شرح الرضيّ على الكافية - ج ٣

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٧٨

٥٠٥ ـ فان الكثر أعياني قديما

ولم أفتر لدن أنيّ غلام (١)

وفيها ثماني لغات : لدن بفتح الدال ، ولدن بكسرها ، فكأن «لدن» خففت بحذف الضمة ، كما في عضد ، فالتقى ساكنان ؛ فإمّا أن تحذف النون فيبقى «لد» وامّا أن تحرك الدال فتحا أو كسرا للساكنين ، وامّا أن تحرك النون للساكنين كسرا ، لأن زوال الساكنين يحصل بكل ذلك ؛ فهذه خمس لغات ، مع «لدن» التي هي أصلها ؛ وقد جاء : لدن ولد ، فكأن لدن خفف بنقل ضمة الدال إلى اللام ، وإن كان نحو : عضد في عضد قليلا ، كما يجيئ في التصريف ، فالتقى ساكنان ، فإمّا أن تحذف النون ، وإمّا أن تكسر للساكنين ؛ وقد جاء : لد ، بحذف نون لدن التي هي أم الجميع وأشهر اللغات ؛

ولدى ، بمعنى لدن ، الّا أن لدن ولغاتها المذكورة ، يلزمها معنى الابتداء ، فلذا يلزمها «من» إمّا ظاهرة ، وهو الأغلب ، أو مقدرة ، فهي بمعنى : من عند ، وأمّا لدى ، فهو بمعنى «عند» ، ولا يلزمه معنى الابتداء ، وعند ، أعمّ تصرفا من لدى ، لأن «عند» يستعمل في الحاضر القريب ، وفيما هو في حرزك وإن كان بعيدا ، بخلاف لدى ، فإنه لا يستعمل في البعيد ؛

وإعراب لدن المشهورة : لغة قيسيّة ،

قال المصنف : الوجه في بناء لدن وأخواته (٢) ، أن من لغاتها ما وضعه وضع الحروف ، فحمل البقية عليها تشبيها بها ، ولو لم يكن ذلك لم يكن لبنائها وجه ، لأنها مثل عند ، وهو معرب بالاتفاق ؛

والذي أرى (٣) : أن جواز وضع بعض الأسماء وضع الحروف ، أي على أقلّ من ثلاثة

__________________

(١) الكثر بضم الكاف أي المال الكثير ، والمراد طلبه والسعي في تحصيله ، والبيت منسوب لعمرو بن حسان من بني الحارث من شعراء الصحابة ، ولم يذكروا مع هذا البيت شيئا قبله ولا بعده ،

(٢) أي اللغات المختلفة المستعملة في لدن ؛

(٣) تعقيب من الرضى على كلام ابن الحاجب في تعليله لبناء لدن ،

٢٢١

أحرف ، بناء من الواضع على ما يعلم من كونها حال الاستعمال في الكلام مبنية لمشابهتها للمبني ، على ما ذكرنا في صدر الكتاب ، في حد الإعراب ؛ فلا يجوز أن يكون بناؤها مبنيا على وضعها وضع الحروف ؛ فالوجه ، إذن ، في بناء لدن أن يقال : إنه زاد على سائر الظروف غير المتصرفة في عدم التصرف بكونه ، مع عدم تصرفه ، لازما لمعنى الابتداء فتوغل في مشابهة الحروف ، دونها ؛

وأمّا «لدى» وهو بمعنى «عند» فلا دليل على بنائه ؛ ومعنى «عند» : القرب حسّا أو معنى ، نحو : عندي أنّك غنيّ ، وربّما فتحت عينه أو ضمت ، ويلزمها النصب إلا إذا انجرّت بمن ؛

ومن حذف نون «لدن» لم يجوّز حذفها مع الإضافة ، فلا يقول : من لده ، بل : من لدنه ، ولدنك ؛ وتجرّ «لدن» ما بعدها بالاضافة لفظا إن كان مفردا ، وتقديرا إن كان جملة ،

وإن كان ذلك (١) لفظ «غدوة» ، جاز نصبها أيضا ، مع الجر ، وقد ترفع ؛ أمّا النصب ، فإنه وإن كان شاذا ، فوجهه كثرة استعمال لدن مع غدوة ، دون سائر الظروف ، كبكرة ، وعشية وكون دال لدن قبل النون الساكنة ، تفتح وتضم وتكسر كما سبق في لغاتها ، ثم قد تحذف نونه ، فشابهت حركات الدال حركات الإعراب من جهة تبدلها ، وشابهت النون التنوين من جهة جواز حذفها ، فصار لدن غدوة ، في اللفظ ، كراقود خلا ، فنصبها تشبيها بالتمييز ، أو تشبيها بالمفعول الذي هو الأصل نحو : ضارب زيدا ؛ (٢)

وغدوة ، بعد لدن ، لا تكون إلا منونة ، وإن كانت معرفة ، أيضا ، إمّا تشبيها بالتمييز ، فإنه لا يكون إلا نكرة ، وإمّا لأننا لو حذفنا التنوين ، لم يدر أمنصوبة هي أم مجرورة ،

وأمّا الرفع فعلى حذف أحد جزأي الجملة ، أي : لدن كان غدوة ، كما قلنا في : مذ يوم الجمعة ؛

__________________

(١) يعني الاسم الواقع بعد لدن ،

(٢) خلاصته أنها إما مشبّهة بالتمييز المنصوب عن تمام الاسم أو بما شبّه به ذلك التمييز ،

٢٢٢

وألف لدى ، تعامل معاملة ألف «على» و «إلى» فتسلم مع الظاهر ، وتقلب ياء ، غالبا ، مع المضمر ؛

وقد حكى سيبويه عن الخليل عن قوم من العرب(١): لداك ، وإلاك ، وعلاك ، قال :

٥٠٦ ـ طاروا علاهنّ فطر علاها

وأشدو بمثنى حقب حقواها (٢)

وإنما قلب ألف هذه الكلم الثلاث مع المضمر ، تشبيها بألف «رمى» إذا اتصل بالمضمر المرفوع نحو : رميت ، وإنما شبّه الضمير المجرور بالمرفوع دون المنصوب نحو : رماك ، لأن الجارّ مع الضمير المجرور كالكلمة الواحدة ، كالرافع مع الضمير المرفوع ، بخلاف الناصب مع المنصوب ؛ ولم يشبّه بألف «غزا» لأن الواو ثقيل ، والياء أقرب إلى الألف من الواو ؛

وإنما لم يقلب نحو : عصاك ، وفتاك ، لأن لهذه الألفات أصلا ، فكره قلبها تشبيها بشيء آخر ، بخلاف ألف إلى ، وعلى ولدى ؛

وقلبت ألف «على» الاسمية ، وإن كان لها أصل في الواو ، تشبيها لها بعلى الحرفية ؛ ولا يتصل من المقصور الذي لا أصل لألفه ؛ بالمضمر إلا هذه الثلاثة ؛ وأمّا حتّاه ، على ما جوّز المبرد فليس بمسموع وإنما هو قياس منه ؛

__________________

(١) سيبويه ج ٢ ص ١٠٤ ـ

(٢) رواه أبو زيد في النوادر منسوبا لبعض أهل اليمن وقبله :

أي قلوص راكب تراها ؛ ـ وآخره : ناجية وناجيا أباها

ونقل البغدادي عن أبي حاتم السجستاني أنه سأل أبا عبيدة عنها فقال له : انقط عليها ، فإنها من صنعة المفضل ؛ ووردت الأبيات في صحاح الجوهري مرتبة غير هذا الترتيب ، والله أعلم ؛

٢٢٣

[قط وعوض]

[معناهما واستعمالاتهما]

[قال ابن الحاجب :]

«وقط للماضي المنفي ، وعوض للمستقبل المنفي» ،

[قال الرضى :]

معنى «قط» : الوقت الماضي عموما ، ومعنى «عوض» : المستقبل عموما ؛ ويختصان بالنفي ؛ وعوض ، في الأصل ، اسم للزمان والدهر ، فقطّ وعوض : المبنيان ، بمعنى : أبدا ، لكن عوض ، قد يستعمل لمجرد الزمان ، لا بمعنى أبدا ، فيعرب ، قال :

٥٠٧ ـ ولو لا نبل عوض

في خضمّاتي وأوصالي (١)

ويقال : افعل ذلك من ذي عوض ، كما يقال : من ذي أنف ، أي فيما يستقبل ؛

__________________

(١) من قطعة منسوبة للفند الزمّاني ، بكسر الزاي وتشديد الميم ، من شعراء الجاهلية ، يتحدث عن معركة اشترك فيها ، قالوا انه طعن رجلا برمحه وخلفه رديف ، فانتظمت الطعنة الرجلين ، وأول هذه الأبيات :

أيا طعنة ما شيخ

كبير يفن بالي

واليفن الكبير ، وقوله في البيت : خضمّاتي ، هو جمع خضمّة بضم كل من الخاء والضاد ما غلظ من الساق والذراع ، وروى بدله : حظباي وهو كلمة حظبيّ بضم الحاء والظاء مقصورا مضافا إلى ياء المتكلم ومعناه الظهر ، أو عرق فيه ، قال البغدادي إنهم أجمعوا على أن المراد بعوض في هذا الشعر : الدهر. الا ما شذ من قول بعضهم انه اسم رجل كان يصنع النبال الجيدة ؛ وجواب لو لا قوله بعد :

لطاعنت صدور القوم

طعنا ليس بالآلى ؛

٢٢٤

وقط ، لا يستعمل إلا بمعنى أبدا ، لأنه مشتق من القّط ، وهو القطع ، كما تقول لا أفعله البتة ، إلا أن «قط» يبنى لما سنذكره ، بخلاف : البتة ؛

وربما استعمل قط ، بدون النفي ، لفظا ومعنى ، نحو : كنت أراه قط ، أي دائما وقد استعمل بدونه لفظا لا معنى ، نحو :

... هل رأيت الذئب قط (١) ـ ٩٤

وقد يستعمل عوض المبنيّ للمضي ، ومع الإثبات أيضا ، قال :

٥٠٨ ـ ولو لا دفاعي عن عفاق ومشهدي

هوت بعفاق عوض عنقاء مغرب (٢)

وهو منفي معنى ، لكونه في جواب لو لا ؛

وبناء عوض على الضم لكونه مقطوعا عن الإضافة ، كقبل ، وبعد ، بدليل إعرابه مع المضاف إليه نحو : عوض العائضين ، أي : دهر الداهرين ، ومعنى الداهر ، والعائض : الذي يبقى على وجه الدهر ، فكأن المعنى : ما بقي في الدهر داهر (٣) ،

وبنى قط ، قيل لأن بعض لغاته ، على وضع الحروف ، كما يجيئ ، والأولى أن يقال : بني لتضمنه لام الاستغراق لزوما ، لاستغراقه جميع الماضي ، وأمّا أبدا ، فليس الاستغراق لازما لمعناه ، ألا ترى إلى قولهم : طال الأبد على لبد ؛ (٤)

وبنى قط على الضم حملا على أخيه عوض ، وهذه أشهر لغاته ، أعني مفتوح القاف مضموم الطاء المشدّدة ، وقد تخفف الطاء في هذه ، وقد تضم القاف اتباعا لضمة الطاء : المشددة أو المخففة ، كمنذ ، وقد جاء : قط ساكنة الطاء ، مثل قط ، الذي هو اسم فعل ؛

__________________

(١) تقدم ذكره ،

(٢) عفاق : اسم رجل ، وعنقاء مغرب ـ اسم يطلق على طائر يزعمونه انه انقرض وأنه كان كبير الحجم ويذكرون عنه أشياء غريبة ، وقال بعضهم : إن المراد به الداهية ، وجاء في تعبير بعض الأئمة أنه طائر معروف الاسم مجهول الجسم ؛. وقال البغدادي : لم أر هذا البيت إلا في هذا الشرح ، ولا أعلم قائله ولا الشعر الذي هو منه ؛

(٣) أي ما بقي في الدهر باق ؛

(٤) اسم آخر النسور التي قالوا إن لقمان بن عاد وهب عمر سبعة منها والنسر أطول الطيور عمرا ،

٢٢٥

وجاء في عوض ، فتح الضاد وكسرها أيضا ، وأكثر ما يستعمل عوض مع القسم ، كقوله :

٥٠٩ ـ رضيعي لبان ثدي أم تقاسما

بأسحم داج عوض لا نتفرق (١)

[ظروف أخرى]

[لم يذكرها ابن الحاجب]

ومن الظروف المبنية : أمس ، عند الحجازيين ، وعلة بنائه : تضمنه للام التعريف ، وذلك أن كل يوم متقدم على يوم فهو أمسه ، فكان في الأصل نكرة ، ثم لما أريد : أمس يوم التكلم (٢) ، دخله لام التعريف العهدي ، كما هو عادة كل اسم قصد به إلى واحد من بين الجماعة المسمّاة به ، كما ذكرنا في باب غير المنصرف ، ثم حذفت اللام وقدرت ، لتبادر فهم كل من يسمع أمس ، مطلقا من الإضافة ، إلى أمس يوم التكلم ، فصار معرفة ، نحو : لقيته أمس الأحدث ؛ (٣)

ولم يبن صباحا ومساء ، وأخواتهما المعيّنة ، مع كونها ، أيضا ، معدولة عن اللام ، لأن التعريف الذي هو معنى اللام ، غير ظاهر فيها من دون قرينة ، ظهوره في أمس ، لأنك إذا قلت : كلمته صباحا ومساء ، وقصدت صباح يومك ، ومساء ليلتك ، لم يتبيّن تعريفهما ، كما يتبيّن في قولك : لقيته أمس ؛

__________________

(١) من قصيدة الأعشى المشهورة التي مدح بها المحلق ، والتي يقول فيها يصف نار المحلق.

تشب لمقرورين يصطليانها

وبات على النار الندى والمحلق

وقالوا إن هذه القصيدة كانت سببا في إقبال الفتيان على الزواج من بنات المحلق ،

(٢) أي اليوم السابق على يوم التكلم ،

(٣) أي الأقرب ؛

٢٢٦

وأمّا سحر ، فأمره مشكل ، سواء قلنا ببنائه أو بترك صرفه ، لأنه مخالف لأخواته ، من : صباحا ، ومساء ، وضحى ، معيّنة ، إذ هي معربة منصرفة ، فهو شاذ من بين أخواته ، مبنيا كان أو غير منصرف ؛

وإنما لم يبنوا «غدا» مع قصد غد يوم التكلم ، كما بني أمس ، تفضيلا لتعريف الداخل في الوجود على تعريف المقدّر وجوده ، وذلك لأن التعريف فرع الوجود ، ووجوده ذهني ، فكذا تعريفه ، بخلاف «أمس» فإنه قد حصل له وجود ، وإن كان منتفيا في حال التكلم ، فتعريفه يكون أقوى ، مع أنه قد روي عن بعض العرب إعرابه مع صرفه ، كغد ، وليست (١) بمشهورة ؛

وأمّا بنو تميم ، فالذي نقل عنهم سيبويه (٢) : إعرابه غير منصرف في حال الرفع ، وبناؤه على الكسر ، كالحجازيين ، في حالتي النصب والجر ؛ قال سيبويه : وبعض بني تميم يفتحون أمس بعد «مذ» ؛

قال السيرافي : وإنما فعلوا ذلك ، لأنهم تركوا صرفه ، وما بعد «مذ» يرفع ويخفض ، فلما ترك صرفه من يرفع منهم ، نحو : مذ أمس ، تركه أيضا بعدها من يجرّ ، فكان مشبّها بنفسه ؛ قال :

٥١٠ ـ لقد رأيت عجبا مذ أمسا

عجائزا مثل السعالى خمسا (٣)

قال : وهذا قليل ، لأن الخفض بعد «مذ» قليل ؛

__________________

(١) أي اللغة التي تشير إليها الرواية عن بعض العرب ،

(٢) في ج ٢ ص ٤٢

(٣) من شواهد سيبويه، ٢ / ٤٤ ، وهو من رجز أورده أبو زيد في النوادر، قال سمعته من بعض العرب ، وبعده :

يأكلن ما في رحلهن همسا

لا ترك الله لهنّ ضرسا

وزاد بعضهم فيه ؛ وقال البغدادي بعد أن أفاض في شرح الشاهد ونقل كثيرا مما كتبه عن سيبويه : إن الشاهد من الشواهد الخمسين التي لم يعرف لها قائل ؛

٢٢٧

قال سيبويه (١) : إذا سمّيت بأمس رجلا ، على لغة أهل الحجاز ، صرفته ، كما تصرف «غاق» إذا سميت به ؛ وذلك أن كل مفرد مبني تسمّي به شخصا ، فالواجب فيه الإعراب مع الصرف ، كما يجيئ في باب الأعلام ،

وإن سميته به على لغة بني تميم ، صرفته أيضا في الأحوال ، لأنه لا بدّ من صرفه في النصب والجر ، لأنه مبني على الكسر عندهم فيهما ، وإذا صرفته في الحالتين ، وجب الصرف في الرفع ، أيضا ، إذ ليس في الكلام اسم منصرف في الجر والنصب ، غير منصرف في الرفع ؛

ووجه منع الصرف في أمس : اعتبار علميّته المقدرة ، كما قلنا في باب غير المنصرف (٢) ، واختاروا منع صرفه رفعا ، وبناءه نصبا وجرّا ، كما اختاروا بناء نحو : حضار ، وترك صرف نحو حذام وقطام ، مع أن الجميع من باب واحد ، والوجه في هذا : مثل الوجه في ذاك ، وذلك أنه جاز أن يعتبر فيه علة البناء ، كما هو مذهب الحجازيين ، وعلة منع الصرف ، كما بيّنا فابتدأوا باعتبار الإعراب أولا إذ هو أشرف من البناء وأولى بالأسماء ، واختير أسبق الإعراب وأشرفه ، أعني الرفع ، فصار في حال الرفع معربا غير منصرف ، والحالتان الباقيتان أعني الجر والنصب مستويتان حركة في غير المنصرف ، فأرادوا أن تبقى هذه الكلمة فيهما على ذلك الاستواء ، فلو جعلا مستويين في الضم لم يبن إعرابها رفعا ، إذ كانت تصير مثل حيث ، في الأحوال ، ولو سوّي بينهما في الفتح لم يبن بناؤهما ، إذ كانت تصير كغير المنصرف ، فلم يبق إلا الكسر ، وأيضا ، أول ما تبنى عليه الكلمة بعد السكون : الكسر ، وأيضا ، تكون هذه الكلمة في حالة البناء على الحركة التي بنيت عليها عند أهل الحجاز ؛

وقال الزمخشري (٣) وجماعة من النحاة : إن أمس معرب عند بني تميم مطلقا ؛ أي في جميع الأحوال ؛

__________________

(١) في الموضع السابق ، وهو منقول بمعناه ،

(٢) في الجزء الأول ،

(٣) انظر شرح ابن يعيش على المفصل ، ج ٤ ص ١٠٦

٢٢٨

ولعلّه غرّهم قول بعض بني تميم :

لقد رأيت عجبا مذ أمسا (١) ـ ٥١٠

وقد قال سيبويه : إن بعضهم يفتحون أمس بعد «مذ» ، فقيّد هذا القول بقوله : بعضهم ، وبقوله : بعد «مذ» ، فكيف يطلق بأن كلّهم (٢) يفتحون في موضع الجر ، بعد أيّ جارّ كان ؛

فان نكرّ «أمس» كقولك : كل غد يصير أمسا ، وكل أمس يصير أوّل من أمس ؛ أو أضيف ، نحو : مضى أمسنا ، أو دخله اللام نحو : ذهب الأمس بما فيه : أعرب اتفاقا ، لزوال علة البناء وهي تقدير اللام ؛

وربّما بني المقترن باللام ، ولعلّ ذلك لتقدير زيادة اللام ؛

وقال سيبويه : (٣) ولا يصغّر أمس ، كما لا يصغر غدا ؛ وإن ثنّي أو جمع فالإعراب ، لأن اللام إنما قدّرت لتبادر الذهن إلى واحد من الجنس لشهرته من بين أشباهه ، فإذا ثني أو جمع ، لم يبق ذلك الواحد المعيّن ، فتظهر اللام ، لعدم شهرة المثنى والمجموع من هذا الجنس شهرة الواحد ،

وليس بناء أمس على الفتح لغة ، كما قال الزجاجيّ ، مغترّا بقوله :

لقد رأيت عجبا مذ أمسا ـ ٥١٠

[الآن]

ومنها «الآن» ، قال الزجاج : بني لتضمنه معنى الإشارة ، إذ معناه : هذا الوقت ، وهذا مذهبه في «أمس» ؛ وفيه نظر ، إذ جميع الأعلام هكذا متضمنة معنى الإشارة ، مع إعرابها ؛

__________________

(١) الشاهد المتقدم ،

(٢) تكرر التنبيه على ضعف هذا الاستعمال ؛

(٣) سيبويه ٢ / ١٣٦ ؛

٢٢٩

وقال السيرافي : لشبه الحرف ، بلزومها في أصل الوضع موضعا واحدا ، وبقائها في الاستعمال عليه ، وهو التعريف باللام ؛ وسائر الأسماء تكون في أوّل الوضع نكرة ، ثم تتعرّف ، ثم تنكر ، ولا تبقى على حال ؛ فلما لم يتصرّف فيه بنزع اللام ، شابه الحرف لأن الحروف لا يتصرّف فيها ؛

وقال أبو علي : بني لتضمنه اللام كأمس ، وأمّا اللام الظاهرة فزائدة ، إذ شرط اللام المعرّفة أن تدخل على النكرات فتعرّفها ، والآن ، لم يسمع مجردا عنها ؛ وقال الفراء : أصله الفعل ، من : آن يئين ، أدخل عليه اللام بمعنى الذي : أي الوقت الذي حان ودخل ، قال : هذا كما نقل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه «نهى عن : قيل وقال» فإنهما فعلان استعملا استعمال الأسماء ، وتركا على البناء الذي كانا عليه ؛

والجواب : ان : قيل وقال ، محكيان ، والمعنى : نهى عن قول : قيل كذا ، وقال فلان كذا ، يعني كثرة المقالات ؛ والآن ليس بمحكيّ ، وكذا مذهب الفراء في «أمس» : انه أمر من : أمسى يمسي ؛

وقد يقال في الآن : لان ، وهو من باب تخفيف الهمزة ؛

[لمّا]

ومنها «لمّا» وهو ظرف بمعنى «إذ» ، اسم عند أبي علي ، ويستعمل استعمال الشرط ، كما يستعمل : كلّما ، وكلام سيبويه محتمل (١) ، فإنه قال : لمّا لوقوع أمر لغيره ، وإنما يكون مثل «لو» ، فشبهها بلو ، ولو : حرف ؛ فقال ابن خروف : ان «لما» حرف ، وحمل كلام سيبويه على أنه شرط في الماضي كلو ، إلا أن لو ، لانتفاء الأول لانتفاء الثاني، ولمّا لثبوت الثاني لثبوت الأول؛ وقال : لو كان ظرفا ، لم يجز : لمّا أسلم دخل الجنة ؛

__________________

(١) سيبويه ٢ / ٣١٢ ،

٢٣٠

والجواب : أنه على التأكيد والتشبيه ، فكأنه دخلها في ذلك الوقت ؛ ومن قال انه ظرف ، قال : وضع موضع كلمة الشرط مع جملتيها للغرض الذي ذكرناه في «إذا» ؛ (١)

ويليه فعل ماض لفظا ومعنى ، وجوابه ، أيضا ، كذلك أو جملة اسمية ، مقرونة بإذا المفاجأة ، قال الله تعالى : (فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم ...) (٢) ، أو مع الفاء ، وربّما كان ماضيا مقرونا بالفاء ، وقد يكون مضارعا ؛

[قولهم لهي أبوك]

وقريب من الظروف المبنية قولهم : لهي أبوك ، أي لله أبوك ، لأن أصله الجار والمجرور ، وحكمه حكم الظروف عندهم ؛ حذف لام الجر لكثرة الاستعمال ، وقدّر لام التعريف ، فبقي : لاه أبوك ، كما قال :

٥١١ ـ لاه ابن عمّك، لا أفضلت في حسب

عني ولا أنت ديّاني فتخزوني (٣)

فبني لتضمنه الحرف ، ثم قلب اللام إلى موضع العين ، وسكن الهاء لوقوعه موقع الألف الساكن ، ورجعت الألف إلى أصلها من الياء لسكون العين ، كما هو أحد مذهبي سيبويه في «الله» ، وهو أنه من : لاه يليه أي تستّر ، ففتح لخفة الفتحة على الياء دون الكسرة والضمة ؛

وقد تحذف الياء فيقال : له أبوك ؛ وإنما قلب ، لأن الكسر لم يبن في : لاه ، لالتباسه

__________________

(١) في أول الكلام على إذا من هذا الجزء

(٢) من الآية ٧٧ سورة النساء ،

(٣) من قصيدة ، قالها ذو الأصبع العدواني في شأن ابن عم له كان يعاديه ، وأولها :

لي ابن عم على ما كان من خلق

مختلفان فأقليه ويقليني

٢٣١

بالجر الذي هو أصله ، فأزيد التنبيه على تضمن الحرف بالبناء على حركة غير ملتبسة بالإعرابية ، ولو قالوا «لاه» بلا قلب ، لالتبست بالإعرابية في نحو : ألله لأفعلنّ (١) ؛

[مع واستعمالاتها]

وأمّا «مع» فهو ظرف بلا خلاف ، عادم التصرف ، معرب ، لازم النصب ، وظاهر كلام سيبويه أنه مبنيّ ، قال : (٢) سألته ، يعني الخليل ، عن «معكم» لأي شيء نصبتها ، يعني : لم لم تبن على السكون؟ ، هذا لفظه ؛

فمن قال انها مبنية ، فلمشابهتها للحرف بقلة التصرف فيها ، إذ لا تكون إلا منصوبة ؛ والأولى الحكم بإعرابه ، لدخول التنوين في نحو : كنا معا ، وانجراره بمن ، وإن كان شاذا ، نحو : جئت من معه ، أي من عنده ، وتسكين عينها لغة ربعيّة (٣) ، يقولون : مع زيد ، فإذا لاقى ساكنا بعده ، كسروا عينه نحو : كنت مع القوم ؛ قال بعضهم (٤) ، وهو الحق ، هي في هذه اللغة حرف جرّ ، إذ لا موجب للبناء فيه [على تقدير الاسمية الا وضع الحروف ، وقد ذكرنا ما عليه (٥) ، ولو كان أيضا كذا ، وكان وضعه كذلك موجبا للبناء ، لبني من دون الإسكان ، أيضا ،](٦).

ثم نقول : يلزم إضافة «مع» ان ذكر معه أحد المصطحبين ، نحو كنت مع زيد ، وإن ذكر قبله المصطحبان ، لم يبق ما يضاف إليه ، فينصب منونا على الظرفية ، نحو :

__________________

(١) مجرور بحرف قسم مقدر ، وهذا مما اختص به لفظ : الله ؛

(٢) في سيبويه. ٢ / ٤٥ ؛

(٣) منسوبة إلى بني ربيعة ؛

(٤) في مغني اللبيب لابن هشام أن صاحب هذا الرأي هو أبو جعفر النحاس ؛

(٥) هو أن الوضع على حرفين إنما يكون من أسباب البناء إذا كان الثاني معتلا ؛

(٦) ما بين الفاصلين جاء في بعض النسخ ، وقد وجدته أوضح من عبارة المطبوعة وأدلّ على المعنى المقصود ، فأثبتّه ؛

٢٣٢

جئنا معا ، أي في زمان ، وكنا معا ، أي في مكان ، وقيل : انتصابه على الحالية ، أي مجتمعين.

والفرق بين : فعلنا معا ، وفعلنا جميعا : أن «معا» يفيد الاجتماع في حال الفعل ، وجميعا بمعنى كلنا ، سواء اجتمعوا أو لا ؛

والألف في «معا» عند الخليل ، بدل من التنوين ، إذ لا لام له في الأصل ، عنده ، وهي عند يونس ، والأخفش ، وهو الحق ، مثل ألف فتى ، بدل من اللام ، استنكارا لاعراب الموضوع على حرفين ، فمع ، عندهما عكس «أخوك» ، ترد لامها في غير الإضافة ، وتحذف في الإضافة ، لقيام المضاف إليه مقام لامها ،

[الظروف]

[المضافة إلى الجمل]

[قال ابن الحاجب :]

«والظروف المضافة إلى الجمل ، وإذ ، يجوز بناؤها على الفتح»

«وكذلك مثل ، وغير ، مع ما ، وأن» ؛

[قال الرضي :]

قد مضى شرحه فيما تقدم ؛ (١)

__________________

(١) عجل الرضى بشرح هذا الجزء من كلام ابن الحاجب ، وقد نبه على ذلك وقال إن التعجيل به ضروري لشرح أحكام حيث.

٢٣٣

[المعرفة والنكرة]

[معنى المعرفة ، وحصر المعارف]

[قال ابن الحاجب :]

«المعرفة والنكرة ، المعرفة : ما وضع لشيء بعينه ، وهي :»

«المضمرات ، والأعلام ، والمبهمات ، وما عرّف بالألف»

«واللام أو بالنداء ، ـ والمضاف إلى أحدها معنى» ؛

[قال الرضي :]

قوله : «بعينه» ، احتراز عن النكرات ، ولا يريد به أن الواضع قصد في حال وضعه واحدا معيّنا ، إذ لو أراد ذلك ، لم يدخل في حدّه الا الأعلام ، إذ المضمرات والمبهمات ، وذو اللام ، والمضاف إلى أحدهما ، تصلح لكل معيّن قصده المستعمل ، فالمعنى : ما وضع ليستعمل في واحد بعينه ، سواء كان ذلك الواحد مقصود الواضع ، كما في الأعلام ، أو ، لا ، كما في غيرها ؛

ولو قال : ما وضع لاستعماله في شيء بعينه ، لكان أصرح ؛

وإنما جعل ذا اللام موضوعا ، كالرجل والفرس ، وإن كان مركبا ، لما مرّ في حدّ الاسم ، أنّ المركبات ، أيضا موضوعة ، بالتأويل الذي ذكرنا هناك (١) أو جعل اللام من حيث عدم استقلاله وكونه كجزء الكلمة كأنه موضوع مع ما دخل عليه ، وضع الأفراد ؛

__________________

(١) مبحث الاسم في الجزء الأول ؛

٢٣٤

ويدخل في هذا الحدّ : العلم المنكّر ، نحو : ربّ سعاد وزينب لقيتهما لأنهما وضعا لشيء معيّن ، ويدخل فيه المضمر في نحو : ربّه رجلا ، ونعم رجلا ، وبئس رجلا ، والحق أنه منكّر ؛

ولا يعترض على هذا الحد بالضمير الراجع إلى نكرة مختصة قبل بحكم من الأحكام نحو : جاءني رجل فضربته ، لأن هذا الضمير لهذا الرجل الجائي ، دون غيره من الرجال وكذا ذو اللام في نحو : جاءني رجل فضربت الرجل ، وأمّا الضمير في نحو : ربّ شاة وسخلتها ، فنكرة ، كما في : ربّه رجلا لأنه لم يختص المنكر المعود إليه بحكم أوّلا ؛

والأصرح في رسم المعرفة أن يقال : ما أشير به إلى خارج مختص إشارة وضعية ، فيدخل فيه جميع الضمائر وإن عادت إلى النكرات ، والمعرف باللام العهدية ، وإن كان المعهود نكرة ، إذا كان المنكر المعود إليه ، أو المعهود ، مخصوصا قبل بحكم ، لأنه أشير بهما إلى خارج مخصوص وإن كان منكّرا ؛

وأمّا إن لم يختص المعود إليه بشي قبل ، نحو : أرجل قائم أبوه ، و :

٥١٢ ـ فإنك لا تبالي بعد حول

أظبي كان أمّك أم حمار (١)

كما يجيئ البحث فيه في باب كان ، ونحو : ربّه رجلا ، وبئس رجلا ونعم رجلا ، ويا لها قصّة ، وربّ رجل وأخيه ؛ فالضمائر كلها نكرات ، إذ لم يسبق اختصاص المعود إليه بحكم ؛

ولو قلت : ربّ رجل كريم وأخيه ، لم يجز (٢) ، وكذا كل شاة سوداء وسخلتها بدرهم ، لأن الضمير يصير معرفة برجوعه إلى نكرة مختصة بصفة ؛

__________________

(١) لشاعر اسمه ثروان بن فزارة بن عبد يغوث العامري ، أدرك الإسلام وأسلم ووفد على النبي صلّى الله عليه وسلّم ، ونسبه بعضهم لغيره ، واستشكل بعضهم الاخبار عن الأم ، بظبي أو حمار لأنهما مذكران ، ورد ذلك بأن المراد بالأم معناه العام ، وهو الأصل لكل شيء ؛

(٢) هو يريد بقوله لم يجز : ان الضمير في مثل ذلك لا يعتبر نكرة حيث عاد إلى نكرة مختصة بوصف ؛

٢٣٥

ويدخل فيه الأعلام حال اشتراكها ، نحو : محمد ، وعلي ، إذ يشار بكل واحد منها إلى مخصوص عند الوضع ؛

ويخرج منه النكرات المعيّنة للمخاطب نحو قولك : جاءني رجل تعرفه ، أو : رجل هو أخوك ، لأن «رجلا» لم يوضع للإشارة إلى مختص ، بل اختص في هذا الاستعمال بصفته ، وكذا يخرج نحو : لقيت رجلا ، إذا علم المخاطب ذلك الملقيّ ؛ إذ ليس فيه إشارة ، لا استعمالا ، ولا وضعا ،

فقولنا : ما أشير به ، يشترك فيه جميع المعارف ، ويختص اسم الإشارة بكون الإشارة فيه حسّية ، كما مرّ في بابه ؛

وإنما قلنا إلى خارج ، لأن كل اسم فهو موضوع للدلالة على ما سبق علم المخاطب بكون ذلك الاسم دالّا

عليه ، ومن ثمة لا يحسن أن يخاطب بلسان من الألسنة إلّا من سبقت معرفته لذلك اللسان ،

فعلى هذا ، كل كلمة : إشارة إلى ما ثبت في ذهن المخاطب أن ذلك اللفظ موضوع له ، فلو لم نقل إلى خارج ، لدخل فيه جميع الأسماء : معارفها ونكراتها ،

فتبيّن بما ذكرنا أن قول المصنف في نحو قولك : اشرب الماء ، واشتر اللحم ، وقوله تعالى : (أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ)(١) ، : ان اللام ، إشارة إلى ما في ذهن المخاطب من ماهية الماء واللحم والذئب ، ليس بشيء (٢) ؛ لأن هذه الفائدة يقوم بها نفس الاسم المجرد عن اللام ، فالحق أن تعريف اللام في مثله لفظي ، كما أن العلمية في نحو أسامة لفظية ، كما يجيئ في الأعلام ؛

فنقول أولا : ان التنوين في كل اسم متمكن غير علم ، يفيد التمكن ، والتنكير

__________________

(١) الآية ١٣ سورة يوسف ؛

(٢) خبر عن قوله : ان قول المصنف ... الخ ،

٢٣٦

معا ، ومعنى تنكير الشيء : شياعه في أمته ، وكونه بعضا مجهولا من جملة ، إلا في غير الموجب ، نحو : ما جاءني رجل ، فإنه لاستغراق الجنس ، فكل اسم دخله اللام ، لا يكون فيه علامة كونه بعضا من كل ، إذ تلك العلامة هي التنوين ، وهو لا يجامع اللام ، كما مرّ في أول الكتاب ؛

فينظر في ذلك الاسم ، فإن لم يكن معه قرينة ، لا حالية ولا مقالية دالّة على أنه بعض مجهول من كل ، كقرينة الشراء الدالة على أن المشترى بعض ، في قولك : اشتر اللحم ، ولا دالة على أنه بعض معيّن ، كما في قوله تعالى : (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً)(١) ، فهي اللام التي جيئ بها للتعريف اللفظي ، والاسم المحلّى بها لاستغراق الجنس ، سواء كان مع علامة الوحدة ، كالضربة ، أو مع علامة التثنية أو الجمع ، كالضربتين ، والعلماء ، أو تجرد عن جميع تلك العلامات ، كالضرب ، والماء ؛

وإنما وجب حمله على الاستغراق لأنه إذا ثبت كون اللفظ دالّا على ماهية خارجة فإمّا أن يكون لجميع أفرادها أو لبعضها ، ولا واسطة بينهما في الوجود الخارجي ، وإن كان يمكن تصورها في الذهن خالية عن الكلية والبعضية ، لكن كلامنا في المشخصات الخارجية ، لأن الألفاظ موضوعة بإزائها ، لا في الذهنية ، فإذا لم يكن للبعضية ، لعدم دليلها أي التنوين ، وجب كونه للكلّ ؛ فعلى هذا ، قوله صلّى الله عليه وسلّم : «الماء طاهر» ، أي كل الماء ، و : النوم حدث ، أي كل النوم ، إذ ليست في الكلام قرينة ، البعضية ، لا مطلقة ، ولا معيّنة ، فلهذا جاز ، وإن كان قليلا ، وصف المفرد بالجمع ، نحو قولهم : أهلك الناس الدينار الصّفر والدرهم البيض ، على ما حكى الأخفش ؛

و : «لا تحرّم الاملاجة والاملاجتان» (٢) ، مفيد للاستغراق الذي يفيده الاسم لو كان منكرا ، نحو : لا تحرم املاجة ولا املاجتان ، فالمفرد في مثله يعمّ جميع المفرد ،

__________________

(١) الآية ١٠ سورة طه ؛

(٢) الا ملاجة : المرة الواحدة من الاملاج وهو الارضاع ، وهذا الكلام كله مبتدأ خبره قوله : مفيد للاستغراق ،

٢٣٧

والمثنى جميع المثنى ، فلا يستثنى من المفرد إلا المفرد ، فقولك ان الرجل خير من المرأة إلا الزيدين : أي إلا كل واحد منهما ، وقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)(١) ؛ أي إلّا كل واحد منهم ، ولا يجوز أن تقول : الرجل يرفع هذا الحجر إلا الزيدين معا ، ولا : إلا ثلاثثكم معا ، بلى ، يجوز ذلك إذا كان الاستثناء منقطعا ؛

وكذا لا يستثنى من المثنى إلا المثنى ، فمعنى : إن الرجلين يرفعان هذا الحجر ، إلا اخوتك : أي إلا الاثنين منهم ، ولا يجوز : الرجلان يرفعان هذا الحجر إلا اخوتك معا ، بلى ، يجوز على الانقطاع ؛

وأمّا الجمع فيصح استثناء الجمع والمثنى والواحد منه نحو : لقيت العلماء إلا الزيدين وإلا زيدا ، وذلك لأن الجمع المحلّى باللام في مثل هذا الموضع يستعمل بمعنى منكرّ مضاف إليه كل مفرد وغيره ، فمعنى لقيت العلماء إلا زيدا : أي : كل عالم وكل عالمين وكل علماء ، وهكذا حال المفرد والمثنى والمجموع في غير الموجب ، قال صلّى الله عليه وسلّم : «لا تحرم الا ملاجة» (٢) أي كل واحد من هذا الجنس ، وكذا : الاملاجتان ، أي كل اثنين اثنين (٣) من هذا الجنس ؛

فلا يستثنى من الواحد إلا الواحد ، ولا من المثنى إلا المثنى ، وأما الجمع نحو : ما لقيت العلماء ، فهو بخلافهما ، بل هو بمنزلة منكّر في سياق غير الموجب ، مفرد ، وغيره ، في استعمالهم ، أي : ما لقيت أحدا من العلماء ، ولا الزيدين ، ولا اثنين ، ولا جماعة ، فيصح استثناء المفرد والمثنى والمجموع منه ، نحو : ما لقيت العلماء إلا زيدا ، وإلا الزيدين وإلا الزيدين ؛ فقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ)(٤) ، أي شيء من الأبصار ، لا جميع الأبصار ، كما توهّمه بعضهم ، فحال الجمع في الموجب وغيره ، حال المثنى والمفرد ؛

__________________

(١) من الآيتين ٢ ، ٣ في سورة العصر ؛

(٢) جزء من الحديث المتقدم ولم ينص هناك على أنه حديث ؛

(٣) تكرار كلمة اثنين مقصود لأن المعنى لا يتم الا به ؛

(٤) الآية ١٠٣ من سورة الأنعام ،

٢٣٨

هذا هو المعلوم من استقراء كلامهم ؛

وأمّا النكرة المستغرقة ، نحو : ما لقيت رجلا ، أو رجلين أو رجالا ؛ فلا يستثنى من واحدها ومثناها ومجموعها إلا أمثالها ، فقولك : ما لقيت رجلا إلا الزيدين ، أي إلّا كل واحد منهما ، ولا يجوز أن تقول : لا يرفع هذا الحجر رجل إلا الزيدين معا ؛ وتقول : ما لقيت أخوين متصافيين إلا الزيدين ، وإلا بني فلان أي إلا اثنين منهم ، ولا يجوز إلا زيدا ، وتقول : ما لقيت رجالا إلا الزيدين ، ولا يجوز : إلا أخويك ، ولا : إلا زيدا ؛ إلّا على الانقطاع ، لأن المعنى : ما لقيت جماعة من الرجال ؛

وإن كان هناك قرينة دالّة على أنه ليس المراد به الاستغراق ؛ فإن كان هناك عهد ، فاللام عهدية للتعريف ، على ما يجيئ في بابه ، وإن لم يكن ، فإن كان فيه علامة الوحدة أو التثنية نحو : ما أعطيك إلا التمرة أو التمرتين ، فلا فرق ، إذن ، بين المعرّف والمنكر معنى ، فكأنك قلت : ما أعطيك إلا تمرة أو تمرتين ؛ وإن لم يكن فيه علامتاهما ، نحو : اشتريت التمر ، ولقيت الرجال ، فالفرق بين ذي اللام والمجرد : أن المجرّد ، لأجل التنوين الذي فيه للتنكير ، يفيد أن ذلك الاسم بعض من جملة ، فمعنى اشتريت تمرا ، ولقيت رجالا : شيئا من التمر ، وجماعة من الرجال ، بخلاف المعرّف باللام ، فإن المراد به : الماهية مجرّدة عن البعضية ، لكن البعضية مستفادة من القرينة. كالشراء ، واللقاء ، فكأنك قلت : لقيت هذا الجنس واشتريت هذا الجنس ، فهو كعامّ مخصوص بالقرينة ؛

فالمجرد ، وذو اللام ، إذن ، بالنظر إلى القرينة ، بمعنى ، وبالنظر إلى أنفسهما مختلفان ، فمن ثمة جاز وصف المعرف باللام من هذا النوع ، بالمنكر نحو قوله :

ولقد أمرّ على اللئيم يسبني ـ ٥٦ (١)

وكذا : مررت بالرجل مثلك ، وما يحسن بالرجل خير منك ، كما مر في باب الوصف ، فعلى هذا ، كل لام تعريف ، لا معنى للتعريف فيها إلا التي للمعهود الخارجيّ ؛

__________________

(١) تكرر ذكر هذا الشاهد والمقصود من ذكره في كل مرة لا يتغير ؛

٢٣٩

قوله : «وهي المضمرات» ، قد تقدم ذكرها ، ويعني بالمبهمات : أسماء الإشارة والموصولات ، وقد تقدم ذكرهما ؛ وإنما سمّيت مبهمات ، وإن كانت معارف لأن اسم الإشارة من غير إشارة حسّية إلى المشار إليه مبهم عند المخاطب ، لأنّ بحضرة المتكلم أشياء يحتمل أن تكون مشارا إليها ؛ وكذا الموصولات ، من دون الصلات مبهمة عند المخاطب ؛ ولم يقولوا للمضمر الغائب : مبهم لأن ما يعود إليه متقدم ، فلا يكون مبهما عند المخاطب عند النطق به ، وكذا ذو اللام العهدية ؛

قوله : «وما عرّف باللام» ، هذا مذهب سيبويه ، أعني أن حرف التعريف هو اللام (١) وحدها ، والهمزة للوصل ، فتحت مع أن أصل همزات الوصل : الكسر ، لكثرة استعمال لام التعريف ، والدليل على أن اللام هي المعرّفة فقط : تخطّي العامل الضعيف ايّاها ، نحو : بالرجل ، وذلك علامة امتزاجها بالكلمة وصيرورتها كجزء منها ؛ ولو كانت على حرفين ، لكان لها نوع استقلال ، فلم يتخطها العامل الضعيف ، وأمّا نحو : أن لا تفعل ، وإن لا تفعل ، وبلا مال فلجعلهم «لا» ، خاصة ، من جميع ما هو على حرفين ، كجزء الكلمة ، فلذا يقولون اللافرس ، واللا انسان ؛ وأمّا نحو بهذا ، و : (فَبِما رَحْمَةٍ)(٢) ، فإن الفاصل بين العامل والمعمول ، ما لم يغيّر معنى ما قبله ولا معنى ما بعده ، عدّ الفصل به كلا فصل ؛ وللامتزاج التام بين اللام وما دخلته ، كان نحو : الرجل ، مغايرا لرجل حتى جاز تواليهما في قافيتين ، ولم يكن ايطاء ؛ (٣) وإنما وضعت اللام ساكنة ليستحكم الامتزاج ، وأيضا ، دليل التنكير ، أي التنوين : على حرف ، فالأولى كون دليل التعريف مثله ؛

وقال الخليل : «أل» بكمالها : آلة التعريف ، نحو : هل ، وقد ، استدلالا بفتح

__________________

(١) على أساس هذين المذهبين في وضع حرف التعريف نجد الرضى يعبر مرة باللام ، ومرة بالألف واللام ؛

(٢) من الآية ١٥٩ سورة آل عمران ، ،

(٣) الايطاء في الشعر ان يكرر الشاعر كلمة بعينها في القافية بحيث تكون الكلمتان متفقتين لفظا ومعنى ، قبل أن يفصل بين الكلمتين بعدد معين من الأبيات ، ،

٢٤٠