شرح الرضيّ على الكافية

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


المحقق: يوسف حسن عمر
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات مؤسّسة الصادق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٢

ويجوز أن يجتمع على فعل واحد ، عدّة من حروف الجر ، إذا كانت مختلفة ، نحو : خرجت من الكوفة إلى البصرة لاكرامك (١) ، وأما إذا اتفقت ، فقد ذكرنا حكمها في آخر أفعل التفضيل (٢) ،

قوله : «وإلى اثنين كأعطى ، وعلم» ، يعني أن المتعدي إلى اثنين ، على ضربين :

إمّا أن لا يكون مفعولاه في الأصل مبتدأ وخبرا : كأعطيت زيدا درهما ، ولا حصر لهذا النوع من الأفعال (٣) ؛

وإمّا أن يكونا في الأصل مبتدأ وخبرا ، كعلمت زيدا قائما ؛ وعند الكوفيين : ثاني مفعولي باب علمت : حال ، وكذا قالوا في خبر كان ،

وليس بشيء ، إذ الحال يجوز حذفه ، وأيضا ، لا يكون الحال علما ، ولا ضميرا ، ولا اسم إشارة ولا غير ذلك من سائر المعارف ، ويجوز ذلك في هذين المنصوبين ؛

قوله : «وإلى ثلاثة كأعلم وأرى» ، تدخل الهمزة على فعلين من جملة الأفعال المتعدية إلى اثنين ، فيزيد ، بسبب الهمزة ، مفعول آخر ، موضعه الطبيعي قبل المفعولين ، لأن معنى همزة التعدية : حمل الشيء على أصل الفعل ، فمعنى أعلمتك زيدا منطلقا : حملتك على أن تعلم زيدا منطلقا ، فلا بدّ أن تذكر أوّلا المحمول ، ثم تذكر متعلق أصل الفعل وهو المحمول عليه ، لأن المحمول عليه معنى قائم بذلك المحمول ، والعادة جارية بأن تذكر الذات أوّلا ، ثم اللفظ الدال على المعنى القائم بها ، كما في المبتدأ والخبر ، والحال

__________________

(١) جاء بهامش المطبوعة التركية في هذا الموضع إشارة إلى زيادة في بعض النسخ تضمنت الاستشهاد على هذا المعنى ، وهو اجتماع أكثر من حرف جر متعلقة بفعل واحد ، بقول المتنبي :

خرجت إلى أقطاعه في ثيابه

على طرفه من بيته بحسامه

وتكرر من الرضي إيراد شعر المتنبي اما استشهاد أو تمثيلا ؛

(٢) في آخر الجزء الثالث من هذا الشرح ؛

(٣) يطلق النحاة على هذا النوع أنه من باب أعطى ؛

١٤١

وذي الحال ، والموصوف والوصف ، وكذلك في نحو : أحفرت زيدا النهر ، أي حملته على حفر النهر (١) ،

ولم يتفق أن ينقل إلى ثلاثة من المتعدية إلى اثنين بالتضعيف ، فلم يقل : علّمتك زيدا قائما ، بل لم يستعمل لثاني مفعولي علّمت ، إلا ما هو مضمون الأول والثاني ، أو مضمون الثالث لعلمت ، تقول في ، علمت زيدا منطلقا : علّمت عمرا انطلاق زيد ، أو : علّمت عمرا الانطلاق ، قال تعالى : (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ)(٢) ،

وعند الأخفش ، ينقل بالهمزة إلى ثلاثة : باقي أفعال القلوب ، أيضا ، قياسا لا سماعا ، فيقول : أحسبتك زيدا قائما ، وكذا أظننتك وأخلتك وأزعمتك ، وأوجدتك ؛

ولو جاز القياس في هذا ، لجاز ، أيضا ، في غير أفعال القلوب ، نحو : أكسوتك زيدا جبّة ، وأجعلتك زيدا قائما ، ولجاز بالتضعيف أيضا ، في أفعال القلوب وغيرها ، ولم يجز ، اتفاقا ؛ ولجاز نقل جميع الأفعال الثلاثية ، متعدّيها ولازمها بالتضعيف والهمزة ، نحو : أنصرت زيدا عمرا ، وذهّبت خالدا ؛ فثبت أن هذا موكول إلى السماع ، أعني النقل من الثلاثي إلى بعض أبواب المتشعّبة (٣) ؛

وأمّا أخبر ، وخبّر ، وأنبأ ، ونبّأ ، وحدّث ، ولم يستعمل أحدث بمعناه ، فليست مما صار بالهمزة أو التضعيف متعديا إلى ثلاثة ، بعد التعدي إلى اثنين ، بل ، لم يستعمل من ثلاثياتها فعل مناسب لهذا المعنى ، إلّا : خبر بكسر الباء ، أي : علم ؛

وأمّا حدث ، ونبأ ، ثلاثيين ، فلم يستعملا مشتقين من النبأ ، والحديث ؛ لكن هذه الأفعال الخمسة (٤) ، ألحقت في بعض استعمالاتها ، بأعلم المتعدي إلى ثلاثة ، لأن الإنباء (٥) ،

__________________

(١) هو ما عبّر عنه منذ قليل بأنه : جعل الفاعل مباشرا للفعل ؛

(٢) الآية ١١٠ سورة المائدة ؛

(٣) أي بعض أبواب المزيد المتشعبة منه ؛ أي من الثلاثي ؛

(٤) هما أخبر وما عطف عليه ؛

(٥) الإنباء على وزن إفعال ، مصدر أنبأ ، والتنبئة مصدر نبأ بتشديد الباء وهو القياس الكثير في المهموز من ـ

١٤٢

والتنبئة ، والاخبار والتخبير والتحديث ، بمعنى الإعلام ؛

ولم يلحق سيبويه من هذه الخمسة إلا «نبّأ» وألحق البواقي غيره ؛

وألحق بعضهم : أرى الحسّيّة بأعلم ، سماعا ، نحو : أراني الله في النوم عمرا سالما ؛

وتستعمل الخمسة متعدية إلى واحد بأنفسها ، وإلى مضمون الثاني والثالث أو مضمون الثالث وحده بالباء ، نحو : حدّثتك بخروج زيد ، وبالخروج ، وهذا كما ينصب «علمت» المفعولين ، وينصب مضمونهما الذي هو المفعول حقيقة ، أو مضمون الثاني ، نحو : علمت زيدا قائما ، وعلمت قيام زيد ، وعلمت القيام ، لكن «علمت» يتعدى إلى المضمون المذكور بنفسه ، كما رأيت ، وأنبأت وحدّثت ، لا يتعدّيان إليه إلا بحرف الجر ، فلا تقول : أخبرتك خروج عمرو ، بل : بخروج عمرو ، وأمّا : أنبأته نبأ ، وخبّرته خبرا ، وحدثته حديثا ، فهذه المنصوبات : أسماء صريحة مقامة مقام المصدر ، أي : إنباء ، واخبارا ، وتحديثا ، ولو كانت مفعولاتها ، لجاز استعمال المفعول به مخصّصا مقامها (١) ، نحو : حدثته خروج زيد ، ونبّأته دخول خالد ، ولا يجوز (٢) في السّعة اتفاقا ؛

فإذا تقرر هذا ، علمت أن قولك : حدثتك أو أنبأتك أو أخبرتك زيدا قائما : ليس بمعنى : حدثتك التحديث المخصوص ، ونبّأتك هذه التنبئة المعيّنة وخبّرتك التخبير الخاص ، فانتصاب «زيدا قائما» ، لكونهما متضمنين للمفعول به كما ذكرنا ، لا لكونه مصدرا مبيّنا نوعه ، كما في : ضربت ضرب الأمير ، لأن : زيدا قائما ، بيان المخبر به وتعيينه ، وليس بيان كيفية نفس الإخبار الذي هو الحدث الواقع منك ، أي اللفظ والتكلم المخصوص وأنه كان سريعا أو بطيئا أو غير ذلك من صفات اللفظ ، فقولك : أخبرتك زيدا قائما ، أي أخبرتك بهذا المخبر به ، والمخبر به مفعول بلا شك ، واسم المفعول به ،

__________________

= فعّل مثل جزّأ تجزئة ، ويجوز فيه التفعيل مثل الفعل السالم نحو : قدّس تقديسا ؛

(١) بمعنى استعماله استعمالها ، أو بمعنى قيامه مقامها ؛

(٢) لا يجوز أي قيام ما ذكر مقامها ؛

١٤٣

لا يقع على المصدر ، فلا يقال في ضربت ضربا ، إن الضرب مضروب كما مضى في باب المفعول به (١) ؛

فظهر بهذا أن ما قال المصنف ، وهو أنّ «زيدا قائما» في : أخبرتك زيدا قائما ، خبر خاص ، وأن «خبرا» في قولك : أخبرتك خبرا : خبر مطلق ، وكلاهما منصوبان ، على أنه (٢) مفعول مطلق : ليس بشيء (٣) ، بل الأول خبر خاص بلا ريب ، لكن لفظ الخبر ههنا مفعول به أي مخبر به والثاني خبر مطلق ، ولفظ الخبر ههنا بمعنى الإخبار ، لا المخبر به ، فجعل أحدهما كالآخر (٤) ، إمّا غلط أو مغالطة ؛

والدليل على كونه مفعولا به ، وكمفعولي «علمت» ، أنك تقول : أخبرتك أنّ زيدا قائم ، كما تقول : علمت أو أعلمتك أنّ زيدا قائم ، فتصدّر الجملة بأنّ ، وأيضا تقول :

أخبرتك أن زيدا قائما فأنا مخبر (٥) أن زيدا قائم ، فتضيف اسم الفاعل إلى ما كان في «أخبرتك» بعد الكاف ، واسم الفاعل لا يضاف إلى المفعول المطلق ، فلا يقال : أنت ضارب ضرب الأمير ؛

وكذا ما اعترض به المصنف على نفسه من قوله : قلت زيد منطلق ، ليس بشيء ، إذ ليس «زيد منطلق» بمعنى المصدر الخاص ، كما ذكره ، بل هو بمعنى المفعول به ، أي المقول الخاص ، بخلاف : قلت قولا سريعا ، على أنه مفعول مطلق ؛

ومنشأ الغلط أن الخبر يستعمل بمعنيين : بمعنى الإخبار ، وبمعنى المخبر به ، كما أن القول يستعمل بمعنى المصدر وبمعنى المقول ، فاعرفه ؛

__________________

(١) في الجزء الأول من هذا الشرح ؛

(٢) أي على أن كلّا منهما ، كأنه قال وكلاهما منصوب على أنه ... الخ ؛

(٣) خبر عن قوله أن ما قال المصنف ؛

(٤) في أن كلّا منهما مفعول مطلق ،

(٥) بعدم التنوين لأنه مضاف إلى ما بعده كما سيوضحه الشارح ؛

١٤٤

قوله : «فهذه ، مفعولها الأول كمفعول أعطيت» ، اعلم أن مفعولها الأول كأوّل مفعولي أعطيت ، والثاني والثالث معا ، كثاني مفعولي أعطيت ، لأننا بيّنا في باب المفعول به ، أن هذه الأفعال ، في الحقيقة ، متعدية إلى مفعولين ، أولهما غير الثاني ، فمفعولها الثاني في الحقيقة : مضمون الثاني والثالث معا ، فمعنى ، أعلمتك زيدا قائما : أعلمتك قيام زيد ، فهو كأعطيت زيدا درهما ، سواء (١) ، فيجوز لك ألّا تذكر لها مفعولا أصلا ، كباب أعطيت ، وأن تذكر جميعها ، وأن تذكر الأول دون الثاني والثالث ، وأن تذكر الثاني والثالث دون الأول ، وأمّا ذكر واحد من الثاني والثالث وترك الآخر ، فعلى ما يجيء في أفعال القلوب (٢) ؛

وظاهر مذهب سيبويه : أنه لا يجوز ذكر أوّلها ، وترك الثاني والثالث ، لأنه قال (٣) :

لا يجوز أن يقتصر على واحد من الثلاثة ؛ فبعض النحاة أجرى كلامه على ظاهره ، ولم يجوّز الاقتصار على الأول ؛

وأجازه ابن السرّاج مطلقا ، وقال السيرافي : أراد سيبويه أنه لا يحسن الاقتصار على الأول ، لا أنه لا يجوز مطلقا ؛

ومذهب ابن السّراج أولى ، إذ لا مانع ، وتبعه المتأخرون ، فإذا قطعت النظر عن الأوّل ، فحال المفعول الثاني مع الثالث ، كحال أول مفعولي علمت مع الثاني ، لأنهما هما ، والأول هو الذي زاد بسبب الهمزة ، كما مضى ؛

__________________

(١) تقديره : الأمران سواء ؛

(٢) يأتي تفصيل ذلك بعد قليل ، في البحث التالي لهذا.

(٣) سيبويه ج ١ ص ١٩ ؛

١٤٥
١٤٦

[أفعال القلوب]

[ذكرها ، وبيان عملها]

[قال ابن الحاجب :]

«أفعال القلوب : ظننت ، وحسبت ، وخلت ، وزعمت»

«ورأيت ، ووجدت ؛ تدخل على الجملة الاسمية لبيان ما هي»

«عنه ، فتنصب الجزأين» ؛

[قال الرضي :]

اعلم أن الجمل التي تدخل عليها الأفعال ، لا يخلو من أن يكون المقصود منها حكاية لفظها ، أو ، لا ، فالأولى هي الواقعة بعد القول ، نحو : قلت ضرب زيد ، أو : زيد ضارب ، ولا يعمل فيها القول (١) ، إذ القصد حكاية اللفظ ، فيجب مراعاة المحكيّ ؛

والثانية ، أي التي المقصود منها معناها (٢) ، دون لفظها ، لا بدّ أن يعمل الفعل الداخل عليها في جزأيها ، لتعلق معناه بمضمونهما ، فلا يدخل ، إذن ، إلا على الاسمية لأن ذلك الفعل إن خلا من المسند إليه تعذّر عمله في الفعلية ، لأن الضروري من عمل الفعل : رفع المسند إليه ، فلا يرتفع به الفعل الذي في الجملة الفعلية ، ولا يرتفع به ما أسند إليه ذلك

__________________

(١) أي لا يؤثر فيها لفظا. وإن كانت منصوبة المحل ؛

(٢) جملة : المقصود منها معناها ، صلة الّتي ؛

١٤٧

الفعل ، أيضا ، إذ لا يرتفع اسم بفعلين ، إذ لا أثر واحد ، عن مؤثرين مستقلين ؛ وإن كان مع المسند إليه لم يعمل إلا النصب ، فيجب أن ينصب كلا جزأي الفعلية ، لتعلق معناه بمضمونهما ، ولا ينتصب الفعل إلا بالحرف ، والمسند إليه يستحيل انتصابه ، فلا يتبيّن فيهما أثر الفعل الداخل ، بلى ، إذا كان فعل معلّق عن النصب ، جاز دخوله على الفعلية ، لأنه لا يعمل ، إذن ، في الظاهر ، كقولك : علمت بمن تمرّ ، وعلمت أيّ يوم سرت ، وأيّهم رأيت ، بنصب «أيّ» ، على أنه معمول الفعل المؤخر ؛

ثم نقول : الذي يطلبه الفعل من الاسمية المدخول عليها ، إمّا فاعل ، أو مفعول ، فإن اقتضى فاعلا ، وذلك في باب كان ، رفعنا المبتدأ ، تشبيها له بالفاعل ، ونصبنا الخبر تشبيها له بالمفعول ، ولم يجز رفعهما لأن الفعل لا يرفع فاعلين ، فلا يرفع شبيهين بالفاعل ؛ ولا نصبهما ، إذ يبقى الفعل بلا مرفوع ، ولا يجوز (١) ؛ ولا نصب الأول ورفع الثاني ، لأن طلب الفعل للمرفوع قبل طلبه للمنصوب ؛ والفاعل ، في الحقيقة ، في مثل هذا : مصدر الخبر مضافا إلى المبتدأ ، ففي ، كان زيد قائما : فاعل «كان» : قيام زيد ، لأنه هو الحادث الكائن في الحقيقة ، وكذا في : صار زيد قائما ، الصائر هو قيام زيد ، وكذا في جميع أخوات «كان» ، لأن كلها بمعنى «كان» ، مع قيد آخر ، فمعنى «صار» : كان بعد أن لم يكن ، ومعنى : ما زال ، وأخواتها : كان دائما ، ومعنى أصبح وأخواتها : كان في الصبح ، والمساء ، والضحى ، ونحو ذلك ، ومعنى «ليس» : ما كان ؛

وأمّا أفعال المقاربة ، فليست من هذه ، أي من الأفعال الداخلة في الأصل على الجملة ، بل المرفوع بها فاعلها في الحقيقة ، وأخبارها مفعولة ، كما يجيء في بابها (٢) ؛

وإن اقتضى مفعولا ، نصبنا جزأي الجملة ، لأن ثانيهما متضمن المفعول الحقيقي ، وأولهما ما يضاف إليه ذلك المفعول الحقيقي ، إذ معنى ، علمت زيدا قائما : علمت قيام

__________________

(١) أي لا يجوز بقاء الفعل بلا مرفوع ؛

(٢) في هذا الجزء بعد الانتهاء من الأفعال الناسخة ؛

١٤٨

زيد ، فاعراب الجزأين إعراب الاسم الواحد ، أي ذلك المفعول الحقيقي ، فلذلك يدخل على هذين الجزأين «أنّ» الجاعلة للجزأين في تقدير جزء واحد ، ولم يدخل على الجزأين؟؟؟ بعد «كان» وأخواتها ، وإن كانا ، أيضا ، بتقدير المفرد كهذين الجزأين المنصوبين ؛؟؟؟ المقتضى للمفعول ، إمّا أفعال القلوب أو غيرها ،

فأفعال القلوب على أضرب : إمّا للظنّ فقط ، وهي حجا يحجو ، بمعنى ظن ، وخال يخال ، وحسب يحسب ، وكذا ، هب ، غير متصرف ؛

فإذا كانت الأفعال بالمعنى المذكور ، ووليها الاسمية مجرّدة من «أنّ» ، نصبت جزأيها ؛ فإن كان «حجا» بمعنى غلب ، أو قصد ، أو غير ذلك ، وخال بمعنى : اختال ، وهب ، أمرا من الهبة ، أو كانت الاسمية مصدّرة بأنّ ، لم تنصب المفعولين ، وكذا جميع أفعال القلوب المذكورة في المتن : تنصب المفعولين إذا وليها الاسمية غير مصدّرة بأنّ ؛

ويستعمل «أرى» الذي هو ما لم يسمّ فاعله من أرى ، عاملا عمل «ظنّ» الذي هو بمعناه ، ولم يستعمل بمعنى «علم» وإن كانت أريت بمعنى : أعلمت ؛

وإمّا لليقين فقط (١) ، وهو «علم» بمعنى «عرف» ، ولا يتوهم أن بين «علمت» و «عرفت» فرقا معنويا ، كما قال بعضهم ، فإن معنى ، علمت أن زيدا قائم ، و : عرفت أن زيدا قائم : واحد ، إلّا أن : «عرف» لا ينصب جزأي الجملة الاسمية كما ينصبها «علم» ، لا لفرق معنوي بينهما ، بل هو موكول إلى اختيار العرب ، فإنهم قد يخصون أحد المتساويين في المعنى بحكم لفظي دون الآخر ؛

وأجاز هشام (٢) ، إلحاق «عرف» ، و «أبصر» ، بعلم في نصب المفعولين ؛

__________________

(١) مقابل قوله : إما للظن ، وكذلك ما سيأتي ؛

(٢) هشام بن معاوية ويطلق عليه : هشام الضرير ، وهو من زعماء النحو في الكوفة ، وتقدم ذكره في الأجزاء السابقة ؛

١٤٩

ويستعمل «درى» بمعنى علم ، وتعلّم ، أمرا بمعنى «اعلم» ، لكن لا ينصبان المفعولين ، بل ترد الاسمية بعدهما مصدّرة بأنّ ، نحو : دريت أنك قائم ، و :

٦٩٤ ـ تعلّم أن بعد الغيّ رشدا

وأنّ لتالك الغير انقشاعا (١)

ولا يتصرّف في «تعلم» بمعنى : اعلم ، فإذا قيل لك : تعلّم أن الأمر كذا ، فلا تقول : تعلمت ، بل : علمت ؛

وإن كان «درى» بمعنى «ختل» ، وتعلّم ، من : تعلّمت الشيء ، أي تكلفت علمه ، فليسا من هذا الباب ، فعلم (٢) ، ينصب الجزأين إذا لم يصدّرا بأنّ ،

وإمّا للظن في الظاهر ، مع احتماله في بعض المواضع لليقين ، وهو «ظنّ» لا بمعنى : اتّهم ، قال تعالى في الظن بمعنى اليقين : (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ)(٣) ، وقد يجيء «ظن» بمعنى : اتّهم ، فينصب مفعولا واحدا ، ومعنى الاتهام : أن تجعل شخصا موضع الظن السيّئ ، تقول : ظننت زيدا ، أي : ظننت به أنه فعل سيّئا ، وكذا : اتهمته ؛

وإمّا للاعتقاد الجازم في شيء أنه على صفة معيّنة ، سواء كان مطابقا ، أو ، لا ، وهو «رأى» ، فإذا كان بالمعنى المذكور ، ووليته الاسمية المجرّدة عن «أنّ» ، نصب جزأيها ، نحو : رأيت زيدا غنيا ، سواء كان في نفس الأمر غنيا ، أو ، لا ، قال تعالى : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً)(٤) ، وهو غير مطابق ، (وَنَراهُ قَرِيباً)(٥) ، وهو مطابق ؛

__________________

(١) هذا البيت من قصيدة للقطامي ، وتقدم منها بعض الشواهد ، وقوله في الشطر الثاني لتالك لغة في تلك التي هي اسم إشارة ، وتقدم ذكر هذه اللغة في أسماء الإشارة في آخر الجزء الثالث ، ويروى : وأن لهذه الغبر ؛ والغبر جمع غبرة مثل غرفة وغرف.

(٢) تلخيص لما تقدم ، وإن كان مستغنى عن ذكره ؛

(٣) الآية ٢٠ سورة الحاقة ؛

(٤) الآية ٦ سورة المعارج ؛

(٥) الآية ٧ سورة المعارج أيضا ؛

١٥٠

وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا ...)(١) ، متضمّن معنى الانتهاء ، أي : ألم ينته علمك إلى حالهم؟!

وقد تلحق «رأى» الحلمية ، برأى العلمية ، في نصب المفعولين ، قال تعالى : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ)(٢) ؛

وإمّا لاعتقاد كون الشيء على صفة اعتقادا غير مطابق ، نحو : عدّ وجعل ، فإذا كانا بالمعنى المذكور ، ووليتهما الاسمية المجرّدة ، نصبا جزأيها ، نحو : كنت أعدّه فقيرا فبان غنيا ، وقال تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً)(٣) ، أي : اعتقدوا فيهم الأنوثة ،

وإمّا للقول بأن الشيء على صفة ، قولا غير مستند إلى وثوق ، نحو : زعمتك كريما ، وقد يستعمل «زعم» في التحقيق ، قال أميّة :

٦٩٥ ـ نودي قم واركب بأهلك إنّ

الله موف للناس ما زعموا (٤)

وإمّا لإصابة الشيء على صفة ، وهو : وجد ، وألفى ؛ وعدّا من أفعال القلوب ، لأنك إذا وجدت الشيء على صفة ، لزم أن تعلمه عليها بعد أن لم يكن معلوما ، وقوله تعالى : (وَوَجَدَكَ عائِلاً)(٥) لا يخرج عن هذا ، لأنه تعالى ، قد يستعمل (٦) من الأفعال ما يستحيل

__________________

(١) الآية ٢٤٣ سورة البقرة ؛

(٢) الآية ٤ سورة يوسف ؛

(٣) الآية ١٩ سورة الزخرف ؛

(٤) البيت بهذه الرواية : ما زعموا ، من قصيدة لأمية بن أبي الصلت ، روى فيها بعض قصص الماضين من الأمم وهذا الجزء منها في قصة سيدنا نوح ، وقيل بيت الشاهد في وصف الطوفان :

تجري سفينة نوح في جوانبه

بكل موج من الأمواج تقتحم

وقد ورد مثله في شعر للنابغة الجعدي غير أن آخره : موف للناس ما زعما والضمير فيه عائد على «الله» سبحانه وتعالى ، واستدلوا به على أن «زعم» يأتي بمعنى أخبر ، مطلقا ؛

(٥) الآية ٨ سورة الضحى ؛

(٦) عبارة غير مناسبة وقد كررها من قبل والمراد أنه يرد في كلامه تعالى مثل هذا ؛

١٥١

مضمونه بالنسبة إليه ، على سبيل التشبيه ، كقوله : نبتليه ، ويضل (١) ، ونحو ذلك ، فكأنه تعالى ، قد صادفه عائلا ، وعلمه بعد أن لم يعلم فأصلح حاله ؛

ولا يستعمل : أصاب ، وصادف ، استعمال وجد ، في نصب المفعولين خلافا لابن درستويه (٢) ؛

فهذه هي الأفعال الداخلة على الاسمية التي مفعولها الحقيقي : مصدر الثاني مضافا إلى الأوّل ، وكذا إذا كان الثاني جامدا ، تحصل منه مصدر فمعنى علمت أخاك زيدا : علمت زيديّة أخيك (٣) ؛

وإن وقعت بعدها الفعلية ، في الندرة ، فضمير الشأن مقدر قبل الفعلية ، لتصير به اسمية : نحو : حسبت يقول زيد ، أي : حسبته (٤) يقول زيد ؛

وبعض هذه الأفعال يكثر نصبه لمفعول واحد ، مع كونه بالمعنى المذكور (٥) ، نحو :

علمت زيدا ، وعلمت خروج زيد ، أي عرفته ؛ وبعضها يقلّ فيه ذلك نحو : ظننت ، وحسبت ، قال :

ولقد نزلت فلا تظنّي غيره

منّي بمنزلة المحبّ المكرم (٦) ـ ١٩١

أي لا تظنّي شيئا غير نزولك كذا (٧) ؛

قال الفراء : وقد يقوم الضمير واسم الإشارة مقام مفعوليهما ، تقول لمن قال : أظن

__________________

(١) يريد مثل انا خلقنا الإنسان من نطفة امشاج نبتليه. الآية ٢ سورة الدهر. كما أنه يقصد مثل قوله تعالى : ويضل من يشاء الآية ٨ سورة فاطر ؛

(٢) أبو محمد عبد الله بن جعفر. أخذ عن المبرد وعن ثعلب وغيرهما وتقدم له ذكر في الأجزاء السابقة ؛

(٣) أي كون زيد أخاك ؛

(٤) فالضمير للشأن هو المفعول الأول وجملة يقول الخ هي المفعول الثاني ؛

(٥) أي المعنى الذي يقتضي مفعولين ؛

(٦) تقدم ذكره في الجزء الثاني من هذا الشرح في باب الحال ؛

(٧) اي غير نزولك مني منزلة المحب المكرم ، والبيت من معلقة عنترة ؛

١٥٢

زيدا قائما : أنا أيضا أظنه ، أو أظن هذا ، وكذا باقي أفعال القلوب ؛

قال الأندلسي (١) : لو جاز قيام لفظ «ذاك» أو «هذا» مقام الجملة ، لجاز وقوعه صلة ؛ وليس ما قال بشيء ، لأن مفعولي باب «علمت» بتقدير المفرد ، على ما قدمناه ، والصلة لا تقدّر بالمفرد على حال ؛

قال الأندلسي وغيره : إن الضمير والإشارة بمعنى المصدر ، أي : ظننت الظنّ ، قلت : لا منع مما قاله الفراء ، على ما ذكرنا ؛

وتقول : ظننت به ، إذا جعلته موضع ظنك ، قال تعالى : (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ)(٢) ، أي ظنا غير الحق ، فهو مفعول مطلق ، فلا منع من كونه مفعولا به ، أي شيئا غير الحق ، كما في قوله : فلا تظني غيره ؛

قوله : «تدخل على الجملة الاسمية لبيان ما هي عنه» أي لتعيين الاعتقاد الذي هي عنه ، أي تلك الجملة صادرة عن ذلك الاعتقاد ، وقوله : هي عنه على حذف المضاف ، أي : حكمها عنه ، أي حكم المتكلم على المبتدأ بمضمون الخبر ، صادر عنه ، ففي قولك علمت زيدا قائما ، حكمك بالقيام الذي هو مضمون الخبر ، على المبتدأ ، الذي هو زيد ، صادر عن علم ، وفي ظننت زيدا قائما : عن ظنّ ؛

__________________

(١) تكرر ذكره ؛

(٢) الآية ١٥٤ سورة آل عمران ؛

١٥٣

[خصائص]

[أفعال القلوب]

[حكم حذف المفاعيل ، التعليق ، الإلغاء]

[جواز اتحاد الفاعل والمفعول]

[قال ابن الحاجب :]

«ومن خصائصها : أنه إذا ذكر أحدهما ذكر الآخر ، بخلاف»

«باب أعطيت ، ومنها : أنه يجوز فيها الإلغاء ، إذا توسطت»

«أو تأخرت لاستقلال الجزأين كلاما ، بخلاف باب»

«أعطيت ، مثل : زيد علمت ، قائم ؛ ومنها : أنها تعلّق»

«بحرف الاستفهام ، والنفي ، واللام ، مثل : علمت أزيد»

«عندك أم عمرو ؛ ومنها : أنه يجوز أن يكون فاعلها ومفعولها»

«ضميرين لشيء واحد ، مثل علمتني منطلقا ؛ ولبعضها»

«معنى آخر يتعدّى به إلى واحد ، فظننت بمعنى اتهمت ،»

«وعلمت بمعنى عرفت ، ورأيت بمعنى أبصرت ، ووجدت»

«بمعنى أصبت» ؛

[قال الرضي :]

قوله : «إذا ذكر أحدهما ذكر الآخر بخلاف باب أعطيت» ، اعلم أن حذف المفعولين معا في باب أعطيت ، يجوز بلا قرينة دالة على تعيّنهما فتحذفهما نسيا منسيّا ، تقول : فلان يعطى ويكسو ، إذ يستفاد من مثله فائدة من دون ذكر المفعولين ، بخلاف مفعولي باب علمت وظننت ، فإنك لا تحذفهما معا نسيا منسيا ، فلا تقول : علمت ، ولا : ظننت لعدم الفائدة ، لأنه من المعلوم أن الإنسان لا يخلو في الأغلب من علم أو ظن ،

١٥٤

فلا فائدة في ذكرهما من دون المفعولين ، وأمّا مع القرينة ، فلا بأس بحذفهما ، نحو : من يسمع يخل ، أي : يخل مسموعه صادقا ، وقال :

٦٩٦ ـ بأي كتاب أم بأية سنّة

ترى حبّهم عارا عليّ وتحسب (١)

وهذا ، أيضا من خواص هذه الأفعال ؛

وأمّا حذف أحدهما دون الآخر ، فلا شكّ في قلته ، مع كونهما في الأصل مبتدأ وخبرا ، وحذف المبتدأ والخبر ، مع القرينة غير قليل ، وسبب القلة ههنا ، أن المفعولين معا كاسم واحد ، إذ مضمونهما معا هو المفعول به في الحقيقة ، كما تكرر ذكره ، فلو حذفت أحدهما ، كان كحذف بعض أجزاء الكلمة الواحدة ، ومع هذا كله ، فقد ورد ذلك مع القرينة ؛

أما حذف المفعول الأول ، فكما في قوله تعالى : «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ» ، بالياء ، إلى قوله : (هُوَ خَيْراً لَهُمْ)(٢) ، أي : بخلهم هو خيرا لهم ؛

وأما حذف المفعول الثاني ، فكما في قوله :

لا تخلنا على غرائك ، إنا

طالما قد وشى بنا الأعداء (٣) ـ ٤٨

أي : لا تخلنا أذلّة ، على إغرائك الملك بنا ؛

قوله : «ومنها أنه يجوز الإلغاء» ، الفرق بين التعليق والإلغاء مع أنهما بمعنى إبطال العمل : أن التعليق : ابطال العمل لفظا لا معنى ، والالغاء : إبطال العمل لفظا ومعنى ، فالجملة مع التعليق في تأويل المصدر ، مفعولا به للفعل المعلّق ، كما كان كذلك قبل

__________________

(١) من قصيدة طويلة للكميت بن زيد ، في مدح آل البيت وهي إحدى الهاشميات وأولها :

طربت وما شوقا إلى البيض أطرب

ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب

ومنها بعض الشواهد في هذا الشرح ؛

(٢) الآية ٨٠ سورة آل عمران ؛

(٣) من معلقة الحارث بن حلّزة اليشكري ، وتقدم في الجزء الأول ؛

١٥٥

التعليق ، فلا منع من عطف جملة أخرى منصوبة الجزأين على الجملة المعلّق عنها الفعل ، نحو : علمت لزيد قائم ، وبكرا فاضلا ، على ما قال ابن الخشاب (١) ؛

وأما الإلغاء فالجملة معه ليست بتأويل المفرد ، فمعنى زيد علمت قائم : زيد في ظني (٢) قائم ، فالجملة الملغى عنها ، لا محل لها ، لأنه لا يقع المفرد موقعها ، والجملة المعلّق عنها منصوبة المحلّ ؛

والفرق الآخر : أن الإلغاء أمر اختياري لا ضروري ، والتعليق ضروري (٣) ؛

وقيل : الجملة الملغى عنها في نحو : زيد قائم ظننت ، مبنيّة على اليقين ، والشك عارض ، بخلاف المعلق عنها ؛ وليس بشيء ، لأن الفعل الملغى لبيان ما صدر عنه مضمون الجملة من الشك أو اليقين ، ولا شك أن معنى الفعل الملغى : معنى الظرف فنحو زيد قائم ظننت بمعنى : زيد قائم في ظني ، ويمنع الظرف كون الكلام الأول مبنيا على اليقين ؛

ويقبح الإلغاء مع تأخر الجملة عن فعل القلب ، لأن عامل الرفع معنوي ، عند النحاة ، وعامل النصب لفظي ، فمع تقدمهما ، يغلب اللفظيّ المعنوي ،

وعلى ما اخترنا في عامل المبتدأ والخبر ، كما شرحنا في حدّ الإعراب (٤) : ترافعهما ضعيف ، فمع تقدم عامل غيرهما ، يغلبهما ، ومع ذلك قد جاء قوله :

٦٩٧ ـ كذاك أدّبت حتى صار من خلقي

أني وجدت : ملاك الشيمة الأدب (٥)

وقوله :

__________________

(١) هو أبو محمد ، عبد الله بن أحمد البغدادي من علماء القرن السادس ؛

(٢) المناسب في تفسير المثال أن يقول في علمي ، أو يكون المثال : زيد ظننت قائم ؛

(٣) لأنه إذا وجد المعلّق امتنع العمل ولا يصح ؛

(٤) في الجزء الأول ؛

(٥) أحد بيتين أوردهما أبو تمام في الحماسة ونسبها إلى بعض الفزاريين ولم يذكر اسمه ، والبيت الثاني من شواهد النحو أيضا ، وهو قوله :

أكنيه حين أناديه لأكرمه

ولا ألقّبه والسوأة اللقب

وقد روى البيتان بنصب آخرهما ، فلا يتم استشهاد الشارح بالبيت ؛

١٥٦

٦٩٨ ـ أرجو وآمل أن تدنو مودّتها

وما إخال لدينا منك تنويل (١)

وإنما جاء ذلك ، مع ضعفه ، لأن أفعال القلوب ضعيفة ، إذ ليس تأثيرها بظاهر كالعلاج ، وأيضا ، معمولها في الحقيقة : مضمون الجملة ، لا الجملة ، وسيبويه لا يحمل ذلك على الالغاء ، بل على التعليق ، ويقول : اللام مقدرة ، حذفت للضرورة ؛

وقال بعضهم : ضمير الشأن مقدر بعد الفعل ، وهذا أقرب ، لثبوت ذلك ضرورة في غير ذلك الموضع من نواسخ الابتداء ، نحو قوله :

انّ من يدخل الكنيسة يوما

يلق فيها جآذرا وظباء (٢) ـ ٧٧

فعلى هذا ، الفعل عامل ، لا ملغى ، ولا معلّق ؛

ويقل القبح في نحو : متى تظن ، زيد ذاهب ، أعني إذا تقدم معمول الخبر ، إذ هو كتقدم الخبر وتوسّط فعل القلب بين المبتدأ والخبر ، وهو ، مع ذلك ، ضعيف ؛

وإذا توسّط الفعل بين المبتدأ والخبر ، جاز الإلغاء بلا قبح ولا ضعف ، وكذا جاز الإعمال ، وهما متساويان ، وذلك لأن الرافع (٣) القوي ، أي فعل القلب ، تقدم على أحدهما وتأخر عن الآخر ؛

وقد يقع الملغى بين الفعل ومرفوعه ، نحو : ضرب ، أحسب ، زيد ، وبين اسم الفاعل ومعموله ، قال :

٦٩٩ ـ ولستم فاعلين ، إخال ، حتى

ينال أقاصي الحطب الوقود (٤)

وبين معمولي «إنّ» ، نحو : انّ زيدا ، أحسب ، قائم ، وبين «سوف» ومصحوبها ،

__________________

(١) من قصيدة بانت سعاد. لكعب بن زهير ، ويستشهدون به أيضا على إسكان الفعل المضارع المعتل بالواو في حالة النصب في قوله أن تدنو مودتها ؛

(٢) تقدم ذكره في الجزء الأول ، وهو من شعر الأخطل التغلبي ؛

(٣) الأظهر أنها محرفة عن : العامل ، وهي هكذا في الأصل المطبوع ، وفي الهامش إشارة إلى عبارة بعض النسخ في هذا الموضع تؤيّد أنها : العامل ؛

(٤) الشاهد فيه أن الجار والمجرور في قوله : حتى ينال .. متعلق باسم الفاعل وهو قوله : فاعلين ، وقد وقع ـ

١٥٧

كسوف ، أحسب ، يقوم زيد ، وبين المعطوف والمعطوف عليه ، نحو : جاءني زيد ، وأحسب ، عمرو ؛

وتوكيد الملغى بمصدر ، قبيح ، إذ التوكيد دليل الاعتناء بحال ذلك العامل ، والإلغاء ظاهر في ترك الاعتناء به ، فبينهما شبه التنافي ؛

وأمّا توكيده بالضمير ، واسم الإشارة المراد بهما المصدر ، فأسهل ، إذ ليسا بصريحين في المصدرية ، نحو : زيد ، أحسبه ، أو : أحسب ذاك ، قائم ؛

ومصدر فعل القلب إذا لم يكن مفعولا مطلقا ، يقوم مقام فعله في الإعمال والتعليق أعجبني ظنك زيدا قائما ، وعلمك : لزيد قائم ،

وأما الإلغاء فواجب مع التوسط أو التأخر ، نحو : زيد قائم ، ظني غالب ، أي : ظني زيدا قائما : غالب ، إذ المصدر لا ينصب ما قبله ، كما قيل ، وقد تقدم ذلك في باب المصدر (١) ؛

وإن كان مفعولا مطلقا ، فإن كان الفعل مذكورا معه ، فالعمل للفعل ، كما مرّ في باب المصدر ، وكذا إن حذف الفعل جوازا ، نحو : ظنا زيدا قائما ، ففي الصورتين يجوز إلغاء الفعل وإعماله ، متوسطا ومتأخرا ، لكن الإلغاء قبيح ، لما مرّ (٢) من قبح تأكيد الفعل الملغى ؛

وأمّا إن حذف الفعل وجوبا ، كما إذا أضيف إلى الفاعل ، نحو : ظنّك زيدا قائما ، أي : ظنّ ظنا ، فعند من قال : العامل الفعل دون المصدر كما تقدم في باب المصدر ،

__________________

= بينه وبين عامله : الفعل القلبي إخال ، وهو أحد أبيات أوردها أبو تمام في الحماسة منسوبة إلى عقيل بن علّفة الجهني ، والمعنى أنكم في ظني لستم فاعلين ما أطلبه منكم حتى يبلغ الشر مداه وكنى عن ذلك ببلوغ النار أقاصي الحطب ؛

(١) في الجزء الثالث من هذا الشرح ، وكذلك فيما يأتي بعده ؛

(٢) تقدم قبل قليل ؛

١٥٨

هو كما لو حذف جوازا : يجوز الإلغاء متوسطا ، ومتأخرا ، نحو : متى زيد ، ظنك ، قائم ، ومتى زيد قائم ظنك ، ويجوز الاعمال ، أيضا ، لأنك تعمل الفعل لا المصدر ، وكذا عند من قال : العامل هو المصدر لقيامه مقام الفعل ، لا لكونه مقدّرا بأن والفعل ، يجوز الإلغاء والإعمال ، توسط ، أو تأخر ، لأن العامل فيما تقدم عليه هو الفعل في الحقيقة ، لا المصدر ،

ولا يجوز أن يكون «ظنك» منصوبا لكونه مصدرا مؤكّدا لغيره ، كزيد قائم حقا ، على ما قيل ، لما ذكرنا في المفعول المطلق (١) ؛

قوله : «ومنها (٢) : أنها تعلّق بحرف الاستفهام والنفي» ؛ التعليق ، مأخوذ من قولهم : امرأة معلّقة ، أي مفقودة الزوج ، تكون كالشيء المعلّق ، لا مع الزوج لفقدانه ، ولا بلا زوج ، لتجويزها وجوده فلا تقدر على التّزوّج ، فالعامل المعلق ممنوع من العمل لفظا ، عامل معنى وتقديرا ، لأن معنى : علمت لزيد قائم ، علمت قيام زيد ، كما كان كذا عند انتصاب الجزأين ، فمن ثمّ جاز عطف الجزأين المنصوبين ، على الجملة المعلق عنها ، نحو : علمت لزيد قائم ، وبكرا قاعدا ؛

قوله : «بحرف الاستفهام» ، المعلّق قد يكون حرف الاستفهام ، وهو الهمزة اتفاقا ، وكذا «هل» ، على خلاف فيها ، كما يأتي ، وقد يكون اسما متضمنا لمعنى الاستفهام كقوله تعالى : (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ)(٣) ، و : علمت أين جلست ومتى تخرج ، وفي معناه : الاسم المضاف إلى كلمة الاستفهام نحو : علمت غلام من عندك ، وقد يكون لام الابتداء نحو : علمت لزيد عندك ، وقد يكون حرف النفي ، وهو : ما ، وإن ، ولا ، نحو : علمت ما زيد قائما ، وإن زيد قائم ، ولا زيد في الدار ولا عمرو ، ولا رجل في الدار ؛

__________________

(١) في الجزء الأول من هذا الشرح ؛

(٢) أي من خصائص أفعال القلوب ؛

(٣) الآية ١٢ سورة الكهف ؛

١٥٩

أمّا الاستفهام ، ولام الابتداء ، وما ، وإن ، النافيتان ، فللزوم وقوعها في صدر الجمل وضعا ، فأبقيت الجمل التي دخلتها على الصورة الجمليّة ، رعاية لأصل هذه الحروف ، وإن كانت في تقدير المفرد ؛

وأما دخول لام الابتداء في المفرد ، نحو : إن زيدا لقائم ، فلضرورة ملجئة إليه ، وهي اجتماع إنّ واللام ، كما يجيء ،

وأمّا «لا» الداخلة على الجملة الاسمية فإنما كانت معلقة ، لأنها لاء (١) التبرئة المشابهة لإنّ المكسورة اللازم دخولها على الجمل ،

ومن المعلّقات : إنّ المكسورة ، إذا لم يمكن فتحها ، وذلك إذا جاء في حيّزها لام الابتداء ، نحو : علمت إنّ زيدا لقائم ، فإن اللام لا تدخل إلا مع المكسورة ، كما يجيء ، وأمّا إذا تجرّدت «انّ» عن اللام فإنها لا تعلّق ، لإمكان فتحها ، وجعلها معمولة لفعل القلب ، وذلك لأن المنصوبين بعد فعل القلب في تأويل المصدر ، فإذا أمكنك جعل «أنّ» حرفا مصدريا معمولا لفعل القلب بأن تفتح همزتها ، فهو أولى من عزل العامل بكسر «إنّ» عن عمله ، وأمّا قوله :

٧٠٠ ـ ولقد علمت لتأتينّ منيتي

إن المنايا لا تطيش سهامها (٢)

فإنما أجرى «لقد علمت» ، مجرى القسم ، لتأكيده للكلام ، لأن فيه اللام المفيدة للتأكيد ، مع «قد» المؤكدة ، وفي علمت معنى التحقيق فصار كقوله :

إني لأمنحك الصدود وإنني

قسما إليك مع الصدود لأميل (٣) ـ ٨٩

__________________

(١) تقدم توجيهه وهو أنه قصد لفظ لا ، وإعرابها ، فضعّف ثانيها وأبدل همزة ؛

(٢) في سيبويه ج ١ ص ٤٥٦ نسبة هذا البيت إلى لبيد بن ربيعة ، ووافقه الأعلم في شرح الشواهد ، والموجود في معلقة لبيد ، في وصف بقرة غافلتها الذئاب فأخذت ولدها : هو قوله :

صادفن منها غرّة فأصبنه

إن المنايا لا تطيش سهامها

وقال البغدادي : ليس في شعر لبيد ما هو على هذا الروي الا المعلقة ؛

(٣) من قصيدة جيدة للأصوص الأنصاري وتقدم ذكره في باب المفعول المطلق من الجزء الأول ؛

١٦٠