شرح الرضيّ على الكافية - ج ٣

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٧٨

بلزوم الإضافة ؛ وإنما لم يحذف أحد جزأي الفعلية لأن التصاق الجزأين فيها أشدّ ، وإنما حذف المبتدأ إذا كان ضمير الموصول لأنه بالنظر إلى الموصول كالاسم المكرر ؛ (١)

فإذا (٢) حذف المبتدأ صار (٣) مبنيا كأخواته الموصولة ، وذلك أن شيئا إذا فارق أخواته لعارض ، فهو شديد النزوع إليها ، فبأدنى سبب يرجع إليها ، وبني على الضم تشبيها بقبل وبعد ، لأنه حذف منه بعض ما يوضحه ويبيّنه أعني الصلة ، لأنها المبيّنة للموصول ، كما مرّ ، كما حذف من قبل ، وبعد ، المضاف إليه المبيّن للمضاف ؛

هذا هو مذهب سيبويه ، وهو الأكثر ، أعني كونه مبنيا على الضم عند حذف المبتدأ ، قال سيبويه : (٤) والإعراب مع حذف الصدر لغة جيدة ، وجاءني في الشواذ : (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا)(٥) ، بنصب «أيّهم» وذلك لأنه لم تحذف الصلة بكمالها ، بل حذف أحد جزأيها ، وقد بقي ما هو معتمد الفائدة ، أي الخبر ،

قال الجرمي (٦) : خرجت من خندق الكوفة حتى أتيت مكة ، فلم أسمع أحدا يقول في نحو : اضرب أيهم أفضل ، إلا منصوبا ؛

وإن لم تضف مع حذف المبتدأ ، نحو : أكرم أيّا أفضل ، فكلام العرب : الإعراب ، وأجاز بعضهم البناء قياسا لا سماعا ، فتقول : أكرم أيّ أفضل : مضموما بلا تنوين ،

والخليل ويونس (٧) ، يقولان : اضرب أيّ أفضل مرفوعا ، إمّا على الحكاية أو التعليق،

__________________

(١) في النسخة المطبوعة جاءت عبارة : على الولاء بمعنى ، بعد قوله كالاسم المكرر ولا معنى لها ، وهي غير موجودة في بعض نسخ هذا الشرح ، فحذفتها ؛

(٢) رجوع إلى الحديث عن أيّ ،

(٣) أي لفظ أيّ ؛

(٤) سيبويه ١ / ٣٩٧

(٥) الآية ٦٩ سورة مريم

(٦) أبو عمر ، صالح بن إسحاق الجرمي ممن تكرر ذكرهم في هذا الشرح ،

(٧) الخليل بن أحمد ، ويونس بن حبيب من متقدمي النحاة وكلاهما شيخ لسيبويه ، وتقدم ذكر كل منهما في الجزأين السابقين ؛

٦١

كما يجيئ من مذهبيهما ؛

قال سيبويه (١) : لا يرفع نحو : اضرب أيّا أفضل ، ولا يبنى ، أيضا ، على الضم قياسا على : اضرب أيهم أفضل ، لأن ذلك مخالف للقياس ، ولم يسمع من العرب إلا : أيّا أفضل ، منصوبا ، ولو قالوا لقلنا ، أي لو رفعوا ، أو ضموا ، لاتبعناهم ؛

قال الجزولي (٢) : إعرابه مع حذف المضاف إليه ، دليل على أنه كان مع المضاف إليه أيضا معربا ، لأنّ حذف المضاف إليه يرجح جانب الحرفية كما في : قبل وبعد ؛

وذهب الكوفيون والخليل إلى أن نحو : أيهم ، في مثل هذا الموضع (٣) ، معربة مرفوعة ، على أن ما بعدها خبر ، وهي استفهامية لا موصولة ، قالوا : وهي في الآية مبتدأ ، خبره : أشدّ ، ومن كل شيعة : معمول لننزعنّ ، كما تقول : أكلت من كل طعام ، قال تعالى : (وأوتِيَتْ من كل شيء) (٤) ، فتكون «من» للتبعيض ، والكلام محكيّ ، أعني أن «أيهم أشد» صفة شيعة ، على إضمار القول ، أي كل شيعة مقول فيهم : أيّهم أشد ، كقوله :

جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط (٥) ـ ٩٤

قال الخليل : وأيهم ، على هذا ، استفهامية ، نحو قولهم : اضرب أيّهم أفضل ، أي اضرب الذي يقال له (٦) : أيهم أفضل ، كما قال الأخطل :

٤٣١ ـ ولقد أبيت من الفتاة بمنزل

فأبيت لا حرج ولا محروم (٧)

أي : أبيت مقولا فيّ : لا حرج ولا محروم ، أي هو لا حرج ولا محروم.

__________________

(١) في سيبويه ج ١ ص ٣٩٧ وما بعدها ،

(٢) تقدم ذكره ،

(٣) يعني فيما إذا أضيفت وذكر صدر صلتها ،

(٤) الآية ٢٣ سورة النمل ،

(٥) تقدم الحديث عن هذا الشاهد ، وقد أصبح عند النحاة عنوانا على أن الكلام من باب إضمار القول ؛

(٦) أي الذي يقال في شأنه ، وذلك من معاني اللام بعد القول ، كما سيأتي في معاني حروف الجر ،

(٧) من شعر الاخطل ، وأورده سيبويه ١ / ٢٥٩ وقال إن الخليل فسّره بأن المعنى : فأبيت بمنزلة الذي يقال له أي يقال في شأنه : لا حرج ولا محروم ، وهو قريب من توجيه الشارح الرضى ،

٦٢

قال سيبويه (١) : لو جاز : اضرب أيّهم أفضل على الحكاية ، لجاز : اضرب الفاسق الخبيث ، أي : اضرب الذي يقال له : الفاسق الخبيث ، بلى ، مثل ذلك يجيئ في ضرورة الشعر ، لا في سعة الكلام ؛

ومذهب يونس في مثله أن الفعل الذي قبل «أيّ» معلق عن العمل ، ويجيز التعليق في غير أفعال القلوب ، أيضا ، نحو : اضرب أو اقتل : أيهم أفضل ؛ كما يجيء ، في باب أفعال القلوب ؛

وليس بشيء ؛ لأن المعلّق يجب كونه في صدر جملة ، والمنصوب بنحو : اضرب ، واقتل ، لا يكون جملة ، والمعلّق امّا استفهام أو نفي أو لام الابتداء ، و «أي» بعد : اضرب ، واقتل ، لا تكون استفهامية ، إذ لا معنى لها إلا على وجه الحكاية ، كما قال الخليل ، بل هي موصولة بعده ؛

وقال الأخفش في الآية : «من» فيها زائدة ، كما هو مذهبه من زيادة «من» في الموجب ،. وكل شيعة مفعول لتنزعنّ ، وأيهم أشد ، جملة مستأنفة ، لا تعلق لها بالفعل ، وقال المبرد : أيّهم فاعل «شيعة». أي : لننزعن من كل فريق يشيع أيهم هو أشد ، وأي بمعنى الذي ،

وعند أبي عمرو (٢) : أيّة (٣) إذا حذف منها ما تضاف إليه منعت الصرف ، نحو : اضرب أيّة لقيتها ، قال : لتعرفها بالصلة ، والتأنيث ، فزاد على مذهبه في التعريف المانع من الصرف : تعريف الموصولات ، واعتدّ بتاء التأنيث بلا علميّة ؛ وغيره يصرفها وهو القياس ؛

__________________

(١) سيبويه ١ / ٣٩٨

(٢) أبو عمرو بن العلاء من متقدمي النحاة وأحد القراء السبعة ، وتكرر ذكره في هذا الشرح ،

(٣) التأنيث في لفظ أيّة قليل وتقدم ذلك ؛

٦٣

[ماذا]

[إعرابها وأوجه استعمالها]

[قال ابن الحاجب :]

«وفي : ماذا صنعت ، وجهان : أحدهما : ما الذي ، وجوابه»

«رفع ، والآخر : أيّ شيء؟ ، وجوابه نصب» ؛

[قال الرضى :]

اعلم أن «ذا» ، لا تجيئ موصولة ، ولا زائدة ، إلا مع «ما» و «من» الاستفهاميتين ؛ والأولى في : «ماذا» ، هو و : «من ذا خير منك (١)» : الزيادة ، ويجوز ، على بعد ، أن تكون بمعنى الذي ، أي : ما الذي هو خير منك ، على حذف المبتدأ ، نحو : ما أنا بالذي قائل ، وأمّا قولك : من ذا قائما ، فذا ، فيه : اسم الإشارة لا غير ؛ ويحتمل في : (من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً) (٢) ، و : ما ذا الذي ... أن تكون زائدة ، وأن تكون اسم إشارة ، كما في قوله تعالى : (أَمَّن هذا الذي هو جند لكم) (٣) ؛ وهاء التنبيه تدخل على اسم الاشارة فيقال : ما هذا الذي تقول :

وقد جاءت «ذا» زائدة بعد «ما» الموصولة ، قال :

__________________

(١) قوله : خير منك ، راجع إلى كل من : ماذا ، ومن ذا ؛

(٢) من الآية ٢٤٥ سورة البقرة ،

(٣) من الآية ٢٠ سورة الملك ،

٦٤

٤٣٢ ـ دعي ما ذا علمت ، سأتقيه

ولكن بالمغيّب نبئيني (١)

ولقائل أن يمنع مجيئ «ذا» موصولة مطلقا ، ويحكم في نحو : ماذا صنعت بزيادتها ؛ وأمّا رفع الجواب في نحو قوله تعالى : (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) (٢) ، ورفع البدل في قوله :

٤٣٣ ـ ألا تسألان المرء ما ذا يحاول

أنحب فيقضي أم ضلال وباطل (٣)

فلأن «ما» مبتدأ ، والفعل بعد «ذا» المزيدة خبره ، على تقدير حذف الضمير من الجملة التي هي خبر «ما» ؛

والذي حملهم على ادّعاء كون «ذا» ههنا موصولة : رفع الجواب والبدل ، في الفصيح المشهور ، ولو جاز أن يدّعى في الجواب أنه غير مطابق للسؤال ، وأن ذلك يجوز وإن لم يكن كثيرا ، لم يجز دعوى عدم التطابق بين البدل والمبدل منه ، فوجب أن يكون «ماذا يحاول» جملة اسمية ، خبر المبتدأ فيها جملة فعلية ؛ وأمّا ما ذكر من حذف الضمير في خبر المبتدأ فقليل نادر ؛ كما تقدم في باب المبتدأ ، وتجرّد (٤) الجملة الخبرية في نحو : ماذا يحاول ، كثير غالب ، فعرفنا أن الجملة صلة ، لذا ، لا خبر ، لما ، لأن حذف الضمير من الصلة كثير ، وهو أكثر من حذفه من الصفة ، وحذفه من الصفة أكثر من حذفه من الخبر ، كما مرّ في المبتدأ ؛

وإنما قلّ إظهار الضمير المنصوب في الجملة التي بعد «ذا» من بين الموصولات للزومها لما الاستفهاميّة ، أو من ، لأن «ذا» لا تكون موصولة ، إلا وقبلها احداهما ، فكان التثاقل

__________________

(١) أورده سيبويه في ج ١ ص ٤٠٥ ، وقال : سمعناه من العرب الذين يوثق بهم ، وقال البغدادي إنه من الأبيات الخمسين التي أوردها سيبويه ولم يعرف لها قائل معيّن ، ثم شنع على العيني في نسبة البيت إلى المثقب العبدي لأن البيت يتفق في الوزن والقافية مع قصيدة مشهورة للمثقب ،

(٢) الآية ٢١٩ سورة البقرة ،

(٣) مطلع قصيدة جيدة قالها لبيد بن ربيعة العامري ، ومنها عدد من الشواهد في هذا الشرح وفي غيره من كتب النحو.

(٤) أي تجردها عن الضمير في مثل هذا ،

٦٥

الحاصل باتصال الصلة بالموصول أكثر ، فكان التخفيف بحذف الضمير الذي هو فضلة : أولى ، وهذا كما جاز حذف المبتدأ في صلة «أيهم» في السّعة دون صلة غيرها ، وذلك لتثاقلها بالمضاف إليه كما ذكرنا ؛

وإنما كان الجواب أو البدل مرفوعا إذا كان «ذا» موصولا ، لأن «ماذا» إذن ، جملة ابتدائية : ذا مبتدأ وخبره «ما» ، مقدّم عليه لكونه نكرة ، وعند سيبويه : «ما» مبتدأ ، مع تنكيره ، وذا خبره ، على ما مرّ في باب المبتدأ ، والأولى في الجواب : مطابقة السؤال ؛ فرفع الاسم على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وذلك المبتدأ ضمير راجع إلى «ذا» الموصولة ؛

فقوله تعالى : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ليس بجواب لقوله للكفار : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ)(١) ، إذ لو كان جوابا له ، لكان المعنى : «هو أساطير الأولين» ، أي : الذي أنزله ربنا : أساطير الأوّلين ، والكفار لا يقرّون بالإنزال ، فهو ، إذن ، كلام مستأنف ، أي : ليس ما تدّعون إنزاله منزلا ، بل هو أساطير الأولين ؛

وإذا كانت «ذا» مزيدة ، فما ، منصوبة المحل ، مفعولا للفعل المتأخر فالسؤال ، إذن جملة فعلية ، فكون الجواب جملة فعلية ، أولى ، للتطابق ، فينصب الاسم على إضمار مثل الفعل الذي انتصب به «ما» في السؤال ، فحذف لدلالة السؤال عليه ، فقوله تعالى : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً)(٢) ، أي : أنزل خيرا ، وإنما لزم ههنا (٣) النصب ليكون مخالفا لجواب الكفار ، لأن النصب تصريح بكون «أنزل» مقدرا ، والرفع يحتمل استئناف الكلام ، كما ذكرنا في : «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» ، ويحتمل تقدير الموصول المذكور في السؤال مبتدأ ، كما في قوله تعالى : (قُلِ الْعَفْوَ)(٤) ،

__________________

(١) الآية ٢٤ سورة النحل ،

(٢) من الآية ٣٠ سورة النحل أيضا ،

(٣) أي في الحديث عن الذين آمنوا ،

(٤) الآية ٢١٩ سورة البقرة ، وتقدمت ،

٦٦

وإن اشتغل الفعل بعد «ماذا» بضمير منصوب ، نحو : ماذا تفعله ، أو ، بمتعلقه ، نحو : ماذا تقضي حقه ، فكون «ما» مبتدأ ، أولى ، وإن جعلت «ذا» زائدة ، أيضا ، لأن الرفع في : زيد لقيته ، أولى من النصب ، كما مرّ في : المنصوب على شريطة التفسير ؛ فرفع الجواب ، إذن ، أولى ، كانت «ذا» موصولة ، أو زائدة ؛

وأمّا في نحو : ماذا قيل ، وما ذا عرض ، وقوله تعالى : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا)(١) ، و : (ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ)(٢) ، مما ليس فيه بعد «ذا» فعل ناصب لما قبله ، ولا مشتغل عنه بضميره ، أو متعلقه ، فالجملة ابتدائية ، جعلت «ذا» زائدة ، أو موصولة ، فرفع البدل ، إذن ، واجب ، ورفع الجواب مختار ، على كل حال ؛

وقول الشاعر :

٤٣٤ ـ وما ذا عسى الواشون أن يتحدثوا

سوى أن يقولوا إنني لك عاشق (٣)

فقيل «ذا» فيه ، زائدة لا موصولة ، إذ الصلة لا تكون إلا خبرية ، و : «عسى» ليس بخبر ؛ وهذا يلزمهم في خبر المبتدأ ، أيضا ،

فإن قيل : خبر المبتدأ قد جاء طلبية ، كقوله تعالى : (بل أنتم لا مرحباً بكم) (٤) و : زيد اضربه ؛

قيل : الصلة ، أيضا ، جاءت «لعلّ» مع جزأيها ، كقوله :

وإني لراج نظرة قبل التي

لعلّي، وإن شطت نواها، أزورها (٥) ـ ٤٠٣

__________________

(١) الآية ٣٩ سورة النساء ،

(٢) الآية ٤ سورة المائدة ؛

(٣) قيل إنه لجميل بن معمر العذري صاحب بثينة ، وأورده أبو تمام في الحماسة وأورد بعده قوله :

نعم صدق الواشون ، أنت كريمة

علينا ، وإن لم تصف منك الخلائق

قال البغدادي : ونسبه صاحب الأغاني إلى مجنون ليلى : قيس بن الملوّح ، وذكر معه أبياتا أخرى ،

(٤) الآية ٦٠ سورة ص ،

(٥) تقدم هذا الشاهد في أول باب الموصول ،

٦٧

وعسى ، ولعل ، متقاربان ، فإن قدّر القول ههنا ، جاز للمنازع أن يقدّره ، أيضا ، في خبر المبتدأ ، ولا يجوز أن يكون «ماذا» مفعول : أن يتحدثوا ، لكون «أن» موصولة (١) فالتقدير : أن يتحدثوا به ؛

[تكملة]

[في ذكر أحكام للموصول تركها المصنف]

ولا بأس أن نذكر بعض ما أهمله المصنف من أحكام الموصول ، وأحكام من ، وما ، وأيّ ، في الاستفهام ، وما يناسبها ، فنقول :

الموصول والصلة كجزأي اسم ، وقد ثبت للموصول التقدم لكون الصلة مبيّنة له ، فيجب للصلة التأخر ، فلا تتقدم الصلة ، ولا جزء منها على الموصول ، ولا تعمل الصلة ، ولا ما يتعلق بها ، فيما قبل الموصول ، لأن ذلك المعمول ، إذن ، جزؤها ، وقد تقرّر أن جزءا منها لا يتقدم على الموصول ؛

ولا تتعلق الصلة بما قبل الموصول بأن تكون مصدّرة ببل ، أو لكن ، أو علامة جواب القسم ، ونحو ذلك مما له تعلق بما قبل الموصول ، لأن ذلك المتعلّق به المتقدم ، إذن ، جزء الصلة ؛

ولا يفصل بين الموصول والصلة ، ولا بين بعض الصلة وبعض بتابع للموصول ، كالوصف ، والبدل ، والعطفين ، والتأكيد ، ولا بخبر عن الموصول (٢) ولا باستثناء منه ، إذ هذه الأشياء لا تجيئ إلا بعد تمام الكلمة ؛

__________________

(١) يعني موصولا حرفيا ، ولا يتقدم معمول الصلة على الموصول حرفيا كان أو اسميا ؛

(٢) في النسخة المطبوعة اضطراب في هذا الموضع ، أمكن بفضل الله ازالته حتى استقام المعنى ؛

٦٨

وقد جاء ، في الشعر ، موصول معطوف على آخر قبل الصلة ، وما بعدهما : إمّا صلة لهما معا ، أو صلة للأخير وصلة الأول محذوفة مدلول عليها بالظاهرة كما يجيئ بعد ، من جواز حذف الصلة عند قيام الدليل ، وذلك نحو قوله :

٤٣٥ ـ من اللواتي والتي واللاتي

زعمن أن قد كبرت لداتي (١)

وقد يفصل بين الموصول والصلة بمعمول الصلة ، نحو : الذي إيّاه ضربت ، لأن الفصل ليس بأجنبيّ منهما ، ولا يجوز مثله إذا كان الموصول حرفا ، فلا يقال : أعجبني أن زيدا ضربت ، لأن الحروف الموصولة حروف مصدرية ، هي والجملة بعدها بتأويل المصدر ، فيطلب قربها من متضمّن المصدر ، وكذا في الألف واللام الموصولة ، إذ لا تدخل إلا على فعل في صورة اسم الفاعل أو المفعول كما مرّ ، فيكون هو وما دخل عليه ، كاللام الحرفية مع ما دخلت عليه ، لا يفصل بينهما ؛

وكذا يجوز الفصل بين بعض الصلة وبعض بالعطف على الجملة التي هي صلة ، كما تقول في باب التنازع معملا للأول : الذي ضربت وضربوني غلمانه : زيد ، إذ ليس الفصل بأجنبي من الصلة ؛

وكذا يتقدم بعض الصلة على بعض ، كما تقول : جاءني الذي قائم أبوه ، والذي ضرب زيدا أخوه ، والذي زيدا ضرب أبوه ، إذ لا مانع منه ؛

فإن قيل : أليس كما أن الموصول والصلة كجزأي اسم : بعض الصلة والبعض الآخر كالجزأين ، فكان ينبغي ألّا يتقدم بعضها على بعض ، كما لا تتقدم الصلة على الموصول ، قلت : بلى ، هما أيضا كالجزأين ، إلا أنهما كجزأين لا يجب ترتيب أحدهما على الآخر ، بل كجزأين يجوز تعقب كل منهما للآخر ، بخلاف الصلة والموصول فإن تعقب الجزء الذي هو الصلة واجب لكونها مبيّنة للموصول كما مرّ ،

__________________

(١) هذا البيت مجهول القائل ، ووجه الاستشهاد به واضح ؛

٦٩

فتبيّن بهذا فساد قول من قال : إن خبر «ما دام» لا يتقدم على اسمه ؛ (١)

ويجوز قليلا حذف صلة الموصول الاسمي غير الألف واللام ، إذا علمت ، قال :

٤٣٦ ـ فإن أدع اللواتي من أناس

أضاعوهنّ لا أدع الّذينا (٢)

وقد التزم حذفها مع : اللّتيا معطوفا عليها : التي ، إذا قصد بهما الدواهي ليقيد حذفها أن الداهيتين : الصغيرة والكبيرة ، وصلتا إلى حدّ من العظم لا يمكن شرحه ، ولا يدخل في حيّز البيان ، فلذلك تركتا على ابهامهما بغير صلة مبيّنة ؛ ويجوز كون تصغير : اللتيّا للتعظيم ، كما في قوله :

٤٣٧ ـ وكل أناس سوف تدخل بينهم

دويهية تصفرّ منها الأنامل (٣)

وأجاز الكوفيون حذف غير الألف واللام من الموصولات الاسمية خلافا للبصريين ؛ قالوا في قوله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ)(٤) ، أي إلا من له مقام معلوم ، ونحوه قول المتنبي :

٤٣٨ ـ بئس الليالي سهرت من طربي

شوقا إلى من يبيت يرقدها (٥)

__________________

(١) يأتي بسط الكلام على هذا ، وذكر الخلاف فيه في باب الأفعال الناقصة من قسم الأفعال ، إن شاء الله تعالى ،

(٢) هذا من قصيدة الكميت بن زيد التي هجا فيها قبائل اليمن وتقدم منها الشاهد رقم ١٦ في الجزء الأول ، وهو :

فلا أعني بذلك أسفليكم

ولكني أريد به الذوينا

ومعنى بيت الشاهد : إن كنت أترك النساء اللاتي أضاعهنّ رجالهن فلم يحموهن ولا أهجوهنّ ، فإني لا أترك الرجال الذين أضاعوا نساءهم ،

(٣) من قصيدة لبيد بن ربيعة التي تقدم صدرها قريبا ، وهو :

ألا تسألان المرء ما ذا يحاول

أنحب فيقضي أم ضلال وباطل

(٤) الآية ١٦٤ سورة الصافات ،

(٥) من قصيدة للمتنبي ، أولها :

أهلا بدار سباك أغيدها

أبعد ما بان عنك خرّدها

يقول فيها : يا حاديي عيسها وأحسبني

أوجد ميتا قبيل أفقدها

قفا قليلا بها عليّ ، فلا

أقلّ من نظرة أزوّدها

والرضى يورد كثيرا من شعر المتنبي ومن في منزلته من الشعراء وتقدمت الإشارة إلى ذلك.

٧٠

ويجوز أن يكون من هذا :

لعمري لأنت البيت أكرم أهله

وأقعد في أفيائه بالأصائل (١) ـ ٤٠٦

ولا وجه لمنع البصريين من ذلك ، من حيث القياس ، إذ قد يحذف بعض حروف الكلمة ، وإن كانت فاء ، أو عينا ، كشية ، وسه ، وليس الموصول بألزق منهما (٢) ؛

ولا يحذف من الموصولات الحرفية إلا «أن» في المواضع المخصوصة (٣) ، كما يجيئ في الأفعال المنصوبة ، وذلك لقوة الدلالة عليها ، وكون الحروف التي قبلها كالنائبة عنها ؛

[الحكاية]

[بمن ، وما ، وأيّ]

وأمّا أحكام من ، وما ، وأيّ في الإستفهام فنقول :

إذا استفهمت بمن عن مذكور منكور عاقل ، ووقفت على «من» جاز لك حكاية اعراب ذلك المذكور ، وحكاية علامات تثنيته وجمعه وتأنيثه في لفظ «من» ، تقول : منو ، إذا قيل : جاءني رجل ، ومنا ، إذا قيل : رأيت رجلا ، ومني ، إذا قيل مررت برجل ؛ ومنان ومنين ، إذا قيل جاءني رجلان ، ورأيت رجلين ومررت برجلين ، ومنون ، إذا قيل : جاءني مسلمون ، أو رجال ، أو قوم ؛ وفي النصب والجر : منين ؛ ومنة ، إذا قيل جاءتني ضاربة أو طالق ، وكذا في النصب والجر ، لا يختلف ، ومنتان إذا قيل : جاءتني ضاربتان أو طالقان ، وفي النصب والجر : منتين ؛ ومنات إذا قيل : جاءتني مسلمات أو ضوارب ، وكذا في النصب والجر ، لا يختلف ؛

أمّا اشتراط الاستفهام عن المذكور في الحكاية ، فلأن حكاية هذه العلامات لا بدّ

__________________

(١) لأبي ذؤيب الهذلي ، وتقدم في أول باب الموصول ؛

(٢) أي أشد التصاقا ، واللزق بالزاي بمعنى اللصق بالصاد ،

(٣) وهي المواضع التي تضمر فيها وجوبا أو جوازا قبل المضارع المقترن بحروف معينة كما سيأتي ،

٧١

فيها من محكيّ مذكور قبل الحكاية ثبتت فيه تلك العلامات حتى تحكى ،

وغرضهم في الحكاية أن يتيقّن المخاطب أن المسئول عنه هو ما ذكره بعينه لا غيره حتى يكون نصا ؛ وإنما اشترط في لحاق العلامات المذكورة «بمن» كونها سؤالا عن نكرة ، لأن المعارف إذا استفهم بها عنها ، ذكرت في الأغلب إمّا محكية أو غير محكية ، كما يجيئ ، لأن الاستفهام عن المعارف ليس في الكثرة مثل الاستفهام عن النكرات ، فلم يطلب التخفيف بحذف المسئول عنه ، ولو كررت أيضا ، النكرات لم يجز حكايتها إلا بعد «من» ؛ لأن النكرة ، إذا كررت ، فلا بدّ في الثانية من لام العهد ، ليعرف أن المذكورة ثانيا هي المذكورة أوّلا ، تقول : من الرجل؟ لمن قال : جاءني رجل [فأكرمت الرجل](١) ، ومع زيادة اللام عليها لم تمكن الحكاية ، لأن الحكاية ذكر اللفظ المذكور بعينه بلا زيادة ولا نقصان ، فلما لم يمكن حكايتها ، فإن لم تقصد الحكاية قلت : من الرجل؟ ، أو من هو؟ أو : من ذلك ؛ وإن قصدتها ، وهو الكثير ، حذفت النكرة وأثبتّ العلامات في لفظ «من» وسهل حذفها قصد التخفيف ، لأن الاستفهام عن النكرة أكثر من الاستفهام عن المعرفة ، فلذا كان حذفها بعد «من» أكثر من اثباتها ، ومع الحذف فالحكاية في «من» أولي ، لأجل التنصيص من أوّل الأمر على أن المستفهم عنه هو النكرة المذكورة ، لأنك إذا لم تحك في لفظ «من» فربّما توهم السامع أن المستفهم عنه تورده بعدها ؛ (٢)

وأمّا اشتراط العقل في هذه الحكاية ، فظاهر ، لأن «من» للعقلاء وأمّا اشتراط الوقف على «من» ، ولم يشترط ذلك في «أيّ» بل تقول فيها : أيّ يا فتى ، وأيّا يا فتى ، وبأيّ يا فتى ، كما يجيئ ؛ فلأن «من» مبنيّة مستنكر عليها الإعراب ، فلما قصدوا تبعيدها عن الإعراب أثبتوا حكاية الإعراب عليها في حالة لا يكون فيها على المفرد المذكر

__________________

(١) جملة : فأكرمت الرجل ، زيادة لا بد منها ليتم التمثيل لما قال ، وكأنها ساقطة من الطبع في النسخة التي نقلت عنها.

(٢) أي يتوهم أن المستفهم عنه شيء آخر سيذكر بعد كلمة الاستفهام المتأخرة ،

٧٢

في الأغلب ، وهو أصل المثنى والمجموع [والمؤنث] ، اعراب (١) ولا تنوين ، وهي حالة الوقف لأن الكلمة تتجرد فيها عن الرفع والجر والتنوين ؛ وأمّا «أيّ» فإنها كانت معربة ، فلم يستنكر عليها حكاية الإعراب ، لا وصلا ولا وقفا ؛

وإنما زادوا في المفرد المذكر : الواو والألف والياء بدل الحركات ، لأنهم لو حكوا حركات المنكّر كما هي ، لكانت الكلمة في حالة الوقف محركة بصورة الرفع والجر ، وهذا خلاف عادة الوقف ، فابدلوا من الحركات حروفا تشبهها ساكنة ، وجاءوا قبلها بحركات تناسبها ؛

هذا مذهب المبرد ، وقال السيرافي : بل أثبتوا فيها الحركات لحكاية الإعراب ، كما في «أيّ» ثم لما كان الحال حال الوقف ، وآخر الموقوف عليه ساكن ، أشبعوا الحركات فتولدت الحروف ؛ وكلا القولين ممكن ؛

ولم يمكن إثبات حروف المد الدالة على الإعراب في «منة» إذ هاء التأنيث لا تكون في الوقف إلا ساكنة ، فاكتفوا بحكاية التأنيث ، وتركوا حكاية الإعراب ، وكان هذا أولى من العكس ، لأن الإعراب فرع الذات ، فإذا امتنع اجتماع مراعاة الفرع ومراعاة الأصل ، كان حفظ الأصل أولى ؛

وأجروا «منات» في ترك حكاية إعرابها ، وإن كانت ممكنة بالإتيان بحروف المد ، مجرى مسلمات وهندات في الوقف ، فإنه لا يثبت فيه شيء من حركاته ، بخلاف : منو ، ومني ، ومنا ، فإنه بمنزلة نحو : زيد ، ورجل ، ويثبت فيه حال الوقف بعض الحركات مع حرف المد بعدها ، أعني الفتح ، نحو : زيدا ، فلم يستنكر في «من» الجاري مجراه ، عند قصد الحكاية إثبات الحركات والمدّات بعدها ؛

وإسكان النون في : منتان ومنتين ، تنبيه على أن التاء ليست لتأنيث الكلمة اللاحقة هي بها ، بل هي لحكاية تأنيث كلمة أخرى ، فلم يلتزموا فيما قبلها الحركة التي تلزم

__________________

(١) اسم يكون في قوله : في حالة لا يكون فيها .. الخ ؛

٧٣

ما قبل تاء التأنيث ؛ وقريب من ذلك : إسكان ما قبل التاء في : بنت ، وأخت ، وهنت ، لما لم تتمحض التاء للتأنيث بل كانت بدلا من اللام ؛ وربما سكنت النون في المفرد ، نحو : منت ، والأكثر تحريكها فيه ، لأنك لم تقدر في المفرد على حكاية الإعراب ، كما ذكرنا ، فلا أقلّ من حكاية تاء التأنيث ، كما هو حقه ؛

وأمّا في المثنى فقد حكيت الإعراب لمجيئك في الرفع بالألف ، وفي النصب والجر بالياء ، نحو : منتان ومنتين ، وقد جاء نحو منتان محرك النون التي قبل التاء ؛

هذا ، ولك في «من» الموقوف عليها ، المستفهم بها عن النكرة ، وجهان آخران ، (١) أحدهما أن تزيد على «من» حروف المد واللين (٢) ، كما ذكرنا في الوجه الأول في المفرد المذكر ، حاكيا للإعراب فقط ، ولا تحكي علامات المثنى والمجموع والمؤنث وإن كنت تسأل عنها ؛ اجراء لمن على أصلها من صلاحيتها للكل بلفظ واحد ، فتقول ، إذا قيل : جاءني رجل أو رجلان أو رجال أو امرأة أو امرأتان أو نسوة : منو ، وعلى هذا قياس النصب والجر ، والثاني : افراد «من» على كل حال ، بلا حكاية لإعراب ولا لعلامات أخر ، كما في حال الوصل ؛

هذا حكم «من» المستفهم بها عن المنكور ؛

وأمّا «أيّ» ، فإذا استفهمت بها عن المذكور المنكور ، جاز لك ، أيضا ، حكاية الإعراب وعلامات المثنى والمجموع في لفظها ، إلّا أنك لا تلحق حروف المد بالمفرد المذكر ، بل تعربه بالحركات في الوصل نحو : أيّ يا فتى ، وأيّا يا فتى ، وأيّ يا فتى ، وفي الوقف تسكّن ياءه في الرفع والجر ، وتقلب التنوين ألفا في حال النصب ، كما في الوقف على سائر المنصوبات المعربة ، لأن «أيّا» معرب ، فسقط في جواز الحكاية في لفظ «أي»

__________________

(١) يعني بصرف النظر عن إفرادها وتذكيرها وفروعها ، وخلاصة الوجه الأول : استواء الجميع في صورة واحدة ، فيكون بالنسبة للمفرد ، هو الوجه السابق ،

(٢) كلمة اللين لا حاجة لذكرها هنا ، بل ربما أوهم ذكرها غير المقصود ، بناء على ما هو اصطلاحهم في الفرق بين حروف المد وحروف اللين ؛

٧٤

شرطان كانا في الحكاية بمن ، وهما العقل والوقف ، أمّا العقل فلأن أصل «أيّ» ، أن تستعمل في العقلاء وغيرهم ، بخلاف «من» ، وأمّا الوقف فلما مرّ في «من» ؛ وإنما اشترط في حكايتها كون المحكى مذكورا منكورا ، لما مرّ في «من» أيضا ، ولك في «أيّ» وجه آخر وصلا ، وهو الاقتصار على إعراب «أيّ» مفردة فتقول : أيّ ، وأيّا ، وأيّ ، في المفرد والمثنى والمجموع ، مذكرا كان أو مؤنثا ؛

وفي الحركات اللاحقة لأيّ ، في حال الحكاية وجهان : أحدهما : أنها إعرابها ، فتكون مبتدأة محذوفة الخبر ، ومفعولة محذوفة الفعل ، ومجرورة مضمرة الجار ، وهذا ضعيف ، لأن إضمار الجارّ قليل نادر ؛ وأيضا ، تثنية «أيّ» وجمعها لغير الحكاية ضعيفان ، كما مرّ ؛

والأولى (١) أن يقال : كما في «من» ان هذه العلامات اتباعات للفظ المتكلم على وجه الحكاية ، ومحلها رفع على الابتداء ، والتقدير : من هو؟ ، وأيّ هو ، أي : أيّ رجل هو؟ ؛

وأجاز يونس الحكاية بمن وصلا ، قياسا على «أيّ» فيقول : من يا فتى ، ومنا يا فتى ، ومن يا فتى ، وعليه حمل قول الشاعر :

٤٣٩ ـ أتوا ناري فقلت منون أنتم

فقالوا الجنّ قلت عموا ظلاما (٢)

وليس بشيء ، لأنه لم يتقدم جمع منكر حتى يحكى ؛

وحكى يونس أنه سمع : ضرب من منا؟ استفهام عن الضارب والمضروب قال

__________________

(١) هذا هو الوجه الثاني من توجيه الحركات اللاحقة لأيّ ، وإن لم يصرح بذلك ،

(٢) أحد أبيات أربعة أوردها أبو زيد الأنصاري في النوادر منسوبة لشاعر اسمه : شمير بن الحارث الضبيّ أولها :

ونار قد حضأت لها بليل

بدار لا أريد بها مقاما

وشمير بصيغة التصغير ، وبالشين المعجمة ، أو بالسين المهلة ، وورد مثل هذا البيت في قصيدة حائية طويلة : .. قلت عموا صباحا ، منسوبة لجذع بن سنان الغساني ، فهما قصيدتان ، ولا وجه لانكار الرواية الميمية أو الحائية ؛

٧٥

سيبويه (١) : هذا بعيد ، وقال يونس ، أيضا ، هذا لا يقبله كل أحد ، وذلك لتقدم الفعل على كلمة الاستفهام ،

وأمّا إعرابها ، فقيل : حكاية ، كأنه سمع رجلا يقول : ضرب رجل رجلا ، وإلا ، فكيف يعربها مع قيام علة البناء؟ والظاهر أنه ليس بحكاية ، وأنه يجوز في بعض اللغات إعرابها ، لا على وجه الحكاية ، ألا ترى إلى قوله : منون أنتم ، وليس بمحكى ، كما زعم يونس ، إذ لا منكر مذكور قبله ، والعلامات المذكورة لا تلحق «من» إلا في آخر الكلام لأنها في حالة الوقف ؛

فإذا قيل : رأيت رجلا وامرأة ، قلت : من ومنة ، وإذا قيل رأيت امرأة ورجلا ، قلت : من ومنا ، وفي جاءني رجل وامرأتان : من ومنتان ، وعليه فقس ؛

وإذا اجتمع من يعقل ومن لا يعقل ، جعلت السؤال عن العاقل بمن وعن غير العاقل بأيّ ، نحو : من وأيّين ، فيمن قال : رأيت رجلا وحمارين وعليه فقس ،

وأمّا المعارف بعد «من» فنقول :

هي إمّا أعلام ، وإمّا غيرها ، فغير الأعلام فيها ثلاثة أوجه :

أشهرها ، أنه لا حكاية فيها ، ولا في من ، بعد حذفها ؛

وحكى المبرد عن يونس ، ولم يحكه عن سيبويه ، أنها تذكر بعد «من» محكية كالأعلام ، إذا قال القائل : رأيت أخا زيد قلت : من أخا زيد ، وأجاز ذلك سيبويه ، لا على وجه الاختيار ، كما قيل : دعني من تمرتان وليس بقرشيّا (٢) ؛ كما يجيئ ؛

وثالثها : أن تحذف وتثبت علامات الحكاية في «من» كما في النكرات ، وذلك

__________________

(١) نقل ذلك سيبويه عن يونس في الكتاب ١ / ٤٠٢ ، ثم قال : وهذا بعيد ؛

(٢) سمع بعض العرب شخصا يتحدث عن آخر قائلا : ما عنده تمرتان ، فقال السامع : دعنا من تمرتان ، وتحدث رجل مع آخر عن شخص ثالث ، فقال السامع : أليس قرشيا ، فقال المتحدث : ليس بقرشيا ، انظر سيبويه ١ / ٤٠٣ ؛

٧٦

لكون المعرفة المذكورة عند السامع مجهولة كالنكرة ، وذلك كما حكى سيبويه (١) أنه يقال : ذهبت معهم ، فيقال : مع منين ، ويقال : قد رأيته فتقول : منا ، ويقال : خلف دار عبد الله ، فيقال : دارمني ؛

أمّا الأعلام المذكورة بعد «من» ، ففيها مذهبان : مذهب أهل الحجاز ، ومذهب بني تميم ؛ فأهل الحجاز يحكون العلم بعد «من» بشروط ، (٢) وإنما خصوا الحكاية بالعلم ، دون غيره من المعارف ، لأن وضع الأعلام على عدم الاشتراك ، بخلاف سائر المعارف ، فإن كلّ واحد منها لأيّ معيّن كان ، كما يأتي في باب المعارف ، والحكاية لدفع الاشتراك ، فكانت بالأعلام أنسب ؛

والشروط المذكورة : ألّا يكون المسئول عنه منعوتا ولا مؤكدا ولا مبدلا منه ولا معطوفا عليه عطف البيان ، فإن إعادة هذه المتبوعات مع توابعها تغني عن حكاية إعرابها ، إذ يعرف المخاطب أن المسئول عنه هو المذكور بإرشاد إعادة التوابع المذكورة بعينها إليه ، فتقول لمن قال : رأيت زيدا الظريف ، أو : زيدا أبا محمد : من زيد الظريف ، ومن زيد نفسه ومن زيد أبو محمد ، بالرفع لا غير ، نعم ، لو وصف (٣) بابن ، وأسقط تنوينه لوقوعه بين علمين ، لم تمتنع حكايته عند أهل الحجاز ، لأنه ، وإن أغنى الوصف المذكور أيضا ، كسائر الأوصاف ، إلا أن تنزيل هذا الموصوف مع هذا الوصف منزلة اسم واحد بدليل حذف التنوين من الموصوف ، ونصب الموصوف في المنادى (٤) ، جوّز الحكاية فيه ؛ فتقول لمن قال رأيت زيد بن عمرو : من زيد بن عمرو ، بالنصب ، وإن قال : رأيت زيدا ابن أخي عمرو ، قلت : من زيد ابن أخي عمرو ، بالرفع لا غير ؛

__________________

(١) في الموضع السابق ذكره من كتاب سيبويه ، أورد المثالين الأولين الآتيين ولم يذكر الثالث ، وسيذكره الشارح في باب حكاية العلم ؛

(٢) سيأتي ذكرها بعد أن ينتهي من استطراده ؛

(٣) أي العلم المراد حكايته

(٤) في نحو : يا زيد بن عمرو ، وتعبيره بنصب الموصوف منظور فيه إلى الرأي الذي يجعله منصوبا لأنه مضاف إلى ما بعد أين ،

٧٧

وأمّا عطف النسق بلا تكرير «من» فهو كسائر التوابع عند يونس ، في امتناع الحكاية معه ، سواء كانا (١) علمين أو أحدهما ؛

وحكى سيبويه (٢) عن قوم ، واستحسنه ؛ أنه تجوز الحكاية إذا كان المعطوف عليه علما ، سواء كان المعطوف علما ، أو ، لا ، نحو : من زيدا وعمرا ، ومن زيدا وأخا عمرو ، لمن قال : لقيت زيدا وعمرا ، ولقيت زيدا وأخا عمرو ؛

والفرق بينه وبين سائر التوابع ، أن الثاني فيه غير الأول ، فالسؤال واقع بالاسم المفرد ، ثم عطف عليه بعد الحكاية ، وأمّا سائر التوابع فهي في الحقيقة : متبوعاتها ؛

وإن لم يكن المعطوف عليه علما ، كما إذا قيل : مررت بأخيك وزيد ، لم تجز الحكاية في السؤال اتفاقا ، بل يجب الرفع ، لأن المتبوع لا تجوز حكايته فكذا التابع ؛

وأمّا إن أعدت «من» في المعطوف ، نحو : من زيدا ومن عمرا ، أو من زيدا ومن أخوه ، أو من أخوه ومن زيدا ، فإنه تجوز الحكاية في العلم دون ما ليس بعلم ، وذلك لكون كل واحد من المعطوف والمعطوف عليه استفهاما مستقلا ، فيكون لكل واحد منهما حكم نفسه ، كما لو انفرد ؛

ومن الشروط (٣) : ألّا يدخل حرف العطف على «من» نحو : ومن زيد ، أو : فمن زيد ، فلا تجوز الحكاية اتفاقا ، لزوال اللبس ، إذ العطف على كلام المخاطب مؤذن بأن السؤال إنما هو عمّن ذكره دون غيره ،

وتجوز حكاية اللقب اتفاقا ، وفي الكنية خلاف ، والوجه جوازها ، لأنها علم ، أيضا ، على ما يجيئ بيانه (٤) : وكذا اختلف في حكاية مثنى العلم ومجموعه فالمجوّز نظر إلى واحدهما ،

__________________

(١) أي المعطوف والمعطوف عليه ،

(٢) ج ١ ص ٤٠٣

(٣) ما تقدم كان هو الشرط الأول ، وهو لم يحصر الشروط في عدد معيّن ،

(٤) في باب العلم عند تقسيمه إلى اسم وكنية ولقب. في هذا الجزء ؛

٧٨

والمانع نظر إلى زوال العلمية بالتثنية والجمع ، كما يجيئ في باب العلم ؛

ثم نقول : إذا حكى ما بعد «من» ، فمن مرفوع الموضع بالابتداء ، فإن كان ما بعده مرفوعا ، فهو على الحكاية ، لا على أنه خبره ، بل الرفع الذي يكون لأجل الخبرية مقدّر فيه ، وإن كان مجرورا أو منصوبا ، فهو مرفوع الموضوع على الخبرية ، فالكل معرب مرفوع الموضع ، تعذّر إعرابه (١) لاشتغال محل الإعراب بحركة مجلوبة للحكاية ، كما ذكرنا في أول الكتاب ؛

وقيل ان ما بعد «من» في الأحوال (٢) ، معمول لعامل محذوف ، كما مرّ في «أيّ» ، وهو ضعيف ، لما مرّ هناك ؛ (٣)

وقد جاء حذف العلم بعد «من» ، وإثبات علامة الحكاية فيها ؛ قيل : خلف دار عبد الله ، فقال السامع : دار مني ؛

وأمّا بنو تميم ، فإنهم سلكوا بالعلم في الاستفهام عنه بمن ، مسلك غيره من الأسماء ، فأتوا به مرفوعا على كل حال بالابتداء جريا على القياس ؛

وأمّا إذا سألت بأيّ عن المعارف ، فلا خلاف بينهم في أن ما بعدها لا يحكى ، فإذا قيل : رأيت زيدا ، ومررت بزيد ، قلت : أيّ زيد ، بالرفع لا غير لأن الإعراب يظهر في «أيّ» فكرهوا أن يخالفه الثاني ، بخلاف : من زيدا ، ومن زيد ؛

هذا ، وربّما حكى بعض العرب الاسم ، علما كان أو غيره ، دون سؤال ، أيضا ، كما قال بعضهم : دعنا من تمرتان ، على حكاية قول من قال : ما عندنا تمرتان ؛ قال سيبويه : سمعت اعرابيا يقول لرجل سأله ، فقال : أليس قرشيا ، فقال : ليس بقرشيا (٤) ،

__________________

(١) أي تعذّر ظهور الحركات الاعرابية فيه ، كما تعذر في المضاف إلى ياء المتكلم ،

(٢) يعني أحوال الاعراب ،

(٣) لأن إضمار الحرف في حالة الجر ضعيف ،

(٤) أشرنا إلى ذلك بتحديد موضعه من كتاب سيبويه ، قريبا ؛

٧٩

فعلى هذه اللغة ، تجوز الحكاية إذا سألت بمن ، أو أيّ ، عن غير العلم أيضا ، كما حكى يونس ، كما مرّ ؛

وإذا سألت بمن عن عاقل ينسب إليه علم ، سواء كان المنسوب علم عاقل أو ، لا ، بل الشرط كون المنسوب إليه عاقلا ، كما يقال لقيت زيدا أو ركبت أعوج (١) ، جاز لك أن تقول : آلمنيّ ، أي : آلبكري أو : آلقرشي (٢) ، تأتي بمن مكان المنسوب إليه العاقل ، وتدخل عليه الألف واللام لأنه كذلك في المسئول عنه ، أعني البكريّ ، مثلا ، لأن صفة العلم المنسوبة إلى شيء لا بدّ فيها من الألف واللام ، وتلحق ياء النسب آخر «من» كما كان آخر المسئول عنه ، والأكثر الأشهر إدخال همزة الاستفهام على الألف واللام فتقول : آلمنيّ ، بالمدّ أو التسهيل ، كما يجيئ في التصريف في باب تخفيف الهمزة إن شاء الله تعالى ، وإنما أدخلتها لأنه كذلك في المسئول عنه لو صرّحت به نحو : آلبكريّ ، أو : آلقرشيّ ، وإنما جاز الجمع بين «من» الاستفهامية وهمزة الاستفهام ، لضعف تضمنها للاستفهام بمعاملتها معاملة المعربات التي لا تتضمن معنى الحروف ، وذلك بإدخال اللام عليها ، وإلحاق ياء النسب بآخرها ،

وبعضهم لا يأتي بهمزة الاستفهام ، فيقول : المنيّ ، اكتفاء بما في «من» من معنى الاستفهام ؛ ويحكى في لفظ «ألمنيّ» إعراب العلم المسئول عن نسبته ، سواء كان السائل واصلا أو واقفا ، كالحكاية في لفظ «أيّ» سواء ، فتقول لمن قال : جاءني زيد : آلمنيّ يا فتى ، وكذا : آلمنيّ ، وآلمنيّ ، وكذا : آلمنيّان ، وآلمنيّين ، وآلمنيون وآلمنييّن ، وآلمنيّة ، وآلمنيتان وآلمنيّات ، ويأتي المسئول بالجواب على وفق إعراب آلمني ، تقول : رأيت زيدا ، فيقول : آلمنيّ ، فتقول : القرشيّ ، على أنه وصف لزيد ، المذكور أولا في كلامك ، ويجوز الرفع في الكل ، على إضمار المبتدأ ، أي هو القرشيّ لانفصاله عن الموصوف بتوسط الاستفهام ؛

__________________

(١) أعوج علم على حصان مشهور تنسب إليه الخيل الأعوجية ، قال الفرزدق :

نجوت ولم تمنن عليك طلاقة

سوى جيّد التقريب من آل أعوجا

(٢) الذي يقال في الحكاية هو أحد هذين اللفظين بحسب ما يقصد السائل ؛

٨٠