امّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

الشيخ علي ربّاني الخلخالي

امّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

المؤلف:

الشيخ علي ربّاني الخلخالي


المترجم: السيد علي الحسيني
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: مطبعة ستار
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٨٣

وفاء

أم البنين عليها‌السلام وابناؤها

أم البنين وشهادة زوجها أمير المؤمنين عليه‌السلام :

كان أمير المؤمنين عليه‌السلام دائم السهر في طاعة الله ، أحيى ليالي عمره الشريف بالمناجاة مع خالق البريات ... بيد أنّ لسهره ليلة التاسع عشر من شهر رمضان نكهة خاصة ، فقد سهر في تلك الليلة فأكثر الخروج والنظر إلى السماء وهو يقول : «والله ما كذبت ولا كذبت وإنّها الليلة التي وعدت بها».

وكأنّ أم البنين عليها‌السلام ترقب الموقف بقلب واجف وجل وتقول لأمير المؤمنين عليه‌السلام : ماذا حدث لك يا أمير المؤمنين ، أهذه الليلة من ليالي القدر التي وعدت؟

فيجيبها الامام عليه‌السلام : أوصيك بولدك العباس لا يتركن أخاه الحسين يوم يبقى وحيداً فريداً لا ناصر له ولا معين.

فلما طلع الفجر فقام يخرج فاستقبله الأوز فصحن في وجهه فقال : دعوهن فانهن صوائح تتبعها نوائح ، وتعلقت حديدة على الباب في مئزره فشدّ إزاره وهو يقول :

أشدد حياز يمك للموت فان الموت لاقيك

ولا تجزع من الموت إذا حلّ بواديك (١)

__________________

(١) البحار ٤٢ / ٢٣٨.

٨١

فلما وصل إلى المسجد راح يصلي بخشوع وخضوع ، واذا بسيف ابن ملجم المرادي المسموم يفرق هامته الشريفة ويرتفع صوت الامام عليه‌السلام : «فزت ورب الكعبة» (١).

وارتفع صوت جبرئيل بين السماء والارض هاتفاً : «تهدمت والله أركان الهدى وانفصمت العروة الوثقى .. قتل علي المرتضى» (٢).

وكأنّ أم البنين عليها‌السلام ارتفعت صرختها : يا وارث الأنبياء ، ولا سيد الأوصياء ، ويا إمام الدين ، ويا خير الساجدين ، ويا مولى الموحدين ... يا علي ، يا أمير المؤمنين عليه السلام.

قال الواقدي : قتل علي عليه‌السلام وترك أربع حرائر : أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليلى التميمية ، وأم البنين الكلابية ، وأسماء بنت عميس (٣).

أم البنين عليها‌السلام لم تتزوج بعد أمير المؤمنين عليه‌السلام :

تزوج أمير المؤمنين عليه‌السلام من فاطمة ابنة حزام العامرية إما بعد وفاة الصديقة سيدة النساء ، كما يراه بعض المؤرخين (٤) ، أو بعد أن تزوج بأمامة بنت زينب بنت رسول الله ، كما يراه البعض الآخر (٥) ، وهذا بعد وفاة الزهراء عليها‌السلام لأنّ الله قد حرم النساء على علي عليه‌السلام ما دامت فاطمة موجودة (٦).

فولدت أربعة بنين وأنجبت بهم : العباس ، وعبد الله ، وجعفر ، وعثمان.

وعاشت بعده عليه‌السلام مدة طويلة ، ولم تتزوج من غيره ، كما أن أمامة وأسماء بنت

__________________

(١) البحار ٤٢ / ٢٣٩.

(٢) البحار ٤٢ / ٢٨٢.

(٣) تذكرة الخواص : ١٦٨.

(٤) الطبري ٦ / ٨٩ ، ابن الاثير ٣ / ١٥٨ ، أبو الفداء ١ / ١٨١.

(٥) المناقب لابن شهر آشوب ٢ / ١١٧ ، مطالب السؤول ٦٣ ، الفصول المهمة ١٤٥ ، الاصابة ٤ / ٣٦ ترجمة أمامة.

(٦) المناقب لابن شهر آشوب ٢ / ٩٣.

٨٢

عميس وليلى لم يخرجن إلى أحد بعده ، وهذه الأربع حرائر توفي عنهن سيد الوصيين (١).

وقد خطب المغيرة بن نوفل أمامة ثم خطبها أبو الهياج بن أبي سفيان بن الحارث ، فامتنعت وروت حديثاً عن علي عليه‌السلام أن أزواج النبي والوصي لا يتزوجن بعده ، فلم يتزوجن الحرائر وأمهات الأولاد عملاً بالرواية (٢).

وكانت أم البنين من النساء الفاضلات العارفات بحق أهل البيت عليهم‌السلام ، مخلصة في ولائهم ، ممحضة في مودتهم (٣) ، وقد بقيت وفية لزوجها بعد استشهاده كما كانت وفية له في حياته.

وقد توفى عنها أمير المؤمنين عليه‌السلام وكان أكبر أولادها العباس لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره ، حيث تلفع هو وأخوته الصغار بغبار اليتم وذاقوا مرارة فقد الأب وهم في مقتبل العمر.

أم البنين عليها‌السلام ورعايتها لسبطي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

قامت السيدة أم البنين برعاية سبطي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانتيه وسيدي شباب أهل الجنة الحسن والحسين عليه‌السلام ، وقد وجدا عندها من العطف والحنان ما عوضهما من الخسارة الأليمة التي مُنيا بها بفقد أمهما سيدة نساء العالمين ، فقد توفيت وعمرها كعمر الزهور ، فترك فقدها اللوعة والحزن في نفسيهما.

لقد كانت السيدة أم البنين تكن في نفسها من المودة والحب للحسن والحسين عليهما‌السلام ما لا تكنّه لأولادها اللذين كانوا ملء العين في كمالهم وآدابهم.

__________________

(١) كشف الغمة : ٣٢ ، الفصول المهمة : ١٤٥ ، المناقب لابن شهر آشوب ٢ / ٧٦ ، مطالب السؤول : ٦٣.

(٢) المناقب (لابن شهر آشوب) ٢ / ٧٦.

(٣) العباس (للمقرم) : ١٣٢ ـ ١٣٣.

٨٣

لقد قدّمت أم البنين أبناء رسول الله على أبنائها في الخدمة والرعاية ، ولم يعرف التاريخ أنّ شريكة تخلص لأبناء شريكتها وتقدّمهم على أبنائها سوى هذه السيدة الزكية ، فقد كانت ترى ذلك واجباً دينياً لأن الله أمر بمودتهما في كتابه الكريم فقال تعالى : (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ) (١) وهما وديعتا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانتاه ، وقد عرفت أم البنين ذلك فوفت بحقهما وقامت بخدمتهما خير قيام (٢).

روي أنها لما زفت إلى بيت الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام وجدت الامامين الحسن والحسين عليهما‌السلام مريضين ، فأخذت تمرضهما وتقوم برعايتهما ، وتلاطفهما في القول ، وتطيب لهما الكلام ، حتى عوفيا من مرضهما وبرئا من علتهما.

ثم إنّها ـ على ما قيل ـ طلبت من الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام أن يعهد إلى أهل بيته بأن لا يدعوها أحد بعد ذلك باسمها «فاطمة» ، مخافة أن يتذكر أبناء فاطمة الزهراء عليها‌السلام أمهم فيتجدّد حزنهم ويلكأ جرح مصابهم ، فتثار أشجانهم وتعود اليهم ذكرياتهم ، فدعاها أمير المؤمنين بـ «أم البنين» (٣).

* * *

__________________

(١) سورة الشورى : الآية ٢٣.

(٢) العباس رائد الكرامة : ٢٧.

(٣) أنظر : الخصائص العباسية : ٢٥.

٨٤

أبناء أم البنين عليها‌السلام

تزوج أمير المؤمنين عليه‌السلام فاطمة ابنة حزام العامرية ، وكانت واحدة من الحرائر الأربع اللواتي توفي عنهن سيد الوصيين ، فولدت له أربعة بنين وأنجبت بهم : العباس وعبد الله وجعفر وعثمان ... استشهدوا جميعاً بين يدي الحسين عليه‌السلام في كربلاء.

العباس بن أمير المؤمنين :

ولد سنة ست وعشرين من الهجرة وكان يلقّب في زمنه «قمر بني هاشم» ويكنى «أبا الفضل».

روي عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام أنّه قال : كان عمّنا العباس بن علي نافذ البصيرة ، صلب الايمان ، جاهد مع أبي عبد الله عليه‌السلام وأبلى بلاءً حسناً ، ومضى شهيداً.

وروي عن علي بن الحسين أنّه نظر يوماً إلى عبيد الله بن العباس بن علي عليه‌السلام فاستعبر ثم قال : ما من يوم أشدّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من يوم «أحد» قتل فيه عمّه حمزة بن عبد المطلب ، أسد الله وأسد رسوله ، وبعده يوم «مؤتة» قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب ، ولا يوم كيوم الحسين عليه‌السلام إزدلف اليه ثلاثون ألف رجل

٨٥

يزعمون أنّهم من هذه الأمة كلّ يتقرّب إلى الله ـ عزّ وجل ـ بدمه ، وهو يذكّرهم بالله فلا يتّعظون ، حتى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً.

ثم قال : رحم الله العباس فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه ، حتى قطعت يداه ، فأبدله الله ـ عزّ وجل ـ منهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة كما جعل لجعفر بن ابي طالب عليه‌السلام ، وإنّ للعباس عند الله ـ تبارك وتعالى ـ منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة.

قال السيد المقرم رحمه‌الله : لقد كان من عطف المولى ـ سبحانه وتعالى ـ على وليه المقدس ، سلالة الخلافة الكبرى ، سيد الأوصياء ، أن جمع فيه صفات الجلالة من بأس وشجاعة وإباء ونجدة ، وخلال الجمال من سؤدد وكرم ودماثة في الخلق وعطف على الضعيف ، كلّ ذلك من البهجة في المنظر ووضاءة في المحيا ، من ثغر باسم ، ووجه طلق ، تتموج عليه أمواه الحسن ، ويطفح عليه رواء الجمال ، وعلى أسرة جبهته أنوار الايمان ، كما كانت تعبق من أعراقه فوائح المجد متأرجة من طيب العنصر ، ولما تطابق فيه الجمالان الصوري والمعنوي قيل : له «قمر بني هاشم» (١) حيث كان يشوء بجماله كلّ جميل ، ويبذ بطلاوة منظره كلّ أحد ، حتى كأنّه الفذ في عالم البهاء ، والوحيد في دنياه ، كالقمر الفائق بنوره أشعة النجوم ، وهذا هو حديث الرواة :

«كان العباس وسيماً ، جميلاً ، يركب الفرس المطهم ورجلاه يخطان في الأرض ويقال له : قمر بني هاشم» (٢).

قال مؤلف «تذكرة الشهداء» : يكفى هذا الأبيّ العظيم شرفاً أنّه ابن أسد الله ، وأخو قرطا عرش الله ، وما أعظم فضله ومعرفته حتى كني بأبي الفضل ، وليس ذاك لأنّه كان له ولد اسمه الفضل فحسب ، بل لأنّه نال مراتب العلم والمعرفة والفضل.

__________________

(١) كان يقال لعبد مناف قمر البطحاء ولعبد الله والد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قمر الحرم.

(٢) مقاتل الطالبين ترجمة العباس بن علي عليه‌السلام.

٨٦

وما أسخاه وما أعظمه حيث أعرض عن الدنيا وزخرفها ، ونسى الأهل والولد ، وسعى إلى الشهادة جاهداً صابراً محتسباً ، وبذل كلّ غالٍ ونفيس في سبيل الدفاع عن حريم إمامه وأخيه الحسين عليه‌السلام و «كمال الجود بذل الموجود» (١).

أمير المؤمنين عليه‌السلام يقبّل يدي العباس عليه‌السلام :

كان الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام يرعى ولده العباس في طفولته ، وكان يوسعه تقبيلاً.

يقول المؤرخون : إنّه أجلسه في حجره فشمر عن ساعديه فجعل الامام يقبلها ، وهو غارق في البكاء ، فبهرت أم البنين ، وراحت تقول للامام : ما يبكيك؟

فأجابها الامام بصوت خافت حزين النبرات : «نظرت إلى هذين الكفين وتذكرت ما يجري عليهما ...».

وسارعت أم البنين بلهفة قائلة : وماذا يجري عليهما؟

فأجابها الامام بنبرات مليئة بالأسى والحزن قائلاً : إنهما يقطعان من الزند ....

وكانت هذه الكلمات كالصاعقة على أم البنين ، فقد ذاب قلبها ، وسارعت وهي مذهولة قائلة لماذا يقطعان؟

وأخبرها الامام عليه‌السلام بأنهما إنّما يقطعان في نصرة الاسلام والذبّ عن أخيه حامي شريعة الله ، ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأجهشت أم البنين في البكاء ، وشاركها من كان معها من النساء لوعتها وحزنها.

وخلدت أم البنين إلى الصبر ، وحمدت الله ـ تعالى ـ في أن يكون ولدها فداءً لسبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانته (٢).

فبشر سيد الأوصياء بمكانة ولدها العزيز عند الله ـ جلّ شأنه ـ وما حباه عن يديه

__________________

(١) تذكرة الشهداء : ٢٤٣.

(٢) العباس رائد الكرامة والفداء (لباقر شريف القرشي) : ٣٧ ، قمر بني هاشم للمقرم : ١٩.

٨٧

بجناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة ، كما جعل ذلك لجعفر بن أبي طالب ، فقامت تحمل بشرى الأبد والسعادة الخالدة (١).

تعويذ أم البنين له :

لقد كان أبو الفضل العباس آية بارعة في الجمال ، وقد لقّب بقمر بني هاشم لروعة بهائه وجمال طلعته ، وكان متكامل الجسم ، قد بدت عليه آثار البطولة والشجاعة ، ووصفه الرواة بأنه كان وسيماً جميلاً ، يركب الفرس المطهم ورجلاه يخطان في الارض.

وكان حبّه قد استوعب قلب أمه الحنون الزكية ، فكان عندها أعزّ من الحياة ، وكانت تخاف عليه وتخشى من أعين الحساد من أن تصيبه بأذى أو مكروه ، وكانت تعوّذه بالله وتقول هذه الأبيات :

أعيذه بالواحد

من عين كلّ حاسد

قائمهم والقاعد

مسلمهم والجاحد

صادرهم والوارد

مولدهم والوالد (٢)

وكان من شدّة حبّ أبيه له أن قبلّ يديه تعبيراً عن مستوى عواطفه ومقدار ما إحتله الولد من قلب والده ، تماماً كما كان يفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع الصديقة الطاهرة بضعته ، حيث كان يقبّل يدها ويقوم لها ويجلسها مجلسه.

كنيته :

كنّى سيدنا العباس «أبي الفضل» وروى : إنّما كنّي بذلك لأن له ولداً اسمه الفضل.

__________________

(١) قمر بني هاشم (للمقرم) : ٢٠.

(٢) العباس رائد الكرامة (للقرشي) : ٣٦ ، عن المنمق في أخبار قريش : ٤٣٧.

٨٨

ويقول في ذلك بعض من رثاه :

أبا الفضل يا من أسس الفضل والابا

أبي الفضل إلّا أن تكون له أبا

وطابقت هذه الكنية حقيقة ذاته العظيمة ، فلو لم يكن له ولد يسمّى بهذا الاسم ، فهو ـ حقاً ـ أبو الفضل ومصدره الفياض ، فقد أفاض في حياته ببره وعطائه على القاصدين لنبله وجوده ، وبعد شهادته كان موئلاً وملجأً لكلّ ملهوف ، فما استجار به أحد بنية صادقة إلّا كشف الله ما ألم به من المحن والبلوى.

ومن كناه أيضاً : «أبو القاسم» وكنّي بذلك لأن له ولداً اسمه «القاسم» ، ذكر بعض المؤرخين أنّه استشهد معه يوم الطف ، قدّمه العباس قرباناً لدين الله وفداءً لريحانة رسول الله (١).

وأبى إلّا أن يكون قد واسى الحسين أخاه في كلّ شيء حتى في الفجيعة بولده وفلذة كبده.

العباس عليه‌السلام مع أبيه :

كان أمير المؤمنين عليه‌السلام معلم البشرية ومربّيها ؛ سيما المجتمع الاسلامي الذي ساقه عليه‌السلام إلى ذرى الانسانية الشماء.

وقد قدم عليه‌السلام دروس الشهامة والفضيلة والكمال لمحبيه وشيعته ، وخصّ بذلك أيضاً أبناءه عليه‌السلام ، وقد ربّى ولده أبا الفضل العباس عليه‌السلام ـ وكان غايته من زواجه بأم البنين عليها‌السلام ـ أحسن تربية ، فأفاض عليه مكونات نفسه العظيمة العامرة بالايمان والمثل العليا ، وأفاض عليه آداب الاسلام وعلوم القرآن والحديث والفضائل الاخلاقية ، ولم يمنعه أي فيض من فيوضاته ، فعلمه الزراعة والفروسية والرماية والمجالدة بالسيف ، وشركه في حروبه الثلاثة ـ الجمل وصفين والنهروان ـ فعلّمه

__________________

(١) انظر العباس رائد الكرامة.

٨٩

على تجربة الحرب وخوض ساحات الوغى والمنون ، حتى طار صيته في الآفاق ، وصار العباس وشجاعته مثلاً تسير به الركبان ، ويتحدّث به العرب في أنديتهم.

وفي الساعات الأخيرة من حياته الشريفة أخذ أمير المؤمنين عليه‌السلام يد العباس عليه‌السلام ووضعها في يد أخيه الحسين عليه‌السلام وأوصاهم بوصاياه المهمة.

العباس عليه‌السلام مع أخيه الحسن عليه‌السلام :

لما استشهد أمير المؤمنين عليه‌السلام انتقلت ودائع الامامة إلى ولده الحسن عليه‌السلام ، السبط الأكبر للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتلقّد شيعته وأهل بيته ، بل والمسلمون جميعاً قلادة الاطاعة لإمام زمانهم عليه‌السلام.

وكان العباس عليه‌السلام واقفاً إلى جنب أخيه في الحربين مع معاوية ، ثابت القدم ، راسخ الايمان ، مما أكسبه تجارب عظيمة ، وخبرة كبيرة في جفاء القوم وخيانة رؤوسهم وقادتهم.

فلما اتخذ الامام عليه‌السلام قرار «الصلح» مع معاوية ـ بناءً على المصلحة وعملاً بالأمر الالهي ـ أطاعه العباس عليه‌السلام في ذلك وسلّم لأمر إمامه ، ومضت عشرة سنوات في الهدوء الظاهر ، والصمت المخيم على الموقف التزاماً بالصلح ، وإطاعة للامام حتى استشهد الامام المجتبى عليه‌السلام.

فتمادى الأمويون بالشر ، وظهرت خفايا نفوسهم المنطوية على الحقد والعداء لآل البيت ، فقد مانعت عائشة ووقف مروان بكلّ صلف ودناءة ليحولوا دون أن يدفن سبط النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانته عند جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأوعزوا إلى عملائهم برمي جنازة الامام ، فرموها بقسيّهم وسهامهم ، وكادت الحرب أن تقع بين الهاشميين والأمويين ، وأسرع أبو الفضل العباس إلى مناجزة الأمويين وتمزيقهم ، ومدّ يده القوية إلى سيفه البتار ، فمنعه أخوه الامام الحسين عليه‌السلام من القيام بأي عمل إمتثالاً لوصية أخيه حيث

٩٠

أوصاه بأن «لا يهراق في أمره ملء محجمة من دم» ... ولو لا ذاك لانقض أبو الفضل على الحكام وأعوانهم وعائشة ومردتها.

وكان العباس يومها في الرابعة والعشرين من عمره ، وهو يتمتع بكل هذه الهيبة والشجاعة والاقدام.

قاسماً بصارمه الصقيل وإنني

في غير صاعقة السما لا أقسم

لو لا القضا لمحا الوجود بسيفه

والله يقضي ما يشاء ويحكم

أبو الفضل مع أخيه الحسين عليه‌السلام :

بقي أبو الفضل العباس خلال فترة «الصلح» مع معاوية ملتزماً بالمعاهدة إطاعة لامامه وامتثالاً لتكليفه ، وكان طيلة فترة حياته مع أخيه حاضراً جاهزاً مطيعاً ممتثلاً لامام زمانه ، ولم يؤثر عنه أنّه خاطبه ولا مرة واحدة بـ «أخي» ، وإنّما كان يخاطبه بـ «مولاي» و «سيدي» ، ولم يؤثر عنه أنّه عبّس وجهه إلا في وجوه الأعداء وكان ينقض كالصقر إذا ما سمع أمراً صادراً من إمامه الحسين عليه‌السلام ، فينفذه فوراً ، وكان وفياً له حتى بعد شهادته.

فقد روي : أنّ ملكة الهند توسلت في حاجة لها بأبي الفضل العباس عليه‌السلام ونذرت إن قضى الله لها حاجتها أن تطلي منائر الروضة العباسية المباركة بالذهب ، فقضى الله لها حاجتها ببركة أبي الفضل العباس عليه‌السلام ، فعزمت على أداء نذرها والوفاء بوعدها ، فشدّت الرحال وتوجهت نحو المشاهد المشرفة والأعتاب المقدسة ، وأخذت معها ذهباً كثيراً ، واصطحبت معها مهندسين ماهرين بارعين.

فلما وصلت الملكة بموكبها إلى كربلاء المقدسة وعزمت على الشروع بتذهيب المنائر ـ إذ قد تمّ إعداد كلّ شيء من قبل ـ واستعد المهندسون والعمال لمباشرة أعمالهم في الصباح الباكر ، وإذا بسادن الروضة العباسية المباركة يرى في نفس

٩١

الليلة ـ التي كان من المقرر أن يباشروا العمل في صبيحتها ـ في ما يرى النائم أبا الفضل العباس عليه‌السلام وهو يقول له ـ بما معناه ـ : إنّي لا أرضى بتذهيب منائر روضتي ، فان منائر روضة سيدي الامام الحسين عليه‌السلام مذهبّة ، ولا بد أن يكون ثمة فرق بين روضة العبد وروضة سيده.

وفي الصباح الباكر أقبل سادن الروضة العباسية المباركة وأخبرهم بما قاله أبو الفضل العباس عليه‌السلام وأدى رسالته اليهم ، فكفوا عن العمل ، وانفقوا الذهب الذي جاءت به الملكة على الفقراء والمعوزين بحساب أبي الفضل العباس (١).

ويستفاد من هذه القصة أمران :

الأول : إنّ أدب أبي الفضل العباس عليه‌السلام ووفائه لأخيه الحسين عليه‌السلام لم يكن مقصوراً على أيام حياته ، بل بقي كذلك حتى بعد شهادته ، علماً بأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.

والثاني : إنّ الفقراء والمعوزين كانوا من الكثرة بمكان في ذلك الزمان ، وقد شملتهم أفضال أبي الفضل العباس عليه‌السلام.

شجاعة أبي الفضل العباس عليه‌السلام :

الشجاعة من أسمى صفات الرجولة ، وهي صفة الاعتدال التي يحدّها الجبن والتهور ، فالشجاع لا يخاف ولا يتهور فيتعدى على حقوق الآخرين ويتجاوز حدودهم ، والشجاع لا يقهر الآخرين تهوراً وظلماً ، وكل عمل دني غير إنساني يصدر من أحد إنّما يكون منشأه الجبن أو التهور ؛ لأن الشجاعة بمعناها الصحيح حدّ وسط ، وملكة نفسانية أكدت عليها التعاليم والآداب الدينية ، وهي منحة إلهية تنم عن قوة الشخصية وصلابتها وتماسكها أمام الأحداث ، فلا تفاض على كلّ أحد ، بل لا بد

__________________

(١) انظر الخصائص العباسية : ٢٢٩ في وفاء العباس عليه‌السلام.

٩٢

أن يكون أهلاً لها ، تماماً كشجاعة أمير المؤمنين عليه‌السلام الربانية التي صرع بها عمرو ابن ودّ ، وقلع بها باب خيبر ، فلما سئل عنها قال : «بقوة رحمانية لا بقوة جسمانية».

وقد ورث أبو الفضل هذه الصفة الكريمة من أبيه الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي هو أشجع إنسان في دنيا الوجود (١).

وقد علمه الامام عليه‌السلام وأدبه بآدابه وأفاض عليه من ذاته ، ولم يكن العباس عليه‌السلام قد ورث الشجاعة وتعلمها من أبيه فحسب ، وإنّما كان بطلاً ضرغاماً له مؤهلاته الجسدية أيضاً حيث كان ذا بسطة في الجسم ، معروفاً بالقوة والبسالة ، فكان شجاعاً ظاهراً وباطناً.

وهكذا هم بنو هاشم كبيرهم وصغيرهم ، فكيف بأبي الفضل العباس الذي كان علماً في البطولات ، لم يخالج قلبه خوف ولا رعب في الحروب التي خاضها مع أبيه ، بل لقن الأعداء درساً جعلهم يعرفون سيفه بين السيوف ، وهو لمّا يزل شاباً ، كما أبدى من الشجاعة يوم الطف ما صار مضرب المثل على امتداد التاريخ ، حيث برز أمام تلك القوى التي ملأت البيداء ، فجبّن الشجعان ، وأرعب قلوب عامة الجيش ، فزلزلت الأرض تحت أقدامهم وخيّم عليهم الموت (٢).

عبست وجوه القوم

والعباس فيهم ضاحك متبسم

قلب اليمين على الشمال

وغاص في الأوساط يحصد للرؤوس ويحطم

بطل تورث من أبيه شجاعة

فيها أنوف بني الضلالة ترغم

__________________

(١) كما ورث هذه الصفة من أخواله الذين تميزوا بهذه الظاهرة وعرفوا بها بين سائر الأحياء العربية (أنظر العباس رائد الكرامة : ٥٥).

(٢) انظر العباس رائد الكرامة : ٥٥.

٩٣

فروسية أبي الفضل العباس عليه‌السلام :

كان عبد المطلب من زعماء مكة قبل الاسلام ، وكان في زمانه رجل يقال له «سيف بن ذي يزن» وكان من ملوك اليمن ، فجمع عبد المطلب رؤساء قريش وقال : يا قوم إنّكم تحتاجون أن تخرجوا معي نحو «سيف بن ذي يزن» لتهنئته في ولايته ...

فلما ذهبوا اليه استقبلهم بحفاوة وأكرم مثواهم وجعلهم في دار الضيافة.

وفي ذات يوم دعا عبد المطلب لوحده ، واختلى به وقال لخدمه : تباعدوا عنا ، فلم يبق في المجلس غير الملك وعبد المطلب وثالثهم ربّ العزة ـ تبارك وتعالى ـ.

فقال له الملك : يا أبا الحارث ، إنّ من آرائي أن أفوض اليك علماً كنت كتمته عن غيرك أريد أن أضعه عندك ، فانك موضع ذلك ، وأريد أن تطويه وتكتمه إلى أن يظهره الله ـ تعالى ـ.

فقال عبد المطلب : السمع والطاعة للملك وكذا الظن بك.

فقال الملك : اعلم يا أبا الحارث إن بأرضكم غلاماً حسن الوجه والبدن جميل القد والقامة ، بين كتفيه شامة ، المبعوث من تهامة ، أنبت الله ـ تعالى ـ على رأسه شجرة النبوة ، وظللته الغمامة ، صاحب الشفاعة يوم القيامة ، مكتوب بخاتم النبوة على كتفيه سطران : «لا اله الا الله» والثاني «محمد رسول الله» والله ـ تعالى ـ أمات أمه وأباه ، وتكون تربيته على جدّه وعمه ، وإني وجدت في كتب بني إسرائيل صفته ، أبين وأشرح من القمر بين الكواكب ، وإني أراك جدّه.

فقال عبد المطلب : أنا جده أيها الملك.

فقال الملك : مرحباً بك وسهلاً يا أبا الحارث.

ثم قال له الملك : أشهدك على نفسي ـ يا أبا الحارث ـ إني مؤمن به وبما يأتي به من عند ربّه ، ثم تأوّه «سيف» ثلاث مرات بأن يراه ، فكان ينصره ....

٩٤

ثم إنّ الملك أمر لكل واحد منهم ببدرة بيض ، فحمل كلّ واحد منهم على دابة وبغل ، وأمر لكلّ واحد منهم بجارية وغلام وثياب فاخرة ، ولعبد المطلب بضعفي ما وهب لهم.

ثم دعا الملك بفرسه «العقاب» وبغلته «الشهباء» وناقته «العضباء» وقال : يا أبا الحارث ؛ إنّ الذي أسلمه اليك أمانة في عنقك تحفظها إلى أن تسلمها إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقال له : إعلم أني ما طلبت على ظهر هذه الفرس شيئاً إلا وجدته ، وما قصدني عدو وأنا راكب عليها إلّا نجاني الله ـ تعالى ـ منه ، وأما البغلة فاني كنت أقطع بها الدكداك والجبال لحسن سيرها ، ولا أنزل عنها ليلي ونهاري ، فأمره أن يتحفظ ويجعلها لي تذكرة ، وبلغه عني التحية الكثيرة.

فقال عبد المطلب : السمع والطاعة.

ثم ودعوه وخرجوا نحو الحرم حتى دخلوا مكة ....

ثم إنّ عبد المطلب لما رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نزل عن مركوبه وعانقه وقبّل ما بين عينيه وقال له : إنّ هذا الفرس والبغلة والناقة أهداها اليك «سيف بن ذي يزن» ويقرأ عليك التحية الطيبة.

ثم أمر أن يحمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على الفرس ، فلمّا استوى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على ظهر الفرس انتشط وصهل صهيلاً شديداً فرحاً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ونسب هذا الفرس (١) أنّه : عقاب بن ينزوب بن قابل بن بطال بن زاد الراكب بن الكفاح بن الجنح بن موج بن ميمون بن ريح ... (٢).

فكان عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله العقاب والمرتجز وذو الجناح ، وكانت من جياد الخيل

__________________

(١) كانت الخيل العربية ولا زالت ذات أنساب عريقة وأصيلة بحيث يحتفظ بشجرتها عند أصحابها عادة.

(٢) البحار ١٥ / ١٥٠ ـ ١٥١ والقصة مفصلة طويلة.

٩٥

المدربة على الحروب ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّما ركبها عادت قوية شابة بقوة الله وإعجاز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فلما توفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انتقلت إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ومن ثم إلى السبطين عليهما‌السلام ومن ثم صار العقاب إلى أبي الفضل العباس ، والمرتجز إلى علي الأكبر عليه‌السلام ، وذو الجناح إلى أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام.

وكان أبو الفضل العباس اذا ركب العقاب واقتحم الميدان أشرف على الجيش لطول قامته وارتفاع هامته.

الأمان :

قال أبو مخنف : لما كتب ابن زياد كتابه إلى عمر بن سعد بالتعجيل لحرب الحسين عليه‌السلام ، وقبضه شمر بن ذي الجوشن قام هو وعبد الله بن أبي المحل بن حزام الكلابي.

فقال عبد الله : أصلح الله الأمير ؛ إنّ بني أختنا أم البنين : العباس وعبد الله وجعفر وعثمان مع الحسين عليه‌السلام ، فان رأيت أن تكتب لهم أماناً فعلت.

قال ابن زياد : نعم ـ ونعمة عين ـ فأمر كاتبه فكتب لهم أماناً ...

فبعث به عبد الله بن أبي المحل مع مولى له يقال له «كزمان» (١).

ولما قدم عليهم «كزمان» مولى عبد الله بن أبي المحل دعاهم فقال : هذا أمان بعث به خالكم.

فقال له الفتية : أقرأ خالنا السلام وقل له : أن لا حاجة لنا في أمانكم ، أمان الله خير من أمان ابن سمية (٢).

__________________

(١) مقتل أبي مخنف : ١٨٦ (مع الترجمة الفارسية).

(٢) مقتل أبي مخنف : ١٨٨.

٩٦

وفي اللهوف : وصاح شمر بأعلى صوته : أين بنو أختنا؟ أين العباس واخوته؟

فأعرضوا عنه فقال الحسين عليه‌السلام : أجيبوه ولو كان فاسقاً.

قالوا : ما شأنك وما تريد؟

قال : يا بني أختي أنتم آمنون لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين والزموا طاعة أمير ... يزيد.

فقال العباس : لعنك الله ولعن أمانك ، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له ، وتأمرنا أن ندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء (١).

عشية اليوم التاسع :

وفي عشية اليوم التاسع من المحرم نادى عمر بن سعد : يا خيل الله اركبي وبالجنة أبشري ، فركب الناس حتى زحف نحوهم بعد العصر ، والحسين عليه‌السلام جالس أمام بيته محتبياً بسيفه ، إذ خفق برأسه على ركبتيه ، فسمعت أخته الضجة ، فدنت من أخيها فقالت : يا أخي أما تسمع الأصوات قد اقتربت ، فرفع الحسين عليه‌السلام رأسه فقال : إنّي رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الساعة في المنام فقال لي : إنّك تروح الينا ، فلطمت أخته وجهها ونادت بالويل.

فقال لها الحسين عليه‌السلام : ليس لك الويل يا أخيه اسكتي رحمك الله.

ثم قال له العباس بن علي عليه‌السلام : يا أخي أتاك القوم.

فنهض ثم قال : يا عباس ـ اركب بنفسي أنت يا أخي ـ حتى تلقاهم وتقول لهم : مالكم وما بدالكم وتسألهم عما جاء بهم ، فأتاهم العباس في نحو من عشرين فارساً ، فيهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر.

فقال لهم العباس : ما بدالكم وما تريدون؟

__________________

(١) ابن نما : ٢٨ ، مقتل الحسين عليه‌السلام (للمقرم) : ٢٠٩.

٩٧

قالوا : قد جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم.

فقال : فلا تعجلوا حتى ارجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم.

فوقفوا وقالوا : ألقه فاعلمه ثم القنا بما يقول لك.

فانصرف العباس راجعاً يركض إلى الحسين عليه‌السلام يخبره الخبر ، ووقف أصحابه يخاطبون القوم ويعظونهم ويكفونهم عن قتال الحسين عليه‌السلام ، فجاء العباس إلى الحسين عليه‌السلام فأخبره بما قال القوم فقال عليه‌السلام : ارجع اليهم ، فان استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة ، وتدفعهم عنا العشية لعلنا نصلّي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره ، فهو يعلم أنّي قد كنت أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار.

فمضى العباس إلى القوم ، ورجع العباس واستمهلهم العشية ، فتوقف ابن سعد وسأل من الناس ، فقال عمرو بن الحجاج : سبحان الله لو كانوا من الديلم وسألوك هذا لكان ينبغي لك أن تجيبهم اليه.

فبعث عمر بن سعد إلى الحسين عليه‌السلام يقول : إنّا قد أجلناكم إلى غد فان استسلمتم سرحناكم إلى أميرنا عبيد الله بن زياد وإن أبيتم فلسنا تاريكيكم ... (١).

حارس خيام الحسين عليه‌السلام :

في معالي السبطين عن فخر المخدرات زينب عليها‌السلام قالت : لما كانت ليلة عاشوراء من المحرم خرجت من خيمتي لأتفقد أخي الحسين عليه‌السلام وأنصاره ، وقد أفرد له خيمة ، فوجدته جالساً وحده يناجي ربّه ويتلوا القرآن ، فقلت في نفسي : أفي مثل هذه الليلة يترك أخي وحده ، والله لأمضين أخوتي وبني عمومتي وأعاتبهم بذلك.

فأتيت إلى خيمة العباس فسمعت منها همهمة ودمدمة ، فوقفت على ظهرها فنظرت فيها فوجدت بني عمومتي وأخوتي وأولاد اخوتي مجتمعين كالحلقة

__________________

(١) الارشاد (للمفيد) : ٢٣٠ ، مقتل الحسين عليه‌السلام (للمقرم) : ٢١١.

٩٨

وبينهم العباس ابن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو جاث على ركبتيه كالأسد على فريسته ، فخطب فيهم خطبة ما سمعتها إلّا من الحسين عليه‌السلام ، مشتملة بالحمد والثناء لله والصلاة والسلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثم قال في أخر خطبته : يا اخوتي وبني اخوتي وبني عمومتي إذا كان الصباح فما تقولون؟

فقالوا : الأمر اليك يرجع ونحن لا نتعدى لك قولك.

فقال العباس : إنّ هؤلاء ـ أعني الأصحاب ـ قوم غرباء ، والحمل الثقيل لا يقوم إلّا بأهله ، فاذا كان الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم ، نحن نقدمهم للموت لئلا يقول الناس : قدموا أصحابهم ، فلما قتلوا عالجوا الموت بأسيافهم ساعة بعد ساعة.

فقامت بنو هاشم وسلّوا سيوفهم في وجه أخي العباس وقالوا : نحن على ما أنت عليه.

قالت زينب عليها‌السلام : فلما رأيت كثرة اجتماعهم وشدّة عزمهم وإظهار شيمتهم سكن قلبي وفرحت ... (١).

لقد قضى أبو الفضل العباس تلك الليلة في حراسة خيام الحسين عليه‌السلام ، فأطبق بجلاله وشهامته على الأجواء ، حيث كانت ومضات سيفه البتار تسلب الليل سكونه ، وعجز العدو على كثرتهم تلك الليلة عن القيام بأي حركة ، بل سلب العباس النوم من عيونهم ، كيف لا وهو شبل أسد الله وربيب علي المرتضى؟!

وهكذا قضى الحسين وأصحابه تلك الليلة بالمناجاة ، ما بين قائم وقاعد ، وراكع وساجد ، ولهم في تلاوت القرآن دوي كدوي النحل ، وأخلدن بنات النبي وعقائل الوحي والوصي ، ومن معهن من الأطفال والصبية تلك الليلة إلى الاطمئنان والأمان ؛ لأن الجميع كانوا في حماية العباس وحراسته.

__________________

(١) معالي السبطين ١ / ٣٤٠.

٩٩

لقاء بين زهير بن القين وأبي الفضل العباس عليه‌السلام :

ولما رجع العباس واخوته إلى الحسين وأعلموه بما أراده الماجن منهم ، قام زهير بن القين إلى العباس وحدّثه بحديث.

فقال له : ألا أحدثك بحديث وعيته؟!

قال العباس عليه‌السلام : بلى حدثني به.

قال زهير : اعلم يا أبا الفضل إنّ أباك أمير المؤمنين عليه‌السلام طلب من أخيه عقيل ـ وكان عارفاً بأنساب العرب وأخبارها ـ أن يختار له امرأة ولدتها الفحولة من العرب وذوو الشجاعة منهم ؛ ليتزوجها فتلد له غلاماً فارساً شجاعاً ينصر الحسين بطف كربلا ، وقد ادخرك أبوك لمثل هذا اليوم فلا تقصر عن نصرة أخيك وحماية أخواتك.

فثارث غيرته الهاشمية وتفجرت همته العلوية ، فتمطى في ركابه حتى قطعه وقال : يا زهير تشجعني هذا اليوم ، فوالله لأرينك شيئاً ما رأيته (١).

فجدل أبطالاً ونكس رايات في حالة لم يكن همه القتال ولا منازلة الأبطال ، بل كان همه إيصال الماء إلى الأطفال ، ولكن لا مردّ للقضاء ولا دافع للأجل المحتوم.

وقع العذاب على جيوش أمية

من باسل هو في الوقائع معلم

ما راعهم إلّا تقحم ضيغم

غيران يعجم لفظه ويدمدم

عبست وجوه القوم خوف الموت

والعباس فيهم ضاحك متبسم

قلب اليمين على الشمال وغاص في

الأوساط يحصد في الرؤوس ويحطم

قسماً بصارمه الصقيل وإنني

في غير صاعقة السما لا أقسم

لو لا القضا لمحا الوجود بسيفه

والله يقضي ما يشاء ويحكم (٢)

__________________

(١) أنظر : الخصائص العباسية : ٢٤٧ ، مقتل الحسين (للمقرم) : ٧٩٤.

(٢) الخصائص العباسية : ٢٤٩.

١٠٠