛

(٣) في الجزء الأول من هذا الشرح ؛

١٧٠

هذا ما ذكره المصنف من خواص أفعال القلوب

ومن خواصّها ، أيضا ، جواز دخول «أنّ» المفتوحة على الجملة المنصوبة الجزأين ، نحو : علمت أن زيدا قائم ، ولا يجوز : أعطيت أنّ زيدا درهم ، وذلك لأن مفعولها في الحقيقة ، على ما تقدم غير مرة ، هو مصدر الخبر مضافا إلى المبتدأ ، و «أنّ» المفتوحة موضوعة لهذا المعنى ، فنقول :

إذا دخلت أفعال القلوب على «أنّ» المفتوحة فهي ناصبة لمفعول واحد هو مفعولها الحقيقي ، ويكثر ذلك إن كان ذلك الفعل مما يقلّ نصبه لمفعول واحد ، نصبا صريحا ، كحسبت ، وخلت ، وظننت ، لأنها لا تطلب في ظاهر الاستعمال إلا مسندا ومسندا إليه ، سواء نصبتهما ، كما في : حسبت زيدا قائما ، أو لم تنصبهما نحو : حسبت أن زيدا قائم ، إذ مقصود الجزأين المنصوبين هو المصرح به في الجزأين المصدّرين بأن ؛

هذا مذهب سيبويه ، أعني أنّ «أنّ» مع اسمها وخبرها ، مفعول ظنّ ، ولا مفعول له آخر مقدرا ، والأخفش يجعل «أن» مع جزأيها في مقام المفعول الأول ويقدّر الثاني ، أي : علمت أن زيدا قائم حاصلا ، أي : قيام زيد حاصلا ؛ ولا حاجة إلى ذلك ، كما بيّنا ، ولو كان مقدّرا لجاز إظهاره ، إذ لم يسدّ مسدّه شيء حتى يكون واجب الإضمار ؛

ولا نقول إن «أنّ» مع جزأيها في تقدير اسم مفرد في جميع المواضع ، كما يجيء في الحروف المشبهة بالفعل ، فكيف تكون في تقدير اسمين ، بل الأولى أن يقال : ان الاسمين المنصوبين نحو : علمت زيدا قائما ، سادّان مسدّ «أنّ» مع اسمها وخبرها ومفيدان فائدتهما ، إذ هما (١) بتقدير المصدر بلا آلة مصدريّة كما كان الكلام مع «أنّ» بتقدير المصدر ؛

هذا آخر الكلام في أفعال القلوب ؛

__________________

(١) علة الأولوية التي أشار إليها ؛

١٧١

[أفعال أخرى]

[تنصب مفعولين]

وأمّا غير أفعال القلوب مما ينصب جزأي الجملة بتقدير المصدر ، فهو (١) : صيّر وما رادفها من : جعل ، وهب غير متصرف ، وردّ ، وترك ، وتخذ واتّخذ و : أكان (٢) ؛ وأصل الباب : صيّر ؛ ومفعولاه في الحقيقة ، هما اسم وخبر لصار في الأصل ، إذ منزلة صيّرت زيدا قائما من : صار ريد قائما ، كمنزلة : أحفرت زيدا النهر من : حفر زيد النهر ؛ فحال المفعولين في عدم جواز حذفهما معا بلا قرينة ، وجوازه معها ، كحال مفعولي علمت ، يقال : جعلت زيدا كريما ، فتقول : بل أنا جعلت ، وأمّا بلا قرينة فلا يجوز ذلك ، إذ كل إنسان لا يخلو من تصيير شيء شيئا في الأغلب ، فلا فائدة في ذكر الفعل وحده ، كما قلنا في : علمت وظننت ؛

وكذا لا يجوز حذف أحد المفعولين إلا قليلا ، لأن مضمونهما هو المفعول لصيّر ، كما كان مضمونهما فاعل صار ؛

وكان القياس ، بناء على أن المفعولين في تقدير المصدر : جواز تصديرهما بأنّ ، كما في مفعولي علمت ، إلا أنه روعي أصلهما حين كانا اسما وخبرا لصار ، فإنهما لا يصدّران ، إذن ، بها ، كما ذكرنا في أول هذا الباب ؛

وأمّا إلغاء صيّر ومرادفاتها وتعليقها ، فلم يأتيا ، كما أتيا في أفعال القلوب ، لأن ذلك فيها ، لضعفها من حيث لم يظهر تأثيرها المعنوي ، إذ هي أفعال باطنة ، بخلاف التصيير ، فإنه يظهر أثره في الأغلب ، كجعلته غنيّا فهو أمر ظاهر للعيون ، إذ هو إحداث الشيء بعد أن لم يكن ؛

__________________

(١) فهو : أي غير أفعال القلوب المتحدث عنه.

(٢) المراد : الفعل «كان» مع همزة التعدية ، وسيأتي أنه قليل الاستعمال ؛

١٧٢

ومرادفات «صيّر» قد تخرج من هذا الباب ، وذلك إذا لم تكن بمعناه ، كقوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ)(١) ، أي : خلق ؛ ووهب ، أي أعطى ، وردّه أي جعله راجعا ، وترك ، أي خلىّ ، وتخذ واتّخذ ، أي أخذ ؛

وأما «أكان» ، فهو قليل الاستعمال ، لكنه لا يجيء إلا بمعنى «صيّر» ، وذلك لما ذكرنا أن معنى صار : كان بعد أن لم يكن ، ومعنى «أكان» : جعله كائنا ، فحصل من الهمزة معنى نقل غير الكائن إلى الكون وهو معنى التصيير ، ولم يستعمل «كوّن» (٢) متعديا إلى مفعولين ؛

وقد جعل بعضهم «ضرب» مع «المثل» بمعنى «صيّر» ، كقوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً)(٣) ، ونحو ذلك ، وإليه ذهب الأندلسي ، فيكون «مثلا» مفعولا ثانيا ، و «عبدا» هو الأول ، أي جعله مثلا ، أو صاغه مثلا ، من ضرب الخاتم والطين ؛

ويجوز أن يقال : معنى ضرب مثلا ، أي : بيّن ، فهو متعدّ إلى واحد ، والمنصوب بعده : عطف بيان ؛

وقال ابن درستويه (٤) : يلحق «غادر» بصيّر ، كما ألحق به «ترك» الذي بمعناه ، نحو : غادرته صريعا ، وإذا كان الثاني نكرة ، جاز جعله حالا ، ويكون «غادر» بمعنى خلّف وخلّى ، وأمّا إذا كان معرفة كما في قولك : غادرته جزر السباع (٥) ، فإلحاق «غادر» «بصيّر» هو الظاهر ؛

__________________

(١) الآية الأولى في سورة الأنعام ؛

(٢) يعني لفظ كان متعديا بالتضعيف ؛

(٣) الآية ٧٥ في سورة النحل ؛

(٤) تقدم ذكره ؛

(٥) إشارة إلى جزء من بيت عنترة العبسي في المعلقة وهو قوله :

غادرته جزر السباع ينشنه

ما بين قلة رأسه والمعصم

وقد ورد في غير شعر عنترة ، وتعبير الشارح لا يجعله شاهدا شعريا حيث يقول : كقولك ، واعتبره البغدادي شاهدا شعريا وكتب عليه ؛

١٧٣

ومما ينصب المبتدأ والخبر ، غير أفعال القلوب ، ومن غير مرادفات «صيّر» : سمع ، المعلّق بعين (١) ، نحو سمعتك تقول كذا ، ومفعوله : مضمون الجملة ، أي سمعت قولك ، ويجوز تصدير الجملة بأنّ ، نحو : سمعت أنك تقول ؛

قالوا : وإذا عمل في المبتدأ والخبر ، لم يكن الخبر إلا فعلا دالّا على النطق نحو سمعتك تنطق بكذا ، أو تتكلم ؛

وأنا لا أرى منعا من نحو : سمعتك تمشي ، لجواز سمعت أنك تمشي ، اتفاقا ؛ قال :

٧٠٢ ـ سمعت الناس ينتجعون غيثا

فقلت لصيدح انتجعي بلالا (٢)

بنصب الناس ، وقد روي برفعه ، على حكاية الجملة ؛

ومما يدخل على المبتدأ والخبر ، القول ، وما يتصرّف منه ، والأصل في استعماله : أن يقع بعده اللفظ المحكي : إمّا الذي مضى ذكره قبل ، نحو : قلت زيد قائم ؛ أو الذي هو واقع في الحال ، نحو : أقول الآن : زيد قائم ؛ فينبغي أن تكون الجملة الواقعة بعد القول في هذا الكلام متلفّظا بها بلفظ آخر في غير هذا الكلام ، وإلّا ، لم يكن حكاية ؛ أو الذي يقع بعده نحو : أقول غدا : زيد قائم ، أو : قل : زيد قائم ؛

واللفظ الواقع بعده إمّا مفرد أو جملة ، والجملة أكثر وقوعا ، والمقصود من الجملة الواقعة بعده : إيراد اللفظ المتلفّظ به في غير هذا الكلام ، لا مجرّدا ، بل : مع المعنى ، نحو : قيل زيد قائم ، أي : قيل هذا اللفظ ، ومن حيث مراعاة المعنى الذي هو الأصل ، جاز أن يغيّر اللفظ ، بشرط وفاء اللفظ المغيّر إليه بالمعنى الذي فهم من الأصل ، لأنه ربّما يتعسّر أداء اللفظ المقول بعينه من بعض القائلين ، فجوّز تغيير اللفظ في كلام من لا يتعسّر عليه ذلك ، أيضا ، كالباري تعالى ، وكذا غيره ممّن يسهل عليه ذلك ، لكن ، مع تغيير اللفظ ، يجب ألّا يعمل القول في شيء آخر من أجزاء الجملة ، إجراء لمثل هذه الجملة مجرى أصلها أي المحكية ، بأعيان ألفاظها ، فعلى هذا ، لك أن تقول حكاية عمّن قال : زيد قائم ، قال فلان قام زيد ؛

__________________

(١) أي العامل في اسم ذات كالكاف في قوله سمعتك

(٢) من قصيدة لذي الرمة ، في مدح بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الاشعري ، وصيدح اسم ناقة ذي الرمة ؛

١٧٤

ولهذا نرى الكتاب العزيز ، يقصّ فيه عن الأمم المختلفة الألسنة ، باللسان العربي ؛

وتقول : قال زيد : أنا قائم ، وقلت لعمرو : أنت بخيل ، رعاية للفظ المحكي ، ويجوز : قال زيد هو قائم ، وقلت لعمرو : هو بخيل ، بالمعنى الأول ، اعتبارا بحكاية الحال ، فإن زيدا ، وعمرا في حال الحكاية غائبان ؛

ومنه قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا : لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ)(١) ، والأول أكثر استعمالا ؛

وكذا يجوز الوجهان فيما يؤدّي معنى القول ، قال تعالى : (تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ)(٢) ، و : «ليبيتنه» بالياء ، والنون (٣) ؛

وهذه الجملة المحكية منصوبة الموضع بكونها مفعولا بها ، لا مفعولا مطلقا ، على ما وهم المصنف كما تقدم في باب أعلم وأرى ، وذلك لأن معنى قلت زيد قائم : قلت هذا اللفظ فهو مقول ، وقد تقدم أن آية المفعول به : أن يطلق عليه اسم المفعول ، كما تقول : ضربت زيدا فهو مضروب ، ولا تقول ضربت ضربا فالضرب مضروب ؛ وكذا تقول : أنا قائل (٤) زيد قائم ، بالإضافة ، والفاعل لا يضاف إلى مصدره ، فلا يقال : زيد ضارب الضرب القويّ ؛

والذي أوهم المصنف ، قولهم إن معنى قلت زيد قائم : قلت هذا القول ، وذهل عن أن القول يطلق على المقول ؛

فلما ثبت كون الجملة منصوبة المحل في موضع المفعول به ، قلنا يجوز عطف المفرد عليها ، منصوبا ، نحو : قلت : إمّا زيد قائم أو لفظا آخر مثله (٥) ؛

__________________

(١) الآية ١١ من سورة الأحقاف ؛

(٢) الآية ٤٩ سورة النمل ؛

(٣) قرأ السبعة ما عدا حمزة والكسائي بالنون ، وقرأ حمزة والكسائي بالثاء ، أما قراءة الياء فهي قراءة مجاهد ؛

(٤) بإضافة قائل ، ولذلك لا ينوّن ؛

(٥) أو لفظا ، معطوف على محل جملة زيد قائم فهو داخل في المثال الذي أورده ؛

١٧٥

وقد يقع المفرد بعد القول ، على خمسة أوجه :

أحدها : أن يكون مؤدّيا معنى الجملة فقط ، ويعتبر ذلك بأن تجعل مكان ذلك المفرد جملة ، ثم تحمل ذلك المفرد على تلك الجملة ، كما تقول ، مثلا : قلت كلاما حقّا ، أو باطلا أو صدقا ، أو كلاما حسنا ، إذا قلت : زيد قائم ثم تقول : زيد قائم كلام حقّ ، أو باطل أو كلام حسن ؛

وثانيها : أن يعبّر به عن المفرد لا غير ، نحو قلت كلمة ، أو لفظة عبارة عن زيد ، ويعتبر ذلك بأن يقع خبرا عن اللفظ المفرد ، نحو : زيد كلمة أو لفظ ،

وثالثها : أن يكون لفظا يصلح لأن يعبّر به عن المفرد ، وعن الجملة ، نحو : قلت لفظا ، فإنك تقول : زيد لفظ ، وزيد قائم لفظ ، فتنتصب هذه الثلاثة ، لأنها ليست أعيان اللفظ المحكي حتى تراعى ، وليست ، أيضا ، جملا مغيّرا لفظها اعتمادا على بقاء المعنى كما تقدم حتى يراعى أصلها ؛

ورابعها : مفرد غير معبّر به ، لا عن جملة ولا عن مفرد ، بل المراد به : نفس ذلك اللفظ بعينه ، فيجب حكايته ، ورعاية إعرابه ، نحو : قال فلان : زيد ، إذا تكلم بزيد مرفوعا ؛ وأمّا بناؤه فهل يراعى أو ، لا ؛ ذكرناه في باب العلم (١) ؛

وخامسها : مفرد غير معبّر به عن جملة ولا مفرد ، ولا مقصود به نفس ذلك اللفظ ، فيجب أن يقدّر معه ما يكون به جملة ، كقوله تعالى : (قالَ سَلامٌ ، قَوْمٌ مُنْكَرُونَ)(٢) ، أي : عليكم سلام ، قال :

٧٠٣ ـ إذا أقبلت قلت دبّاءة

من الخضر مغموسة في الغدر (٣)

__________________

(١) في الجزء الثالث من هذا الشرح ؛

(٢) الآية ٢٥ سورة الذاريات ؛

(٣) من قصيدة لامرئ القيس بن حجر ، وهو في وصف الفرس وبعده :

وإن أدبرت قلت أثفية

ململمة ليس فيها أثر

والدّبّاة : واحدة الدّباء وهو القرع. توصف بها الخيل لدقة مقدّمها وعظم مؤخّرها ؛

١٧٦

أي : هي دبّاءة ؛ وقوله تعالى : (قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ)(١) ، يجوز أن يكون «سلاما» المنصوب معبّرا به عن الجملة ، كما يقال فلان يقرئك السّلام ، أي : سلام عليك ، فيكون المنصوب في : قالوا سلاما بمعنى المرفوع في قوله ، قال سلام ؛ ويجوز أن يكون من القسم الأخير من الخمسة الأوجه (٢) ، فيكون مفعولا مطلقا لفعل محذوف ، أي : سلّمنا سلاما ، فيكون الجواب المرفوع ، أعني قوله : قال سلام ، أحسن منه على ما قال تعالى : (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها)(٣) ، وذلك لدلالة الجواب على الثبوت المستفاد من الرفع ، على ما مضى في باب المبتدأ ؛

ويلحق ، عند الكوفيين بالقول ، في الحكاية ، ما في معناه ، كقولك : ناديته : عجّل ؛ وأخبرته : زيد قائم ، قال :

٧٠٤ ـ تنادوا بالرحيل غدا

وفي ترحالهم نفسي (٤)

وعند البصريين ، القول مقدر بعد مثل هذا الفعل ، وليس ملحقا به ، وإضمار القول ليس بعزيز في الكتاب العزيز ، فالتقدير : أخبرته وقلت : زيد قائم ، وتنادوا بقولهم : الرحيل غدا ، وكلا القولين قريب ؛

وتقول : ناديته سلام ، كما تقول : قلت سلام ، والتأويل ذلك التأويل ،

وقد يحذف المحكيّ بعد القول لقيام القرينة ، كما يسأل : من قال زيد قائم ، فتقول : أنا قلت ، كما يحذف القول ويبقى المحكي ، كما في قوله :

__________________

(١) من الآية ٦٩ سورة هود ؛

(٢) أشرت كثيرا إلى استعمال الرضي للعدد المضاف المعرف ، على هذا النحو وهو تعريف الجزأين وذلك مذهب الكوفيين. وبعض الأوقات يستعمل التركيب على مذهب البصريين فيقول مثلا : من خمسة الأوجه ؛

(٣) من الآية ٨٦ سورة النساء ؛

(٤) الرحيل برواية الرفع مبتدأ خبره «غدا» والباء جارة للجملة ، وقد بيّن الشارح تأويل البصريين له. فتكون الباء داخلة على القول المقدر ، وقد شرح البغدادي هذا البيت وبيّن ما فيه ثم قال : لم أقف على هذا البيت بأكثر من هذا ؛

١٧٧

جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط (١) ـ ٩٤

واعلم أنه قد يجيء القول بمعنى الاعتقاد ، ولا لفظ هناك ، سواء كان ذلك الاعتقاد علما أو ظنا ، كما تقول : كيف تقول في هذه المسألة ، أي كيف تعتقد ، فيلحق بالظن في نصب المفعولين ؛ وليس بمعنى الظن خلافا لظاهر كلام سيبويه (٢) ، وبعض المتأخرين ؛

قال المصنف ، والأندلسي : لو كان بمعنى الظن لم يستعمل في العلم ، وقد يقال : كيف تقول زيدا قائما ، فتجيب : أعلمه قائما بالسيف ، فهو ، إذن ، بمعنى الاعتقاد علما كان أو ظنا ؛

وجواز إلحاقه بالظن مطلقا : لغة سليم ، وأكثر العرب لا يجوّز هذا الإلحاق إلا بشرط كون الفعل مضارعا مخاطبا ؛ وقال الأندلسي : منهم من يشترط الخطاب دون المضارعة ، وبعضهم يشترط المضارعة دون الخطاب ، فيجوّز نحو : أيقول زيد : عمرا قائما ، على ما قال ابن جعفر (٣) ، ولا بدّ عند الأكثر ، في الإلحاق من شرط تقدم استفهام متصل ، نحو : أتقول زيدا قائما ، أو منفصل بظرف ، نحو : أقدّامك تقول زيدا جالسا ، و : أبالسوط تقول زيدا ضاربا ، أو بأحد المعمولين كقوله :

٧٠٥ ـ أجهّالا تقول بني لؤيّ

لعمر أبيك أم متجاهلينا (٤)

فإن نقص بعض الشرائط ، رجع إلى الحكاية على لغة الأكثر ، كما ذكرنا ، وتجوز الحكاية عندهم مع استيفاء الشروط ؛

__________________

(١) تكرر ذكر هذا الشطر ؛

(٢) انظر سيبويه ج ١ ص ٦٢ ؛

(٣) تقدم ذكره قريبا ؛

(٤) من شواهد سيبويه ج ١ ص ٦٣ ونسبه إلى الكميت بن زيد من قصيدته التي يهجر فيها الأعور الكلبي وأهل اليمن والتي تقدم منها بعض الشواهد ، منها قوله :

فلا أعني بذلك أسفليكم

ولكني أريد به الذوينا

وفي خزانة الأدب أن الذي في ديوان الكميت : أنواما تقول .. أم متناومينا ؛

١٧٨

قوله : «ولبعضها معنى آخر» ، بل لكلّها ، فإنّ «حسبت» بمعنى صرت أحسب ، وهو الذي في شعره شقرة ، وخلت أي صرت ذا خال ، أي خيلاء وزعمت به أي كفلت ؛ وهذه الثلاثة بهذه المعاني تكون لازمة ؛

قوله : «وعلمت بمعنى عرفت ، ووجدت بمعنى أصبت» ، قد ذكرنا أنه إذا تعدى علمت ، ووجدت ، إلى مفعولين ، فإنهما بمعنى عرفت وأصبت ، أيضا ، إلا أن المعروف ، والمصاب (١) ، مضمون الجملة ، ونصب المفعولين وعدم نصبهما يتعلق بالاستعمال ؛ فعرفت ، وأصبت ، مع كونهما بمعنى علمت ، ووجدت ، لا ينصبان المفعولين ؛

__________________

(١) المراد بالمعروف والمصاب : ما وقع عليه معنى ، فعل المعرفة والإصابة.

١٧٩
١٨٠