امّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

الشيخ علي ربّاني الخلخالي

امّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

المؤلف:

الشيخ علي ربّاني الخلخالي


المترجم: السيد علي الحسيني
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: مطبعة ستار
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٨٣

ومن ثم أعتق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من كان في سهمه إكراماً لمرضعته «حليمة السعدية» التي كانت من «هوازن» وردّ عليهم أموالهم ، تبعه على ذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وفعل بعض الصحابة ما فعله النبي ووصيه ، ثم تبعهم المسلمون جميعاً.

فلما رأى رجال هوازن هذا الوفاء والعفو والمرؤة والخلق السامي في المسلمين دخلوا الاسلام أفواجاً ، واستأذنوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في العودة ، فأذن لهم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وكان فيهم «مالك بن عوف» قائدهم المقدام ، وزعيمهم الشجاع ، فأسلم وصار ذا صيت في جهاده من أجل رفع راية الدين الحنيف (١).

كانت أُم البنين عليها‌السلام من نساء هذه القبيلة ، حيث نشأت في بيت عرف رجاله بالشجاعة والكرم والسخاء ، وكان لهم حظ وافر في العلم والمعرفة.

* * *

__________________

(١) انظر غزوة حنين : قصص الراوندي ٣٥٠ الفصل ١٠ ، تفسير القمي ١ / ٢٨٥ وما بعدها غزوة حنين ، البحار ٢١ / ١٤٩ ، باب ٢٨.

٢١

(٢) أسرتها

هي فاطمة (١) بنت حزام (٢) بن خالد بن ربيعة بن وحيد بن كعب بن عامر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن.

وأمها : ثمامة (٣) من آل سهل بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب.

١ ـ وأمها : عمرة بنت الطفيل فارس قرزل ابن مالك الأجزم رئيس هوزان بن جعفر بن كلاب.

٢ ـ وأمها : كبشة بنت عروة الرحال ابن عتبة جعفر بن كلاب.

٣ ـ وأمها : أم الخشف بنت أبي معاوية فارس الهوازن ابن عبادة بن عقيل بن كلاب بن ربيعة بن عار بن صعصعة.

٤ ـ وأمها : فاطمة (٤) بنت جعفر بن كلاب.

٥ ـ وأمها : عاتكة بنت عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب جدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٥).

__________________

(١) في تاريخ الخميس ٢ / ٣١٧ «وايس» بدل «فاطمة».

(٢) في الاصابة ١ / ٣٧ والمعارف لابن قتيبه : ٩٢ : «حرام» بالراء المهملة.

(٣) في عمدة الطالب : «ليلى».

(٤) في الأغاني : «خالدة».

(٥) قال في عمدة الطالب ٣٥٧ : «وأمها فاطمة بنت عبد شمس بن عبد مناف».

٢٢

٦ ـ وأمها : آمنة بنت وهب بن عمير بن نصر بن قعين بن الحرث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة.

٧ ـ وأمها : بنت جحدر بن ضبيعة الأغر ابن قيس بن ثعلبة بن عكاية بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن ربيعة بن نزار ، جدّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٨ ـ وأمها : بنت مالك بن قيس بن ثعلبة.

٩ ـ وأمها : بنت ذي الرأسين وهو خشيش بن أبي عاصم بن سمح بن فزارة (١).

١٠ ـ وأمها : بنت عمرو بن صرمة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن نفيض بن الربت بن غطفان (٢).

هذا ما ذكره أبو الفرج في «المقاتل» من جدات أم البنين عليها‌السلام ، ومنه عرفنا آباءها وأخوالها ، ويعرفنا التاريخ أنهم فرسان العرب في الجاهلية ، ولهم الذكريات المجيدة في المغازي بالفروسية والبسالة مع الزعامة والسؤدد ، حتى أذعن لهم الملوك ، وهم الذين عناهم عقيل بن أبي طالب بقوله : «ليس في العرب أشجع من آبائها ولا أفرس» (٣).

أبو البراء عامر بن مالك :

فانّ من قومها أبا براء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب جدّ ثمامة والدة أم البنين ، وهو الجد الثاني لأم البنين ، قيل له : «ملاعب الأسنة» لفروسيته وشجاعته ، لقبه بذلك حسان لمارآه يقاتل الفرسان وحده وقد أحاطوا به قال : ما هذا إلّا ملاعب الأسنة.

__________________

(١) في قاموس اللغة : «خشين بن لاي» وفي تاج العروس : «لابى بن عصيم».

(٢) أنظر : مقاتل الطالبيين : ٨٧ ترجمة عبد الله بن علي عليه‌السلام.

(٣) العباس عليه‌السلام للسيد المقرم : ١٢٧.

٢٣

وقيل : إن أوس بن حجر قال فيه (١) :

يلاعب أطراف الأسنة عامر

فراح له حظ الكتائب أجمع

وهو الذي استعانه ابن أخيه عامر بن الطفيل على منافرة علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص لما تفاخرا على أن يسوق كلّ منهما مائة ناقة تكون لمن يحكم له ، ووضع كل منهما رهناً من أبنائهم على يد رجل من بني الوحيد ـ فسمي الضمين إلى اليوم ، وهو الكفيل ـ.

ولما استعانه عامر دفع اليه نعليه وقال له : استعن بهما في منافرتك فاني قد ربعت بهما أربعين مرابعاً.

والمرباع ما يأخذه الرئيس من ربع الغنيمة دون أصحابه خالصاً لنفسه وذلك عندما كانوا يغزون في الجاهلية (٢).

وهذا النعلان من مختصات الرئيس التي يخرج بها في الأيام الخاصة ، وإلّا فلا مزية لهما حتى يستعين بهما على المنافرة.

عامر بن الطفيل :

ومنهم : عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب ، وهو أخو عمرة ، الجدة الأولى لأم البنين.

كان عامر أسود أهل زمانه ، وأشهر فرسان العرب بأساً ونجدة ، وأبعدها اسماً ، حتى بلغ أن قيصر إذا قدم عليه قادم من العرب قال : ما بينك وبين عامر بن الطفيل؟ فان ذكر نسباً عظم عنده وأرفده وإلّا أعرض عنه.

__________________

(١) رسالة ابن زيدون بهامش الصفدي على لامية المعجم ١ / ١٣٠.

(٢) أنظر : قصة المنافرة مفصلة : الأغاني ١٦ / ٢٨٣ وما بعدها.

٢٤

وفد عليه علقمة بن علاثة فانتسب له ، فقال له قيصر : أنت ابن عم عامر بن الطفيل؟ فغضب علقمة.

ثم إنّه دخل على ملك الروم ، فقال له : انتسب ، فانتسب له ، فقال الملك : أنت ابن عم عامر بن الطفيل ، فغضب وخرج عنه (١).

عروة الرحال :

ومنهم : عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب ، والد كبشة ، الجدة الثانية لأم البنين عليها‌السلام.

كان وفاداً على الملوك ، ولد قدر عندهم ، ومن هنا سمي الرحال ، وهو الذي أجاز لطيمة النعمان التي كان يبعث بها كل عام إلى «سوق عكاظ» ، فقتله البراض بن قيس الكناني واستاق العير ، وبسببه هاجت «حرب الفجار» بين حي «خندف» و «قيس» (٢).

الطفيل فارس قرزل :

ومنهم : الطفيل فارس قرزل ، وهو والد عمرة ، الجدة الأولى لأم البنين.

كان معروفاً بالشجاعة والفروسية ، وهو أخو ملاعب الأسنة ، وربيعة ، وعبيدة ، ومعاوية بنو جعفر بن كلاب.

يقال لأمهم : «أم البنين» وإياها عنى لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب لما وفد بنو جعفر على النعمان بن المنذر ، وكان سميره الربيع بن زياد العبسي ، فاتهموه بالسعي عليهم ، فلما غدوا على النعمان كان معهم لبيد ، وهو أصغرهم ،

__________________

(١) سمط اللئالي ٢ / ٨٩٠ ، مجمع الأمثال ٢ / ٢٣.

(٢) بلوغ الأرب ١ / ١٤٢.

٢٥

فرأوا النعمان يأكل مع الربيع فقال لبيد :

يا واهب الخير الجزيل من سعه

نحن بنو أم البنين الأربعه

ونحن خير عامر بن صعصعه

المطعمون الجفنة المدعدعه

الضاربون الهام وسط الخيضعه

اليك جاوزنا بلاداً مسبعه

تخبر عن هذا خبيراً فاسمعه

مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه

إنّ استه من برص ملمعه

وأنّه يولج فيها أصبعه (١)

يولجها حتى يواري أشجعه

كأنما يطلب شيئاً ضيعه (٢)

فلم ينكر عليه النعمان ولا أحد من العرب ؛ لأنّ لهم شرفاً لا يدافع ؛ ولذلك طرد النعمان الربيع عن مسامرته وقال له :

شرد برحلك عني حيث شئت ولا

تكثر علي ودع عنك الأباطيلا

قد قيل ذلك إن حقاً وإن كذباً

فما اعتذارك في شيء إذا قيلا (٣)

إلى هنا تعرّفنا على قبيلة أم البنين عليها‌السلام وشخصيات أسرتها ، فلننظر الآن كيف تزوج أمير المؤمنين عليه‌السلام هذه المرأة العظيمة؟

* * *

__________________

(١) إلى هنا من شواهدا المغني للسيوطي : ٦٨.

(٢) الزيادة من جمهرة الأمثال للعسكري ٢ / ١١٨ رقم ١٣٦٢ «قولهم : قد قيل ذلك إن حقاً وإن كذبا».

(٣) العباس للمقرم : ١٢٥ ـ ١٣١.

٢٦

الفصل الرابع

إلتآم الجوهرتين

٢٧

الزواج

بعد أن توفيت ريحانة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيدة نساء العالمين البتول ، شهيدة في سبيل الله ودفاعاً عن الولاية والامامة ، وكان مصاب بضعة المصطفى قد هدّ ركنه عليه‌السلام ـ دعى أمير المؤمنين عليه‌السلام أخاه عقيلا ـ وكان نسابة عالماً بأنساب العرب وأخبارهم وقال له :

انظر لي إمرأة قد ولدتها الفحولة من العرب ، من ذوي البيوت والنسب والحسب والشجاعة ؛ لكي أصيب منها ولداً يكون شجاعاً وعضداً ، ينصر ولدي هذا ، وأشار إلى الحسين عليه‌السلام يواسيه في طف كربلا (١).

وذلك مراد أمير المؤمنين عليه‌السلام من البناء على إمرأة ولدتها الفحولة من العرب ، فان الآباء لابد وأن تعرق في البنين ذاتياتها وأوصافها. فاذا كان المولود ذكراً بانت فيه هذه الخصال الكريمة ، وإن كانت أنثى بانت في أولادها. وإلى هذا أشار صاحب الشريعة الحقة بقوله : «الخال أحد الضجيعين فتخيروا لنطفكم».

وقد ظهرت في أبي الفضل الشجاعتان :

__________________

(١) أنظر : بطل العلقمي للمظفر ١ / ٩٧ ـ ٩٨ ، تنقيح المقال للمامقاني ٢ / ١٢٨.

٢٨

١ ـ الهاشمية : التي هي الأربى والأرقى من ناحية أبيه سيد الوصيين وأمير المؤمنين عليه‌السلام.

٢ ـ العامرية : من ناحية أمه أم البنين (١).

وعلى هذا رضى الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام بهذا الخيار وبعث أخاه عقيلاً ليخطب له أم البنين عليها‌السلام من أبيها.

مهمة عقيل عليه‌السلام :

كان عقيل عليه‌السلام أخو الامام علي عليه‌السلام نسابة معروفاً ، وله في علم الأنساب باع طويل.

وكان ـ يومها ـ للشاعر والقصاص والنسابة وصاحب السيف والكاهن والعراف موقع خاص ؛ لندرتهم وشدّة الحاجة لتخصصاتهم ، وكان الناس يرجعون اليهم وينفذون قولهم ، ويكنون لهم احتراماً خاصاً ، وهم قليلون معدودون في الغالب ، فمثلاً اشتهر أمير المؤمنين عليه‌السلام بضربات سيفه ، واشتهر امرؤ القيس بشعره وقصائده ، واشتهر عقيل عليه‌السلام بخبرته وحفظه في الأنساب ومعرفته بالعرب وأيامها وقبائلها.

لذا دعاه أمير المؤمنين ذات يوم وقال له :

اختر لي إمرأة ولدتها الفحول من العرب ، من ذوي البيوت والحسب والنسب ؛ لتلد لي غلاماً شجاعاً فارساً رشيداً.

فقلّب عقيل قبائل العرب ظهراً لبطن ، وفكر قدّراً ، وفحص ونقّر ، وجاس ديار أنساب العرب ودرس أخلاقهم وطباعهم حتى اختار له «فاطمة» ، والتي سميت فيما بعد بأم البنين عليها‌السلام ، فعرضها على الامام أمير المؤمنين ذاكراً صفاتها وخصال أهلها وقبيلتها ، فأمره الامام عليه‌السلام أن يخطبها من أهلها.

__________________

(١) العباس للمقرم : ١٢٧.

٢٩

الخطبة :

مضى عقيل بن أبي طالب عليهما‌السلام في مهمته بأمر أخيه أمير المؤمنين عليه‌السلام حتى ورد بيت حزام بن خالد ضيفاً على فراش كرامته ، وكان خارج المدينة ...

فقال له عقيل : جئتك بالشرف الشامخ والمجد الباذخ.

فقال حزام : وما هو يابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

قال : جئتك خاطباً.

قال : من لمن؟

قال عقيل : أخطب ابنتك الحرة فاطمة إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.

فلما سمع حزام هشّ وبشّ ثم قال : بخ بخ بهذا النسب الشريف والحسب المنيف ، لنا الشرف الرفيع والمجد المنيع بمصاهرة ابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبطل الاسلام وقاسم الجنة والنار ، ولكن ـ يا عقيل ـ أنت جدّ عليم ببيت سيدي ومولاي ، إنه مهبط وحي ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، وأنّ مثل أمير المؤمنين عليه‌السلام ينبغي أن تكون له إمرأة ذات معرفة عن علم ، وآداب في ثقافة ، وعقل مع أخلاق حسنة ، حتى تكون صالحة لشأنه العالي ومقامه السامي ، وإنّ ابنتنا من أهل القرى والبادية ، وأهل البادية غير أهل المدينة ، ولعلها غير صالحة لأمير المؤمنين عليه‌السلام.

فقال عقيل : يا حزام إنّ أخي يعلم بكلّ ما قلته ، وأنّه يرغب في التزويج بها.

فقال حزام : إذاً تمهّل حتى أسأل عنها أمها ـ ثمامة بنت سهل ـ هل تصلح لأمير المؤمنين عليه‌السلام أم لا؟ فانّ النساء أعلم ببناتهن من الرجال في الأخلاق والآداب.

الرؤية الصادقة :

قام حزام من محلّه وجاء ليسأل ، فلما قرب من المنزل واذا هو يرى فاطمة

٣٠

جالسة بين يدي أمها ، وهي تمشط رأسها ، وفاطمة تقول : يا أماه إنّي رأيت في منامي رؤيا البارحة.

فقالت لها أمها : خير رأيت ـ يا بنية ـ قصيها عليّ.

فوقف حزام في مكانه بحيث يسمع الصوت ولا يراه أحد.

فقالت فاطمة لأمها : إني رأيت فيما يرى النائم ؛ كأني جالسة في روضة ذات أشجار مثمرة وأنهار جارية ، وكانت السماء صاحية ، والقمر مشرقاً ، والنجوم ساطعة ، وأنا أفكر في عظمة خلق الله ، من سماء مرفوعة بغير عمد ، وقمر منير ، وكواكب زاهرة ، فبينما كنت في هذا التفكير ونحوه ، وإذا أرى كأنّ القمر قد انقض من كبد السماء ووقع في حجري ، وهو يتلألأ نوراً يغشي الأبصار ، فعجبت من ذلك ، واذا بثلاثة نجوم زواهر قد وقعوا أيضاً في حجري ، وقد أغشى نورهم بصري ، فتحيرت في أمري مما رأيت ، واذا بهاتف قد هتف بي ، أسمع منه الصوت ولا أرى الشخص ، وهو يقول :

بشراك فاطمة بالسادة الغرر

ثلاثة أنجم والزاهر القمر

أبوهم سيد في الخلق قاطبة

بعد الرسول كذا قد جاء في الخبر

فلما سمعت ذلك ذهلت وانتبهت فزعة مرعوبة ، هذه رؤياي يا أماه فما تأويلها؟!

فقالت لها أمها : يا بنية ؛ إن صدقت رؤياك ، فانك تتزوجين برجل جليل القدر ، رفيع الشأن ، عظيم المنزلة عند الله ، مطاع في عشيرته ، وترزقين منه أربعة أولاد ، يكون أولهم وجهه كأنّه القمر ، وثلاثة كالنجوم الزواهر.

فلما سمع حزام ذلك أقبل عليهما وهو مبتسم ويقول :

هذا عقيل بن أبي طالب جاء يخطب ابنتك للامام علي عليه‌السلام وقد استمهلته حتى أسألك عن ابنتك ؛ هل تجدين فيها كفاءة بأن تكون زوجة لأمير المؤمنين عليه‌السلام؟

٣١

واعلمي أن بيته بيت الوحي والنبوة ، والعلم والآداب والحكمة ، فان تجديها أهلاً لأن تكون خادمة في هذا البيت وإلّا فلا.

فقالت زوجته ذات القلب المفعم بالولاء للامامة :

يا حزام إنّي ـ والله ـ ربيتها وأحسنت تربيتها ، وأرجو الله العلي القدير أن يسعد جدّها ، وأن تكون صالحة لخدمة سيدي ومولاي أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فزوجها به (١).

فأقبل حزام على ابنته يهنئها ويشركها في فرحته :

يهنيك فاطمة بالفارس البطل

نعم القرين أمير المؤمنين علي عليه‌السلام

من للأنام إمام حجة وولي

للمؤمنين أمير والغدير جلي

من لي بزوج كعلي عليه‌السلام؟

لمّا سمعت أم البنين عليها‌السلام أنها خطبت لأمير المؤمنين غمرها السرور وطار قلبها بالفرح والحبور ، وتناثر عرق الحياء على محياها كاللؤلؤ على صفيحة النور ، واختارت السكوت فلم تحرك لسانها ، وجنانها يتدفق بالكلمات تعبيراً عن فرحتها بهذا الزواج السعيد ....

أجل ؛ كيف لا تفرح ولا تغمرها السعادة؟! وهي ترى الحياء في عيني علي عليه‌السلام وسلطان الاسلام في يديه ، والاستقامة والعدالة في خطواته ، ونور الهداية المحمدية في قلبه؟! ... وإنّ في هذه الزيجة المباركه فخراً عميماً ، وشرفاً عظيماً ، وسعادة لم تخيب ، لها ولأهلها وعشيرتها جميعاً.

لقد أقسمت أم البنين عليها‌السلام أنها ستكون كالأم الرؤوم للحسنين عليهما‌السلام ، فدخلت إلى بيت العصمة تحمل معها عالماً من المحبة والمودة والحنان.

* * *

__________________

(١) أنظر : مولد العباس محمد علي الناصري : ٣٥ وما بعدها.

٣٢

هكذا كانت أُم البنين :

وهكذا خطبها عقيل ، ثم أجرى النكاح وكالة عن أخيه أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فاستعدت أم البنين فاطمة بنت حزام للرحيل إلى بيت الأمام عليه‌السلام.

ولما دخل بها الامام عليه‌السلام وجدها إمرأة ذات عقل وإيمان وأدب ، ورأى فيها ما أسرّه من الحسن والجمال والهيئة والكمال ، حيث كانت أم البنين عليها‌السلام من النساء الفاضلات العارفات بحقّ أهل البيت عليهم‌السلام ، كما كانت فصيحة بليغة لسنة ورعة ذات زهد وتقى وعبادة.

وبلغ من عظمها ومعرفتها وتبصرها بمقام أهل البيت عليهم‌السلام أنها لما دخلت على أمير المؤمنين عليه‌السلام وكان الحسنان مريضين أخذت تلاطف القول معهما ، وتلقي اليهما من طيب الكلام ما يأخذ بمجامع القلوب ، وما برحت على ذلك تحسن السيرة معهما وتخضع لهما كالأم الحنون.

ولا بدع في ذلك فانها ضجيعة شخص الايمان ، قد استضاءت بأنواره وربت في روضة أزهاره ، واستفادت من معارفه ، وتأدبت بآدابه ، وتخلقت بأخلاقه (١).

أم البنين هي تلك المرأة التي كان يريدها علي عليه‌السلام ، إمرأة وقور ، تقعد في بيتها وتربي له رجالاً أشاوس ، وفرسان أقوياء من أمثال أبي الفضل العباس عليه‌السلام الذي ضرب المثل الأعلى في الشجاعة والمواساة والاقدام والوفاء ، وخاض لجج الموت ، واقتحم غمرات الحروب ، وجال بين صفوف الأعداء في ساحات الوغى منذ بدايات شبابه ، وهو لا يهاب الموت ، ولا يعبأ بوميض السيوف ورؤوس الحراب الخاطفة كالبرق .. كان قلبه أشدّ من زبر الحديد أمام الأعداء.

* * *

__________________

(١) العباس للمقرم : ١٣٣.

٣٣

الفصل الخامس

صفات النساء الممدوحات

٣٤

صفات

النساء الممدوحات

لقد علّم أمير المؤمنين عليه‌السلام البشرية جمعاً الموازين التي على أساسها تنتخب الزوجة ، فلا بأس بالقاء نظرة على جملة من الآداب والأحكام الاسلامية الرائعة في هذا المجال.

هكذا فلتكن المرأة التي تتبع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام :

روى المرحوم العلامة الفيض الكاشاني في الوافي عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : كنا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال :

إن خير نسائكم : الولود ، الودود ، العفيفة ، العزيزة في أهلها ، الذليلة مع بعلها ، المتبرجة (١) مع زوجها ، الحصان (٢) على غيره ، التي تسمع قوله ، وتطيع أمره ، وإذا خلا بها بذلت له ما يريد منها ، ولم تبذل (٣) كتبذل الرجل (٤).

__________________

(١) التبرج : اظهار الزينة.

(٢) الحصان : العفيفة.

(٣) التبذل : ترك التصاون.

(٤) الكافي ٥ / ٣٢٤ ، ج ١ ، وسائل الشيعة ٢٠ / ٢٩ ح ٢٤٩٤٢ باب ٦.

٣٥

وعن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال :

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : خير نسائكم الخمس ،

قيل : وما الخمس؟

قال : الهينة ، اللينة ، الموايتة ، التي إذا غضب زوجها لم تكتحل بغمض حتى يرضى ، وإذا غاب عنها زوجها حفظته في غيبته ، فتلك عامل من عمال الله ، وعامل الله لا يخيب.

إذن فثمة عشر صفات ممدوحة في المرأة :

١ ـ الولود.

٢ ـ العفيفة.

٣ ـ العزيزة في أهلها.

٤ ـ الذليلة مع بعلها.

٥ ـ المتبرجة مع زوجها.

٦ ـ الحصان على غيره.

٧ ـ التي تسمع قول زوجها.

٨ ـ التي تطيع أمره.

٩ ـ التي إذا خلا بها بذلت له ما يريد منها.

١٠ ـ التي إذا غاب عنها زوجها حفظته.

هذا بالاضافة إلى الصفات الأخرى المذكورة في الحديثين المذكورين وغيرهما من الأحاديث الشريفة (١).

ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله ألا أخبركم بشرار نسائكم؟ : الذليلة في أهلها ، العزيزة مع بعلها ، العقيم ، الحقود ، التي لا تتورع من القبيح ، المتبرجة إذا غاب عنها بعلها ، الحصان معه

__________________

(١) انظر للمزيد وسائل الشيعة ، جزء : ٢٠.

٣٦

إذا حضر ، لا تسمع قوله ، ولا تطيع أمره ، واذا خلا بها بعلها تمنعت منه (١) كما تمنع الصعبة عند ركوبها ، ولا تقبل منه عذراً ، ولا تغفر له ذنباً.

وعن الصادق عليه‌السلام قال : أغلب الأعداء للمؤمن زوجة السوء (٢).

وعنه عليه‌السلام أيضاً قال : كان من دعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أعوذ بك من إمرأة تشيبني قبل مشيبي (٣).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أفضل نساء أمتي أصبحهن وجهاً وأقلهن مهراً (٤).

وقال عليه‌السلام : اعلموا أن السوداء إذا كانت ولوداً أحبّ إليّ من الحسناء العاقر (٥).

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الاسلام أفضل من زوجة مسلمة تسرّه إذا نظر اليها ، وتطيعه إذا أمرها ، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله (٦).

وفي رواية : وامرأة صالحة تعينه على أمر الدنيا والآخرة (٧).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : اختاروا لنطفكم فانّ الخال أحد الضجيعين (٨).

في رواية أخرى : تخيروا لنطفكم فان الابناء يشبهون الأخوال.

وفي المثل المعروف : ابن الحلال أشبه بالخال.

__________________

(١) الكافي ٥ / ٣٢٥ ح ١ ، الفقيه ٣ / ٢٤٧ ح ١١٧٦ ، وسائل الشيعة ٢٠ / ٣٣ ح ٢٤٩٥٧ باب ٧.

(٢) الفقيه ٣ / ٢٤٧ ح ١١٧٠ ، وسائل الشيعة ٢٠ / ٢٥ ح ٢٤٩٣٧ باب ٤.

(٣) الكافي ٥ / ٣٢٦ ح ٣ ، وسائل الشيعة ٢٠ / ٣٤ ح ٢٤٩٦٠ باب ٧.

(٤) الكافي ٥ / ٣٢٤ ح ٤ ، التهذيب ٧ / ٤٠٤ ح ١٦١٥ ، الفقيه ٣ / ٢٤٣ ح ١١٥٦ ، وسائل الشيعة ٢٠ / ٦ ح ٢٤٩٤٨ باب ٦.

(٥) الفقيه ٣ / ٢٤٨ ح ١١٧٨ ، وسائل الشيعة ٢٠ / ٥٤ ح ٢٥٠١٧ باب ١٥.

(٦) الكافي ٥ / ٣٢٧ ح ١ ، التهذيب ٧ / ٢٤٠ ح ١٠٤٧ ، الفقيه ٣ / ٢٤٦ ح ١١٦٨ ، المقنعة : ٧٦ ، وسائل الشيعة ٢٠ / ٤٠ ح ٢٤٩٧٩ باب ٩.

(٧) الكافي ٥ / ٣٢٧ ح ٦ ، وسائل الشيعة ٢٠ / ٤٢ ح ٢٤٩٨٢ باب ٩.

(٨) الكافي ٥ / ٣٣٢ ح ٢ ، وسائل الشيعة ٢٠ / ٤٨ ح ٢٤٩٩٩ باب ١٣.

٣٧

وقال تعالى : (قَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ) (١) قيل : المراد بالتقديم طلب الولد الصالح والسعي في حصوله (٢). أي اطلبوا المرأة التقية الصالحة لتلد لكم أولاداً صالحين.

فقد روي : وانظر في أي نصاب تضع ولدك فان العرق دساس (٣).

والمرأة وعاء ينبغي أن يتلطف الرجل ويدقق في اختياره ؛ لئلا تضيع أتعابه وتذهب ذريته أدراج الرياح.

قال الله تعالى : (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ) (٤) ...

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إياكم وخضراء الدمن (٥).

إنطلاقاً من هذه الحكم دعا أمير المؤمنين عليه‌السلام أخاه عقيلاً ليختار له امرأة ولدتها الفحولة ، من ذوات البيوت المعروفة بالشجاعة والخلق السامي ، فكانت النتيجة اختيار زبدة المخدرات ، والدرة المصفاة «أمّ البنين» عليها أفضل الصلوات ، التي انجبت له قمر بني هاشم واخوته النجباء ، الذين طبقت شهرتهم الآفاق ، وصاروا قبلة للمجاهدين والأحرار ، وبزوا رجال العلم والعرفان ، وسبقوا في طريق الخير والحق واليقين (٦).

أجل ؛ لقد صار زواج أمير المؤمنين عليه‌السلام بهذه الخصوصيات مثلاً يحتذي به المسلمون ، ودرساً يلقنهم مستوى التدقيق في أمر الزواج ، والالتزام بآداب الشريعة

__________________

(١) البقرة : ٢٢٣.

(٢) بحار الأنوار ٧٨ / ٧٤ باب ٤.

(٣) شرح نهج البلاغة ١٢ / ١١٦.

(٤) البقرة : ٢٢٣.

(٥) وسائل الشيعة ٢٠ / ٤٨ ح ٢٥٠٠١ باب ١٤.

(٦) انظر الخصائص العباسية (للكلباسي الاصفهاني) : ٨٢.

٣٨

الغراء ؛ لينالوا سعادة الدارين وخير الدنيا والدين ، ويستفيدوا أولاداً صالحين باعتبارهم ثمار عمر الزوجين ، والسرّ في خلودهما وبقاء نسلهما ، وامتدادها الطبيعي في النشأتين.

بيد أنّ الناس لربما أعرضو عن تعاليم أئمة المؤمنين ، وأقدموا على ما يريدون من منطلق الجهل لا الدين ، فيتسامحون في أمر الزواج ويتساهلون ، فينطلقون ـ في قضايا الزواج ـ بدوافع الشهوة ، وينظرون إلى الجمال والمال ، ويغفلون عن بقاء النسل ، وامتداد الآباء في الأبناء ، وتقديم الأولاد الصالحين للمجتمع البشري ليكونوا لهم ذخراً في العالمين.

فلو أنّ فلاحاً أراد أن يزرع الشعير لبذل جهده ، وأنفذ ما في وسعه في تطهير الأرض وإعدادها ، واختيار البذرة وطريقة بذرها وسقيها ورعايتها ؛ كي تعطيه النتيجة المطلوبة ، وتحقق له الغاية المرغوبة ، ولكن ـ وللاسف الشديد ـ قد يغفل الانسان بالكامل عن الظروف التي يريد أن ينثر فيها بذور الانسان الذي جعله الله العلة الغائية للموجودات ، وخلق من أجله الكون والمخلوقات ، والمرأة حرث كما سماها القرآن حيث قال تعالى :

(نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١).

فالمرأة حرث الرجل ومزرعته ، ينثر فيها بذر الانسانية ، فلا ينبغي له التهاون في أمرها : غير أنّ من المؤسف أن تجد من لا يهتم بطهارة المحل ، وقد يقيض الله له امرأة عفيفة طاهرة فينصرف عنها الرجل ـ والعياذ بالله ـ ويتورط بالارجاس والخبائث وتسريح النظر في غير ما أحل الله.

__________________

(١) البقرة : ٢٢٣.

٣٩

تأثير الظروف على الجنين :

وقد لا يهتم بالظروف التي ينثر فيها بذره من زمان أو مكان أو غيرها ، والحال أنّ كل هذه الظروف لها أثر فعال على النطفة ونشؤها وحياة المتولد منها.

فلربما كان الجماع في بعض الأوقات ينتج نطفة يتولد منها شقي يبغض الدين وأهله ، كما لو جامع أهله وهي حائض ، فقد ورد أن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال عن ابن ملجم (قاتله) : إنّ أمه حملت به وهي حائض.

ولربما أدى الجماع في بعض الأوقات إلى خروج الولد ناقصاً ، أو سيء الخلق ، أو شقي ، أو قاسي القلب ، كما لو جامع أهله ليلة عيد الأضحى أو ليلة النصف من شعبان.

ولربما كان الجماع في بعض الأوقات أو الحالات سبباً لخروج الولد أعمى القلب بخيل اليد ، كما لو جامع أهله وهي حامل وهو على غير وضوء.

فقد ورد عنهم عليهم‌السلام : «إذا حملت امرأتك فلا تجامعها إلّا وأنت على وضوء فانه إن قضي بينكما ولد يكون أعمى القلب بخيل اليد ..» (١).

لأنّ نطفة المؤمن محترمة ، فلا ينبغي له أن يقارب زوجته إلا بعد الطهارة ، تماماً كما ينبغي له الوضوء إذا أراد دخول المسجد و «المؤمن أعظم حرمة من الكعبة» (٢).

وروي عنهم عليهم‌السلام : لا تجامع امرأتك في وجه الشمس وتلألوئها إلّا أن ترخي ستراً فيستركما ، فانه إن قضي بينكما ولد لا يزال في بؤس وفقر حتى يموت.

__________________

(١) المصدر نفسه.

(٢) الخصال ١ / ٢٧ باب المؤمن أعظم حرمة من الكعبة ح ٩٥ وما بعده ، مشكاة الأنوار : ٨٣ الفصل الرابع ١٩٣ في آداب المعاشرة.

٤٠