النصائح الكافية لمن يتولّى معاوية

السيّد محمّد بن عقيل بن عبد الله بن عمر بن يحيى العلوي

النصائح الكافية لمن يتولّى معاوية

المؤلف:

السيّد محمّد بن عقيل بن عبد الله بن عمر بن يحيى العلوي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الثقافة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٤

ولرسوله وما ارتكبه من معاصيه وسينكشف الغطاء عن جميع ذلك يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها والخصوم إذ ذاك الآلاف المؤلفة من المسلمين والحكم إذ ذاك من لاتخفى عليه خافية فيومئذ لا يعذب عذابه احد ولا يوثق وثاقه احد.

ربما يقول قائل انت تطالب الناس اليوم ان يوافقوا الامام عليا ومن هو على طريقته من كبار الصحابة في شأن معاوية وبغضه واستباحة لعنه وهم نعم القدوة والاسوة كما ذكرت ولكنا وجدنا كثيرا من اهل القرون الاولى كالامام الشافعي ونظرائه قد اهملوا تلك الاقوال وسكتوا عنها فهل لا يسعنا ما وسع اولئك الائمة من السكوت والاعراض عن هذه المشاجرات وطرحها جانبا.

فنقول له لا يسعكم ما وسعهم لانهم معذورون فيما سكتوا عنه ولا كذلك انتم. انهم وجدوا في زمان كانت الدولة والصولة والشوكة لبني امية وامرائهم العتاة الذين لا يرقبون في مؤمن الا ولا ذمة فلا يتجاسر احد ان يعلن أو يصرح بما يعرفه ويعتقده من مثالب اسلافهم وتوغلهم في البغي والظلم ثم اتى زمان بني العباس فكانوا على بغضهم وعداوتهم لبني امية يضيقون ذرعا بكل فضيلة واتباع وانتماء إلى علي واهل بيته عليهم السلام وكان اهل البيت وشيعتهم في ايام تينك الدولتين بل وفي امرة ابن الزبير (١)

__________________

(١) نقل أبو الفرج عن المدائني عن ابي بكر الهذلي قال : كان عبدالله بن الزبير قد اغري ببني هاشم يتبعهم بكل مكروه ويغري بهم ويخطب بهم على المنابر ويصرح ويعرض بذكرهم فربما عارضه بن عباس وغيره منهم ثم بدا له فحبس ابن الحنفية في سجن عادم ثم جمعه وسائر من كان بحضرته من بني هاشم فجعلهم في محبس له وملاه حطبا واضرم فيه النار وقد كان بلغه ان ابا عبدالله الجدلي وسائر شيعة ابن الحنفية قد وافوا لنصرته ومحاربة ابن الزبير فكان ذلك سبب ايقاعه يبه وبلغ ابا عبدالله الخبر فوافى ساعة اضرمت النار عليهم فاطفأها واستنقذهم واخرج ابن الحنفية من جوار ابن الزبير من يومئذ انتهى وقد اشار في الكامل إلى القصة وذكرها اهل الاخبار.

٢٢١

في غاية من الاضطهاد والتشريد والقتل والاذى طبق ما اخبر به المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فأنهم خرجوا من ظلم بني امية إلى ظلم بني العباس ولئن كان كان بنوا العباس اعداء لبني امية فأنهم كذلك اعداء الداء للعلويين كارهين ذكر كل ما فيه منقبة وفضل لبني علي عليه السلام حتى ان احد ملوكهم هدم قبر الحسين عليه السلام وزرع الارض فوقه وحكم بعضهم على العلويين ان لا يركبوا خيلا ولا يتخذوا خادما وان من كان بينه وبين احد من العلويين خصومة من سائر الناس قبل قول خصمه فيه ولم يطالب ببينة كما ذكر ذلك المقريزي في الخطط وغيره ومات كثير من اكابرهم في سجون بني العباس كما سبق ذكر شئ منه إلى غير ذلك مما كفتنا التواريخ مؤنة نقله فلا عجب مع هذا إذا اسكت اولئك الائمة عن الحث على الاقتداء بعلي عليه السلام في ذلك وان من الخطأ الواضح ان نجعل المعذور في سكوته عن بيان بوائق معاوية وامثاله اسوة وقدوة لنا في السكوت عنها ونحن غير مغذورين كيف وقد جاء في حديث انس وغيره انه صلى الله عليه وآله وسلم قال : عند ثناء الصحابة على الاموات بالخير والشر وجبت انتم شهداء الله في ارضه فإذا سكت غير المعذور عن ذكر تلك الموبقات منه ومن اعوانه كان كاتما للشهادة المطلوبة منه وإذا اذكر ما يعلمه من موبقاته وجرائره كان شاهد بر وصدق وإذا مدحه واطراه وتأول له التأويلات كان شاهد زور والعياذ بالله تعالى على ان السابقين بينوا ما بينوا من قبائح ذلك الطاغية وسكتوا عن كثير منها ولكنهم حيث سكتوا لم يفعلوا ما فعله من قلدتموهم من اطراء معاوية وتبريره وتسويده والامر بحبه وحب اولئك البغاة المفسدين بل كانوا يشيرون إلى رفضهم وبغضهم والتحذير من توليهم ومحبتهم بما تجده في مطاوي كلامهم من المعاريض والاشارات إذا لم يقدروا على التصريح بشئ من ذلك وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله ان في المعاريض لمندوحة عن الكذب.

٢٢٢

(واقدرهم) على سلوك هذا الطريق هو الامام الشافعي رحمه الله لما له من المعرفة بأساليب الكلام واقتداره على التوجيه والتورية بلفظ محتمل لمعنيين أو معان الا ترى انه حين كتب وصيته قال : فيها ما لفظه وافضل الخلق بعده صلى الله عليه وآله الخلفاء الاربعة ابو بكر وعمر وعثمان وعلي (عطف بعضهم على بعض بالواو والعطف به لا يقتضي ترتيبا فيحتمل ان يكون له قول في الترتيب يخالف ما عليه الجمهور) ثم قال اتولاهم واستغفر لهم ولاهل الجمل وصفين عطف على توليهم رضي الله عنهم الاستغفار لهم ليكون عطفه اهل الجمل وصفين عليهم في الاستغفار لهم حيث اعاد العاطف ولام التعدية لافي التولي إذ لفظ التولي متعد بنفسه وهذا من لطيف اشاراته رحمه الله.

ومنها ما ذكره شارح المواقف وغيره انه رحمه الله سئل عن قتلى اهل الجمل وصفين فقال تلك دماء طهر الله منها سيوفنا فلا نضمخ بها السنتنا اراد رحمه الله دماء اصحاب علي عليه السلام كدم عمار واخوانه الذين قاتلوا معاوية على تأويل القرآن كما قاتلوهم اولا على تنزيله ولا يمكن ن الشافعي رحمه الله على جلالة قدره يريد دماء اصحابه معاوية الذين يعتقد هو كغيره ان قتلهم من اعظم القربات المأمور بها في كتاب الله تعالى افيظن احد انه يعتقد ان الله طهر سيفه من دم اول ما تضمخ به سيف اخي النبي المصطفى ووصيه لا والله ولكن من لاخبرة له بأساليب الكلام ومن كان من اهل الاغراض يفسره بحمله على دماء الكل وحاشى الامام الشافعي رحمه الله من ذلك ومن فسره بذلك فقد افترى عليه كيف وهو رحمه الله القائل.

ولما رأيت الناس قد ذهبت بهم

مذاهبهم في ابحر الغي والجهل

ركبت على اسم الله في سفن النجا

وهم اهل بيت المصطفى خاتم الرسل

وامسكت حبل الله وهو ولاؤهم

كما قد امرنا بالتمسك بالحبل

٢٢٣

وقد عزا بعضهم تلك المقالة إلى الحسن البصري وعزاها بعضهم إلى ميمون بن مهران وعلى كل الاقوال فمعناها ما ذكرناه والله اعلم.

ولما كان الحديث شجون عن لي ان اذكر هنا استطرادا طرفا مما قاله الامام الشافعي رحمه الله من الابيات الدالة على شدة تمسكه بأهل البيت الطاهر ومزيد محبته لهم ورفضه لمن عاداهم أو آذاهم وفيها من الاشارات والمعاريض واستعمال التقية الجائزة ما يفهمه الفطن بعد التأمل قال رحمه الله.

لو شق قلبي لذا وسطه

سطران قد خطا بلا كاتب

الشرع والتوحيد في جانب

وحب اهل البيت في جانب

ان كنت فيما قلته كاذبا

فلعنة الله على الكاذب

وتمثل رحمه الله حين عوتب في عدم اكثاره من مدح الامام علي عليه السلام واعلان تشيعه له بقول نصيب.

لقد طال كتمانيك حتى كأنني

برد جواب السائلي عنك اعجم

لاسلم من قول الوشاة وتسلمي

سلمت وهل حي من الناس يسلم

وقال رحمه الله

يا اهل بيت رسول الله حبكم

فرض من الله في القرآن انزله

كفاكم من عظيم القدر انكم

من لم يصل عليكم لا صلاة له

وقال رضي الله عنه

قالوا ترفضت قلت كلا

ما الرفض ديني ولا اعتقادي

لكن توليت دون شك

خير امام وخير هادي

ان كان حب الوصي رفضا

فأنني ارفض العباد

وقال قدس الله سره في هذا المعنى

يا راكبا قف بالمحصب من منى

واهتف بقاعد خيفها والناهض

سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى

فيضا كملتطم الفرات الفائض

٢٢٤

ان كان رفضاحب آل محمد

فليشهد الثقلان اني رافضي

وقال نفع الله بعلومه

إذا نحن فضلنا عليا فأننا

روافض بالتفضيل عند دوي الجهل

وفضل ابي بكر إذا ما ذكرته

رميت بنصب عند ذكري للفضل

فلازلت ذا رفض ونصب كلاهما

بحبهما حتى اوسد في الرمل

وقال رحمه الله

آل النبي ذريعتي

وهم إليه وسيلتي

ارجو بهم اعطي غدا

بيدي اليمين صيفتي

وقال قدس سره

إذا كان ذنبي حب آل محمد

فذلك ذنب لست عنه اتوب

وقد نقل البيهقي عن الربيع بن سليمان احد اصحاب الشافعي رضى الله عنه قال قيل للشافعي رضى الله عنه ان اناسا لا يصبرون على سماع منقبة أو فضيلة لاهل البيت فإذا رأوا واحدا منا يذكرها يقولون هذا رافضي ويأخذون في كلام آخر فأنشأ الشافعي رضي الله عنه يقول :

إذا في مجلس ذكروا عليا

وسبطيه وفاطمة الزكية

واجري بعضهم ذكر سواهم

فايقن انه لسلقلقيه

إذا ذكروا عليا مع بنيه

تشاغل بالروايات العليه

وقال تجازوا يا قوم هذا

فهذا من حديث الرافضية

برئت إلى المهيمن من اناس

يرون الرفض حب الفاطمية

على آل الرسول صلاة ربي

ولعنته لتلك الجاهلية (١)

__________________

(١) ورحم الله محمد بن وهيب حيث قال لما كثر تردده على يزيد بن هرون ورآه يتجنب ذكر فضائل علي عليه السلام.

آتي يزيد بن هرون إذ الجه

في كل يوم ومالي وابن هرون

فليت لي بيزيد حسين اشهده

راحا وقصفا وندمانا تسليني

٢٢٥

وهذا القدر كاف من كلام الشافعي رحمه الله.

ومن حيث ان في بعضه اشارة إلى استعمال التقية في بعض الاحوال فلنذكر هنا نص ما ذكره الامام النيسابوري في تفسيره عند قوله تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين اولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ الا ان تنقوا منه تقاة ويحذركم الله نفسه.

قال رحمه الله وللتقية عند العلماء احكام منها انه إذا كان الرجل في قوم كفار ويخاف منهم على نفسه جاز له ان يظهر المحبة والموالاة ولكن بشرط ان يضمر خلافه ويعرض في كل ما يقول ما امكن فان التقية تأثيرها في الظاهر لا في احوال القلب.

ومنها انها رخصة فلو تركها كان افضل لما روى الحسن انه اخذ مسيلمة الكذاب رجلين من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فقال لاحدهما اتشهد ان محمدا رسول الله قال نعم قال اتشهد اني رسول الله قال نعم وكان مسيلمة يزعم انه رسول بني حنيفة ومحمدا رسول قريش فتركه ودعا الآخر وقال اتشهد ان محمدا رسول الله فقال نعم نعم نعم فقال اتشهد اني رسول الله فقال اني اصم ثلاثا فقدمه وقتله فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله فقال صلى الله عليه وآله وسلم اما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئا له واما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه ونظير هذه الآية الا من اكره وقلبه

__________________

اغدو إلى عصبة صمت مسامعهم

عن الهدى بين زنديق ومافون

لا يذكرون عليا في مشاهدهم

ولابنيه بني البيض الميامين

اني لاعلم اني لا احبهم

كما هم بيقين لا يحبوني

لو يستطيعون من ذكري ابا حسن

وفضله قطعوني بالسكاكين

ولست اترك تفضيلي له ابدا

حتى الممات على رغم الملاعين

وقريب من هذا قول المأمون الخليفة العباسي

إذا ما المرء سرك ان تراه له

يموت لحينه من قبل موته

فجدد عنده ذكرى علي

وصل على النبي واهل بيته

٢٢٦

مطمئن بالايمان.

ومنها انها انما تجوز فيما يتعلق بأظهار الدين فأما الذي يرجع ضرره كالقتل والزنا وغصب الاموال وشهادة الزو وقذف المحصنات واطلاع الكفار على عورات المسلمين فذلك غير جائز البتة (ومنها) ان الشافعي جوز التقية بين المسلمين كما جوزها بين الكافرين محاماة على النفس.

ومنها انها جائزة لصون المال على الاصح كما انها جائزة لصون النفس لقوله صلى الله عليه وآله حرمة مال المسلم كحرمة دمه ومن قتل دون ماله فهو شهيد ولان الحاجة إلى المال شديدة ولهذا يسقط فرض الوضوء ويجوز الاقتصار على التيمم إذا بيع الماء بالغبن قال مجاهد كان هذا في اول الاسلام فقط لضعف المؤمنين وروى عوف عن الحسن انه قال التقية جائزة إلى يوم القيامة وهذا ارجح عند الائمة (انتهى حرفيا).

قلت اتفق اصحابنا على جواز الكذب عند الضرورة بل وللمصلحة وهو عين التقية لكن ان عبرت عنه بلفظ التقية منعه كثير منهم لكونه من تعبيرات الشيعة فالخلاف فيما يظهر لفظي والله اعلم.

(عظة وذكرى)

اليك ايها القارئ نفثة مصدور مدادها الاسى ومرماها ترجي الخير بلعل وعسى.

يدعي اقوام كثيرون حب اهل البيت عليهم وامتثال امر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما اوصاهم به في حقهم ويتظاهرون بذلك وربما كتبوا فيه ما كتبوا ثم تراهم يتهافتون تهافت الفراش على استخراج وتأييد ما امكنهم ان يستنتجوا منه غمطا لفضيلة أو غضا من منقبة جاءت في حق

٢٢٧

احد من اهل البيت الطاهر اما بأنكار الصحة أو تأويل المعنى أو ادعاء وجود معارض أو ترجيح مرجوح أو دعوى اجماع لم يقع أو بلا مستند أو نحو ذلك تجد هذا كله في اكثر ما جاء في حقهم عليهم السلام.

تأمل كل حديث ورد في فضل علي عليه السلام ولو كان في اعلى مراتب الصحة تجد التعليقات عليه والتأويلات لمعناه بما لا يطابق ظاهره في الغالب لكي يطابق ويوافق ما رسخ في اذهانهم مما اعتقدوه وجمدوا عليه هذا ان سلم من دعوى وضعه أو ضعفه ولا تجد شيئا من هذا في شئ من الاحاديث الواردة في حق غيره بل تجد الامر بالعكس مع انهم ان اولوا هذه فألى فوق ما يقتضيه ظاهر لفظها وان استنبطوا منها فالى افضل ما يستنبطه المستنبطون ومن تتبع الاحاديث وما علق عليها تحقق صحة ما قلناه.

هاهم قد شحنوا كتبهم الكلامية بذكر طبقات الصحابة رضي الله عنهم وترتيبهم في الفضل فقالوا افضلهم بعد الخلفاء الاربعة باقي العشرة فأهل بدر فأحل احد فأهل بيعة الرضوان ثم عامة الصحابة ولم يذكر الا من ندر منهم الحسن ولا الحسين ولا حمزة ولا العباس ولا جعفر الطيار في هذا الترتيب ففي اي مرتبة نضعهم؟ في عوام الصحابة واجلافهم ام كيف الحال؟! نعم شكر الله سعي خطباء المنابر فأنهم لا يزالون يذكرونهم بعد ذكر الاربعة فجزاهم الله عن نبيهم واهل بيته خيرا.

استطرد بعض اصحابنا بعد ذكر تفاضل الصحابة إلى ذكر تفاضل التابعين فقال بعضهم أفضل التابعين اويس القرنى وقال بعضهم الحسن البصري وقال آخرون هو سعيد بن المسيب ولم يقل احد بأفضلية الامام زين العابدين ابن الحسين عليهما السلام وهو والله افضلهم واعجب من هذا ان بعض علماء الشافعية افرد في مؤلف له فصلا في ذكر كبار التابعين وعد منهم نحو العشرة ولم يذكر فيهم زين العابدين ولا الحسن المثنى ولا محمد بن الحنفية ولا

٢٢٨

ادري ما الصادف له عن ذلك والحال انه من كبار العلماء المطلعين وتأليفه كان بعد انقضاء الدولتين الاموية والعباسية ان هذا والله لقريب من الجفاء ان لم يكن الجفاء بعينه.

حاول البعض من اصحابنا وهم القليل تفضيل عائشة على خديجة رضى الله عنهما مع ان احاديث خيرية نساء الجنة شاهدة لخديجة بالفضل إذ لم تذكر عائشة رضي الله عنها في شئ من تلك الاحاديث ومع انه عليه السلام غضب حتى اهتز مقدم شعره من الغضب حين قالت له عائشة وقد ابدلك الله خيرا منها وقال لا والله ما ابدلني الله خيرا منها ومع ان خديجة أقرأها جبريل السلام عن ربها وعائشة اقرأها النبي السلام عن جبريل ومع ان خديجة اسبق جميع المسلمين إلى الاسلام إلى غير ذلك ولعائشة رضي الله عنها فضل لا ينكر من نشر العلم ومحبة النبي صلى الله عليه وآله لها وقوله عليه السلام فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام إلى غير ذلك وقد افرط الملا علي القاري واستدل بهذا الحديث على تفضيل عائشة مطلقا حتى على فاطمة رضي الله عنها وقارب الجمهور فقالوا عائشة افضل من فاطمة في بعض الخصال وليست الافضلية بهذا المعنى من موارد الخلاف اصلا ولسنا الآن في مجال بحث وتدقيق إذ الصبح مسفر لذي عينين ولكنا نبين لك تحامل البعض مهما امكنهم على اهل البيت عليهم السلام (١).

__________________

(١) ذهب اكثر فقهاء الشافعية إلى كراهة الصلاة على الال في التشهد الاول من الصلوات مع ان ترك الصلاة عليهم مع الصلاة عليه صلى الله عليه وآله منهي عنه بما صح من قوله صلى الله عليه وآله : لا تصلوا علي الصلاة البتراء الحديث وعللوا تلك الكراهة التي زعموها ببناء التشهد الاول على التخفيف وليت شعري اي اطالة تحصل بزيادة اربعة احرف أو سبعة نهى النبي عن تركها وإذا كانت علة الكراهة عندهم بناؤه على التخفيف فلم كرهوها للمأموم الذي فرغ من تشهده وجلس منتظرا لامامة فأنهم قالوا يدعوا بدعاء آخر أو يسكت ولا يصلي على الآل وليتهم وقفوا عند الكراهة فقط لابل قالوا بأستحباب سجود السهو في =

٢٢٩

ثم لا اخالك تجهل ما وقع من الخلاف بين الصحابة ثم التابعين ثم من بعدهم في الافضلية بين ابي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله عليه وآله ولسنا لآن سواءا كان معتقدنا هذا ام ذاك بصدد تلك الاقوال أو نقدها ورد كل منها إلى دليله إذ المسألة ليست من فرائض الدين ولا مما يضل فيها المخالف عندنا كما ذكره اكثر الاصوليين مع ان حقيقة الفضل ما هو فضل عند الله تعالى ولا يطلع على ذلك الا بالوحي ولكنا نذكرك بأن كثيرا من متأخري اهل السنة يفسقون ويبدعون من يقول بتفضيل علي كرم الله وجهه على ابي بكر وعمر رضى الله عنهما ويشددون النكير عليه مع ان للمفضلين مستندات ودلائل يرجعون إليها واقوالهم بذلك مسبوقة بأقوال كثير من

__________________

= آخر الصلاة ان اتى بها جبرا للخلل الواقع في صلاته بالاتيان بها. ويقابل هذا ما ذكره الشيخ بن حجر في شرح المنهاج في باب سجود السهو وكثير غيره قالوا يستحب للمصلي ان يسجد للسهو إذا ترك الصلاة على الصحب في القنوت جبرا للخلل الواقع في الصلاة بتركها واظن ان الشيخ كغيره لا يجهلون انه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وآله ولا عن احد من اصحابه رضي الله عنهم انه صلى على الصحب تبعا للصلاة عليه صلى الله عليه وآله أوامر بها لا في الصلاة ولا خارجها وانما قاسها من بعدهم على الصلاة على الآل والقياس الذي ذكروه فاسد لعدم الاطراد ولوجود الفارق ولنفرض صحة القياس وسنية الصلاة على الصحب لكن كيف يتصور اختلال صلاة تاركها حتى تجبر بسجود السهو مع خلو صلاة النبي صلى الله عليه وآله عنها إلى ان لقى الله تعالى فما لم يفعله النبي صلى الله عليه وآله ولو مرة قالوا بسنيته واستحبوا سجود السهو لتركه جبرا للخلل المزعوم وما نهى النبي صلى الله عليه وآله عن تركه كرهوا فعله واستحبوا السجود لمن اتى به جبرا للخلل كما قالوا فليمعن طالب الحق نظره في ذلك اما انا فأقطع ببراءة الامام الشافعي مما ذكروه إذ لم يرد عنه نص في شئ من ذلك ولا قاعدة يتخرج عليها ما زعموا بل هو القائل.

يا اهل بيت رسول اله حبكم

فرض من الله في القرآن انزله

يكفيكم من عظيم القدر انكم

من لم يصل عليكم لا صلاة له

واكاد اجزم بأن سجود السهو في كلتي المسألتين مبطل للصلاة لانه زيادة ركن غير مشروع.

٢٣٠

ائمة اهل البيت ومن الصحابة رضوان الله عليهم كالمقداد وزيد بن ارقم وسلمان وابي ذر وخباب وجابر وابي سعيد الخدري وغيرهم كما نقله عنهم ابن عبد البر وكعمار وابي بن كعب وحذيفة وبريدة وابي ايوب وسهل بن حنيف وعثمان بن حنيف وابي الهيثم ابن التيهان وخزيمة بن ثابت وابي الطفيل عامر بن واثلة والعباس بن عبدالمطلب وبنيه وبني هاشم كافة وبني المطلب كافة كما نقل ذلك كثير من العلماء ومن التابعين ايضا كثير كاويس القرني وزيد بن صوحان واخيه صعصعة وجندب الخير وعطية بن سعيد العوفي (١) وعبيدة السلماني وبني هاشم كافة وكخالد بن سعيد بن العاص وعمر بن عبد العزيز من بني امية (٢) وغير هؤلاء خلق كثير ولهؤلاء من الاحاديث الصحيحة ما يسوغ لهم الاستدلال بها على ما قالوه من تفضيل علي كرم الله وجهه كما ان لمفضلي ابي بكر رضي الله عنه مستندات وادلة كذلك.

وحيث ثبت ان المسألة خلافية فهلا سكت اولئك المفسقون والمبدعون عن مخالفيهم في ذلك جريا على القاعدة المرعية عندهم انه لا يجوز الانكار على من ارتكب مختلفا فيه كما سكتوا في المسائل الاجتهادية عمن حرم ما احل

__________________

(١) قال الحافظ بن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب قال ابن سعد كتب الحجاج إلى محمد بن القاسم ابن يعرضه (يعني عطية بن سعيد) على سب علي فان لم يفعل فأضربه اربعمائة سوط واحلق لحيته فأستدعاه فأبى ان يسب فأمضى حكم الحجاج فيه قال وكان يقدم عليا على الكل. انتهى

(٢) ذكر ابن الكلبي في التاريخ واقعة نذكرها ملخصة. قال بينا عمر بن بعد العزيز جالس في مجلسه دخل حاجبه ومعه امرأة ادماء طويلة حسنة الجسم والقامة ومعها رجلان متعلقان بها ومعهم كتاب من ميمون بن مهران إلى عمر فدفعوا إليه الكتاب ففضه فإذا فيه بسم الله الرحمن إلى امير المؤمنين عمر بن عبد العزيز من ميمون بن مهران سلام عليك ورحمة الله وبركاته اما بعد فانه ورد علينا امر ضاقت به الصدور وعجزت عنه الاوساع وهربنا بأنفسنا عنه ووكلناه إلى عالمه لقول الله عزوجل ولو ردوه إلى الرسول والى اولى الامر.

٢٣١

الآخر وحلل ما حرم مع انهم اطبقوا الا الاشعري وحده على ان افضلية ابي بكر رضي الله عنه انما هي ظنية وقد ردوا كما يرد كل ذي خبرة وبصيرة دعوى البعض الاجماع على افضلية ابي بكر رضي الله عنه.

وقد قال ابن عبد البر في الاستيعاب ذكر عبد الرزاق عن معمر قال : لو ان رجلا قال عمر افضل من أبي بكر ما عنفته وكذلك لو قال علي عندي افضل من ابي بكر وعمر لم اعنفه إذا ذكر فضل الشيخين واحبهما واثني عليهما بما هو اهله فذكرت ذلك لوكيع فأحبه واشتهاه انتهى فلا يصنع اولئك المبدعون والمفسقون صنيع هذين الامامين على الاقل.

فأنا نرى ان المتارك محسن

وان خليلا لا يضر وصول

اننا اهل السنة نطالب غيرنا بالانصاف والمطالبة به من شأن طلاب الحق فينبغي لنا ان نتحلى به تماما حتى تقبل منا المطالبة به.

__________________

منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم وهذه المرأة والرجلان احدهما زوجها والاخر أبوها وان اباها يا امير المؤمنين زعم ان زوجها حلف بطلاقها ان علي بن ابي طالب خير هذه الامة واولاها برسول الله صلى الله عليه وآله وانه يزعم ان ابنته طلقت منه وانه لا يجوز له في دينه ان يتخذه صهرا وهو يعلم انها حرام عليه كامه وان الزوج يقول له كذبت واثمت لقد بر قسمي وصدق مقالي وانها امرأتي على رغم انفك وغيظ قلبك فأجتمعوا الي يختصمون في ذلك فسألت الرجل عن يمينه فقال نعم قد كان ذلك وقد حلفت بطلاقها ان عليا خير هذه الامة واولاها برسول الله صلى الله عليه وآله عرفه من عرفه وانكره من انكره فليغضب من غضب وليرض من رضى وتسامع الناس بذلك فأجتمعوا له وان كانت الالسن مجتمعة فالقلوب شتى وقد علمت يا امير المؤمنين اختلاف الناس في اهوائهم وتسرعهم إلى ما فيه الفتنة فأحجمنا عن الحكم لتحكم بما اراك الله وانهما تعلقا بها واقسم ابوها ان لا يدعها معه واقسم زوجها ان لا يفارقها ولو ضربت عنقه الا ان يحكم عليه بذلك حاكم لا يستطيع مخالفته والامتناع منه فرفعناهم اليك يا امير المؤمنين احسن الله توفيقك وارشدك قال : فجمع عمر بني هاشم وبني امية وافخاذ قريش ثم سأل ابا المراءة وزوجها عما قالا فأجاباه بمثل ما مر عنهما فأكب عمر مليا ينكت الارض بيده والقوم صامتون ينتظرون ما يقوله ثم رفع رأسه وقال :

إذا ولى الحكومة بين قوم

اصاب الحق والتمس السدادا

٢٣٢

ان بعض المؤلفين المتأخرين منا اهل السنة يقول في بعض كتبه انظر إلى انصافنا اهل السنة حيث لم نكفر من قال بأفضلية علي على ابي بكر (انتهى) كان هذا المؤلف ـ وامثاله كثيرون ـ يرى ان تفسيق وتبديع من فضل عليا من الانصاف المحمود لا ومن انزل الكتاب ان بين هذا القول وبين الانصاف مراحل مترامية المسافات ولو كنا في هذا من الانصاف في شئ لتركنا لكل قوله في هذه ال‍ مسألة إذ هي اجتهادية محضة فللمجتهد فيها أجر ان اخطاء واجران ان اصاب إذا سلمنا انها من المسائل التكليفية والتوفيق بيد الله وحده.

دع عنك مسألة التفضيل المطلق

وانظر إلى كتبهم وما حاولو

غمطه فيها من فضائل علي الخاصة تجدهم انكروا علميته كرم الله وجهه وهو باب مدينة علم الرسول كما في الحديث الشريف وهو المؤتى تسعة اعشار الحكمة كما في حديث ابن مسعود والمؤتي تسعة اعشار العلم والمشارك في العاشر كما اقسم الحبر ابن عباس بذلك وهو الذي ما كان من الصحابة

__________________

وما خير الامام إذا تعدى

خلاف الحق واجتنب الرشادا

ثم قال للقوم ما تقولون فسكتوا فقال سبحان الله قولوا وبعد اخذ ورد وكلام طويل استدل احد بني هاشم بحديث ذكره عن النبي صلى الله عليه وآله فقال عمر صدقت وبررت اشهد لقد سمعته ووعيته يارجل خذ بيد امرأتك فان عرض لك أبوها فاهشم انفه ثم قال يا بني عبد مناف والله ما نجهل ما يعلم غيرنا وما بنا عمى في ديننا ولكنا كما قال الاول.

واعماهم حب الغنى واصمهم

فلم يدركوا الا الخسارة والوزرا

تصيدت الدنيا رجالا بفخها

فلم يدركوا خيرا بل استحقبوا الشرا

قيل فكأنما القم بني امية حجرا ومضى الرجل بأمرأته وكتب عمر إلى ميمون بن مهران عليك سلام فأني احمد اليك الله الذي لا اله الا هو اما بعد فأني قد فهمت كتابك وورد الرجلان والمرأة وقد صدق الله يمين الزوج وابر قسمه فأثبته على نكاحه فاستيقن ذلك واعمل عليه والسلام عليك ورحمة الله وبركاته (انتهى).

٢٣٣

من يقول سلوني غيره وهو الذي قال عمر فيه اعوذ بالله من معضلة ليس لها ابو الحسن وهو الذي لم ينقل انه استفتى احدا في مسألة دينية مع كثرة رجوع الصحابة إليه في المشكلات على ان خطبه ومواعظه وكلامه في العلوم الالهية بحر زاخر لا يقارب فيه ولا يدانى.

استدلوا على انكار تلك الا علمية الباهرة بأثار يدل مجموعها على ان لابي بكر رضي الله عنه حظ عظيم من العلم وهو والله كذلك ولكن لا يدل شئ منها على انه اعلم من علي كرم الله وجهه كما يدعون.

انكر معظمهم ايضا اشجعيته كرم الله وجهه التي ضربت بها الامثال ونقلت الرواة من اخبار وقائعه وخوضه معامع الحروب ومقارعته الابطال مع رسول الله صلى الله عليه وآله وبعده ما شحنت به التواريخ وامتلات به الكتب وعلمه الخاص والعام واقربه العدو والصديق.

قالوا ان ابا بكر رضي الله عنه اشجع منه واستدلوا على قولهم بمثل تصميمه رضى الله عنه على قتال اهل الردة ولو وحده وبقوله يوم الحديبية لسهيل بن عمرو امصص بظر اللات وبدفاعه عن النبي صلى الله عليه وآله في حرم مكة حين آذته قريش وامثال هذا وهذه لعمري دالة على شجاعة عظيمة في ابي بكر رضي الله عنه لكنها لا تماثل شجاعة علي كرم الله وجهه فضلا عن ان تفضلها ولا ينقص من مقداره رضي الله ان يكون علي اشجع منه.

اننا اهل السنة بهذه الدعوى صرنا هزؤا لدى الشيعة بل وعند المطلعين من اهل الملل الاخرى على وقائع التأريخ وما جرياته وليسوا بملومين ومكابرة من يكابر في مثل هذا محض تعصب لا يرتاب فيه ذو تمييز.

رأيت في غير واحد من كتب السير المتداولة بيننا ما صورته حرفيا قالوا : ومما استدل به على ان ابا بكر اشجع من علي ان عليا اخبره النبي صلى الله عليه وآله انه لا يقتله الا ابن ملجم فكان إذا دخل الحرب

٢٣٤

ولاقي الخصم علم انه لا قدرة له على قتله فهو معه كالنائم على فراشه واما أبو بكر فلم يخبر بقاتله فكان إذا دخل الحرب لا يدري هل يقتل اولا ومن هذه حاله يقاسي من التعب مالا يقاسيه غيره (انتهى).

واقول ما تهافت هؤلاء القوم على استنباط كل ما يتوصلون به إلى اهتضام حق لامير المؤمنين كرم الله وجهه في مقابلة من قبله وتسرعهم إلى تشويش كل منقبة خصه الله بها وتشبثهم بمثل هذه الاستدلالات العقيمة تأييدا منهم لما جمدوا عليه من معتقدهم وترويجا لما تمسكوا به من اقوال مقلديهم سيجر المتحرج عن الخوض فيما خاضوا فيه إلى تجشم البحث معهم مجبورا عليه وعلى الولوج معهم فيما يرى ولوجه غير مستحسن سعيا في حفظ قلوب القاصرين عن قبول ما روجوه وغالطوا به العامة مما يفسد عقيدتهم في كمال تلك المناقب الباهرة لعلي عليه السلام.

وسعى الي بعيب عزة نسوة

جعل الاله خدودهن نعالها

فنقول ان زعم المستدلين على نفي الاشجعية عن علي عليه السلام واثباتها لابي بكر رضي الله عنه بأن عليا انما يبارز الرجال ويقارع الابطال لا عن كمال شجاعة بل لان النبي عليه الصلاة والسلام اخبره بأنه لا يقتله الا ابن ملجم فهو مع مبارزه كالنائم على فراشه مردود مهدوم غير مستقيم لانه لا ملازمة ولا عناد بين علم الشخص انه لا يقتله الا فلان وبين الشجاعة أو عدمها إذ لا مانع من حصول العلم بذلك عن المعصوم لاشجع رجل في العالم أو لاجبن رجل فيه فلم اعرف حينئذ لاستدلالهم بما ذكر على جبن علي أو شجاعة ابي بكر وجها وغاية ما فيه احتمال ان عليا انما يقتحم الاهوال لا عن شجاعته بل لامنه من القتل والاحتمال انما يمنع قطعية دلالة آثار علي عليه السلام في الحروب على اشجعيته فقط لا ظنيتها الغالية ولا يثبت لغيره شجاعة كما زعموا ومع هذا فلا نسلك بهم الوعر بل نجاريهم فيما ذكروا ونقول لهم :

٢٣٥

اولا ـ ان الشجاعة ملكة نفسية والملكات النفسية انما تعرف بآثارها في الخارج وقد ظهرت آثار الشجاعة العظيمة من فعل علي كرم الله وجهه قبل ان يخبره النبي صلى الله عليه وآله بأن قاتله ابن ملجم كما ظهرت بعد ان اخبره ولم يظهر ما يماثلها من غيره.

ثانيا ـ ماذا يؤمن عليا عليه السلام بعد ما اخبره النبي صلى الله عليه وآله بأنه لا يقتله الا ابن ملجم من اين يجرج من مبارزه أو تبتر يده أو رجله أو تفقأ عينه أو يؤسر فيعذب ثم يعيش بعاهته إلى ان يقتله ابن ملجم ولماذا كان يلبس البيضة والمغفر والدرع إذا كان مع خصمه كالنائم على فراشه كما زعموا.

ثالثا ـ انهم بهذا الاستدلال خصوا ابا بكر رضي الله عنه فقط بأنه اشجع من علي ولا معنى للتخصيص الا حاجة في نفس يعقوب إذ يمكنهم ان يقولوا ان كل الصحابة اشجع من علي ودليلهم المزعوم يحتمله.

رابعا ـ ان عليا وابا بكر رضي الله عنهما قد سمعا قول الله تعالى قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وقوله جل جلاله فإذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون وقوله عز من قائل وما كان لنفس ان تموت الا بأذن الله كتابا مؤجلا وكلاهما يعلم ان المقتول يموت بأجله كما هو مذهب اهل السنة فكل منهما يعتقد إذا برز للقتال انه ان كان هذا يوم انتهاء اجله فهو لا محالة ميت اما في المعركة أو على فراشه وان لم يكن يوم انتهاء اجله فلا يقدر جميع اهل الارض على قتله اللهم الا ان زعموا نقصا في يقين احد منهما وحاشاهما من ذلك كيف وكل مؤمن يوقن بذلك هذا. اعرابي يقول :

يخوفني بالقتل قومي وانما

اموت إذا جاء الكتاب المؤجل

وحيث كان الامر كذلك فلم خصوا عليا رضي الله عنه باطمئنان القلب

٢٣٦

إذا برز إلى القتال دون ابي بكر ثم عكسوا الاستدلال فجعلوا الاطمئنان الذي بحكم العقل والعرف بأنه دال على الشجاعة دليلا على نفيها وجعلوا عدمه دليلا على ثبوتها.

خامسا ـ انه ورد ايضا في حق ابي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله ما يؤمنه من القتل فقد اخرج البخاري والترمذي واحمد من حديث انس قال صعد النبي صلى الله عليه وآله وابو بكر وعمر وعثمان احدا فرجف بهم فضربه النبي صلى الله عليه وآله وقال اثبت احد فأنما عليك نبي وصديق وشهيدان وهذا صريح في ان الصديق رضي الله عنه لا يستشهد واخرج الطبراني عن ابي الدرداء حديث اقتدوا بالذين بعدي ابي بكر وعمر الحديث وهذا يدل على انه لا يموت الا بعد النبي صلى الله عليه وآله فهو في مأمن من الموت مدة حياته عليه الصلاة والسلام وما لزم عليا عليه السلام فيما اخبر به يلزم ابا بكر رضي الله عنه فيما اخبر به كذلك فلم يبق لنا طريق إلى معرفة الاشجع منهما الا بما برز في الخارج من افعال كل منهما والمنصف يعرف. وكأن المستدلين بأمثال هذه الوساوس يظنون ان نقش الصحائف باقلام يمدها الوهم والتخيل يقلب لهم الحقائق أو يثبت منها ما لم يكن وهيهات هيهات ام حسب الذين في قلوبهم مرض ان لن يخرج الله اضغانهم.

انكر الكثير ايضا اسبقية اسلامه كرم الله وجهه على اسلام كل الصحابة الا خديجة رضي الله عنها وجزموا بأسبقية اسلام ابي بكر رضي الله عنه مع ان الادلة الحديثية والمنقول عن كثير من اعلام الصحابة اقؤى بكثير جدا مما دل على تقدم اسلام ابي بكر رضي الله عنه ولو لم يكن منها الا حديث سلمان اولكم وردا على الحوض اولكم اسلاما علي بن ابي طالب وحديث علي نفسه صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله كذا وكذا لا يصلي معه غيري الا خديجة وحديث بن عباس رضي الله عنهما هو ـ يعني عليا ـ اول عربي

٢٣٧

وعجمي صلى مع النبي صلى الله عليه وآله وحديث عفيف الكندي وقول العباس له فيه لم يتبعه فيما ادعى الا امراته وابن عمه هذا الغلام (١) وما صح عن سعد بن ابي وقاص رضي الله عنه قال اسلم قبل ابي بكر اكثر من خمسة ولكنه كان خيرنا اسلاما وقوله عليه الصلاة والسلام لفاطمة زوجتك سيدا في الدنيا والآخرة وانه اول اصحابي اسلاما واكثرهم علما واعظمهم حلما لكفى في ترجيح القول باسبقية اسلامه كرم الله وجهه مع ان الذين صرحوا من الصحابة والتابعين باسبقية اسلامه كرم الله وجهه كثير منهم سلمان وابوذر والمقداد بافضليته كما مر عن ابن عبد البر وابن عباس وابو الاسود ومحمد بن كعب القرظي ومحمد بن الحنفية وعبد الله بن عياش بن ربيعة وعامة اهل البيت وخباب وجابر وابو سعيد الخدري وزيد بن ارقم وهؤلاء القائلون ومن لا يحصى عدا.

واليك ادلتهم على اسبقية اسلام ابي بكر رضي الله عنه وذلك ما اخرج الترمذي وابن حبان في صحيحه عن ابي بكر انه قال الست احق الناس بها الست اول من اسلم وما اخرجه الطبراني في الكبير عن الشعبي قال سألت ابن عباس اي الناس كان اول اسلاما قال : ابو بكر الم نسمع قول حسان.

واول الناس منهم صدق الرسلا

وما ذكره بن عبد البر عن عمرو بن عبسة قال اتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وهو نازل بعكاظ فقلت يا رسول الله من اتبعك على هذا الامر قال حرو عبد ابو بكر وبلال قال فاسلمت عند ذلك وما اخرجه أبو نعيم عن ميمون بن مهران

__________________

(١) قال الحافظ بن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب وقد ـ يعنى عفيف الكندي ـ على رسول الله صلى الله عليه وآله قال وقال العسكري ولما اسلم قال لو كان رزقني الله السبق إلى الاسلام فأكون ثانيا مع علي وكذا ذكره ابن سعد ثم قال وكان سيدا في الجاهلية والاسلام وكان عابدا (انتهى).

٢٣٨

انه قال والله لقد آمن ابو بكر بالنبي صلى الله عليه وآله زمن بحيراء الراهب حين مر به ذلك قبل ان يولد علي قالوا ايضا وقال : به خلائق من الصحابة ولكنهم لم يسموا منهم غير من ذكر. هذه ادلتهم والى المنصف نكل فحصها والموازنة بينها وبين ما مر مع انا لا نرتاب في ان ابا بكر رضى الله عنه من السابقين الاولين إلى الاسلام والقائمين بالدعوة إليه رضي الله عنه وارضاه.

يقول بعض المشاغبين من اصحابنا ان اسلام ابي بكر رضي الله عنه كان في سن الكمال كغيره من الصحابة وان اسلام علي كرم الله وجهه كان في حال صباه وهي حال قصور ونقول هذا من باب قلب الفضيلة جدلا إلى النقيصة اليس من القطعي انه عليه الصلاة والسلام لا يفعل شيئا من امور التبليغ الا بأمر امره الله به ثم ياترى اسلام علي كرم الله وجهه كان بالهام من الله ام بدعاية النبي عليه الصلاة والسلام إليه والاول لا يصح لانه يستلزم تقديمه على النبي صلى الله عليه وآله فانه لم يكن اسلامه الهاما ولم يكن يعرفه حتى جاءه جبريل به فتعين الثاني وفيه فضيلة لعلي خاصة حيث امر الله نبيه بدعائه بخصوصه إلى الاسلام من بين الصبيان ولم يدع غيره منهم ولو لم يمنحه الله في حال صباه من الاستعداد والاهلية ما منحه اهل الكمال لكان الامر بدعائه إلى الاسلام عبثا ينزه عنه الحكيم الخبير وفي هذا مشابهة لما منحه الله تعالى نبيه يحيى عليه السلام قال تعالى وآتيناه الحكم صبيا.

ربما يقول قائل ان هذه المباحث لكما ذكرت ومن حيث انها متقضية لا تقضي بنا إلى كبير فائدة في المستقبل فلنتركها جانبا ونشتغل بالاهم (فنقول له) ان البحث عن الحقائق افضل ما يتوخاه الطالب ولكنا نرجع معك إلى الحال والاستقبال ونقول ها نحن قد امرنا بالتمسك بكتاب الله تعالى وبعترة نبينا محمد صلى الله عليه وآله واخبرنا عليه الصلاة والسلام بأنهما لم يفترقا حتى يردا عليه الحوض وبأن التمسك بهما لن يضل ابدا فماذا فعلنا وبمن من اهل

٢٣٩

بيته تمسكنا بعلي بن ابي طالب كرم الله وجهه وقد سالمنا من حارب ووالينا من عادى واحببنا من ابغض وقلنا في حق اولئك القاسطين بغير ما يقول وعظمناهم كما يعظم السابقون الاولون واثبتنالهم الاجر والثواب على مناصبته وقتل اصحابه ومنازعته حقه ام تمسكنا باولاده من بعده ونحن قد اهملنا الرواية عنهم وانفنا من الاخذ منهم وهم من هم اللهم الا في احاديث قليلة جاءتنا عرضا فذكرناها واقوال وافقت مشربنا فنقلناها ان قلنا انهم لا يعلمون فقد كذبنا جدهم عليه الصلاة والسلام فيما قال إذ امره بالتمسك بهم يستلزم وجود العلماء منهم في كل زمان وان قلنا انهم مخطئون فيما علموا فالامر ادهى وامر والمصيبة اعظم واضر وان ادعينا وفاقهم وانتحلنا اتباعهم كذبتنا شواهد الاحوال هذه كتبنا صفر من ذكر اقوالهم خاوية على عروشها من فتاويهم لا نوليهم انصافا ولا نعتبر لهم خلافا.

لا نقصد بهذا تنقيصا للمذاهب الموجودة المعمول بها بيننا ولا القدح فيها ولا في مجتهديها ولا الحط من مراتبهم فأنهم بحور العلم واطواد التحقيق والاجتهاد في الدين لا يختص بعالم دوم آخر ولا ينحصر في اهل البيت ولا في غيرهم كلهم على هدى ان شاء الله وكلها عندنا صحيحة ومقبولة اللهم الا مسائل قليلة لم يبق للقوس فيها منزع ولا للتقليد فيها مجال شأن اهل المذاهب واختلافهم على اننا نزداد اطمئنانا وسكونا فيما كان مستندهم فيه النقل عن اهل بيت نبيهم أو معتمدهم الوفاق لواحد منهم للضمان الوارد في الحديث بعدم الضلال والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

هذه حقائق تحوك في صدور المحبين المخلصين وتصغي إليها افئدة المؤمنين المتقيين صرحت فيها بمر الحق وتوخيت فيها محض الصدق ليعلم الكل ان في رجال اهل السنة من الانصاف شأنهم وقول الحق ديدنهم وقد ثبت في الافصاح بتلك الحقائق عن جمع كثير وجم غفير من اصحابنا اهل

٢٤٠