امّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

الشيخ علي ربّاني الخلخالي

امّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

المؤلف:

الشيخ علي ربّاني الخلخالي


المترجم: السيد علي الحسيني
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: مطبعة ستار
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٨٣

مشهد الكفين :

لم يفتأ شيعة أهل البيت عليهم‌السلام كما أنهم يقتصون آثارهم في معارفهم وتعاليمهم يتبركون بتعيين كلّ ما يتعلق بهم من مشهد أو معبد أو مقام ، فيتبعونها بالحفاوة والتبجيل ، ويرون ذلك من متممات الولاء ولوازم الاتباع والمشايعة.

وهو كما يرون لأنه أما مشهد يزار أو معبد يقصد للعبادة أو محل مسرة فيسرهم ذلك أو موقف مأساة فيستاؤون لهم ، وهذا هو التشيع المحض والاقتداء الصحيح.

ومن ذلك ما نشاهده في كربلاء المقدسة من المقام لكفي أبي الفضل اللذين تناقلتهما الألسن ، وأخذ حديثهما الخلف عن السلف ، والسيرة المستمرة بين الامامية كافية في القطع بثبوت المقامين ، ولولا هما لانتقض الأمر في كثير من المشاهد والمعابد والمقامات.

يعد مقام الكف اليمنى في جهة الشمال الشرقي على حدّ محلة باب بغداد ومحلة باب الخان قريباً من باب الصحن المطهر الواقعة في الجهة الشرقية ، وعلى جدار المقام شباك صغير ، وعلى جبهته بيتان بالفارسية لم يكتب اسم ناظمهما ولا تاريخ البناء ولا موضع الشباك.

والبيتان :

اُفتاد دست راست خدايا زپيكرم

بر دامن حسين برسان دست ديگرم

دست چپم بجاست اگر نيست دست راست

اما هزار حيف كه يك دست بي صداست

ويقع مقام الكف اليسرى في السوق الصغير القريب من الباب الصغير للصحن الواقعة في الجنوب الشرقي ، ويعرف بسوق باب العباس الصغير ، وعلى الجدار شباك ، وكتب بالقاشاني عليه : هذا نظم الشيخ محمد المعروف بالسراج :

١٢١

سل إذا ما شئت واسمع واعلم

ثم خذ مني جواب المفهم

إنّ في هذا المقام انقطعت

يسرة العباس بحر الكرم

ها هنا يا صاح طاحت بعدما

طاحت اليمنى بجنب العلقمي

اجر دمع العين وابكيه أساً

حق أن يبكى بدمع عن دم (١)

قال شاعر أهل البيت عليهم‌السلام المرحوم السيد جعفر الحلي :

حامي الظعينة أين منه ربيعة

أم أين من عليا أبيه مكدّم

في كفه اليسرى السقاء يقلّه

وبكفه اليمنى الحسام المخذم

حسمت يديه المرهفات وانه

وحسامه من حدّهن لأحسم

فغدا يهمّ بأن يصول فلم يطق

كالليث إذا أظفاره تتقلّم

أمن الردى من كان يحذر بطشه

أمن البغات إذا أصيب القشعم

وقال حفيده الفضل بن محمد بن الفضل بن الحسن بن عبيد الله بن العباس عليه‌السلام :

إني لأذكر للعباس موقفه

بكربلاء وهام القوم يختطف

يحمي الحسين ويحميه على ظمأ

ولا يولي ولا يثني فيختلف

ولا أرى مشهداً يوماً كمشهده

مع الحسين عليه الفضل والشرف

أكرم به مشهداً بانت فضيلته

وما أضاع له أفعاله خلف

وقال أيضاً :

أحق الناس أن يبكى عليه

فتى أبكى الحسين بكربلاء

أخوه وابن والده علي

أبو الفضل المضرج بالدماء

ومن واساه لا يثنيه شىء

وجادله على عطش بماء (٢)

__________________

(١) العباس (للمقرم) : ٣٣٥.

(٢) شرح الاخبار (للقاضي نعمان) ٣ / ١٩٣.

١٢٢

وقال الكميت الاسدي :

وأبو الفضل إنّ ذكرهم الحلو

شفاء النفوس من أسقام

قتل الأدعياء اذ قتلوه

أكرم الشاربين صوب الغمام (١)

* * *

__________________

(١) ابصار العين : ٣١.

١٢٣

الفصل التاسع

اخوة العباس عليهم‌السلام

١٢٤

ابو الفضل العباس يتكلّم

روي في بعض كتب المقاتل : أنّ العباس عليه‌السلام قال لاخوته يوم العاشر : اشتروا الجنة اليوم وذبّوا عن سيدنا وإمامنا.

وقال أيضاً : تقدّموا حتى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله ... تقدموا بنفسي أنتم فحاموا عن سيدكم حتى تموتوا دونه. فاقدموا على عسكر بن سعد إقدام الشجعان ، واملأوا صدورهم ووجوههم بالضرب والرمي والطعان ... لا تقصروا في نصرة إمامكم وافدوه بأرواحكم ، ولا تقولوا نحن أبناء أب واحد ، فانّه إمامنا وسيدنا وحجة الله على من فوق الثرى ، أمه فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين ، وهو قرة عين النبي الأمين.

فتقدموا جميعاً ، فصاروا أمام الحسين عليه‌السلام يتقون بوجوههم ونحورهم ، فلما رآهم الحسين عليه‌السلام بكى وقال : جزاكم الله ربّ العالمين (١).

* * *

__________________

(١) عن محن الابرار : ٢٧٩.

١٢٥

أبناء علي عليه‌السلام

يتقدّمون إلى الشهادة

تقدّم الأصحاب يوم العاشر من المحرم ، وأدوا ما عليهم في الذبّ عن إمامهم ، وعن حرم الله وحرم نبيهم ، فصعدوا الواحد تلو الآخر إلى جنان الخلد ، ومن ثم جاء دور أهل البيت عليهم‌السلام ، وكان أول شهيد من بني هاشم علي الأكبر عليه‌السلام كما ورد في زيارت الناحية :

«السلام على أول قتيل من خير نسل سليل من سلالة إبراهيم الخليل» (١).

ثم تقدّموا الواحد تلو الآخر يستأذنون الامام ويتقدمون إلى الجنان حتى قضوا جميعاً ، وبقي الحسين عليه‌السلام وحيداً غريباً مستغيثاً.

التفت العباس إلى اخوته وقال : تقدّموا أمامي لأحتسبكم فكان أول من تقدّم منهم :

__________________

(١) البحار ٤٥ / ٦٥ باب ٣٧.

١٢٦

١ ـ عبد الله بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام

ولد بعد أخيه العباس بنحو ثمان سنين ، وأمه فاطمة أم البنين ، وبقي مع أبيه ست سنين ، ومع أخيه الحسن ست عشرة سنة ، ومع أخيه الحسين خمساً وعشرين سنة ، وذلك مدة عمره ، ولم يعقب (١).

قال أهل السير : إنّه لما قتل أصحاب الحسين عليه‌السلام وجملة من أهل بيته دعا العباس اخوته الأكبر فالأكبر وقال لهم : تقدّموا ، فأول من دعاه عبد الله أخوه لأبيه وأمه فقال : تقدّم يا أخي حتى أراك قتيلاً وأحتسبك ، فانه لا ولد لك ، فتقدّم بين يديه وجعل يضرب بسيفه قدماً ويجول فيهم وهو يقول :

أنا ابن ذي النجدة والافضال

ذاك علي الخير ذو الأفعال

سيف رسول الله ذو النكال

في كلّ يوم ظاهر الأهوال

فقاتل قتالاً شديداً ، فاختلف هو وهاني بن ثبيت الحضرمي ضربتين فقتله هانىء «لعنه الله».

__________________

(١) وهو معروف عند جمهور العلماء ذكره ابن قتيبة في المعارف والشبلنجي في نور الابصار ، والمحب الطبري في ذخائر العقبى والرياض النضرة ، وابن الصباغ في الفصول المهمة والكنجي الشافعي في كفاية الطالب والمسعودي في التاريخ والشيخ المفيد في الارشاد وأخرون يطول تعدادهم.

١٢٧

وكذلك ذكر المجلسي في البحار وملا عبد الله في مقتل العوالم والخوارزمي في مقتله وآخرون.

وجاء في الزيارة المروية عن الامام صاحب الزمان «عجل الله فرجه» التي رواها السيد ابن طاووس في كتاب «الاقبال» والمجلسي في «البحار» وفيها يقول عليه‌السلام :

«السلام على عبد الله بن أمير المؤمنين مبلي البلاء ، والمنادي بالولاء في عرصة كربلاء ، والمضروب مقبلاً ومدبراً ، لعن الله قاتله هانىء بن ثبيت الحضرمي».

وفي هذه الفقرة شهادة من الامام صاحب الأمر «عجل الله فرجه» لعبد الله بثلاثة من الفضائل :

الأولى : أنّه أعلن بولاء الحسين عليه‌السلام بين الصفوف ونادى بالولاية في عرصة كربلاء.

الثانية : أنّه كان له بلاء محمود أكثر من غيره في دفاعه ومحاماته عن أخيه الحسين عليه‌السلام ، وقد أدى ما عليه دفاعاً عن دينه وإمامه ، وإلّا لما كان لذكر «مبلي البلاء» محل.

الثالثة : ثباته في ذلك الموقف الرهيب والمعترك الهائل العصيب حيث وقف هدفاً للسلاح في وسط الحومة حتى أصيب مقبلاً ومدبراً ، يريد أنّه أحيط به من كلّ جانب ، واكتنفه الأعداء من كلّ جهة ، وكان هو كاراً عليهم الكرة بعد الكرة ، فيقبل على جماعة فيهزمهم ويعود إلى أخرى فيطردهم ، ولم يقتل محاطاً به إلّا الحسين عليه‌السلام والعباس وعلي بن الحسين الأكبر عليه‌السلام ومسلم بن عقيل قتيل الكوفة وعبد الله بن علي شقيق العباس عليه‌السلام.

وقد تضمنت هذه الفقرة أنّه ضرب مقبلاً ومدبراً ، ومن المعلوم أن العسكر لا يتكاتف ويحمي بعضه بعضاً على كثرته إلّا لشدة بأس البطل المهاجم له ، والشجاع المنازل له ، الذي تعجز عن مواجهته الأبطال ، وهذه غاية الشجاعة ونهاية البطولة.

١٢٨

ولا غرو أن كان آية نم آيات البطولة والفروسية والاقدام ، فأبوه أمير المؤمنين عليه‌السلام سيد أبطال العالم الذي كانت الملوك ترسم صورته على سيوفها كما فعل ذلك «سليمان القانوني» ملك الأتراك العثمانيين ، فقد كان له سيف عليه صورة علي بن أبي طالب ، وقد هتف به رضوان خازن الجنان وجبرئيل سفير وحي الرحمن في بدر وأحد «لا سيف إلّا ذوالفقار ولا فتى إلّا علي» ، واخوته الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية والعباس ، والعمومة بنو هاشم أفرس العرب ، وهل تعد أمة من الأمم مثل أبي طالب وحمزة وجعفر الطيار في أمثالهم ، والخؤلة بنوا عامر ، وفيهم مثل فارس الضحيا ، وفارس قرزل ، وفارس العصا ، وفارس شحمه ، وملاعب الأسنة ، ومدرك الثار ، والرحال في أمثالهم ، فهو معم مخول معرق الشجاعة.

قد أنجبت أم البنين فديتها

فرسان حرب أصبحوا مثالا

أسداً ضراغمة بمعمة الوغى

سم العداة أماجداً أبطالا

لا تعجبين لبأسهم وثباتهم

في موقف لو فيه رضوى زالا

الليث حيدرة وفاطم لبوة

ولدا لوقعة كربلا أشبالا

نفسي الفدا لو اردين ظماً

بحر المنية طاميا أجالا (١)

وورد أيضاً في زيارته :

السلام عليك يا عبد الله بن علي بن أبي طالب ورحمة الله وبركاته ، فانك الغرة الوضحة ، واللمعة اللائحة ، ضاعف الله رضاه عنك ، وأحسن لك ثواب ما بذلته منك ، فلقد واسيت أخاك وبذلت مهجتك في رضا ربّك (٢).

* * *

__________________

(١) بطل العلقمي ٣ / ٤٩٩.

(٢) بحار الأنوار ٩٨ / ٢٤٥ باب ٣٥.

١٢٩

٢ ـ جعفر بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام

أبو عبد الله ، جعفر الأكبر ، شقيق العباس عليه‌السلام ، أحد الشهداء مع الحسين عليه‌السلام.

كان يلقب بجعفر الأكبر ، ويكنى بأبي عبد الله ، أمه أم البنين الكلابية.

قال أبو الفرج الاصفهاني في «مقاتل الطابيين» : وجعفر بن علي بن أبي طالب أمه أم البنين .. قتل وهو ابن (١٩) سنة.

وقال أبو مخنف في حديث الضحاك المشرقي : إنّ العباس بن علي قدّم أخاه جعفراً بين يديه ؛ لأنه لم يكن له ولد ، ... فشدّ عليه هاني بن ثبيت الحضرمي الذي قتل أخاه.

وقال نصر بن مزاحم عن أبي جعفر محمد بن علي عليهما‌السلام : إنّ خولي بن يزيد الأصبحي «لعنه الله» قتل جعفر بن علي عليه‌السلام.

قال في ناسخ التاريخ : جعفر الأكبر ، ويكنى أبا عبد الله ، وأمه أم البنين أم العباس ، وعمر (٢٣) سنة .. (١) وعند أبي الفرج الاصفهاني أنّ عمره (١٩) سنة.

وقال السماوي في «إبصار العين» : ولد بعد أخيه عثمان بنحو سنتين ، وأمه

__________________

(١) ناسخ التاريخ ٥ / ٣٠٦.

١٣٠

فاطمة أم البنين ، وبقي مع أبيه نحو سنتين ، ومع أخيه الحسن نحو اثنتي عشرة سنة ، ومع أخيه الحسين عليه‌السلام نحو إحدى وعشرين سنة ، وذلك مدة عمره (١).

وقال المظفر في «بطل العلقمي» : وما أعرف عمن أخذ السماوي تقدير عمره بـ (٢١) سنة وتقسيمه على إمامة أبيه وأخويه (٢).

وذكر صاحب «الدر النظيم» : إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام سماه باسم أخيه جعفر الطيار لأن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان شديد المحبة له.

قال أهل السير : لما قتل أخو العباس لأبيه وأمه وعبد الله وعثمان دعا جعفراً فقال له : تقدم إلى الحرب حتى أراك قتيلاً كأخويك فاحتسبك كما احتسبتهما فانه لا ولد لكم ، فتقدم وشدّ على الأعداء يضرب فيهم بسيفه وهو يقول :

إني أنا جعفر ذو المعالي

ابن علي الخير ذي النوال

ذاك الوصي ذو الندى والوالي

حسبي بعمى شرفاً وخالي

فشدّ عليه خولي بن يزيد الأصبحي فأصاب شقيقته أو عينيه فقتله.

وقال أبو مخنف : بل شدّ عليه هانيء بن ثبيت الحضرمي الذي قتل أخاه فقتله.

قال الامام المنتظر «عجل الله فرجه» في زيارة الناحية :

السلام على جعفر بن أمير المؤمنين ، الصابر بنفسه محتسباً ، والنائي عن الأوطان مغترباً ، المستسلم للقتال ، المستقدم للنزال ، المكثور بالرجال ، لعن الله قاتله هانىء بن ثبيت الحضرمي.

ويظهر من عبارات الامام ـ أرواحنا فداه ـ من الفضائل لجعفر بن أمير المؤمنين ما يميزه عمن سواه من الشهداء ، فقوله عليه‌السلام ، وبأي معنى أخذ الصبر سواء كان الصبر على مكابدة الأهوال ومكافحة الأبطال ، ففي ذلك غاية المدح بالفروسية.

__________________

(١) إبصار العين : ٣٥.

(٢) أنظر : بطل العلقمي ٣ / ٥١١.

١٣١

وإن كان الصبر على محبته لإمامه الحسين عليه‌السلام وموالاته له وثباته وعزمه أن يفديه بنفسه ويقيد بمهجته ففي ذلك غاية المدح من الوجهتين : البصيرة والمعرفة بحق الامام المفترض الطاعة ، وهذا دليل العلم والفقاهة ، ومن حب المواسات له بالنفس التأسي به في جميع الحالات ، فهذا دليل على أنّه في غاية الكمال ونهاية الأدب.

وإن أريد بالصبر الصبر على معاناة الأمور الشاقة من الجوع والعطش لأنهم حصروا في فلاة جرداء قاحلة ، وبادية قفراء قاحلة ، قد ملك عليهم الأعداء شريعة الفرات ، وقطعوا عليهم طريق الميرة ، وصدوا القوافل التي تحمل الأقوات اليهم ، فعطشوا وجاعوا ، وفي تخصيص جعفر بالصبر على هذا لا يخفى ما فيه من مزيد الفضل ، والاشارة إلى ما فيه من الايثار والتضحية والتحمل والمعاناة.

وأما قوله عليه‌السلام : «النائي عن الأوطان» مع أنّ كلّ من كان مع الحسين عليه‌السلام كان نائياً عن الاوطان وجميعهم قد اغتربوا ، فما معنى تخصيص جعفر؟!

فالظاهر ـ والله العالم ـ أنّه إنّما خصّ بذلك لأنّه كان بعد شاب صغير لم يذق طعم الغربة ولم يجربها من قبل ، سيما أنّه كان صاحب نضارة ورونق جميل ، قد تربى في الحضارة ، لم يقوى على لفحات السموم ومعاناة شعل الهجير ، لأنه أصغر اخوته ، ومن المعلوم أن صغير الأولاد يكون في الموضع الأتم من الشفقة في نظر الأم الشفيقة ، فانّها تبره كثيراً وتتعاهده بالنظافة والتعطير وترجيل الشعر ولذيذ المطعم وشهي المشرب ، فاذا كان نائياً عن الأوطان ـ والحال هذه ـ فانه يلاقي عنتاً ، ويجابه شدة شديدة ، ويعاني صعوبة صعبة ، ومشقة شاقة ، سيما من فقد بر الوالدة المشفقة وعطفها وحدبها عليه والطافها.

ومن هنا يعرف أنّ ولد أمير المؤمنين عليه‌السلام أشجع العرب ، لأنهم ما شاهدوا حروباً ، ولا خاضوا المعارك ، ولا وقفوا في صف قبال الأعداء ، سوى الحسنين عليهما‌السلام وابن الحنفية والعباس عليه‌السلام ، وهم جميعاً شباب في ريعان الشبيبة ونضرة الصبا ، بين

١٣٢

من أدرك البلوغ وبين من تجاوزه بيسير ، وقد شبوا ونشاؤا في أحضان المدينة حتى إذا كشفت حرب كربلاء عن ساقها ، وبرزت كالحة عابسة شوهاء المنظر كريهة المخبر ، شمروا السواعد ، وشحذوا المرهفات القواطع ، وساقوا تلك الأبطال المحنكة والفرسان المجربة سوق الأغنام ، وفرت أمامهم كاليعافير أو الحمر المستنفرة ، وطاروا بين أيديهم طيران القطا والنعام المشرد ، وتفرقوا تفرق الجراد المنتشر ، ولو لا غلبة الأقدار ما كثرتهم تلك الجماهير ، ولا غلبتهم كثرة الجموع ، وقد علم حملة التاريخ والأثر وعلماء الأخبار والسير أنهم أفنوا جماهير أهل الكوفة ، وقد تركوا في كلّ حي من أحيائها نائحة وفي كلّ بيت من بيوتها صارخة :

آل علي يوم طف كربلا

قد تركوا في كل دار نائحة

من دخل الكوفة لم يسمع بها

في سائر الاحياء إلّا صائحة

قد خلد التاريخ للحشر لهم

أعمال مجد وفعالاً صالحة

فيا لها فادحة خالدة

قد أنست الشيعة كل فادحة

أولئك الشبان المنعمون من أهل البيت النبوي أظهروا البسالة والشجاعة ما أدهش الأبطال المجربة والشجعان الخبراء بفن البطولة.

وبقية الفقرة تصف ثبات جعفر الأكبر في ساحات الوغى وغبار المعمعة ، وتذكر أنهم ما قتلوه إلّا تكاثروا عليه واحتوشوه من كلّ مكان ، والكثرة مهما كانت فان لها الغلبة وفي المثل الشعبي «الكثرة تأخذ البصرة».

حكى جعفر في كربلا بأس جعفر

كما قد حكى بالضرب والده القرما

وأدى حقوق المجد والفخر من حكى

بأفعاله الغر الأب القرم والعما (١)

__________________

(١) بطل العلقمي : ٥١٤.

١٣٣

٣ ـ عثمان بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام

أمه أم البنين عليها‌السلام.

روي عن عبيد الله بن الحسن وعبد الله بن عباس انه قتل وهو ابن (٢١) سنة.

وقال السماوي في «إبصار العين» : ولد بعد أخيه عبد الله بنحو سنتين ، وأمه فاطمة أم البنين ، وبقي مع أبيه نحو أربع سنين ، ومع أخيه الحسن نحو أربع عشرة سنة ، ومع أخيه الحسين عليه‌السلام ثلاثاً وعشرين سنة ، وذلك مدة عمره.

وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : إنّما سميته عثمان بعثمان بن مضعون أخي.

وعثمان بن مضعون بن حبيب بن وهيب بن حذافة بن جمح القرشي الجمحي ..

أسلم بعد ثلاثة عشر رجلاً ، وهاجر الهجرتين ، وشهد بدراً ، وكان أول رجل مات بالمدينة سنة اثنتين من الهجرة ، وكان ممن حرّم على نفسه الخمر في الجاهلية ، وممن أراد الاختصاء في الاسلام فنهاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : عليك بالصيام فانه مجفرة ـ أي قاطع للجماع ـ.

ولما مات جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بيته وقال : رحمك الله أبا السائب ، ثم انحنى عليه فقبله ، ثم صلّى عليه ودفنه في بقيع الغرقد ، ووضع حجراً على قبره وجعل يزوره.

١٣٤

ثم لما مات إبراهيم عليه‌السلام ولده بعده قال : إلحق ـ يا بني ـ بفرطنا عثمان ابن مضعون.

ولما ماتت زينب ابنته عليها‌السلام قال : إلحقي بسلفنا الخير عثمان بن مضعون.

وإنّما استطردنا في ذكر عثمان شيئاً ما إمتثالاً للمولى أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي سمّى ولده باسمه ، ونعود إلى عثمان ابن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

قال أهل السير : لما قتل عبد الله بن علي دعا العباس عثمان وقال له : تقدّم يا أخي ، كما قال لعبد الله ، فتقدم إلى الحرب يضرب بسيفه ويقول :

إني أنا عثمان ذو المفاخر

شيخي علي ذو الفعال الطاهر

فرماه خولي بن يزيد الأصبحي بسهم فأوهطه (١) حتى سقط لجنبه ، فجاءه رجل من بني أبان بن درارم فقتله واحتز رأسه (٢).

قال الامام المنتظر ـ عجل الله تعالى فرجه ـ في زيارة الناحية :

السلام على عثمان بن أمير المؤمنين سمّي عثمان بم مضعون ، لعن الله راميه بالسهم خولي بن يزيد الأصبحي الأيادي والاباني الدارمي.

وجاء في زيارته أيضاً :

السلام عليك يا عثمان بن علي بن أبي طالب ورحمة الله وبركاته ، فما أجل قدرك ، وأطيب ذكرك ، وأبين أثرك ، وأشهر خيرك ، وأعلى مدحك ، وأعظم مجدك ... (٣).

واللائح من هذه الفقرات أن عثمان عليه‌السلام كان عالماً عارفاً فقيهاً خلوقاً بحيث استحق هذه الصفات النادرة والمدائح التي لا يستحقها إلّا من كان جديراً بها.

وجلالة القدر وطيب الذكر وبيان الأثر وشهرة الخير وعلو المدح وعظمة المجد

__________________

(١) أوهطه : أضعفه وأثخنه بالجراحة وصرعه صرعة لا يقوم منها.

(٢) إبصار العين : ٣٥.

(٣) البحار ٩٨ / ٢٤٥ باب ٣٥.

١٣٥

كلها تناسب العالم الذي قد ذاع صيته وانتشر علمه وأدبه وخلف من وراءه تراثاً ينفع ويؤتي أكله كل حين باذن ربه فيكون له لسان صدق في الآخرين.

تشويه التاريخ :

لقد كان من نفوذ بصيرة العباس أنّه لم تقنعه هاتيك التضحية المشهودة منه والجهاد البالغ حدّه حتى راقه أن يفوز بتجهيز المجاهدين في ذلك المأزق الحرج والدعوة إلى السعادة الخالدة في رضوان الله الأكبر ، وأن يحظى بأجور الصابرين على ما يلم به من المصاب بفقد الأحبة ، فدعى أخوته من أمه وأبيه ، وهم عبد الله وجعفر وعثمان وقال لهم : تقدّموا حتى أراكم نصحتم لله ولرسوله فانه لا ولد لكم (١) فانه أراد بذلك تعريف اخوته حق المقام ، وأنّ مثولهم بهذا الموقف لم يكن مصروفاً إلّا إلى جهة واحدة ، وهي المفادات والتضحية في سبيل الدين إذ لم يكن لهم أي شائبة أو شاغلة تلهيهم عن القصد الأسنى من عوارض الدنيا من مراقبة أمر الأولاد بعدهم ومن يرأف بهم ويربيهم ، فاللازم حينئذ السير إلى الغاية الوحيدة ، وهي الموت دون حياة الشريعة المقدسة ، فكانوا كما شاء ظنه الحسن بهم حيث لم يألوا جهداً في الذب عن قدس الدين حتى قضوا كراماً متلفعين بدم الشهادة.

ولكن هلمّ واقرأ العجيب الغريب فيما ذكر ابن جرير الطبري في التاريخ (٢) قال : وزعموا أنّ العباس بن علي قال لأخوته من أمه وأبيه عبد الله وجعفر وعثمان : يا بني أمي تقدّموا حتى أرثكم فانّه لا ولد لكم ، ففعلوا وقتلوا.

وقال أبو الفرج في «مقاتل الطالبين» : قدم أخاه جعفر بين يديه لأنّه لم يكن له ولد ليحوز ميراثه العباس ، فشدّ عليه هاني بني ثبيت فقتله.

__________________

(١) إرشاد المفيد : ٢٤٠.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٧.

١٣٦

وفي مقتل العباس قال : قدم أخوته لأمه وأبيه فقتلوا جميعاً فحاز مواريثهم ، ثم تقدم وقتل ، فورثهم وإياه عبيد الله ونازعه في ذلك عمه عمر بن علي فصولح على شيء رضى به.

هذا غاية ما عندهما وقد تفردوا به من بين المؤرخين وأرباب المقاتل ، ولا يخفى على من له بصيرة وتأمل بعده عن الصواب ، وما أدري كيف خفي عليهما حيازة العباس ميراث أخوته مع وجود أُمهم «أم البنين» وهي من الطبقة المتقدمة على الأخ ، ولم يجهل العباس شريعة تربى في خلالها.

على أنّ هذه الكلمة لا تصدر من أدنى الناس سيما في ذلك الموقف الذي يذهل الواقف عن نفسه وماله ، فأي شخص كان يدور في خلده ذلك اليوم حيازة المواريث بتحريض ذويه واخوته للقتل ، وعلى الأخص يصدر ذلك من رجل يعلم أنّه لا يبقى بعدهم ، ولا يتهنأ بمالهم ، بل يكون فعله لمحض أن تتمتع به أولاده.

بئست الكلمة القبيحة التي راموا أن يلوثوا بها ساحة ذلك السيد الكريم ، فهل ترغب أنت أن يقال لك : عرضت اخوتك وبني أمك لحومة الوغى لتحوز مواريثهم؟! أم أنّ هذا من الدناءة والخسة فلا ترضاه لنفسك! كما لا يرغب به سوقة الناس وأدناهم؟

فكيف ترضى أيها المنصف ذلك لمن علّم الناس الشهامة وكرم الأخلاق وواسى حجة زمانه بنفسه الزاكية؟

وكيف ينسب هذا لخريج تلك الجامعة العظمى والمدرسة الكبرى ، جامعة النبوة ومدرسة الامامة ، وتربى بحجر أبيه ، وأخذ المعارف منه ومن أخويه الامامين؟!

ولو تأمل جيداً في تقديمه إياهم للقتل لعرفنا كبر نفسه وغاية مفاداته عن أخيه السبط ، فلذة كبد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومهجة البتول ، فانّ من الواضح البين أنّ غرضه من تقديمهم للقتل :

١٣٧

أولاً : إمّا لأجل أن يشتدّ حزنه ويعظم صبره ويزرأ بهم ، ويكون هو المطالب بهم يوم القيامة ؛ إذ لا ولد لهم يطالبون بهم.

ثانياً : وإمّا لأجل حصول الاطمئنان والثقة من المفاداة دون الدين أمام سيد الشهداء ، ويشهد له ما ذكره الشيخ المفيد في «الارشاد» وابن نما في «مثير الأحزان» من قوله لهم : تقدّموا حتى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله فانه لا ولد لكم».

ولم يقصد بهم المخايل وإنّما رام أبو الفضل أن يتعرف مقدار ولائهم لقتيل العبرة ، وهذا منه عليه‌السلام إرفاقاً بهم وحناناً عليهم وأداء حق الاخوة بارشادهم إلى ما هو الأصلح لهم.

ثالثاً : وإمّا أن يكون غرضه الفوز بأجر الشهادة بنفسه والتجهيز للجهاد بتقديم اخوته ليثاب أيضاً بأجر الصابرين ويحوز كلتا السعادتين.

وربما يدل عليه ما ذكره أبو الفرج في مقتل عبد الله من قول العباس له : «تقدم بين يدي حتى أراك قتيلاً واحتسبك» فكان أول من قتل من أخوته.

وذكر أبو حنيفة الدينوري : أنّ العباس قال لأخوته : تقدموا بنفسي أنتم وحاموا عن سيدكم حتى تموتوا دونه ، فتقدموا جميعاً وقتلوا.

ولو أراد أبو الفضل من تقديمهم للقتل حيازة مواريثهم ـ وحاشاه ـ لم يكن لاحتساب أخيه عبد الله معنى ، كما لا معنى لتفديتهم بنفسه الكريمة كما في «الأخبار الطوال».

وهناك مانع آخر من ميراث العباس لهم وحده ، حتى لو قلنا ـ على بعد ومنع ـ بوفاة أم البنين يوم الطف ، فان ولد العباس لم يكن هو الحائز لمواريثهم لوجود الأطراف وعبيد الله بن النهشلية ، فانهما يشتركان مع العباس في الميراث ، كما يشاركهم سيد شباب أهل الجنة وزينب العقيلة وأم كلثوم ورقية وغيرهم من أولاد أمير المؤمنين عليه‌السلام.

١٣٨

فكيف ـ والحال هذا ـ يختص العباس بالميراث وحده.

هذا كله إن قلنا بوفاة أم البنين يوم الطف ، ولكن التاريخ يثبت حياتها يومئذٍ وأنّها بقيت بالمدينة وهي التي كانت ترثي أولادها الأربعة.

والذي أظنه أنّ منشأ ذلك التقوّل على العباس أنّه أوقفهم السير على قوله لاخوته «لا ولد لكم» من غير روية وتفكير في غرضه ومراده ، فحسبوه أنّه يريد الميراث ، فنوّه به واحد باجتهاده أو إحتماله ، وحسبه الآخرون رواية ، فشوّهوا به وجه التاريخ ولم يفهموا المراد ، ولا أصابوا شاكلة الغرض ، فان غرضه من قوله «لا ولد لكم» تراقبون حاله بعدكم ، فأسرعوا في نيل الشهادة والفوز بنعيم الجنان.

على أنّ العلامة الشيخ عبد الحسين الحلي في «النقد النزيه» (١) احتمل تصحيف «أرثكم» من «أزء بكم» أو «أرزأكم» وليس هذا ببعيد.

وأقرب منه احتمال الشيخ الحجة آغا بزرك مؤلف «كتاب الذريعة» تصحيف «أرثكم» من «أرثيكم» فكأنّه عليه‌السلام أراد :

أولاً : أن يفوز بالارشاد إلى ناحية الحق.

وثانياً : تجهيز المجاهدين.

وثالثاً : البكاء عليهم ورثاءهم فانه محبوب للمولى تعالى.

ويشبه قول العباس لأخوته قول عابس بن أبي شبيب الشاكري لشوذب مولى شاكر : يا شوذب ما في نفسك أن تصنع؟

قال : أقاتل معك دون ابن نبي رسول الله حتى أقتل.

فقال : ذلك الظن لك ، فتقدم بين يدي أبي عبد الله حتى يحتسبك كما احتسب غيرك من الصحابة ، وحتى احتسبك أنا فانه لو كان معي الساعة أحد أنا أولى به

__________________

(١) النقد النزيه ١ / ٩٩.

١٣٩

منك لسرني أن يتقدم بين يدي حتى احتسبه ، فانّ هذا يوم ينبغي لنا أن نطلب الأجر فيه بكل ما قدرنا عليه ، فانّه لا عمل بعد اليوم وإنّما هو الحساب (١).

* * *

__________________

(١) الطبري ١ / ٢٥٤.

١٤٠