حديث المنزلة

السيّد علي الحسيني الميلاني

حديث المنزلة

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-256-3
الصفحات: ٨٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

ولذا لو راجعتم إلى كتاب التحفة الإثنا عشرية (١) لوجدتم صاحب التحفة يبطل حديث هجر فاطمة الزهراء أبا بكر وأنّها لم تكلّمه إلى أن ماتت ، يبطل هذا الحديث ويردّه مع وجوده في الصحيحين.

وينقل القسطلاني في إرشاد الساري في شرح البخاري (٢) ، وأيضاً ابن حجر المكي في كتاب الصواعق (٣) ، ينقلان عن البيهقي أنّه ضعّف حديث الزهري الدال على أنّ عليّاً عليه‌السلام لم يبايع أبا بكر مدّة ستّة أشهر ، فالبيهقي يضعّف هذا الحديث ويحكي غيره كالقسطلاني وابن حجر هذا التضعيف في كتابه ، مع أنّ هذا الحديث موجود في الصحيحين.

وقد رأيتم أنّ الحافظ أبا الفرج ابن الجوزي الحنبلي أدرج حديث الثقلين في كتابه العلل المتناهية في الأحاديث الواهية ، مع وجود حديث الثقلين في صحيح مسلم ، ومن هنا اعترض عليه غير واحد.

فيظهر : أنّ القضيّة تدور مدار مصالحهم ، فمتى ما رأوا الحديث

__________________

(١) التحفة الإثنا عشرية : ٢٧٨.

(٢) إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري ٦ / ٣٦٣.

(٣) الصواعق المحرقة : ٩٠.

٢١

في صالحهم وأنّه ينفعهم في مذاهبهم ، اعتمدوا عليه واستندوا إلى وجوده في الصحيحين ، ومتى كان الحديث يضرّهم ويهدم أساساً من أُسس مذهبهم ومدرستهم ، أبطلوا ذلك الحديث أو ضعّفوه مع وجوده في الصحيحين أو أحدهما ، وهذا ليس بصحيح ، وليس من دأب أهل العلم وأهل الفضل ، وليس من دأب أصحاب الفكر وأصحاب العقيدة الذين يبنون فكرهم وعقيدتهم على أُسس متينة يلتزمون بها ويلتزمون بلوازمها.

وعندما نصل إلى محاولات القوم في ردّ حديث المنزلة أو المناقشة في سنده ، سنرى أنّ عدّةً منهم يناقشون في سند هذا الحديث أو يضعّفونه بصراحة ، مع وجوده في الصحيحين ، فأين راحت قطعية صدور أحاديث الصحيحين ؟ وما المقصود من الإصرار على هذه القطعية ؟

ونحن أيضاً لا نعتقد بقطعيّة صدور أحاديث الصحيحين ، ونحن أيضاً لا نعتقد بوجود كتاب صحيح من أوّله إلى آخره سوى القرآن الكريم.

لكن بحثنا معهم ، وإنّما نتكلّم معهم على ضوء ما يقولون وعلى أساس ما به يصرّحون.

فإذا جاء دور البحث عن سند حديث المنزلة سترون أنّ عدّةً

٢٢

منهم من علماء الأصول ومن علماء الكلام يناقشون في سند حديث المنزلة ولا يسلّمون بصحّته ، فيظهر أنّه ليس هناك قاعدة يلجأون إليها دائماً ويلتزمون بها دائماً ، وإنّما هي أهواء يرتّبونها بعنوان قواعد ، يذكرونها بعنوان أُسس ، فيطبّقونها متى ما شاؤا ويتركونها متى ما شاؤا.

ولا بأس بذكر عدة من ألفاظ حديث المنزلة في غير الصحيحين من الكتب المعروفة المشهورة ، وفي كلّ لفظ أذكره توجد خصوصية أرجو أنْ لا تفوت عليكم ، وأرجو أنْ تتأمّلوا فيها :

في الطبقات لابن سعد ، يروي هذا الحديث بطرق ، ومنها : بسنده عن سعيد بن المسيّب ، هذا نفس الحديث الذي قرأناه في صحيح مسلم ، فقارنوا بين لفظه في الطبقات ولفظه في صحيح مسلم يقول سعيد :

قلت لسعد بن مالك ـ هو سعد بن أبي وقّاص ـ : إنّي أُريد أنْ أسألك عن حديث ، وأنا أهابك أنْ أسألك عنه ! قال : لا تفعل يا ابن أخي ، إذا علمت أنّ عندي علماً فاسألني عنه ولا تهبني ، فقلت : قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي حين خلّفه في المدينة في غزوة تبوك ،

٢٣

فجعل سعد يحدّثه الحديث (١).

لماذا عندما يريدون أن يسألوا عن حديث يتعلّق بعلي وأهل البيت يهابون الصحابي أن يسألوه ، أمّا إذا كان يتعلّق بغيرهم فيسألونه بكلّ انطلاق وبكلّ سهولة وبكلّ ارتياح ؟

ويروي محمّد بن سعد في الطبقات (٢) باسناده عن البراء بن عازب وعن زيد بن أرقم قالا :

لمّا كان عند غزوة جيش العسرة وهي تبوك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي بن أبي طالب : « إنّه لابدّ أنْ أُقيم أو تقيم ».

يظهر أنّ في المدينة في تلك الظروف حوادث ، وهناك محاولات أو مؤامرات سنقرأها في بعض الأحاديث الآتية ، وكان لابدّ أنْ يبقى في المدينة إمّا رسول الله نفسه وإمّا علي ولا ثالث ، أحدهما لابدّ أنْ يبقى ، وأمّا الغزوة أيضاً فلابدّ وأنْ تتحقّق ، فيقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي : « إنّه لابدّ أنْ أُقيم أو تقيم » ، فخلّفه.

فلمّا فَصَلَ رسول الله غازياً قال ناس ـ وفي بعض الألفاظ : قال ناس من قريش ، وفي بعض الألفاظ : قال بعض المنافقين ـ : ما خلّفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ لشيء كرهه منه ، فبلغ ذلك عليّاً ، فأتبع

__________________

(١) طبقات ابن سعد ٣ / ٢٤ ـ دار صادر ـ بيروت ـ ١٤٠٥ ه‍.

(٢) طبقات ابن سعد ٣ / ٢٤.

٢٤

رسول الله حتّى انتهى إليه ، فقال له : « ما جاء بك يا علي ؟ » قال : لا يا رسول الله ، إلاّ أنّي سمعت ناساً يزعمون أنّك إنّما خلّفتني لشيء كرهته منّي ، فتضاحك رسول الله وقال : « يا علي أما ترضى أن تكون منّي كهارون من موسى إلاّ أنّك لست بنبي ؟ » قال : بلى يا رسول الله ، قال : « فإنّه كذلك ».

وفي رواية خصائص النسائي (١) قال الناس : قالوا ملّه ، أي ملّ رسول الله عليّاً وكره صحبته.

وفي رواية : قال علي لرسول الله : زعمت قريش أنّك إنّما خلّفتني أنّك استثقلتني وكرهت صحبتي ، وبكى علي ، فنادى رسول الله في الناس : « ما منكم أحد إلاّ وله خاصة ، يابن أبي طالب ، أما ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي ؟ » قال علي : رضيت عن الله عزّوجلّ وعن رسوله.

وإذا راجعتم سيرة ابن سيّد الناس (٢) ، وكذا سيرة ابن قيّم الجوزية (٣) ، وسيرة ابن إسحاق (٤) ، وأيضاً في بعض المصادر

__________________

(١) الخصائص للنسائي : ٦٧ رقم ٤٤ و ٧٧ رقم ٦١.

(٢) عيون الأثر ٢ / ٢٩٤ ـ مكتبة دار التراث ـ المدينة المنوّرة ـ ١٤١٣ ه‍.

(٣) زاد المعاد ٣ / ٥٥٩ م‍ ٥٦٠ ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ ١٤٠٨ ه‍.

(٤) سيرة ابن هشام ٢ / ٥١٩ ـ ٥٢٠.

٢٥

الاُخرى : إنّ الذين قالوا ذلك كانوا رجالاً من المنافقين ، ففي بعض الألفاظ : الناس ، وفي بعض الألفاظ : قريش ، وفي بعض الألفاظ : المنافقون ، ومن هنا يظهر أنّ في قريش أيضاً منافقين ، وهذا مطلب مهم.

وفي المعجم الأوسط للطبراني عن علي عليه‌السلام : إنّ النبي قال له : « خلّفتك أنْ تكون خليفتي » ، قلت : أتخلّف عنك يا رسول الله ؟ قال : « ألا ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي » (١).

ففيه : « خلّفتك أنْ تكون خليفتي ».

وروى السيوطي في جامعه الكبير (٢) عن كتب جمع منهم : ابن النجار البغدادي ، وأبو بكر الشيرازي في الألقاب ، والحاكم النيسابوري في كتابه الكنى ، والحسن بن بدر ـ الذي هو من كبار الحفّاظ ـ في كتابه ما رواه الخلفاء ، هؤلاء يروون عن ابن عباس قال : قال عمر بن الخطّاب : كفّوا عن ذكر علي بن أبي طالب [ لماذا كانوا يذكرون عليّاً وبم كانوا يذكرونه ؟ حتّى نهاهم عمر عن ذكره ؟ أكانوا يذكرونه بالخير وينهاهم ؟ قائلاً : كفّوا عن ذكر علي بن أبي

__________________

(١) المعجم الأوسط ٤ / ٤٨٤ رقم ٤٢٤٨.

(٢) الجامع الكبير ١٦ / ٢٤٤ رقم ٧٨١٨ ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ١٤١٤ ه‍.

٢٦

طالب ] فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول في علي ثلاث خصال لو كان لي واحدة منهنّ كان أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس.

كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة بن الجرّاح [ هؤلاء الثلاثة هم أصحاب السقيفة من المهاجرين ] ونفر من أصحاب النبي ، وهو متّكئ [ أي النبي ] على علي بن أبي طالب ، حتّى ضرب بيده على منكبيه ثمّ قال : « يا علي أنت أوّل المؤمنين إيماناً وأوّلهم إسلاماً ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، وكذب من زعم أنّه يحبّني ويبغضك ».

وفي تاريخ ابن كثير (١) : « أو ما ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ النبوّة ».

وفرق بين عبارة « إلاّ النبوّة » وبين عبارة « إلاّ أنّك لست بنبي » و « إلاّ أنّه لا نبي بعدي » فرق كثير بين العبارتين ، يقول ابن كثير : إسناده صحيح ولم يخرجوه.

وفي تاريخ ابن كثير أيضاً (٢) في حديث معاوية وسعد : إنّ معاوية وقع في علي فشتمه [ بنصّ العبارة ] فقال سعد : والله لأنْ تكون لي إحدى خلاله الثلاث أحبّ إليّ ممّا يكون لي ما طلعت

__________________

(١) البداية والنهاية المجلد الرابع الجزء ٧ / ٣٤٠ ـ دار الفكر ـ بيروت.

(٢) البداية والنهاية المجلد الرابع الجزء ٧ / ٣٤٠.

٢٧

عليه الشمس ... ، فيذكر منها حديث المنزلة.

إلاّ أن الزرندي الحافظ يذكر نفس الحديث يقول : عن سعد : إنّ بعض الاُمراء قال له : ما منعك أنْ تسبّ أبا تراب (١).

فأراد أنْ لا يذكر اسم معاوية محاولةً لحفظ ماء وجهه وماء وجههم.

وفي تاريخ دمشق والصواعق المحرقة وغيرهما : إنّ رجلاً سأل معاوية عن مسألة فقال : سل عنها عليّاً فهو أعلم ، قال الرجل : جوابك فيها أحبّ إليّ من جواب علي ، قال معاوية : بئس ما قلت ، لقد كرهت رجلاً كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يغرّه بالعلم غرّاً ، ولقد قال له : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي » ، وكان عمر إذا أشكل عليه شيء أخذ منه (٢).

وتلاحظون أنّ في كلّ لفظ من هذه الألفاظ التي انتخبتها خصوصية ، لابدّ من النظر إليها بعين الدقّة والاعتبار.

وانتهت الجهة الأولى ، أي جهة البحث عن السند والرواة.

__________________

(١) نظم درر السمطين : ١٠٧.

(٢) ترجمة الإمام علي عليه‌السلام من تاريخ دمشق ١ / ٣٩٦ رقم ٤١٠ ، الرياض النضرة ٣ / ١٦٢ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ، مناقب الإمام علي عليه‌السلام للمغازلي : ٣٤ رقم ٥٢ ـ دار الأضواء بيروت ـ ١٤٠٣.

٢٨

دلالات حديث المنزلة

الجهة الثانية : في دلالات حديث المنزلة ، وكما أشرنا من قبل ، دلالات حديث المنزلة متعددة ، وكلّ واحدة منها تكفي لأن تكون بوحدها دليلاً على إمامة أمير المؤمنين.

قبل كلّ شيء لابدّ أنْ نرى ما هي منازل هارون من موسى حتّى يكون علي نازلاً من النبي منزلة هارون من موسى ، لنرجع إلى القرآن الكريم ونستفيد من الآيات المباركات منازل لهارون :

المنزلة الأولى : النبوّة

قال تعالى : ( وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً ) (١).

__________________

(١) سورة مريم : ٥٣.

٢٩

المنزلة الثانية : الوزارة

قال تعالى عن لسان موسى : ( وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي ) (١) ، وفي سورة الفرقان قال تعالى : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً ) (٢) ، وفي سورة القصص عن لسان موسى : ( وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي ) (٣).

المنزلة الثالثة : الخلافة

قال تعالى : ( وَقَالَ مُوسَى لاَِخِيه هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (٤).

المنزلة الرابعة : القرابة القريبة

قال تعالى عن لسان موسى : ( وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُد بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (٥).

__________________

(١) سورة طه : ٢٩.

(٢) سورة الفرقان : ٣٥.

(٣) سورة القصص : ٣٤.

(٤) سورة الأعراف : ١٤٢.

(٥) سورة طه : ٣١.

٣٠

ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبر في حديث المنزلة عن ثبوت جميع هذه المنازل القرآنية لهارون وغيرها كما سنقرأ ، عن ثبوتها جميعاً لعلي ما عدا النبوة ، لقد أخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النبوة بعد شمول تلك الكلمة التي أطلقها ، هي تشمل النبوة إلاّ أنّه أخرجها واستثناها استثناءً ، لقيام الضرورة على أنْ لا نبي بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويبقى غير هذه المنزلة باقياً وثابتاً لعلي عليه‌السلام ، وبيان ذلك :

إنّ عليّاً عليه‌السلام وإنْ لم يكن بنبي ، وهذا هو الفارق الوحيد بينه وبين هارون في المراتب والمقامات والمنازل المعنوية الثابتة لهارون ، وإنْ لم يكن بنبي ، إلاّ أنّه عليه‌السلام يعرّف نفسه ويذكر بعض خصائصه وأوصافه في الخطبة القاصعة ، نقرأ في نهج البلاغة يقول عليه‌السلام :

« ولقد علمتم موضعي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا ولد ، يَضمّني إلى صدره ويكنفني في فراشه ، ويمسّني جسده ، ويشمّني عرفه ، وكان يمضغ الشيء ثمّ يلقمنيه ، وما وجد لي كذبة بقول ولا خطلة في فعل ، ولقد قرن الله به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لدن أنْ كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالَم ، ليله ونهاره ، ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أُمّه ، يرفع لي في كلّ يوم

٣١

من أخلاقه عَلَما ، ويأمرني بالإقتداء به ، ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء ، فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما ».

لاحظوا هذه الكلمة : « أرى نور الوحي والرسالة ، وأشمّ ريح النبوّة ، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه ، فقلت : يا رسول الله ما هذه الرنّة ؟ فقال : هذا الشيطان قد أيس من عبادته ».

ثمّ لاحظوا ماذا يقول الرسول لعلي : « إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى ، إلاّ أنّك لست بنبي ولكنّك وزير ، وإنّك لعلى خير » (١).

أرجو الإنتباه إلى ما أقول ، لتروا كيف تتطابق الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة وكلام علي في الخطبة القاصعة ، إنّ عليّاً وإنْ لم يكن بنبي لكنّه رأى نور الوحي والرسالة وشمّ ريح النبوّة.

أترون أنّ هذا المقام وهذه المنزلة تعادلها منازل جميع الصحابة من أوّلهم إلى آخرهم في المنازل الثابتة لهم ؟ تلك المنازل لو وضعت في كفّة ميزان ، ووضعت هذه المنزلة في كفّة ، أترون أنّ تلك المنازل كلّها وتلك المناقب ، تعادل هذه المنقبة الواحدة ؟

__________________

(١) نهج البلاغة ٢ / ١٨٢ ـ مطبعة الإستقامة بمصر ( محمّد عبده ).

٣٢

فكيف وأنْ يُدّعى أنّ شيئاً من تلك المناقب المزعومة يترجّح على هذه المنقبة ؟

علي لم يكن بنبي ، لكنّه شمّ ريح النبوّة ، لكنْ ما معنى هذه الكلمة بالدقّة ، لا نتوصّل إلى معناها ، وعقولنا قاصرة عن درك هذه الحقيقة ، لم يكن بنبي إلاّ أنّه شمّ ريح النبوّة ، وأيضاً : لم يكن علي نبيّاً إلاّ أنّه كان وزيراً ، لمن ؟ لرسول الله الذي هو أشرف الأنبياء وخير المرسلين وأكرمهم وأعظمهم وأقربهم إلى الله سبحانه وتعالى ، وأين هذه المرتبة من مرتبة هارون بالنسبة إلى موسى الذي طلب أن يكون هارون وزيراً له ، إلاّ أنّ كلامنا الآن في دوران الأمر بين علي وأبي بكر.

ومن الأحاديث الشاهدة بوزارة علي عليه‌السلام لرسول الله ، الحديث الذي ذكرناه في يوم الدار ، يوم الإنذار ، حيث قال : « فأيّكم يوآزرني على أمري هذا ؟ » قال علي : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه ، فقال : « إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا » (١).

وفي رواية الحلبي في سيرته : « إجلس ، فأنت أخي ووزيري

__________________

(١) تفسير البغوي ٤ / ٢٧٨ ، ومصادر أُخرى.

٣٣

ووصيّي ووارثي وخليفتي من بعدي » (١).

وفي تاريخ دمشق ، وفي المرقاة ، وفي الدر المنثور ، وفي الرياض النضرة ، يروون عن ابن مردويه وعن ابن عساكر وعن الخطيب البغدادي وغيرهم ، عن أسماء بنت عميس قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « اللهمّ إنّي أقول كما قال أخي موسى : اللهمّ اجعل لي وزيراً من أهلي أخي عليّاً ، اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبّحك كثيراً ونذكرك كثيراً ، إنّك كنت بنا بصيراً » (٢).

وأيضاً ، هذه دلالات حديث المنزلة ، لاحظوا كيف تتطابق الآيات والروايات وكلام علي بالذات ؟

إنّ لعلي عليه‌السلام موضعاً من رسول الله يقول : « قد علمتم موضعي من رسول الله بالقرابة القريبة » ، هذه القرابة القريبة في قصّة موسى وهارون قول موسى : ( وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي ) ، ومن هنا سيأتي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ذكر حديث المنزلة في قصة المؤاخاة بينه وبين علي عليهما الصلاة والسلام.

__________________

(١) السيرة الحلبيّة ١ / ٤٦١.

(٢) ترجمة الإمام علي عليه‌السلام من تاريخ دمشق ١ / ١٢٠ ـ ١٢١ رقم ١٤٧ ، الدر المنثور ٥ / ٥٦٦ ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ١٤٠٣ ه‍ ، الرياض النضرة ٣ / ١١٨ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت.

٣٤

مضافاً إلى قوله تعالى : ( وَأُولُوا الاَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ ) (١).

فإنّ الأوصاف الثلاثة هذه ـ أي الإيمان والهجرة وكونه ذا رحم ـ لا تنطبق إلاّ على علي ، فيظهر أنّ القرابة القريبة هي جزء من مقوّمات الخلافة والولاية بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقد ذكر الفخر الرازي بتفسير الآية المذكورة استدلال محمّد ابن عبدالله بن الحسن بن الحسن المجتبى عليه‌السلام بالآية المباركة هذه ، في كتاب له إلى المنصور العباسي ، استدلّ بهذه الآية على ثبوت الأولوية لعلي ، وأجابه المنصور بأنّ العباس أولى بالنبي من علي ، لأنّه عمّه وعلي ابن عمّه ، ووافق الفخر الرازي الذي ليس من العباسيين ، وافق العباسيين في دعواهم هذه ، لا حبّاً للعباسيين ، وإنّما ؟

والفخر الرازي نفسه يعلم بأنّ العباس عمّ النبي ، ولكن العباس ليس من المهاجرين ، إذ لا هجرة بعد الفتح ، فكان علي هو المؤمن المهاجر ذا الرحم ، ولو فرضنا أنّ في الصحابة غير علي من هو مؤمن ومهاجر ، والأنصاف وجود كثيرين منهم كذلك ، إلاّ أنّهم لم

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٦.

٣٥

يكونوا بذي رحم ، ويبقى العباس وقد عرفتم أنّه ليس من المهاجرين ، فلا تنطبق الآية إلاّ على علي.

وهذا وجه استدلال محمّد بن عبدالله بن الحسن في كتابه إلى المنصور ، وقد كان الرجل عالماً فاضلاً عارفاً بالقرآن الكريم ، والفخر الرازي في هذا الموضع يوافق العباسيين و المنصور العباسي ، ويخالف الهاشميين والعلويين حتّى لا يمكن ـ بزعمه ـ الإستدلال بالآية على إمامة علي أمير المؤمنين.

فقوله تعالى : ( وَأُولُوا الاَْرْحَامِ ) دليل آخر على إمامة علي ، ومن هنا يظهر : أنّ استدلال علي عليه‌السلام وذكره القرابة القريبة كانت إشارة إلى ما في هذه الناحية من الدخل في مسألة الإمامة والولاية.

مضافاً إلى أنّ العباس قد بايع عليّاً عليه‌السلام في الغدير وبقي على بيعته تلك ، ولم يبايع غير أمير المؤمنين ، بل في قضايا السقيفة جاء إلى علي ، وطلب منه تجديد البيعة ، فيسقط العباس عن الإستحقاق للإمامة والخلافة بعد رسول الله ، ولو تتذكرون ، ذكرت لكم في الليلة الأولى أنّ هناك قولاً بإمامة العباس ، لكنّه قول لا يستحق الذكر والبحث عنه عديم الجدوى.

٣٦

ومن منازل هارون :

أعلميّته بعد موسى من جميع بني إسرائيل ومن كلّ تلك الاُمّة ، وقد ثبتت المنزلة هذه بمقتضى تنزيل علي منه بمنزلة هارون من موسى لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وإلى الأعلميّة هذه يشير علي عليه‌السلام في الأوصاف التي ذكرها لنفسه في هذه الخطبة وفي غير هذه الخطبة.

في هذه الخطبة يقول : « كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أُمّه ، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالإقتداء به ».

ويقول عليه‌السلام في خطبة أُخرى بعد أنْ يذكر العلم بالغيب يقول : « فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلاّ الله ، وما سوى ذلك [ أي ما سوى ما اختصّ به سبحانه وتعالى لنفسه ] فعلم علّمه الله نبيّه ، فعلّمنيه ودعا لي بأنْ يعيه صدري وتضْطَمّ عليه جوانحي ».

وأيضاً : تظهر أعلميّته عليه‌السلام من قوله في نفس هذه الخطبة عن رسول الله حيث خاطبه بقوله : « إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى ».

وأيضاً : رسول الله يقول في علي : « أنا مدينة العلم وعليّ بابها ، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها ».

هذا الحديث هو الآخر من الأحاديث الدالة على إمامة أمير

٣٧

المؤمنين سلام الله عليه ، وكان ينبغي أن نخصّص ليلة للبحث عن هذا الحديث الشريف ، لنتعرّض هناك عن أسانيده ودلالاته ، ولنتعرّض أيضاً لمحاولات القوم في ردّه وإبطاله ، وما ارتكبوه من الكذب والدسّ والتزوير والتحريف.

أمّا ثبوت الأعلميّة لهارون بعد موسى ، فلو أردتم ، فراجعوا التفاسير في قوله تعالى : ( قَالَ إِنَّمَا أُوْتِيتُهُ عَلَى عِلْم عِنْدِي ) (١) عن لسان قارون ، في ذيل هذه الآية ، تجدون التصريح بأعلميّة هارون من جميع بني إسرائيل إلاّ موسى ، فراجعوا تفسيرالبغوي (٢) ، وراجعوا تفسير الجلالين (٣) ، وغير هذين من التفاسير.

من دلالات حديث المنزلة العصمة :

وهل من شك في ثبوت العصمة لهارون ؟ وقد نزّل رسول الله أمير المؤمنين منزلة هارون ، ولم يدّع أحد من الصحابة العصمة ، كما لم يدّعها أحد لواحد من الصحابة ، سوى أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وحينئذ هل يجوّز عاقل أن يكون الإمام بعد رسول الله غير

__________________

(١) سورة القصص : ٧٨.

(٢) تفسير البغوي ٤ / ٣٥٧ ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ١٤٠٥ ه‍.

(٣) تفسير الجلالين ٢ / ٢٠١ ـ نشر مصطفى البابي الحلبي بمصر ـ ١٣٨٨ ه‍.

٣٨

معصوم مع وجود المعصوم ؟

وهل يجوّز العقل أنْ يجعل غير المعصوم واسطة بين الخلق والخالق مع وجود المعصوم ؟

وهل يجوز عقلاً وعقلاءاً الإقتداء بغير المعصوم مع وجود المعصوم ؟

وإلى مقام العصمة يشير علي عليه‌السلام عندما يقول ويصرّح بأنّه كان يرى نور الوحي والرسالة ويشمّ ريح النبوة.

وهل يعقل أن يترك مثل هذا الشخص ويقتدى بمن ليس له أقلّ قليل من هذه المنزلة ؟

ولا يخفى عليكم أنّ الذي كان يسمعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّ الذي كان يراه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هو أسمى وأجلّ وأرقى وأرفع ممّا كان يراه ويسمعه غيره من الأنبياء السابقين عليه ، فكان علي يسمع ويرى ما يسمع ويرى النبي ، وعليكم بالتأمّل التام في هذا الكلام.

من خصائص هارون ومنازله :

أنّ الله سبحانه وتعالى أحلّ له ما لم يكن حلالاً لغيره في المسجد الأقصى ، وبحكم حديث المنزلة يتمّ هذا الأمر لعلي وأهل بيته بالخصوص ، ويكون هذا من جملة ما يختصّ بأمير المؤمنين

٣٩

وأهل البيت الطاهرين ويميّزهم عن الآخرين ، فيكونون أفضل من هذه الناحية أيضاً من غيرهم.

والشواهد لهذا الحديث ولهذا التنزيل في الأحاديث كثيرة ، ومن ذلك : حديث سدّ الأبواب ، وهذه ألفاظ تتعلّق بهذا الموضوع في السنّة النبويّة الشريفة المتفق عليها بين الفريقين ، وأنا أنقل لكم من بعض المصادر المعتبرة عند أهل السنّة :

أخرج ابن عساكر في تاريخه ، وعنه السيوطي في الدرّ المنثور (١) : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب فقال : « إنّ الله أمر موسى وهارون أن يتبوّءا لقومهما بيوتاً ، وأمرهما أنْ لا يبيت في مسجدهما جنب ، ولا يقربوا فيه النساء ، إلاّ هارون وذريّته ، ولا يحلّ لأحد أن يقرب النساء في مسجدي هذا ولا يبيت فيه جنب إلاّ علي وذريّته ».

وفي مجمع الزوائد عن علي عليه‌السلام قال : أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيدي فقال : « إنّ موسى سأل ربّه أنْ يطهّر مسجده بهارون ، وإنّي سألت ربّي أنْ يطهّر مسجدي بك وبذريّتك » ، ثمّ أرسل إلى أبي بكر أنْ سدّ بابك ، فاسترجع [ أي قال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ] ثمّ قال :

__________________

(١) ترجمة الإمام علي عليه‌السلام من تاريخ دمشق ١ / ٢٩٦ ، الدر المنثور ٤ / ٣٨٣.

٤٠