امّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

الشيخ علي ربّاني الخلخالي

امّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

المؤلف:

الشيخ علي ربّاني الخلخالي


المترجم: السيد علي الحسيني
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: مطبعة ستار
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٨٣

٧ ـ عائلة سنية من الأتراك

حادثة وقعت قبل ثلاثين سنة سأرويها لمن يبحثون عن الشفاء وقد اعيتهم الحيل وعجز عن علاجهم الطب ...

أجل ؛ إنّي سأروي لكم أفضل علاج مهما كان المرض ، بيد أنّ ثمة شرط واحدد في تأثيره ، وهو أن تكون معتقداً تماماً وعارفاً تماماً بأهل بيت العصمة والطهارة ، ومرتبطاً ارتباطاً وثيقاً فكرياً ومعنوياً بالمنبر الحسيني ، فتتوسل حينئذٍ بسيدة نساء العرب أم البنين عليها‌السلام وأولادها الشهداء إلى الله وتدعوه للشفاء ...

إيه يا عراق .. ويا مدينتي الحبيبة الكوت .. ويا حيّنا الذي كان تملأه صراخات الطفولة الوديعة .. ويا تلك البيوت المتراصة التي تحمل لنا الذكريات الحلوة .. ويا تلك الدموع التي كانت تسيل في المآتم وتلك المسوح التي تغشى أبدان الناس في أيام المحرم.

.. أيتها الكوت .. لقد عادت اليّ ذكرياتك وقد غمرتني ضلال الشيخوخة ، وبانت على تجاعيد وجهي آلام الصراع الممض مع الغربة والتشريد .. لقد تصرمت أيامنا الحلوة الوادعة التي قضيناها على تربك الطاهر ....

هل لا زلت تتذكرين فلاناً وفلاناً وفلاناً ..؟

١٨١

هل لا زلت تحملين ذكريات الشهر الكريم «شهر رمضان» حينما كان يغير كل معالمك ، ويقلب ليلك نهاراً ونهارك ليلاً ، فيقشع النور الظلام في كلّ أرجاءك ...

أتتذكرين كيف كان الناس يجتمعون أقرباء وغرباء ، جيران وغيرهم ؛ ليزوروا حاجاً عاد تواً من زيارة بيت الله الحرام ، ويجتمعون في منزل الحاجة أم عبد الأمير حيث يقام هناك مجلس العزاء في العشرة الثانية من شهر المحرم الحرام ، فيخشع الجميع وتدمع عيونهم ويختم المجلس بذكر مصاب أم البنين عليها‌السلام ، ثم ترتفع الأصوات بالدعاء والأيدي بالابتهال وينفض المجلس ....

أيتها الكوت .. يا مدينتي الحبيبة .. هل لا زلت تتذكرين تلك العائلة التركية السنية التي كانت تتقزز من الشعائر الحسينية وتكرهها أشدّ الكراهية؟!

وكان فيهم فتاة اسمها «وزيره» كانت قد تزوجت منذ عشرة سنين ولم يرزقها الله ولداً ، وكانت عقيماً ، فالتف حولها نساء من البلد وقالوا لها : وزيرة لماذا لا تتوسلين بأم البنين عليها‌السلام ، فأجابت وزيرة : لا فائدة في ذلك أنا أعلم ؛ لأن علم الطب عجز عن علاجي والأمر مستحيل ، وقد استعملت الأعشاب الطبية ، وراجعت علماء الطب القديم ، وصمت صوم زكريا ، ولا من فائدة.

فقالوا لها : لا تيأسي من روح الله فانّ كلّ من أكل من زاد أم البنين عليها‌السلام وتوسل بها إلى الله فان الله يجيب دعوته ، وما يضرك أن تفعلي أنت ذلك ، فلعل الله يرزقك ببركتها بنتاً فتسميها «فاطمة» تيمناً بها ، فماذا تقولين؟!

وظلت وزيرة شابحة البصر تحدّق فيها والسكوت يخيم عليها ، وفجاءة مزق لسانها الصمت وقالت بصوت متحشرج مرتعش : أجل ولكن بشرط أن يبقى الأمر بيننا ولا يطلع عليه أحد من أهلي وذوي زوجي ، بل وحتى زوجي أيضاً.

فقالوا : لا بأس عليك إذهبي الآن واحضري في يوم غد أو بعد غد في بيت الحاجة وستسمعين الخطيب وسيختم المجلس بذكر أم البنين عليها‌السلام.

١٨٢

فودعتهم وزيره ودرجت عائدة إلى البيت ، وهي تفكر في أمرها وماذا ستفعل؟! فدلفت إلى البيت وجبال الهموم تتراكم عليها والعبرات تتكسر في صدرها ، وأنفاسها المتلاحقة تعدو أمامها ، وقلبها الخافق يكاد يمزق شغافه ، فانتبه أهل البيت من نومهم وتعجبوا من أمرها فسألوها : ما الخبر يا وزيرة؟ ماذا حدث لك؟ فأجابت : لا شيء .. لا شيء ، ثم سارعت إلى تسلق السلّم لربما سترت الغرفة على ما يجيش في خلدها ، ولكنها أحست بالاختناق ، فراحت تفتح النافذة لتبدد وحشتها وفزعها وفرحها وحزنها بين سقسقة العصافير وحفيف سعف غابات النخيل ، فتستنشق نسيم دجلة الفواح وينعشها أريجه.

وزيرة تسمع الخطيب :

خرجت وزيرة من بيتها والخوف يحاصرها والرعب يلاحقها ، وقد تقنعت بقناع وغطت وجهها لئلا يعرفها أحد ، واتجهت إلى بيت الحاجة أم عبد الأمير وهي تتصبب عرقاً من الحياء والخوف والاضطراب ، وكلما اقتربت من البيت تتضح نبرات صوت الخطيب وتتسرب إلى مسامعها لتنقذها من كابوس العقم وصراع النفس ، وتبعث فيها الأمل في الحياة.

ودخلت وزيرة والخطيب في بدايات المصيبة ، فلمّا علا صوت النساء بالعويل والبكاء أحست بالهم يداخلها والحزن يستولي عليها إلّا أنّ عينها لا زالت هامدة ؛ لأن الخطيب كان قد قطع كلامه ، وبعد لحظة عاد ليقول : إنّا لله وإنا اليه راجعون ، وأخذ يتكلّم عن شخصية أم البنين وآبائها وأجداها وفضائلهم وفضائلها ثم قال : قال الشاعر الشيخ أحمد الدجيلي : وأخذ يتلو أبياتاً بأشجى لحن وصوت حزين :

أم البنين وما اسمى مزاياك

خلّدت بالعبر والايمان ذكراك

أبناءك الغرّ في يوم الطفوف قضوا

وضمنوا في ثراها بالدم الزاكي

١٨٣

لما أتى بشر ينعاهم ويندبهم

اليك لم تنفجر بالدمع عيناك

وقلت قولتك العظمى التي خلدت

إلى القيامة باقٍ عطرها الزاكي

أفدي بروحي وأبنائي الحسين إذا

عاش الحسين قرير العين مولاك

وقال السيد محمد كاظم الكفائي :

أم على أشبالها أربع

جاءت لبشر وبه تستعين

وتحمل الطفل على كتفها

تستهدي فيه خبر القادمين

ملهوفة مما بها من أسى

ترى بذاك الجمع شيئاً دفين

فقال يا أم ارجعي للخبا

وابكي بنيك قتلوا أجمعين

فما انثنت وما بكت أمهم

وخاب منه ظنه باليقين

كأنّها الطود وما زلزلت

وحق أن تجري لهم دمع عين

فقال يا أم البنين اعلمي

بأن عباساً قتيلاً طعين

قالت طعنت القلب مني فقل

النفس والدنيا وكل البنين

نمضي جميعاً كلنا للفنا

نكون قرباناً فدىً للحسين

وقال الشيخ محمد علي اليعقوبي :

وإن أنسى لا أنسى أم البنين

وقد فقدت ولدها أجمعا

تنوح عليهم بوادي البقيع

فيذرى الطريد (١) لها الأدمعا

ولم تسل من فقدت واحداً

فما حال من فقدت أربعا

اغرورقت عين وزيرة بالدموع ، ومن ثم هملت وأجهشت بالبكاء ، وانتهى الخطيب من نياحته ودعا للحاضرين والغائبين وللمرضى وغيرهم كالعادة ، وفرشت

__________________

(١) يقصد مروان لعنه الله.

١٨٤

«سفرة أم البنين عليها‌السلام» وتقدّمت النساء ـ وكان فيهن من ذوات الثراء ـ يتبركن بزاد السيدة ، وكانت النساء بشكل حلقات حول الطعام يتناولن ويطلبن المراد ، والشفاء تتمتم بالدعاء للمرضى وذوي الحاجات ، والقلوب مفعمة بالرجاء وواثقة بالاستجابة ، وامتدت يد «وزيرة» مرتعشة ترتجف كالسعف إذا اشتدّ به الريح ، وتناولت شيئاً من الطعام المصفوف على «السفرة» وخبأته تحت عباءتها وخرجت مسرعة ، ولا زال الدمع يغسل وجهها ، وذهبت إلى البيت وانتظرت حتى إذا غطى الظلام كلّ شيء أخرجت الطعام ودعت اليه زوجها فأكلا معاً.

وبعد شهر واحد :

بعد شهر واحد من دموع وزيرة على أم البنين عليها‌السلام ورجاءها الواثق وتوسّلها أخذ الشحوب يطلي وجهها ويصفر لونها ، والدوار يثقل رأسها ، وبدأت تشعر بشيء من الألم في صدرها ، وعزفت عن الطعام ، وصارت تحاول الابتعاد من زوجها ، وصار النوم لا يكحل عينها إلّا قليلاً ، وصارت تفرّ من التجمعات ، وتهرب من أي مكان فيه لغوب وصخب ، وكلّما أنيطت بها مهمة وكلّفت بعمل تتثاقل ولا تنجزه إلّا بمشقة ، وأخذت تعاني من القي الذي يفاجئها المرة تلو الأخرى.

وبقي زوجها حيران لا يدري ما يفعل ، فسألها والقلق يحطم أعصابه : وزيرة ماذا دهاك يا وزيرة؟ هل أنت مريضة؟

وتجيب وزيرة : لا أدري.

فقام بها زوجها إلى الطبيب ، ودخل إلى المطب وصارح الطبيب بكلّ ما تعانيه زوجته «وزيرة» ، ففحصها الطبيب بدقة ثم تبسم وقال : لا بأس عليك .. لا شيء يخشى منه إنّما هي علامات الحمل .. إنّها حامل ، ولكي تطمئن يمكنك أن تأخذها غداً إلى المختبر لتعرف هناك الخبر اليقين.

١٨٥

فسحت دموع الفرح من عيون الزوج والزوجة على الرغم منها ، وقال الزوج متلجلجاً يحاول تمرير الكلمات بين الدموع والعبرات : هل أنّك مطمئن سيادة الدكتور؟

فأجابه الطبيب ببرود الواثق : نعم.

وخيم الظلام مرة أخرى ، فأثقل العيون وأغمض الجفون ، وغطّ الناس كلّهم في نوم عميق إلّا وزيرة وزوجها ، فقد قلقل السهادة أحشاءهم وهم يتطايرون من غصن إلى غصن ، ويبنون لأنفسهم في كلّ لحظة ألف عش ، ويصغون إلى زغاريد الصغير الذي سيملأ حياتهم حباً ونشاطاً وفاعلية ، ويبعث فيهم الحياة من جديد ، يستعجلون عقارب الساعة لينفلق الفجر فيفرحون ، ويحاولون جرجرت قطع الليل لئلا ينتهي فتموت آمالهم في صدورهم ، وباغتهم الفلق ، فانتبهوا على ضجيج الناس وهم ينتشرون في الشوارع ، فسارعوا إلى المختبر والآمال تسبقهم ، ودخلوا المستشفى وقدّموا طلبهم وانتظروا فترة ، ما كان أطولها في عمرهم ، فنادت الممرضة باسم «وزيرة» فحبست الأنفاس في صدورهم ، وخانتهم السيقان فلم تقوى على حملهم ، فتحامل زوجها وتقدم نحو الممرضة ، ووزيرة قعدت مكانها وتسمّرت إلى الأرض ، فقال الزوج : نعم ما هي النتيجة؟ فنظرت الممرضة في الورقة وتبسمت وقالت : آسفة إنّها حاملة ...

ليت الكلمات تستطيع أن تعبّر ... طار من الفرح وهو يحاول أن يعيد قلبه النشوان إلى صدره ، فصرخ وصرخ معه كلّ وجوده ، وصرخت معه جميع خلايا جسمه : الحمد لله. الحمد لله. الحمد لله واحتضن وزيرة وهو يقول : لا أصدق يا وزيرة ... لا أصدق. فارتسمت على شفتي وزيرة ابتسامة أمل نشوى ، وأحست بأن كلّ معاناتها قد ذابت وصارت ذكريات.

وعاد الزوجان إلى البيت وسجدا شكراً لله ، وذاع الخبر بين الناس ، وسمع

١٨٦

الأقرباء والجيران ، ووزيرة تكتم نذرها لأم البنين مع الجنين وتحبسه في صدرها لئلا يكتشفه الأقربين.

وصارت تعدّ أيام الحمل فتتخيل الشهور التسعة تمرّ بخطى شيخ متهاود تجاوز التسعين ، ولكنها تعيش لذة انتظار الجنين ، وتتضايق من نصائح النساء ووصفاتهن بين الحين والحين ، وبدأ القلق يساورها لمستقبل الطفل ووضع الحمل.

وفي الشهر الثالث من الحمل :

أحست بالآلام في بطنها وظهرها ، فغرقت في الهموم مرة أخرى ، ونقلت إلى المستشفى هذه المرة تحفّها نساء الأقرباء والجيران ، وألقى الزوج بنفسه على يد الطبيب يقبلها ويتوسل اليه أن يصنع أي شيء ليحفظ الجنين ويحول دون سقوطه ، ويجيب الطبيب : إنّ الأمر بيد الله أولاً وآخراً ، وليس باليد حيلة ، ولا دواء ناجع ولا طبيب نافع ، ولكن عليها أن تستريح استراحة مطلقة وتبقى في المستشفى لمدة ثلاثة أيام.

فلمّا سمعت «وزيرة» أنّ الأسباب تقطّعت بها التجأت بحرقة وقلب مكسور إلى أم البنين وتوسّلت بها أن تعينها ....

فأخذ الألم يتضاءل ، وكأنّه نار تخمد أو ثلج يذوب ، وعادت الابتسامة لترتسم على شفتي الزوج من جديد ، وعادت الآمال والأمنيات ، وارتفع الكابوس القاتل المقيت ، حيث رجعت «وزيرة» إلى بيتها لتكمل شوط الحمل ....

وانقضت الشهور التسعة ، وتصرّمت بأيامها وليالها ، وساعاتها وثوانيها ، وأطل الربيع بنداوة الحياة ، أصاب «وزيرة» ألم الطلق عند الفجر حينما كان المؤذن يرفع الأذان ، فلمّا نادى المؤذن «أشهد أنّ علياً ولي الله» صرخت «وزيرة» : يا علي ... ووضعت حملها سالماً سوياً ، وكانت أنثى تحمل معها كلّ أمنيات الوالدين وأقرباءهم.

فقالت وزيرة : سموها «فاطمة» تيمناً بأم البنين عليها‌السلام.

١٨٧

وخالفها أقرباء زوجها أشدّ المخالفة وقالوا : لابد أن تسمى «عائشة».

ووقع الخلاف بينهما ، فتدخل الوسطاء وأقترحوا حلّاً وسطاً ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.

فقالوا : سموها «بشرى» فاضطرت «وزيرة» إلى أن تكفر عن نذرها الذي حنثت به (١).

__________________

(١) مختصراً (بتصرف) عن أم البنين مناهل للثكالى والمفجوعين.

١٨٨

٨ ـ أبو الفضل العباس عليه‌السلام

يشفي مبتلاة باليرقان المزمن

بعث الحاج الشيخ محمد علي برهان رسالة ضمنها الكرامة التالية :

قال : أصيبت زوجتي «معصوم برهاني» في سنة (١٩٦٦ م) بمرض اليرقان من النوع الحاد والمزمن ، وقعد بها المرض سبعة شهور كاملة ، ولم نترك طبيباً يذكر لنا في الطب القديم أو الحديث إلّا وراجعناه ، ولم تنفع علاجاتهم ، بل كانت الحالة تشتد يوماً بعد يوم ، وتتحول من سيء إلى أسوء.

وفي ذات ليلة اعتزلت الجميع وكتبت عريضة إلى قمر بني هاشم أبي الفضل العباس ، توسلت فيها اليه أن يشفي زوجتي ، والقيتها في «عين» الماء التي كانت في حرم أحد أولاد الأئمة في منطقتنا «فريدون» ، ولم أخبر بذلك أحداً ، حتى زوجتي ، وكنت يومها قلق عليها وعلى طفليّ الصغيرين أشدّ القلق ، وكانت زوجتي طيلة فترة مرضها تكرر هذه العبارة : أغثني يا أبا الفضل العباس وشافني من مرضي.

وفي صباح إحدى الأيام استيقظت لصلاة الصبح فرأيت زوجتي تغطّ في نوم عميق ، لا ضجيج ولا تأوه ولا أنين ، ولا أي شيء مما كان في كلّ ليلة.

١٨٩

فلمّا انتهيت من صلاتي استيقظت زوجتي وهي تصلّي على محمد وآل محمد المرة تلو الأخرى وتقول : فداءً لك يا أبا الفضل العباس لقد شفيتني.

وبالفعل فقد بدأت آثار اليرقان تمحى ، وسرعان ما استعادت عافيتها بالكمال والتمام وعادت تزاول عملها في المنزل ، وتحنو على أطفالها وتقوم بواجب الأمومة لهم ، وصارت تتناول الطعام بشهية مفتوحة.

فسألتها عما جرى وكيف شوفيت؟

فقالت : نمت البارحة وأنا في أشدّ الاضطراب ، وأنا استغيث بأبي الفضل وأصرخ باسمه حتى غلبني النوم ، فرأيت فيما يرى النائم فلاة واسعة شاسعة تنتهي إلى ضفاف دجلة ، وكان دجلة نهر عريض طويل تحفه غابات النخيل ، وكان هناك قصراً فخماً ، رفيع البنيان ، عالي الأركان ، مؤلف من طابقين وعدة غرف وأروقة ، ورأيت الناس زرافات زرافات يتوجهون إلى القصر ويصرخون : يا أبا الفضل العباس.

فسألتهم : من أنتم؟ وأين تذهبون؟ ومن صاحب هذا القصر؟

فأجابوا كلمة واحدة : نحن جميعاً مرضى وذووا حاجات ، وهذا القصر الفخم هو مشفى أبي الفضل العباس ، وسيأتي الآن أبو الفضل إلى القصر فندخل عليه ، ونتوسل به ، ونطلب منه حاجاتنا.

فاتبعت الناس حتى وصلت إلى رواق القصر حائرة متعبة ، قد أنهكني المرض ، فقلت في نفسي : أين الآن سيدي أبو الفضل؟ هل هو في الطابق العلوي أم في الطابق الأرضي؟ فأخذت أكرر : سيدي مولاي يا أبا الفضل انظر لي نظرة وتوجه إليّ لحظة فأنا لا أدري أين أنت؟ وفي أي من غرف هذه البناية الضخمة؟

فجلست على الدرج أستريح ، فأطلّ عليّ من الطابق العلوي رجل معمم بعمامة خضراء ، يشع منه النور الباهر ، فانحنى ينظر إلى الطابق السفلي وقال :

١٩٠

أنا أبو الفضل اصعدي من هذا الدرج ، وادخلي في الغرفة الأولى من جهة اليمين ستجدين امرأة هناك ، اجلسي بين يديها حتى آتييك وأطلب شفاءك من الله.

فصعدت إلى الطابق العلوي ، ودخلت الغرفة التي أمرني بها ، فرأيت فيها إمرأة جالسة يسربلها الوقار ، ويشع منها النور ، فبادرتني قائلة : ادخلي واجلسي في الغرفة ، فسلّمت عليها ، وجلست حيث أمرتني ، وقلت لها : سيدتي من تكونين؟

فقالت : أنا أم البنين ، أم أبي الفضل العباس ، منذ أيام وأنا لم أر ولدي ؛ لكثر ما راجعه من المرضى وذوي الحاجات ، وأنت لا تغتمي فالآن يأتي ولدي ويشفيك باذن الله.

لم يمض شيء من الوقت حتى دخل علينا ذلك السيد العظيم ـ أعني أبا الفضل العباس عليه‌السلام ـ فسلّم على أمه ، وأخذ يعتذر اليها ويقول : أماه منذ أيام وأنا لا أأتي عندك ؛ لكثرة المراجعين عندي من شيعتنا ، وأنا بدوري أدعو جدّي رسول الله ، وأبي أمير المؤمنين ، وأمي فاطمة الزهراء ، وأخي الحسن ، وأخي الحسين عليهم‌السلام ، فنجلس وندعو لشيعتنا ، فيفرج الله عنهم ، ويكشف كربهم ، ويشفي مرضاهم ، ويقضي حوائجهم.

ثم التفت إليّ وقال : وأنت أيتها السيدة ، فقد دعي لك في اجتماع اليوم ، وقد منحك الله السلامة وشافاك ، فلا تقلقي.

فرأيت تلك المرأة الوقور ـ أم البنين ـ تدور حول ولدها كالفراشة ، وتبدي الفرح والسرور والابتهاج بلقاء ولدها ، وتقول : أجل ؛ إنّ الله يشفي كلّ مريض يتوسل إلى ولدي بنية خالصة.

وفي هذه اللحظة غاب عن نظري كلّ شيء ، واستيقظت من نومتي ، فوجدت نفسي سالمة مشافاة معافاة ببركة أبي الفضل العباس عليه‌السلام (١).

__________________

(١) عن كتاب چهره درخشان قمر بني هاشم أبو الفضل العباس ١ / ٣٧٢.

١٩١

٩ ـ أطلبي ولدك من أبي الفضل عليه‌السلام

حدّث الشيخ أحمد صابري الهمداني عن المرحوم آية الله الحاج الشيخ ملّا علي معصومي الهمداني (المعروف بالآخوند) أنّه قال :

كانت في إحدى قرى همدان إمرأة محرومة من نعمة الولد لعدّة سنين بعد زواجها ، فالتقت بها ـ يوماً ما ـ إحدى جاراتها وقالت لها : انذري أن يرزقك الله ولداً فتسميه «أبو الفضل».

وبعد فترة شملها ربّ العزة والعطاء بعنايته ، فرزقها ولداً سمته «أبو الفضل».

فلما بلغ الولد سن الرابعة عشرة ابتلي بمرض عضال أعيى كلّ الحيل ، فيأس منه أهله.

وفي ذات يوم جاءت نفس تلك الجارة التي نصحتها بالنذر فقالت لها : أنصحك أن تتوسلي بخلوص وثقة وجدية بأبي الفضل العباس وتطلبي منه ولدك.

فجلست أم الولد الشاب تلك الليلة ، وتوسلت بأبي الفضل من أعماق قلبها بكلّ جدّ وثقة واخلاص ، وقضت ليلتها بتلك الحالة.

فلما انبلج عمود الصبح سمعت طارقاً يطرق الباب ، فسارعت لفتحها ، فرأت جارتها التي نصحتها أن تتوسل بأبي الفضل ، فتعجبت من زيارتها في هذا الوقت المبكر ، فبادرتها جارتها قائلة : لا تحزني فقد شفا الله ولدك.

١٩٢

قالت : كيف؟ ومن أين عرفت ذلك؟

قالت : لأني رأيت الليلة في الرؤيا ؛ أنّ لمة من النساء توجهن إلى بيتكم ، وكانت تتوسطهن السيدة «أم البنين عليها‌السلام» فقالت عليها‌السلام : إني ذاهبة لشفاء هذا الصبي.

وبالفعل فقد استيقظ الصبي لا كباقي الأيام ، حيث كان يرفل بالشفاء والعافية ببركة أبي الفضل العباس عليه‌السلام (١).

__________________

(١) عن كتاب چهره درخشان قمر بني هاشم ابو الفضل العباس ١ / ٤١٤.

١٩٣

١٠ ـ أهديت

سورة الفاتحة لروح أم البنين عليها‌السلام

قال المؤلف : زرت يوماً الخطيب المعروف خادم أهل البيت عليهم‌السلام الحاج السيد أحمد الحكيم ـ حفظه الله ـ فحدثني بهذه الكرامة التي حصلت له شخصياً :

قال : دعيت سنة (١٤١٦ هـ) من قبل جملة من اللبنانيين المقيمين في غرب أفريقيا ، فتوكلت على الله وأخذت بطاقة طهران ـ جدة ومن جدة إلى غرب أفريقيا.

وكانت عندي ستة ساعات ترانزيت في مطار جدة ، فبقيت تلك الفترة هناك ، وقبل الاقلاع بربع ساعة فاجأني المسؤول السعودي ؛ أني لا أستطيع السفر على متن تلك الرحلة ؛ لأني لم أحصل على تأشيرة مراكش.

فتعجبت من ذلك لأني أريد العبور من مراكش إلى غرب أفريقيا ، وقد حصلت على تأشيرة للبلد الأخير الذي أنوي السفر اليه.

فقلت للمسؤول السعودي : إذن خذني إلى مسؤول الرحلة المراكشي كي أتحدّث معه.

فأخذني ، فقلت له : لماذا لا تسمح لي بالسفر على هذه الرحلة؟

قال : لأنّك لم تحصل على تأشيرة مراكش.

١٩٤

فقلت له : إنّ توقفي في مراكش سيكون لوقت محدود جداً ، وإني أريد العبور من مطارها إلى مقصدي ، وإنّي لا أريد الخروج من صالة الترانزيت ، ولا أقصد دخول البلد.

فقال : القانون لا يسمح بذلك.

فقلت له : إنّي قد أخذت نفس هذه الرحلة في شهر رمضان ولم أحتج إلى تاشيرة ترانزيت ، كما تقول ، وقد دخلت مطار الدار البيضاء بدون تأشيرة.

فقال : أجل ؛ لم يكن دخولك قانوني ، فالقانون لا يسمح بذلك.

قلت : طيب لم يبق الآن إلى محرم الحرم إلّا يومين ، وإنّي على موعد هناك.

فقال : أجل ؛ هذه مشكلتك ولا تعنيني بحال.

ولا يخفى فانّ هذا المسؤول كان معانداً .. متعصباً .. جافاً .. بحيث آيست تماماً من المحاولة معه ، ولكن في هذه اللحظة أدركتني الرحمة ، فألهمت أن أقرأ سورة الفاتحة وأهديها إلى روح أم البنين عليها‌السلام ؛ لأنّ تلك السيدة العظمى من أبواب الله ، فشرعت في قراءة الفاتحة ، والناس يصعدون إلى الطائرة ، فلما وصلت إلى قوله تعالى ( ولا الضّالّين ) إلتفت إليّ المسؤول ، وكان جالساً إلى جنبي وقال : أين أمتعتك؟

فقلت : إنّها في الطائرة ؛ لأني حولتها من طهران إلى غرب أفريقيا.

فلما سمع أن أمتعتي في الطائرة ترك عناده وإنحل لجاجه قال :

اذن تفضل واصعد إلى الطائرة.

فذهبت أرتدي ملابسي ، وأعدّ هو بطاقة الصعود إلى الطائرة ، وكانت بطاقتى على الدرجة السياحية (العادية) ، فوجدت أنّ بطاقة الصعود كانت لمقعد في الدرجة الأولى.

نعم ؛ هكذا هي نتيجة التوسل بأم البنين عليها‌السلام.

١٩٥

١١ ـ الامام الصادق عليه‌السلام

يقيم المآتم على جدّه الحسين عليه‌السلام

كان الخطيب القدير الحاج السيد أحمد الحكيم يرتقي المنبر في الحسينية النجفية في قم المقدسة في شهر صفر الخير سنة (١٤١٩ هـ) من قبل هيئة أبو الفضل العباس عليه‌السلام ولأن المجلس كان باسم أبي الفضل العباس فقد عرج الخطيب على باب الحوائج قمر بني هاشم في ليلة الجمعة الأخيرة من أيام المجلس.

وبعد أن أتّم المجلس ونزل عن المنبر أصرّ عليه بعض أصحاب الهيئة أن يستريح قليلاً ، ويشرب الشاي قبل انصرافه.

فجلس يستريح ساعة ، وإذا بشاب يتقدّم ، وأخذ يناقش السيد بلحن المعاند ، ولهجة المشكك الجاحد.

(ووما يؤسف له فانّ هذا الخط من التشكيك والجحود بدأ يستشري بين الشيعة حتى في قم وغيرها من الحواضر ، ولكل سوق روّاد).

فقال الشاب : قرأت مصيبة الكفين وكيف يمكن ذلك؟ إنّك كنت في العراق وتتذكر أين كان مشهد الجسد ، وأين كان مشهد الكفين ، فكيف جاء الحسين وقبلهما؟!

١٩٦

واستمر في سؤال آخر قبل أن يسمع الجواب : هل كانت ليلى حاضرة في الطف أو لا؟

فأجابه السيد جواباً كافياً شافياً.

إلّا أنّ الشاب أخذ يسأل وكأنه لا يهمه الجواب : هل كانت أم البنين حاضرة في الطف أو لا؟!

هل كانت أم البنين عليها‌السلام على قيد الحياة حينما عاد ركب السبايا إلى المدينة أو لا؟

وهنا ـ يقول السيد أحمد الحكيم ـ : فلت مني زمام أعصابي وقلت له مغضباً : هل أنّك محامي عن أعداء أهل البيت؟ أو أنك الناطق الرسمي باسم المشككين؟

فسكت وانفض المجلس ، والكلّ يأكله الغضب.

قال السيد أحمد الحكيم : وكان من بين الحاضرين شاب من خدام أهل البيت ، والمتربين في مجالسهم ، وتحت منابرهم ، وكان يحبني ويحضر مجالسي ، فجاءني وقال لي : لماذا ينثر هؤلاء بذرور الشكّ في قلوب الناس؟!

المهم ؛ ذهبنا كلّ إلى بيته ، وفي يوم غد جاءني هذا الشاب ـ الآنف الذكر ـ المحبّ لأهل البيت عليهم‌السلام وقال :

إني ذهبت البارحة إلى البيت ، وبعد أن أديت وردي ، وتنفلت بنافلتي ، وقضيت ما اعتدت عليه من أذكاري ، استسلمت لسلطان النوم ، فرأيت فيما يرى النائم :

كأنّ أهل قم خرجوا من بيوتهم إلى الشارع ، ولم يبق منهم أحد إلّا وقد انثال لا يدري إلى أين يأوي ، وكنت أنا بينهم ، ولا أدري لماذا انقلب وضع المدينة إلى هذه الحالة ، وكأنّ الناس كلّهم إلى عرصات القيامة يحشرون.

فسألت واحداً كان إلى جانبي يمشي : ماذا حدث لهذه المدينة وأهلها؟

فقال : لقد شرّف الامام الصادق هذا البلد ، وجاء إلى مدينة قم ليتفقد الحوزات.

فسألته : وأين يمكنني زيارة سيدي الصادق؟

١٩٧

فقال : لا أدري ، وقد خرجنا جميعاً نقصد زيارة المولى.

وهنا رأيت فجأة كأنّ لوحة مكتوب عليها بخط واضح جلي ، وبلون أخضر رائع :

إنّ الامام الصادق يقيم المأتم على جدّه الحسين عليه‌السلام.

فرأيت نفسي كأني في ذلك المأتم ، وكأنّ وجود الامام الصادق عليه‌السلام فيه نوراً يبهر الأبصار ، لا أرى منه إلّا قطعة النور تلك ، وكأنّ إلى يمينه المرجع آية الله السيد حسين الطباطبائي البروجردي ، وإلى يساره المرجع آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم.

فالتفت إلى الخطيب وإذا به السيد أحمد الحكيم بنفسه ، وكان يتحدّث عن شفاعة أهل البيت عليهم‌السلام ، وفي أثناء حديثه رأيت الامام الصادق عليه‌السلام قام قائماً (إنّي رأيت النور ينبسط ففهمت أنّ الامام عليه‌السلام قد قام) وقال مخاطباً الخطيب المذكور :

«قل : ليس منا من شكّ فينا».

فلما ارتقى السيد أحمد الحكيم المنبر في اليوم التالي نقل الرؤيا بحذافيرها فانفجر المجلس بالبكاء والعويل.

هكذا هو دأب خصوم أهل البيت عليهم‌السلام يتخذون شتى الأساليب في سبيل زلزلة عقائد الناس وتضعيف عرى الايمان ... هداهم الله.

١٩٨

الفصل

الثالث عشر

وفاة أم البنين عليها‌السلام

١٩٩

وفاة أم البنين عليها‌السلام

قال السيد مهدي السويج الخطيب (١) : سُئلت عدّة مرات في أماكن متعددة عن تاريخ وفاة أم البنين عليها‌السلام ، كما سألت أيضاً عدداً من أهل الخبرة في ذلك ، فكان جوابي لمن سألني وجواب من سألته جواباً واحداً ، وهو : لم يعثر على ذكر يوم وفاة أم البنين أو سنة وفاتها.

وفي ـ ذات يوم ـ تناولت كتاباً كان قد وقع بيدي منذ عهد بعيد ، وقد شغلت عنه ، وكان قد علق في ذهني أن في الكتاب المذكور قصيدة في حديث الكساء ، فتناولته على حساب القصيدة ، وكان اسم الكتاب «كنز المطالب» تأليف العلامة السيد محمد باقر القرباغي الهمداني رحمه‌الله ، فاليك نصّ ما جاء فيه بهذا الخصوص :

«قال المصنف ـ رفع الله شأنه ـ : وكان مدار حديث الكساء المبارك بيت فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، وكانت وفاتها في الثالث من جمادى الثاني ، وقد خلفتها في تربية الحسنين عليهما‌السلام أمامة بنت أختها ، ثم فاطمة أم البنين الكلابية ، وقد توفيت بعد مقتل الحسين عليه‌السلام ودفنت بالبقيع بالقرب من فاطمة الزهراء.

ففي الاختيارات عن الأعمش قال : دخلت على الامام زين العابدين عليه‌السلام في

__________________

(١) أم البنين سيدة نساء العرب : ٨٤.

٢٠٠