امّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

الشيخ علي ربّاني الخلخالي

امّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

المؤلف:

الشيخ علي ربّاني الخلخالي


المترجم: السيد علي الحسيني
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: مطبعة ستار
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٨٣

وقال حفيده الفضل بن محمد بن الفضل بن الحسن بن عبيد الله بن العباس عليه‌السلام :

إني لأذكر للعباس موقفه

بكربلاء وهام القوم تختطف

يحمى الحسين ويحميه على ظمأ

ولا يولي ولا يثني فيختلف

ولا أرى مشهداً يوماً كمشهده

مع الحسين عليه الفضل والشرف

أكرم به مشهداً بانت فضيلته

وما أضاع له أفعاله خلف (١)

لقد ضاق صدري :

ولما رأى أبو الفضل عليه‌السلام وحدة أخيه وقتل أصحابه وأهل بيته الذين باعوا نفوسهم لله انبرى اليه يطلب الرخصة منه ليلاقي مصيره المشرق ، فلم يسمح له الامام عليه‌السلام. وقال له بصوت حزين النبرات : «أنت صاحب لوائي».

لقد كان الامام عليه‌السلام يشعر بالقوة والحماية مادام أبو الفضل ، فهو كقوة ضاربة إلى جانبه ، يذبّ عنه ، ويرد عنه كيد المعتدين ، وألحّ عليه أبو الفضل قائلاً : «لقد ضدق صدري من هؤلاء المنافقين وأريد أن آخذ ثاري منهم ..».

لقد ضاق صدره وسئم من الحياة حينما رأى النجوم المشرقة من أخوته وأبناء عمومته صرعى مجزرين على رمضاء كربلاء ، فتحرّق شوقاً للأخذ بثأرهم والالتحاق بهم.

وطلب الامام منه أن يسعى لتحصيل الماء إلى الأطفال الذين صرعهم العطش ، فانبرى الشهم النبيل نحو أولئك الممسوخين الذين خلت قلوبهم من الرحمة والرأفة ، فجعل يعظهم ويحذّرهم من عذاب الله ونقمته ، ووجّه خطابه اليهم قائلاً : «.. هذا الحسين بن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قتلتم أصحابه وأهل بيته وهؤلاء عياله

__________________

(١) إبصار العين : ٣١.

١٠١

وأولاده عطاشى فاسقوهم من الماء ، قد أحرق الظمأ قلوبهم ، وهو مع ذلك يقول : دعوني أذهب إلى الروم أو الهند وأخلّي لكم الحجاز والعراق ...».

وساد صمت رهيب على قوات ابن سعد ، ووجم كثيرون وودّوا لوتسيخ بهم الأرض ، وبكى جماعة ، واعتزل آخرون ، فانبرى اليه الرجس الخبيث شمر بن ذي الجوشن فردّ عليه قائلاً : يا ابن أبي تراب لو كان وجه الأرض كلّه ماءً وهو تحت أيدينا لما سقيناكم منه قطرة إلّا أن تدخلوا في بيعة يزيد ....

لقد بلغت الخسة ولؤم العنصر وخبث السريرة بهؤلاء الأرجاس مستوى ماله من قرار ....

ورجع أبو الفضل إلى أخيه فأخبره بعتو القوم وطغيانهم ، وسمع فخر عدنان صراخ الأطفال والصبية وهم يستغيثون وينادون : العطش .. العطش (١).

وروي أنّه دخل الخيمة التي وضعوا فيها القِرَب فرأى الأطفال قد كشفوا صدورهم ووضعوها على القِرَب الخالية لعل نداوتها تبرد غليلهم وتطفىء لهيب ظمأهم وتخفف عنهم ، فقال لهم أبو الفضل : اصبروا يا نور عيني سأسقيكم الماء ، فحمل رمحه وشهر سيفه وأخذ معه القربة ، واندفع ببسالة لاغاثتهم ، فركب فرسه واقتحم الفرات.

أهل البيت يمنعون الماء :

إذا كانت الشريعة المطهرة حثت على السقاية ذلك الحث المتأكد ، فانما تلت على الناس أسطراً نورية مما جبلوا عليه ، وعرفت الأُمة بأن الدين يطابق تلك النفسيات البشرية والغرائز الطبيعية ، وأرشدتهم إلى ما يكون من الثواب المترتب

__________________

(١) العباس رائد الكرامة : ٢٢١ ـ ٢٢٢.

١٠٢

على سقي الماء في الدار الآخرة ؛ ليكونوا على يقين من أنّ عملهم هذا موافق لرضوان الله وزلفى للمولى سبحانه يستتبع الأجر الجزيل ، وليس هو طبيعي محض ، وهذا ما جاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته المعصومين عليهم‌السلام من فضل بذل الماء في محل الحاجة اليه وعدمها سواء كان المحتاج اليه حيواناً أو بشراً مؤمناً كان أو كافراً.

ففي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أفضل الأعمال عند الله إبراد الكبد الحرى من بهيمة وغيرها (١).

وقال الصادق عليه‌السلام : من سقى الماء في موضع يوجد فيه الماء كان كمن اعتق رقبة ، ومن سقى الماء في موضع لا يوجد في الماء كان كمن أحيى نفساً ، ومن أحياها فكأنما أحيى الناس أجمعين (٢).

وقد دلت هذه الآثار على فائدة السقي بما هو حياة العالم ونظام الوجود ، ومن هنا كان الناس فيه شرع سواء كالكلاء والنار ، فلا يختص اللطف الالهي بطائفة دون طائفة.

وقد كشف الامام الصادق عليه‌السلام السر في جواب من قال له ما طعم الماء؟

فقال عليه‌السلام : طعم الحياة (٣).

ولما كانت السقاية أشرف شيء في الشريعة المطهرة ، وكانت لها تلك الأهمية والمكانة من النفوس كان أجداد الحسين عليه‌السلام سادة السقاة ، وقد أذعنت قريش لقصي بسقاية الحاج فكان يطرح الزبيب في الماء ويسقيهم الماء المحلّى كما كان يسقيهم اللبن (٤).

وكان ينقل الماء إلى مكة من آبار خارجها ثم حفر بئراً إسمها «العجول» في

__________________

(١) دار السلام ٣ / ١٦٢.

(٢) مكارم الاخلاق : ٨٥ فصل ٧ الباب الاول.

(٣) تهذيب الكامل ١ / ٢٩٩.

(٤) السيرة الحلبية ١ / ١٥.

١٠٣

الموضع الذي كانت دار «أم هاني» فيه. وهي أول سقاية حفرت بمكة ، وكانت العرب إذا استقوا منها ارتجزوا :

نروي على العجول ثم ننطلق

إنّ قصياً قد وفى وقد صدق

ثم حفر قصي بئراً سماها «سجلة» وقال فيها (١) :

أنا قصي وحفرت سجلة

تروي الحجيج زغلة فزغلة

وكان هاشم ـ أيام الموسم ـ يجعل حياضاً من ادم في موضع زمزم لسقاية الحاج ويحمل الماء إلى منى لسقايتهم وهو يومئذٍ قليل (٢).

ثم إنّه حفر بئراً سماها «البندر» وقال : إنّها بلاغ للناس فلا يمنع منها أحداً (٣).

وأما عبد المطلب فقد قام بما كان آباؤه يفعلونه من سقاية الحاج ، وزاد على ذلك ، أنّه لما حفر زمزم وكثر ماؤها أباحها للناس ، فتركوا الآبار التي كانت خارج مكة لمكانها من المسجد الحرام ، وفضلها على من سواها لأنها بئر إسماعيل (٤).

وزاد عبد المطلب في سقاية الحاج بالماء أن طرح الزبيب فيه ، وكان يحلب الابل فيضع اللبن مع العسل في حوض من أدم عند زمزم لسقاية الحاج (٥).

ثم قام أبو طالب مقامه بسقي الحاج وكان يجعل عند رأس كلّ جادة حوضاً فيه الماء ليستقي منه الحاج ، وأكثر من حمل الماء أيام الموسم ، ووفره في المشاعر فقيل له : «ساقي الحجيج».

أما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقد حوى أكثر مما حواه والده الكريم

__________________

(١) الروض الانف ١ / ١٠١.

(٢) شرح النهج ٣ / ٤٥٧.

(٣) الروض الانف ١ / ١٠١.

(٤) سيرة ابن معلان بهامش السيرة الحلبية ١ / ٢٦.

(٥) السيرة الدحلانية ١ / ٢٦.

١٠٤

من هذه المكرمة ، وكم له من موارد للسقاية لا يستطيع أحد على مثلها ، وذلك يوم بدر ، وقد أجهد المسلمين العطش ، وأحجموا عن امتثال أمر الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله في طلب الماء فرقاً من قريش ؛ لكن نهضت بأبي الريحانتين غيرته الشماء ، وثار به كرمه المتدفق ، فلبّى دعاء الرسول وانحدر نحو القليب وجاء بالماء حتى أروى المسلمين (١).

ولا ينس يوم صفين وقد شاهد من عدوه ما تندى منه جبهة كلّ غيور ، فان معاوية لما نزل بجيشه على الفرات منع أهل العراق من الماء حتى كضّهم الظمأ ، فأنفذ اليه أمير المؤمنين عليه‌السلام صعصعة بن صوحان وشبث بن ربعي يسألانه أن لا يمنع الماء الذي أباحه الله ـ تعالى ـ لجميع المخلوقات ، وكلّهم فيه شرع سواء ، فأبى معاوية إلّا التردد في الغواية والجهل ، فعندها قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ارووا السيوف من الدماء ترووا من الماء (٢).

ثم أمر أصحابه أن يحملوا على أهل الشام ، فحمل الأشتر في سبعة عشر ألفاً والأشتر يقول :

ميعادنا اليوم بياض الصبح

هل يصلح الزاد بغير ملح

فلمّا أجلوهم أهل العراق عن الفرات ونزلوا عليه وملكوه أبي صاحب النفسية المقدسة التي لا تعدوها أي مأثرة أن يسير على نهج عدوه حتى أباح الماء لأعدائه ، ونادى بذلك في أصحابه (٣) ، ولم يدعه كرم النفس أن يرتكب ما هو من سياسة الحرب من التضييق على العدو بأي صورة.

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ١ / ٤٠٦.

(٢) نهج البلاغة ١ / ١٠٩.

(٣) مناقب ابن شهر آشوب ١ / ٦١٩.

١٠٥

وقد لا تجد مندوحة في تفضيل موقف الحسين عليه‌السلام على غيره في السقاية يوم سقى الحر وأصحابه في «شراف» وهو عالم بحراجة الموقف ، ونفاذ الماء بسقي كتيبة فيها ألف رجل مع خيولهم ، ووخامة المستقبل ، وأنّ الماء غداً دونه تسيل النفوس وتشق المرائر ؛ لكن العنصر النبوي والآصرة العلوية لم يتركا صاحبهما إلّا أن يحوز الفضل.

وأما أبو الفضل العباس بن أمير المؤمنين عليه‌السلام فلا يوازيه أحد في أمر السقاية يوم ناطح جبلاً من الحديد ببأسه الشديد حتى اخترق الصفوف ، وزعزع هاتيك الألوف ، ولم يبال بشيء إلّا إغاثة شخصية الرسالة المنتشرة في تلك الأمثال القدسية من الذرية الطاهرة ، ولم يكتف بهذه الفضيلة حتى أبت نفسيته الكريمة أن يلتذ بشيء من الماء قبل أن يلتذ به أخوه الامام وصبيته الأزكياء.

ومن أجل مجيئه بالماء إلى عيال أخيه وصحبه في كربلاء سمي «السقاء».

في كربلاء لك عصبة تشكوا الظمأ

من فيض كفك تستمد رواوءها

وأراك يا ساقي عطاشى كربلا

وأبوك ساقي الحوض تُمنع ماءها (١)

هذه جملة من موارد السقاية الصادرة من شرفاء سادة متبوئين على منصات المجد والخطر متكئين على أرائك العز والمنعة ، وما كانت تدعهم دماثة أخلاقهم وطهارة أعراقهم أن يكونوا أخلوا من هذه المكرمة ، وقد افتخر بذلك عبد مناف على غيرهم.

وعلى العكس عنهم تجد أعداءهم معاوية وذريته الأرجاس فقد حرموا الماء على آل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويالها من فاجعة .. أن تشرب الذئاب والوحوش الماء وتذبل شفاه آل الرسول من الظمأ؟! ياله من ظلم أن يعطش الأسد ، وسيفه بيده ويبكي أطفال الحسين عليه‌السلام ويستغيثون.

__________________

(١) العباس (للمقرم) : ١٦٥.

١٠٦

أو تشتكي العطش الفواطم عنده

وبصدر صعدته الفرات المفعم

ولو استقى نهر المجرة لارتقى

وطويل ذابله اليها سلم

لو سدّ ذو القرنين دون وروده

نسفته همته بما هو أعظم

يا رب .. يا حكم ويا عدل .. لقد سلب الله الرحمة والانسانية من قلوب أولئك المسوخ فداسوا القيم وتنكروا للحسين عليه‌السلام ....

وحالوا بينه وبين الماء. وناده عبد الله بن حصين الأزدي : يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء والله لا تذوق منه قطرة حتى تموت عطشاً أنت وأصحابك.

ونادى عمرو بن الحجاج : يا حسين هذا الفرات تلغ فيه كلاب السواد وخنازيرهم ، فوالله لا تذوق منه قطرة.

والغريب أن هذا اللعين كان ممن كاتب الحسين عليه‌السلام ودعاه للقدوم إلى الكوفة!!

وقال زرعة بن أبان بن دارم : حولوا بينه وبين الماء ، ورماه بسهم فأثبته في حنكه فقال عليه‌السلام : اللهم أقتله عطشاً ولا تغفر له أبداً (١).

وهكذا منعوا الحسين وأهله وأصحابه عن الماء ، وفي اليوم السابع اشتد الحصار على سيد الشهداء ومن معه ، وسدّ عنهم باب الورود ، ونفد ما عندهم من الماء ، فعاد كلّ واحد يعالج لهب العطش ، وبطبع الحال كان العيال بين أنة وحنة ، وتضور ونشيج ، ومتطلب للماء إلى متحرّ له بما يبلّ غلّته ، وكلّ ذلك بعين الحسين عليه‌السلام والغيارى من آه والأكارم من صحبه ، وما عسى أن يجدوا لهم شيئاً وبينهم وبين الماء رماح مشرعة وسيوف مرهفة لكن «ساقي العطاشى» لم يتطامن على تحمل تلك الحالة ، فراح يستقي لهم وقدم يمينه ويساره ورجليه وكلّ روحه في سبيل إغاثتهم.

وروي أنّ أهل البيت عليهم‌السلام صارعوا العطش ـ صغاراً وكباراً ـ ثلاثة أيام بلياليها (٢).

__________________

(١) مثير الاحزان : ٧٠ ، نفس المهموم : ٣٣١.

(٢) مرأة الزمان في تواريخ الاعيان : ٨٩.

١٠٧

نهر العلقمي :

يتفرع نهر العلقمي من شط الفرات ويمرّ بمشهد أبي الفضل العباس عليه‌السلام باتجاه قبر الحسين عليه‌السلام ثم يشق طريقه إلى قبر الشهيد الحر الرياحي عليه‌السلام.

وفي معجم متن اللغة : من معاني علقمة : «النبق» وهو السدر فيستفاد من هذا ومما سنرويه أنّ ضفاف العلقمي كان مزروعاً بأشجار السدر ، وأنّ هناك سدرة كانت عند قبر الحسين عليه‌السلام.

روى الشيخ الطوسي في الأمالي مسنداً عن يحيى بن المغيرة الرازي قال :

كنت عند جرير بن عبد الحميد إذ جاءه رجل من أهل العراق فسأله جرير عن خبر الناس فقال : تركت الرشيد وقد كرب قبر الحسين عليه‌السلام وأمر أن تقطع السدرة التي فيه فقطعت.

قال : فرفع جرير يديه فقال : الله أكبر جاءنا فيه حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : لعن الله قاطع السدرة ـ ثلاثاً ـ فلم نقف على معناه حتى الأن ؛ لأن القصد بقطعه تغيير مصرع الحسين عليه‌السلام حتى لا يقف الناس على قبره (١).

وفي مدينة المعاجز : روى عن رجل أسدي قال : كنت زارعاً على نهر العلقمي بعد ارتحال عسكر بني أمية فرأيت عجائباً لا أقدر أن أحكي إلّا بعضاً منها : ... إذا هبت الريح تمر عليّ نفحات كنفحات المسك والعنبر وأرى نجوماً تنزل من السماء وتصعد مثلها من الأرض ، ورأيت عند غياب الشمس أسداً هائل المنظر يتخطى القتلى حتى وقف على جسد جللته الأنوار ، فكان يمرغ وجهه وجسده بدمه ، وله صوت عال ، ورأيت شموعاً معلقة ، وأصواتاً عالية وبكاءاً وعويلاً ، ولا أرى أحداً (٢).

__________________

(١) الأمالي (للطوسي) : ٣٢٥ المجلس ١١ ح ٩٨.

(٢) العباس (للمقرم) : ٣١٣ ، عن مدينة المعاجز : ٢٦٣ باب ١٢٧.

١٠٨

وحكي في «الكبريت الأحمر» عن السيد محمد الدين محمد المعروف بمجدي من معاصري الشيخ البهائي في كتابه «زينة المجالس» المؤلف سنة (١٠٠٤) :

أنّ الوزير السعيد ابن العلقمي لما بلغه خطاب الصادق عليه‌السلام للنهر «إلى الآن تجري وقد حرم جدّي منك» أمر بسدّ النهر وتخريبه ، ومن أجله حصل خراب الكوفة ، لأنّ ضياعها كانت تسقى منه (١).

قال عبد الباقي العمري :

بعداً لشطك يا فرات فمر لا

تحلو فانك لا هني ولا مري

أيسوغ لي منك الورود وعنك قد

صدر الامام سليل ساقي الكوثر

وقال الشيخ محسن أبو الحب الحائري رحمه‌الله :

إذا كان ساقي الحوض في الحشر حيدر

فساقي عطاشى كربلا أبو الفضل

على أنّ ساقي الناس في الحشر قلبه

مريع وهذا بالظمأ قلبه يغلي

وقفت على ماء الفرات ولم أزل

أقول له والقول يحسنه مثلي

علامك تجري لا جريت لوارد

وأدركت يوماً بعض عارك بالغسل

أما نشفت أكباد آل محمد

لهيباً ولا ابتلت بعل ولا نهل

من الحق أن تذوي غصونك ذبلاً

أسى وحياءً من شفاههم الذبل

فقال استمع للقول إن كنت سامعاً

وكن قابلاً عذري ولا تكثرن عذلي

ألا أن ذا دمعي الذي أنت ناظر

غداة جعلت النوح بعدهم شغلي

برغمي أرى مائي يلذ سواهم

به وهم صرعى على عطش حولي

جزى الله عنهم في المواساة عمهم

أبا الفضل خيراً لو شهدت أبا الفضل

لقد كان سيفاً صاغه بيمينه

علي فلم يحتج شباه إلى الصقل

اذا عدّ أبناء النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله

رأه أخاهم من رأه بلا فضل

__________________

(١) مقتل العباس (للمقرم) : ٣١٥ ، عن الكبريت الاحمر ٢ / ١١٢.

١٠٩

ولم أر ضام (١) حوله الماء قبله

ولم يرو منه وهو ذو مهجة تغلي

وما خطبه إلّا الوفاء وقل ما

يرى هكذا خلاً وفياً مع الخل

يميناً بيمناك القطيعة التي

تسمى شمالاً وهي جامعة الشمل

بصبرك دون ابن النبي بكربلاء

على الهول أمر لا يحيط به عقلي

ووافاك لا يدري أفقدك راعه

أم العرش غالته المقادير بالثل

أخي كنت لي درعاً ونصلاً كلاهما

فقدت فلا درعي لدي ولا نصلي

وقال السيد جعفر الحلي في رثاء العباس عليه‌السلام

وهوى بجنب العلقمي وليته

للشاربين به يداف العلقم

وقال السيد عبد الهادي الطعان :

جرعت أعداءك يوم الوغى

في حد ماضيك من العلقم

وقد بذلت النفس دون الحمى

مجاهداً يا بطل العلقمي (٢)

العباس عليه‌السلام في الميدان :

روى في «رياض المصائب» و «مهيج الأحزان» وغيرها :

«فلما أجاز الحسين عليه‌السلام أخاه العباس للبراز ، برز كالجبل العظيم ، وقلبه كالطود الجسيم ؛ لأنه كان فارساً هماماً ، وبطلاً ضرغاماً ، وكان جسوراً على الطعن والضرب في ميدان الكفاح والحرب».

وروى في إكسير العبادات : «.. فسمع الحسين عليه‌السلام الأطفال وهم ينادون : العطش .. العطش.

__________________

(١) كذا ورد في ديوان الشاعر أبي الحب.

(٢) بطل العلقمي ٣ / ٣٨٣.

١١٠

فلما سمع العباس ذلك رمق بطرفه إلى السماء وقال : إلهي وسيدي أريد أن أعتد بعدتي وأملأ لهؤلاء الأطفال قربة من الماء ، فركب فرسه وأخذ رمحه والقربة في كفه وقصد الفرات.

وفي بعض مقاتل أصحابنا : انّه لما نادى الحسين عليه‌السلام : أما من ذابّ يذبّ عن حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» خرج اليه أخوه العباس ، وقبّل بين عينيه وودعه وسار إلى الشريعة ، وإذا دونها عشرة آلاف فارس مدرعة ، فلم يهوّلوه ، فصاحت به الرجال من كل جانب ومكان : من أنت؟

فقال : أنا العباس بن علي بن أبي طالب ....

ودخل المشرعة وهمّ أن يشرب فذكر عطش أخيه الحسين فلم يشرب ، وحط القربة عن عاتقه واستقبل القوم يضربهم بسيفه كأنه النار في الأخطار وهو يقول :

أنا الذي أعرف عند الزمجرة

بابن علي المسمى حيدرة

فاثبتوا اليوم لنا يا كفرة

لعترة الحمد وآل البقرة (١)

تذكر وصية أبيه فلم يشرب :

في «معالي السبطين» عن كتاب «عدّة الشهور» :

لما كانت ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان وأشرف علي عليه‌السلام على الموت أخذ العباس وضمه إلى صدره الشريف وقال : ولدي وستقر عيني بك في يوم القيامة ، ولدي إذا كان يوم عاشوراء ودخلت المشرعة إياك أن تشرب الماء وأخوك الحسين عليه‌السلام عطشان (٢).

أجل ؛ لقد وصل العباس إلى المشرعة ، وأقحم الماء فرسه ، وملأ كفه بالماء ،

__________________

(١) إكسير العبادات : ٣٣٥ المجلس ١٠.

(٢) معالي السبطين ١ / ٤٥٤ المجلس ٢١.

١١١

واستروح كبده الملتهب رائحة الماء وأحسّ ببرده إلا أنّه تذكر وصية أبيه ، وثار فيه الوفاء الذي ما بارحه آناً من حياته المباركة ، فرمى الماء من كفه وقال : والله لا أشربه وأخي الحسين عليه‌السلام وعياله وأطفاله عطاشى ، لا كان ذلك أبداً ، وأنشأ يقول :

يا نفس من بعد الحسين هوني

وبعده لا كنت أن تكوني

هذا الحسين وارد المنون

وتشربين بارد المعين

هيهات ما هذا فعال ديني

ولا فعال صادق اليقين (١)

ولنعم ما قيل :

بذلت أيا عباس نفساً نفيسة

لنصر حسين عز بالجد عن مثل

أبيت التذاذ الماء قبل التذاذه

فحسن فعال المرء فرع عن الأصل

فأنت أخو السبطين في يوم مفخر

وفي يوم بذل المال أنت أبو الفضل

العباس عليه‌السلام يجندل المارد :

وكان في عسكر عمر بن سعد رجل يقال له «المارد بن صديف التغلبي» فلما نظر إلى ما فعله العباس من قتل الأبطال ، خرق أطماره ولطم على وجهه ، ثم قال لأصحابه : لا بارك الله فيكم ؛ أما والله لو أخذ كلّ واحد منكم ملأ كفّه تراباً لطمرتموه ، ولكنكم تظهرون النصيحة وأنتم تحت الفضيحة.

ثم نادى بأعلى صوته : أقسم على من كان في رقبته بيعة للأمير يزيد ، وكان تحت الطاعة إلّا اعتزل عن الحرب وأمسك عن النزال فأنا لهذا الغلام!! الذي قد أباد

__________________

(١) معالي السبطين ١ / ٤٤٦ المجلس ٢٠.

١١٢

الرجال ، وقتل الأبطال ، وأروى الشجعان وأفناهم بالحسام والسنان ، ثم من بعده أقتل أخاه الحسين عليه‌السلام ومن بقى من أصحابه معه.

فقال له الشمر : إذ قد ضمنت أنّك تكون كفو الناس أجمع ارجع معي إلى الأمير عمر بن سعدو أطلعه على أنك تأتيه بالقوم أجمعين إذا كان بك غنىً عنا.

فقال له المارد : يا شمر! أما والله ما فيكم خير لأنفسكم فكيف تعيرون غيركم؟!

فقال له شمر : ها نحن نرجع إلى رأيك وأمرك وننظر فعالك معه.

ثم قال الشمر للناس : اعتزلوا الحرب حتى ننظر ما يكون منهما.

فأقبل المارد بن صديف ، وأفرغ عليه درعين ضيقي الزرد ، وجعل على رأسه بيضة ، وركب فرساً أشقر أعلى ما يكون من الخيل ، وأخذ بيده رمحاً طويلاً ، فبرز إلى العباس بن علي عليه‌السلام فالتفت العباس فرآه وهو طالب له يرعد ويبرق ، فعلم أنّه فارس القوم ، فثبت له حتى إذا قاربه صاح به المارد :

يا غلام!!! ارحم نفسك واغمد حسامك وأظهر للناس استسلامك ، فالسلامة أولى من الندامة ، فكم من طالب أمر حيل بينه وبين ما طلبه وغافصه أجله ، واعلم أنّه لم يحاربك في هذا اليوم رجل أشدّ قوة مني ، وقد نزع الله الرحمة عليك من قلبي ، وقد نصحت إن قبلت النصيحة ، ثم أنشأ يقول :

إني نصحت إن قبلت نصيحتي

حذراً عليك من الحسام القاطع

ولقد رحمتك إذ رأيتك يافعاً

ولعل مثلي لا يقاس بيافع

اعط القياد تعش بخير معيشة

أولا فدونك من عذاب واقع

قال : فلمّا سمع العباس كلامه وما أتى به من نظامه قال له : ما أراك أتيت إلّا بجميل ، ولا نطقت إلّا بتفضيل ، غير أني أرى حيلك في مناخ تذروه الرياح ، أو في الصخرة الأطمس لا بقتله الأنفس ، وكلامك كالسراب يلوح ، فاذا قصد صار أرضاً بوراً ، والذي أصلته أن استسلم اليك فذاك بعيد الوصول ، صعب الحصول ، وأنا

١١٣

ـ يا عدو الله وعدوّ رسوله ـ فمعوّد للقاء الأبطال ، والصبر على البلاء في النزال ، ومكافحة الفرسان ، وبالله المستعان ، فمن كملت هذه فيه فلا يخاف ممن برز اليه ، ويلك ؛ أليس لي اتصال برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنا غصن متصل بشجرته ، وتحفة من نور جوهره ، ومن كان من هذه الشجرة فلا يدخل تحت الذمام ، ولا يخاف من ضرب الحسام ، فأنا ابن علي لا أعجز من مبارزة الأقران ، وما أشركت بالله لمحة بصر ، ولا خالفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما أمر ، وأنا منه والورقة من الشجرة ، وعلى الأصول تثبت الفروع ، فاصرف عنك ما أملته ، فما أنا ممن يأس على الحياة ولا يجزع من الوفاة ، فخذ في الجد واصرف عنك الهزل ، فكم من صبي صغير خير من شيخ كبير عند الله تعالى ، ثم أنشأ يقول :

صبراً على جور الزمان القاطع

ومنية ما أن لها من دافع

لا تجزعن فكل شيء هالك

حاشا لمثلي أن يكون بجازع

فلئن رماني الدهر منه بأسهم

وتفرق من بعد شمل جامع

فكم لنا من وقعة شابت لها

قمم الأصاغر من ضراب قاطع

قال : فلما سمع المارد كلام العباس وما أتى به من شعره لم يعط صبراً دون أن خفق عليه بالحملة ، وبادره بالطعنة ، وهو يظن أنّ أمره هيّن ، وقد وصل اليه ، وقد مكّنه العباس من نفسه ، حتى إذا وصل اليه السنان قبض العباس الرمح وجذبه اليه ، فكاد يقلع المارد من سرجه ، فخلّا له الرمح وردّ يده إلى سيفه ، وقد تخلله الخجل عندما ملك منه رمحه.

قال : فشرع العباس الرمح للمارد فصاح به : يا عدو الله ؛ إنّني أرجوا من الله ـ تعالى ـ أن أقتلك برمحك ، فجال المارد على العباس وقحم عليه ، فبادره العباس وطعن جواده في خاصرته ، فشبّ به الجواد فاذا المارد على الأرض ، ولم يكن لللعين طاقة على قتال العباس راجلاً ؛ لأنه كان عظيم الجثة ثقيل الخطوة ،

١١٤

فاضطربت الصفوف وتصايحت الألوف وناداه الشمر : لا بأس عليك ، ثم قال لأصحابه : ويلكم ادركوا صاحبكم قبل أن يقتل.

قال : فخرج اليه غلام له بحجرة (فرس) يقال له «الطاوية» ، فلما نظر اليه المارد فرح بها وكف خجله وصاح : يا غلام عجّل بالطاوية قبل حلول الداهية ، فأسرع بها الغلام اليه ، فكان العباس أسبق من عدو الله اليها ، فوثب وثبات مسرعات وصل بها إلى الغلام ، فطعنه بالرمح في صدره فأخرجه من ظهره ، واحتوى على الحجرة فركبها ، وعطف على عدو الله ، فلما رآه تغيّر وجهه وحار في أمره ، فأيقن بالهلاك ، ثم نادي بأعلى صوته : يا قوم أغلب على جوادي واقتل برمحي!! يالها من سبّة ومعيرة.

قال : فحمل الشمر فاتبعه سنان بن أنس وخولي بن يزيد الأصبحي وأحمد بن مالك وبشر بن سوط وجملة من الجيش فنفضوا الأعنة ، وقدموا الأسنة ، وجرّدوا السيوف ، وتصايحت الرجال ، ومالت نحو العباس ، فناداه أخوه الحسين عليه‌السلام : ما انتظارك يا أخي بعد ـ والله ـ فقد غدر القوم بك.

قال : ونظر العباس إلى سرعة الخيل ومجيئهم كالسيل فعطف عليه برمحه فناده المارد : يا بن علي عليه‌السلام رفقاً بأسيرك يكون لك شاكراً.

فقال له العباس : ويلك أبمثلي يلقى اليه الخدع والمحال. ما أصنع بأسير وقد قرب المسير.

ثم طعنه في نحره ، وذبحه من الأذن إلى الأذن ، فانجدل صريعاً يخور في دمه ، ووصلت الخيل والرجال إلى العباس فعطف عليهم ، وهو على ظهر «الطاوية» ، وكانت الخيل تزيد عن خمسمائة فارس ، فلم يكن إلّا ساعة حتى قتل منهم ثمانين رجلاً ، وأشرف الباقون على الهرب ، فعندها حمل عمر بن سعد وزحفت في أثره الأعلام ومالت اليه الخيل ، فصاح به أخوه الحسين عليه‌السلام : يا أخي استند إليّ لأدفع

١١٥

عنك وتدفع ، فجعل العباس يقاتل وهو متأخر ، وقد أدركته الخيل والرماح كآجام القصب ، وصار يضرب فيهم يميناً وشمالاً إلى أن وصل إلى أخيه الحسين عليه السلام ، فصاح به الشمر «لعنه الله» : يابن علي ؛ إن كنت قد رجّلت المارد عن «الطاوية» وقتلته فهي والله التي كانت لأخيك الحسن عليه‌السلام يوم «ساباط المدائن».

فلما وصل العباس إلى أخيه الحسين عليه‌السلام ذكر له ما قاله الشمر من خبر «الطاوية» فنظر الحسين عليه‌السلام وقال : هذه والله الطاوية التي كانت لملك الري وانه لما قتل أبي علي بن أبي طالب وهبها لأخي الحسن عليه‌السلام وصارت الطاوية تلوذ بمولانا الحسين عليه‌السلام ... (١).

الشهادة :

اتجه أبو الفضل العباس عليه‌السلام نحو المخيم بعدما ملأ القربة وهي عنده أثمن من حياته ، والتحم مع أعداء الله وأنذال البشرية التحاماً رهيباً ، فقد أحاطوا به من كلّ جانب ـ وهي أربعة آلاف ـ ليمنعوه من إيصال الماء إلى عطاشى آل النبي ، ورموه بالنبال ، فلم ترعه كثرتهم وأخذ يطرد أولئك الجماهير وحده ، ولواء الحمد يرف على رأسه ، وأشاع فيهم القتل والدمار وهو يرتجز :

لا أرهب الموت إذ الموت زقا

حتى أورى في المصاليت لقى

نفسي لسبط المصطفى الطهر وقا

إني أنا العباس أغدو بالسقا

ولا أخاف الشر يوم الملتقى

وانهزمت الجيوش من بين يديه يطاردها الفزع والرعب ، فقد ذكرّهم ببطولات أبيه فاتح خيبر ومحطم فلول الشرك ، ولم يشعر القوم أهو العباس يجدّل الأبطال أم أنّ الوصي يزأر في الميدان ، فلم تثبت له الرجال إلّا أنّ وضراً خبيثاً من الجبناء

__________________

(١) إكسير العبادات : ٣٣٥ المجلس العاشر.

١١٦

كمن له من وراء نخلة ـ وهو زيد بن الرقاد الجهني وعاونه حكيم بن الطفيل السنبسي ـ ولم يستقبله بوجهه ، فضربه على يمينه ضربة غادرة فبراها.

لقد قطع تلك اليد الكريمة التي كانت تفيض برّاً وكرماً على المحرومين والفقراء ، والتي طالما دافع بها عن حقوق المظلومين والمضطهدين.

ولم يعن بها سبع القنطرة وراح يرتجز :

والله إن قطعتمو يميني

إني أحامي أبداً عن ديني

وعن إمام صادق اليقين

نجل النبي صلّى الله عليه وآله الطاهر الأمين

ودلل بهذا الرجز على الأهداف العظيمة والمثل الكريمة التي جاهد من أجلها ، فهو إنّما يجاهد دفاعاً عن الاسلام ودفاعاً عن إمام المسلمين وسيد شباب أهل الجنة.

ولم يبعد العباس قليلاً حتى كمن له من وراء نخلة رجس من أرجاس البشرية ، وهو الحكيم بن الطفيل الطائي ، فضربه على يساره فبراها فقال عليه‌السلام :

يا نفس لا تخشي من الكفار

وأبشري برحمة الجبار

مع النبي السيد المختار

قد قطعوا ببغيهم يساري

فأصلهم يا ربّ حرّ النار

فحمل القربة بأسنانه وجعل يركض ليوصل الماء إلى عطاشى أهل البيت عليهم‌السلام.

قال القاضي أبو حنيفة النعمان المتوفى سنة (٣٦٣) : وقطعوا يديه ورجليه حنقاً عليه ولما أبلى فيهم وقتل منهم فلذلك سمي السقاء (١).

ولربما كان قطع رجلي العباس عليه‌السلام ليمنعوه عن إيصال الماء ؛ لأنه عليه‌السلام ترك فرسه وسارع يركض برجليه ، إضافة إلى حنقهم لعنهم الله.

فعند ذلك أمنوا سطوته وتكاثروا عليه ، وأتته السهام كالمطر ، فأصاب القربة

__________________

(١) شرح الاخبار ٣ / ١٩٣ في ذكر من قتل مع الحسين عليه‌السلام.

١١٧

سهم وأريق ماؤها ، وسهم أصاب صدره ، وسهم أصاب عينه ، ووقف البطل حزيناً ، فقد كان إراقة الماء عنده أشدّ عليه من قطع يديه ، وشدّ عليه رجس خبيث وضربه بعمود من حديد على رأسه الشريف ففلق هامته.

وهوى بجنب العلقمي فليته

للشاربين به يداف العلقم

وهوى إلى الأرض (١) وهو يؤدي تحيته ووداعه الأخير إلى أخيه قائلاً : «عليك مني السلام أبا عبد الله ...».

فانقض عليه أبو عبد الله كالصقر فرآه مقطوع اليمين واليسار ، مرضوخ الجبين ، مشكوك العين بسهم ، مرتثاً بالجراحة ، فوقف علهي منحنياً ، وجلس عند رأسه يبكي ، وهو يلفظ شظاياً قلبه الذي مزقته الكوارث ، وقال : «الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي وشمت بي عدوي».

وأنشأ يقول :

تعديتم يا شرّ قوم ببغيكم

وخالفتموا دين النبي صلّى الله عليه وآله محمّد

أما كان خير الرسل أوصاكم بنا

أما نحن من نسل النبي المسدد

أما كانت الزهراء امي ويلكم

أما كان من خير البرية والدي

لعنتم وأخزيتم بما قد جنيتم

فسوف تلاقوا حرّ نار توقد

وجعل إمام الهدى يطيل النظر إلى أخيه وقد انهارت قواه ، وانهد ركنه ، وتبددت جميع آماله ، وودّ أنّ الموت قد وافاه قبله :

__________________

(١) قال السيد المقرم رحمه‌الله في هامش كتابه مقتل الحسين عليه‌السلام ٢٦٨ : وسمعت العالم الفاضل الشيخ كاظم سبتي رحمه‌الله يقول : أتاني بعض العلماء الثقات وقال : أنا رسول العباس عليه‌السلام اليك رأيته في المنام يعتب عليك ويقول : لم يذكر مصيبتي شيخ كاظم سبتي فقلت له : يا سيدي ما زلت اسمعه يذكر مصائبك فقال عليه‌السلام قل له : يذكر هذه المصيبة وهي : ان الفارس اذا سقط من فرسه يتلقى الارض بيديه فاذا كانت السهام في صدره ويداه مقطوعتان بماذا يتلقى الارض؟!

١١٨

وبان الانكسار في جبينه

فاندكت الجبال من حنينه

وكيف لا وهو جمال بهجته

وفي محياه سرور مهجته

كافل أهله وساقي صبيته

وحامل اللوا بعالي همته (١)

ورجع الحسين عليه‌السلام إلى المخيم وحده :

وفي الدمعة الساكبة : إنّ من كثرة الجراحات الواردة على العباس عليه‌السلام لم يقدر الحسين عليه‌السلام أن يحمله إلى محمل الشهداء ، فترك جسده في محل قتله ورجع باكياً حزيناً إلى الخيام (٢).

قال السيد المقرم رحمه‌الله في مقتل الحسين عليه‌السلام (٣) : وتركه في مكانه لسر مكنون أظهرته الأيام ، وهو أن يدفن في موضعه منحازاً عن الشهداء ؛ ليكون له مشهد يقصد بالحوائج والزيارات ، وبقعة يزدلف اليها الناس وتتزلف إلى المولى سبحانه تحت قبته التي ضاهت السماء رفعة وسناء ، فتظهر هنالك الكرامات الباهرة ، وتعرف الأمة مكانته السامية ومنزلته عند الله تعالى ، فتؤدي ما وجب عليهم من الحب المتأكد ، والزيارات المتواصلة ، ويكون عليه‌السلام حلقة الوصل فيما بينهم وبين الله ـ تعالى ـ فشاء حجة الوقت أبو عبد الله كما شاء المهيمن ـ سبحانه ـ أن تكون منزلة أبي الفضل الظاهرية شبيهة بالمنزلة المعنوية الأخروية ، فكان كما شاءا وأحبا.

ثم قام الحسين عليه‌السلام وحمل على القوم ، فجعل يضرب فيهم يميناً وشمالاً فيفرون من بين يديه كما تفرّ المعزى إذا شدّ فيها الذئب ، وهو يقول : أين تفرون وقد قتلتم أخي؟! أين تفرون وقد فتتم عضدي؟! ثم عاد إلى موقفه منفرداً (٤).

__________________

(١) من ارجوزة آية الله الشيخ محمد حسين الاصفهاني قدس‌سره.

(٢) الدمعة الساكبة ٤ / ٣٢٤.

(٣) مقتل الحسين : ٢٧٠.

(٤) إبصار العين : ٣٠.

١١٩

ورجع الحسين إلى المخيم منكسراً حزيناً باكياً يكفكف دموعه بكمه ، وقد تدافعت الرجال على مخيمه ، فنادى :

أما من مغيث يغيثنا؟!

أما من مجير يجيرنا؟!

أما من طالب حق ينصرنا؟

أما من خائف من النار فيذب عنا؟

فأتته سكينة وسألته عن عمها فأخبرها بقتله.

وسمعته زينب فصاحت : وا أخاه وا عباساه وا ضيعتنا بعدك!

وبكين النسوة وبكى الحسين معهن وقال عليه‌السلام : وا ضيعتنا بعدك.

فمشى لمصرعه الحسين وطرفه

بين الخيام وبينه متقسم

الفاه محجوب الجمال كأنه

بدر بمنحطم الوشيج ملثم

فأكب منحنياً عليه ودمعه

صبغ البسيط كأنّما هو عندم

قد رأم يلثمه فلم ير موضعاً

لم يدمه عض السلاح فيلثم

نادى وقد ملأ البوادي صيحة

صم الصخور لهولها يتألم

أأخي يهنيك النعيم ولم أخل

ترضى بأن أرزى وأنت منعم

أأخي من يحمي بنات محمد

إذ صرن يسترحمن من لا يرحم

ما خلت بعدك أن تشل سواعدي

وتكف باصرتي وظهري يقصم

لسواك يلطم بالأكف وهذه

بيض الظبى لك في جبيني تلطم

ما بين مصرعك الفظيع ومصرعي

إلا كما أدعوك قبل وتنعم

هذا حسامك من يذل به العداء

ولواك هذا من به يتقدم

هونت يا ابن أبي مصارع فتيتي

والجرح يسكنه الذي هو آلم

١٢٠