حديث المنزلة

السيّد علي الحسيني الميلاني

حديث المنزلة

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-256-3
الصفحات: ٨٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

سمعٌ وطاعة ، فسدّ بابه ، ثمّ أرسل إلى عمر ، ثمّ أرسل إلى العباس بمثل ذلك ، ثمّ قال رسول الله : « ما أنا سددت أبوابكم وفتحت باب علي ، ولكن الله فتح باب علي وسدّ أبوابكم » (١).

وفي مجمع الزوائد وكنز العمال وغيرهما ـ واللفظ للأوّل ـ : لمّا أخرج أهل المسجد وترك عليّاً قال الناس في ذلك [ أي تكلّموا في ذلك واعترضوا ] فبلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : « ما أنا أخرجتكم من قبل نفسي ، ولا أنا تركته ، ولكنّ الله أخرجكم وتركه ، إنّما أنا عبد مأمور ، ما أُمرت به فعلت ، إنّ أتّبع إلاّ ما يوحى إليّ » (٢).

وفي كتاب المناقب لاحمد بن حنبل ، وكذا في المسند ، وفي المستدرك للحاكم ، وفي مجمع الزوائد ، وتاريخ دمشق ، وغيرها (٣) عن زيد بن أرقم قال : كانت لنفر من أصحاب رسول الله أبواب شارعة في المسجد ، فقال يوماً : « سدّوا هذه الأبواب إلاّ باب علي » ، قال : فتكلّم في ذلك ناسٌ ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : « أمّا بعد ، فإنّي أمرت بسدّ هذه الأبواب غير

__________________

(١) مجمع الزوائد ٩ / ١١٤.

(٢) مجمع الزوائد ٩ / ١١٥ ، كنز العمال ١١ / ٦٠٠ رقم ٣٢٨٨٧ ـ دار إحياء التراث.

(٣) فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام لاحمد بن حنبل : ٧٢ رقم ١٠٩ ، مسند أحمد ٥ / ٤٩٦ رقم ١٨٨٠١ ، مستدرك الحاكم ٣ / ١٢٥ ، مجمع الزوائد ٩ / ١١٤ ، ترجمة الإمام علي عليه‌السلام من تاريخ دمشق ١ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠ رقم ٣٢٤ ، الرياض النضرة ٣ / ١٥٨.

٤١

باب علي ، فقال فيه قائلكم ، والله ما سددت شيئاً ولا فتحته ، ولكن أُمرت بشيء فاتّبعته ».

وهذا الحديث موجود في صحيح الترمذي ، وفي الخصائص للنسائي (١) ، وغيرهما من المصادر أيضاً.

ولذا كانت قضية سدّ الأبواب من جملة موارد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « علي منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي ».

وإلى الآن ظهرت دلالة حديث المنزلة على إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام :

من جهة ثبوت العصمة له.

ومن جهة ثبوت الأفضلية له.

ومن جهة ثبوت بعض الخصائص الاُخرى الثابثة لهارون.

__________________

(١) خصائص النسائي : ٥٩ رقم ٣٨.

٤٢

دلالة حديث المنزلة

على خلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام

ننتقل الآن إلى دلالة هذا الحديث على خصوص الخلافة والولاية ، فيكون نصّاً في المدّعى.

ولا ريب في أنّ من منازل هارون : خلافته عن موسى عليه‌السلام ، قال تعالى عن لسان موسى يخاطب هارون : ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ )(١).

فكان هارون خليفة لموسى ، وعلي بحكم حديث المنزلة خليفة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيكون هذا الحديث نصّاً في الخلافة والإمامة والولاية بعد رسول الله.

ومن جملة آثار هذه الخلافة : وجوب الطاعة المطلقة ،

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٤٢.

٤٣

ووجوب الإنقياد المطلق ، والطاعة المطلقة والإنقياد المطلق يستلزمان الإمامة والولاية العامة.

ولا يتوهمنّ أحدٌ بأنّ وجوب إطاعة هارون ووجوب الإنقياد المطلق له كان من آثار وأحكام نبوّته ، لا من آثار وأحكام خلافته عن موسى ، حتّى لا تجب الإطاعة المطلقة لعلي ، لأنّه لم يكن نبيّاً.

هذا التوهم باطل ومردود ، وإنْ وقع في بعض الكتب من بعض علمائهم ، وذلك لأنّ وجوب الإطاعة المطلقة إنْ كان من آثار النبوّة لا من آثار الخلافة ، إذن لم يثبت وجوب الإطاعة للمشايخ الثلاثة ، لأنّهم لم يكونوا أنبياء ، وأيضاً : لم يثبت وجوب الإطاعة المطلقة لعلي في المرتبة الرابعة التي يقولون بها له عليه‌السلام ، إذ ليس حينئذ نبيّاً ، بل هو خليفة.

فإذن ، وجوب الإطاعة لهارون كان بحكم خلافته عن موسى لا بحكم نبوّته ، وحينئذ تجب الإطاعة المطلقة لعلي عليه‌السلام بحكم خلافته عن رسول الله ، وبحكم تنزيله من رسول الله منزلة هارون من موسى. فالمناقشة من هذه الناحية مردودة.

وإذا ما رجعنا إلى الكتب المعنيّة بمثل هذه البحوث ، لرأينا تصريح علمائهم بدلالة حديث المنزلة على خلافة علي عليه‌السلام.

فراجعوا مثلاً كتاب التحفة الإثنا عشرية الذي ألّفه مؤلّفه ردّاً

٤٤

على الشيعة الإمامية الإثنا عشرية ، فإنّه يعترف هناك بدلالة حديث المنزلة على الخلافة ، بل يضيف أنّ إنكار هذه الدلالة لا يكون إلاّ من ناصبي ولا يرتضي ذلك أهل السنة.

إنّما الكلام في ثبوت هذه الخلافة بعد رسول الله بلا فصل ، أمّا أصل ثبوت الخلافة لأمير المؤمنين بعد رسول الله بحكم هذا الحديث فلا يقبل الإنكار ، إلاّ إذا كان من النواصب المعاندين لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، كما نصّ على ذلك صاحب التحفة الإثنا عشرية.

يقول صاحب التحفة هذا الكلام ويعترف بهذا المقدار من الدلالة.

إلاّ أنّك لو راجعت كتب الحديث وشروح الحديث لرأيتهم يناقشون حتّى في أصل دلالة حديث المنزلة على الخلافة والولاية بعد رسول الله ، أي ترى في كتبهم ما ينسبه صاحب التحفة إلى النواصب ، ويقولون بما يقوله النواصب.

فراجعوا مثلاً شرح حديث المنزلة في كتاب فتح الباري لابن حجر العسقلاني الحافظ ، وشرح صحيح مسلم للحافظ النووي ، والمرقاة في شرح المشكاة ، تجدوهم في شرح حديث المنزلة يناقشون في دلالة هذا الحديث على أصل الإمامة والولاية ، وهذا ما كان صاحب التحفة ينفيه عن أهل السنّة وينسبه إلى النواصب.

٤٥

أقرأ لكم عبارة النووي في شرح صحيح مسلم ، ونفس العبارة أو قريب منها موجود في الكتب التي أشرت إليها وغيرها أيضاً من الكتب ، يقول النووي (١) : وليس فيه [ أي في هذا الحديث ] دلالة لاستخلافه [ أي استخلاف علي ] بعده [ أي بعد الرسول ] ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما قال لعلي حين استخلفه على المدينة في غزوة تبوك [ أي إنّ هذا الحديث وارد في مورد خاص ].

يقول : ويؤيّد هذا أنّ هارون المشبّه به لم يكن خليفة بعد موسى ، بل توفي في حياة موسى قبل وفاة موسى بنحو أربعين سنة على ما هو المشهور عند أهل الأخبار والقصص ، قالوا : وإنّما استخلفه ـ أي استخلف موسى هارون ـ حين ذهب لميقات ربّه للمناجاة ، فكانت الخلافة هذه خلافة موقتة ، وكانت في قضية خاصة محدودة ، وليس فيها أي دلالة على الخلافة بالمعنى المتنازع فيه أصلاً.

وهل هذا إلاّ كلام النواصب الذي يأبى أن يلتزم به مثل صاحب التحفة ، فينسبه إلى النواصب ؟

وأمّا ما يقوله ابن تيميّة وغير ابن تيميّة من أصحاب الردود

__________________

(١) شرح النووي لصحيح مسلم المجلد الثامن الجزء ١٥ / ١٧٤.

٤٦

على الشيعة الإمامية ، فسنذكر مقاطع من عباراتهم ، لتعرفوا من هو الناصبي ، وتعرفوا النواصب أكثر وأكثر.

وإلى هنا بيّنا وجه دلالة حديث المنزلة على الخلافة والإمامة والولاية بعد رسول الله بالنص ، وأنّ صاحب التحفة لا ينكر هذه الدلالة ، وإنّما يقول بأنّ الدلالة على الإمامة بلا فصل أوّل الكلام ، لأن النزاع والكلام في دلالة الحديث على الإمامة بعد رسول الله مباشرة.

٤٧
٤٨

محاولات القوم في ردّ حديث المنزلة

وحينئذ ندخل في الجهة الثالثة من جهات بحثنا عن حديث المنزلة ، أي في المناقشات العلمية ، وفي محاولات القوم في ردّ هذا الحديث وإبطاله.

أوّلاً : المناقشات العلمية

ونحن على استعداد تام لقبول أيّ مناقشة إنْ كانت مناقشة علمية ، وعلى أُسس علمية وقواعد مقرّرة في كيفيّة البحث والمناظرة ، ويتلخّص ما ذكروه في مقام المناقشة في دلالة هذا الحديث في المناقشات الثلاثة التالية :

المناقشة الأولى :

إنّ هذا الحديث لا يدلّ على عموم المنزلة ، وحينئذ تتمّ المشابهة بين علي وهارون بوجه شبه واحد ، ويكفي ذلك في صحّة الحديث ، أمّا أنْ يكون علي نازلاً من رسول الله منزلة هارون من

٤٩

موسى بجميع منازل هارون فلا نوافق على هذا.

المناقشة الثانية :

إنّ هذه الخلافة كانت خلافة موقتةً في ظرف خاص ، وزمان محدود ، وفي حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما كانت خلافة هارون عن موسى في حياة موسى عندما ذهب لمناجاة ربّه ، وكانت تلك الخلافة أيضاً في حياة موسى ، ويؤيّد ذلك موت هارون في حياة موسى ، فأين الخلافة بالمعنى المتنازع فيه ؟

المناقشة الثالثة :

إنّ حديث المنزلة إنّما ورد في خصوص غزوة تبوك ، وإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال هذا الكلام عندما خرج في غزوة تبوك وترك عليّاً ليقوم بشؤون أهله وعياله ومن بقي في المدينة المنوّرة ، فالقضيّة خاصة وحديث المنزلة إنّما ورد في هذه القضية المعيّنة.

ولابدّ من الإجابة عن هذه المناقشات واحدة واحدة :

الجواب عن المناقشة الأولى :

والمناقشة الأولى كانت تتلخّص في نفي عموم المنزلة ، فنقول

٥٠

في الجواب : بأنّ الحديث يشتمل على لفظ وهو اسم جنس مضاف إلى عَلَم قال : « أنت منّي بمنزلة هارون » ، فكلمة المنزلة اسم جنس مضاف إلى علم وهو هارون ، ثمّ يشتمل الحديث على استثناء « إلاّ أنّه لا نبي بعدي » ، فالكلام مشتمل على اسم جنس مضاف إلى علم ، ومشتمل على استثناء باللفظ الذي ذكرناه ، هذا متن الحديث.

ولو رجعنا إلى كتب علم أُصول الفقه ، ولو رجعنا إلى كتب علم البلاغة وكتب الادب ، لوجدناهم ينصّون على أنّ الإستثناء معيار العموم ، وينصّون على أنّ من ألفاظ العموم اسم الجنس المضاف ، فأي مجال للمناقشة ؟ اسم الجنس المضاف « بمنزلة هارون » من صيغ العموم ، والإستثناء أيضاً معيار العموم ، فيكون الحديث نصّاً في العموم ، إذْ ليس في الحديث لفظ آخر ، فلفظه : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي » ، وحينئذ يسقط الإشكال وتبطل المناقشة.

وهذه عبارة ابن الحاجب الذي هو من أئمّة علم الأصول ومن أئمّة علم النحو والصرف وعلوم الادب ، يقول في كتاب مختصر الأصول ـ وهو المتن الذي كتبوا عليه الشروح والتعاليق الكثيرة ، وكان المتن الذي يدرّس في الحوزات العلمية ـ : ثمّ إنّ الصيغة

٥١

الموضوعة له ـ أي للعموم ـ عند المحققين هي هذه : أسماء الشرط والإستفهام ، الموصولات ، الجموع المعرفة تعريف جنس لا عهد ، واسم الجنس معرفاً تعريف جنس أو مضافاً (١).

وإن شئتم أكثر من هذا ، فراجعوا كتابه الكافية في علم النحو بشرح المحقق الجامي المسمّى ب‍ ( الفوائد الضيائيّة ) ، وهو أيضاً كان من الكتب الدراسيّة إلى هذه الأواخر.

وراجعوا من كتب الأصول أيضاً كتاب المنهاج للقاضي البيضاوي وشروحه.

وأيضاً راجعوا فواتح الرحموت في شرح مسلّم الثبوت ، الذي هو من كتب علم أُصول الفقه المعتبرة المشهورة عند القوم.

وراجعوا من الكتب الأدبية كتاب الأشباه والنظائر للسيوطي.

وراجعوا من كتب علم البلاغة المطوّل في شرح التلخيص ومختصر المعاني في شرح التلخيص للتفتازاني ، هذين الكتابين اللذين يدرّسان في الحوزات العلمية.

وهكذا غير هذه الكتب المعنية بعلم أُصول الفقه وعلم النحو والبلاغة.

__________________

(١) المختصر ( بيان المختصر ٢ ) : ١١١ ـ مركز إحياء التراث الاسلامي ـ مكة المكرمة.

٥٢

وأمّا الإستثناء ، فقد نصّ أئمّة علم أُصول الفقه كذلك كما في كتاب منهاج الوصول إلى علم الأصول للقاضي البيضاوي ، وفي شروحه أيضاً ، كشرح ابن إمام الكاملية وغير هذا من الشروح ، كلّهم ينصّون على هذه العبارة يقولون : معيار العموم الإستثناء.

فكلّ ما صحّ الإستثناء منه ممّا لا حصر فيه فهو عام ، والحديث يشتمل على الإستثناء.

وقد يقال : لابدّ من رفع اليد عن العموم ، بقرينة اختصاص حديث المنزلة بغزوة تبوك ، وإذا قامت القرينة أو قام المخصص سقط اللفظ عن الدلالة على العموم ، فيكون الحديث دالاًّ على استخلافه ليكون متولّياً شؤون الصبيان والنساء والعجزة ـ بتعبير ابن تيميّة ـ الباقين في المدينة المنوّرة لا أكثر من هذا.

لكن يردّ هذا الإشكال وهذه الدعوى ، ورود حديث المنزلة في غير تبوك ، كما سنقرأ.

وقد يقال أيضاً : إنّ الإستثناء إنّما يدلّ على العموم إنْ كان استثناء متّصلاً ، وهذا الإستثناء منقطع ، لأن الجملة المستثناة جملة خبرية ، ولا يمكن أنْ تكون الجملة الخبرية استثناؤها استثناءً متصلاً.

وهذه بحوث علمية لابدّ وأنّكم مطّلعون على هذه البحوث ،

٥٣

وهذا وجه للاشكال وجيه ، ذكره صاحب التحفة الإثنا عشرية (١) ، فإنْ تمّ سقط الإستدلال بعموم الإستثناء.

ولكن عندما نراجع ألفاظ الحديث نجد فيها مجيء كلمة « النبوّة » مستثناة بعد « إلاّ » ، وليس هناك جملة خبرية ، وسند هذا الحديث أو هذه الأحاديث سند معتبر ، وممّن نصّ على صحّة سند الحديث بهذا اللفظ : ابن كثير الدمشقي في كتابه في التاريخ البداية والنهاية (٢).

على أنّ من المقرّر عندهم في علم الأصول وفي علم البلاغة أيضاً : إنّ الأصل في الإستثناء هو الاتّصال ، ولا ترفع اليد عن هذا الأصل إلاّ بدليل ، إلاّ بقرينة ، وأراد صاحب التحفة أن يجعل الجملة الخبرية المستثناة قرينة ، وقد أجبنا عن ذلك بمجيء المستثنى إسماً لا جملة خبريّة.

ولو أردتم أن تطّلعوا على تعابيرهم وتصريحاتهم بأنّ الأصل في الإستثناء هو الاتّصال لا الانقطاع ، فراجعوا كتاب المطوّل ، هذا الكتاب الموجود بأيدينا ، الذي ندرسه وندرّسه في الحوزة

__________________

(١) التحفة الإثنا عشرية : ٢١١.

(٢) البداية والنهاية ، المجلّد ٤ الجزء ٧ / ٣٤٠.

٥٤

العلميّة (١).

وأيضاً يمكنكم مراجعة كتاب كشف الأسرار في شرح أُصول البزدوي (٢) للشيخ عبد العزيز البخاري الذي هو من مصادرهم الاُصولية.

كما بإمكانكم مراجعة كتاب مختصر الأصول لابن الحاجب (٣) أيضاً ، وهو ينصّ على هذا.

بل لو راجعتم شروح الحديث ، لوجدتم الشرّاح من المحدّثين أيضاً ينصّون على كون الإستثناء هذا متّصلاً لا منقطعاً ، فراجعوا عبارة القسطلاني في إرشاد الساري (٤) ، وراجعوا أيضاً فيض القدير في شرح الجامع الصغير.

إذن ، سقطت المناقشة الأولى ، وتمّت دلالة الحديث على العموم أي عموم المنزلة ، وهذه البحوث بحوث تخصصيّة ، أرجو الإلتفات إليها وتذكّر ما درستموه من القواعد العلمية المفيدة في مثل هذه المسائل.

__________________

(١) المطوّل : ٢٠٤ ـ ٢٢٤ ـ انشارات داوري قم ـ ١٤١٦ ه‍.

(٢) كشف الأسرار ٣ / ١٧٨ باب بيان التغير ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ١٤١٨.

(٣) المختصر ( بيان المختصر ٢ ) : ٢٤٦.

(٤) ارشاد الساري ٦ / ١١٧ ـ ١١٨ ـ دار احياء التراث العربي ـ بيروت.

٥٥

الجواب عن المناقشة الثانية :

والمناقشة الثانية كان ملخصها : إنّ الإستخلاف هذا كان في قضية معيّنة ، وفي حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما أنّ استخلاف هارون كان في حياة موسى ، وقد مات هارون قبل موسى ، إذن لا دلالة على الإمامة والخلافة بالمعنى المتنازع فيه.

هذا الإشكال الذي طرحه كثيرون منهم ، من ابن حجر العسقلاني ، ومن القسطلاني ، ومن القاري ، ومن غيرهم من كبار المحدّثين ، وأيضاً من المتكلّمين ، لو راجعتم إلى كتبهم لوجدتم هذا الإشكال وهذه المناقشة.

مع ابن تيمية :

بل لو رجعتم إلى منهاج السنّة لوجدتم عبارات ابن تيميّة مشحونة بالبغض والعداء والتنقيص والطعن في علي عليه‌السلام ، لأقرأ لكم بعض عباراته يقول :

كان النبي كلّما سافر في غزوة أو عمرة أو حجّ يستخلف على المدينة بعض الصحابة ، حتّى أنّهم ذكروا استخلاف رسول الله ابن أُم مكتوم في بعض الموارد ، ولا يدّعى لابن أُم مكتوم مقام

٥٦

لاستخلاف النبي إيّاه في تلك الفترة.

يقول ابن تيميّة : فلمّا كان في غزوة تبوك ، لم يأذن في التخلّف عنها وهي آخر مغازيه ، ولم يجتمع معه الناس كما اجتمعوا معه فيها ، أي في المغازي الاُخرى ، فلم يتخلّف عنه إلاّ النساء والصّبيان أو من هو معذور لعجزه عن الخروج أو من هو منافق ، ولم يكن في المدينة رجال من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم ، كما كان يستخلف عليهم في كلّ مرّة ، الباقون عجزة وأطفال وصبيان ونسوان ، هؤلاء الباقون في المدينة لم يكن حاجة أنْ يستخلف عليهم رسول الله رجلاً مهمّاً وشخصيّةً من شخصيّاته الملتفّين حوله ، بل كان هذا الإستخلاف أضعف من الإستخلافات المعتادة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي استخلاف علي في تبوك كان أضعف من استخلاف ابن أُم مكتوم في بعض الموارد التي خرج من المدينة المنوّرة فيها.

يقول : لأنّه لم يبق في المدينة رجال كثيرون من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم ، فكان كلّ استخلاف قبل هذه يكون على أفضل ممّن استخلف عليه عليّاً ، فلهذا خرج إليه علي يبكي ويقول : أتخلّفني مع النساء والصبيان ؟ فبيّن له النبي أنّي إنّما استخلفتك لأمانتك عندي ، وأنّ الإستخلاف ليس بنقص ولا غضّ ، فإنّ

٥٧

موسى استخلف هارون على قومه ، والملوك وغيرهم إذا خرجوا في مغازيهم أخذوا معهم من يعظم انتفاعه به ومعاونته له ، ويحتاجون إلى مشاورته والإنتفاع برأيه ولسانه ويده وسيفه ، فلم يكن رسول الله محتاجاً إلى علي في هذه الغزوة ، حتّى يشاوره أو أن يستفيد من يده ولسانه وسيفه ، فأخذ معه غيره ، لأنّهم كانوا ينفعونه في هذه القضايا.

يقول : وتشبيه الشيء بالشيء يكون بحسب ما دلّ عليه السياق ، ولا يقتضي المساواة في كلّ شيء ، ألا ترى إلى ما ثبت بالصحيحين من قول النبي في حديث الاُسارى لمّا استشار أبا بكر فأشار بالفداء ، واستشار عمر فأشار بالقتل ، قال : سأُخبركم عن صاحبيكم ، مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم ، ومثلك يا عمر مثل نوح ، فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهذا مثلك مثل إبراهيم وعيسى ، وقوله لهذا مثلك مثل نوح وموسى أعظم من قوله : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى.

هذا كلام ابن تيميّة ، أي : قطعة من كلامه ، وإنّا لنسأل الله سبحانه وتعالى أنْ يعامل هذا الرجل بعدله ، وأن يجازيه بكلّ كلمة ما يستحقّه.

وهنا ملاحظات مختصرة على هذا الكلام :

أوّلاً : إذا لم يكن لعلي في هذا الإستخلاف فضل ومقام ، وكان

٥٨

هذا الإستخلاف أضعف من استخلاف غيره من الإستخلافات السابقة ، فلماذا تمنّى عمر أنْ يكون هذا الإستخلاف له ؟ ولماذا تمنّى سعد بن أبي وقّاص أن يكون هذا الإستخلاف له ؟

ثانياً : قوله : إنّ عليّاً خرج يبكي ، هذا كذب ، علي خرج يبكي لعدم حضوره في تلك الغزوة ، ولما سمعه من المنافقين ، لا لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلّفه في النساء والصبيان.

وبعبارة أُخرى : قول علي لرسول الله : أتخلّفني في النساء والصبيان ، كان هذا القول قبل خروج رسول الله في الغزوة ، قبل أنْ يخرج ، وبكاء علي وخروجه خلف رسول الله والتقاؤه به وهو يبكي ، كان بعد خروج رسول الله وإنّما خرج ـ وكان يبكي ـ لما سمعه من المنافقين ، لا لأنّ هذا الإستخلاف كان ضعيفاً ، فالقول بأنّه لمّا استخلف مع النساء والصبيان جعل يبكي ويعترض على رسول الله هذا الإستخلاف ، افتراء عليه.

وثالثاً : ذكره الحديث الذي شبّه فيه رسول الله أبا بكر بإبراهيم ، وشبّه فيه عمر بنوح ، وقوله : هذا الحديث في الصحيحين ، هذا كذب ، فليس هذا الحديث في الصحيحين ، ودونكم كتاب البخاري ومسلم ، ويشهد بذلك كتاب منهاج السنّة ، هذه الطبعة الجديدة المحقّقة التي حقّقها الدكتور محمّد رشاد سالم ، المطبوعة في

٥٩

السعوديّة في تسعة أجزاء ، راجعوا عبارته هنا ، واستشهاد ابن تيميّة بهذا الحديث ونسبة الحديث إلى الصحيحين ، يقول محقّقه في الهامش : إنّ هذا الحديث إنّما هو في مسند أحمد ، ويقول محقّقه ـ أي محقّق المسند الشيخ أحمد شاكر في الطبعة الجديدة ـ : هذا الحديث ضعيف.

وهو أيضاً في مناقب الصحابة لأحمد بن حنبل ، المطبوع في جزئين في السعودية أخيراً ، فراجعوا لتروا المحقق يقول في الهامش : إنّ سنده ضعيف.

فالحديث ليس في الصحيحين ، ليعارض به حديث المنزلة الموجود في الصحيحين ، وإنّما هو في بعض الكتب ، وينصّ المحققون في تعاليقهم على تلك الكتب بضعف هذا الحديث.

وكأنّ ابن تيميّة ما كان يظنّ أن ناظراً ينظر في كتابه ، وأنّه سيراجع الصحيحين ، ليظهر كذبه ويتبيّن دجله.

وأمّا ما في كلامه من الطعن لأمير المؤمنين ، فكما ذكرنا ، نحيل الأمر إلى الله سبحانه وتعالى ، وهو أحكم الحاكمين.

مع الأعور الواسطي :

ومثل كلمات ابن تيميّة كلمات الأعور الواسطي ، هناك عندهم

٦٠