شرح الرضيّ على الكافية - ج ٣

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٧٨

تعالى : (بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها)(١) ، وقوله تعالى : (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ، (٢) ولم يعهد مجرورا باسم الا ببعد ، ويقع مفعولا به ، كقولك : أتذكر إذ من يأتنا نكرمه ، وقوله تعالى : (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ)(٣) ، على أن «إذ» بدل من قوله : أخا عاد ؛

وقيل في نحو قوله تعالى : (وَإِذْ واعَدْنا)(٤) ، انها زائدة كما مضى ، وقيل هي مفعولة لاذكر ، ويلزمها الإضافة إلى الجملة ؛ وإن حذفت لقيام القرينة عوضت منها التنوين ، كما في قوله : وأنت إذ صحيح (٥) ، فيكسر ذالها ، أو يفتح ، كما مرّ ، ويلزمها الكسر في نحو يومئذ لما مرّ ؛

وتجيئ «إذ» للتعليل ، نحو : جئتك إذ أنت كريم ، أي لأنك ، والأولى حرفيتها ، إذن ، إذ لا معنى لتأويلها بالوقت حتى تدخل في حدّ الاسم ؛

واعلم أنه يقبح أن يليها اسم بعده فعل ماض ، نحو : إذ زيد قام ، بل الفصيح : إذ قام زيد ، لأن «إذ» موضوع للماضي ، فايلاؤه الماضي أولى ، للمشاكلة والمناسبة ؛ ولا يرد عليه نحو : إذا زيد يقوم ، لأن «إذا» على مذهب سيبويه. داخلة على «يقوم» المقدر المفسّر بهذا الظاهر ،

وأمّا على مذهب من أجاز دخولها على اسمية خبرها فعل ، فهذا وارد عليه ، ولا مخلص له منه ، إلا استقباح استعمال مثل هذا ، أيضا ، أعني : إذا يقوم زيد فقل له كذا ، والحق أنه قبيح قليل الاستعمال ؛

وقال المصنف معتذرا عن صاحب هذا المذهب : إن «يقوم» ليس للاستقبال ، بل

__________________

(١) الآية ٨٩ سورة الأعراف

(٢) الآية ٨٠ سورة أل عمران ؛ وتقدمت

(٣) الآية ٢١ سورة الأحقاف ؛

(٤) أول الآية ٥١ سورة البقرة وتقدمت ؛

(٥) البيت السابق قبل قليل ؛

٢٠١

للحال على وجه الحكاية ؛ وفيه نظر ، لأن مثل : إذا يقوم زيد فقل له كذا ، مقصود به القيام الاستقبالي ، وحكاية الحال المستقبلة مما لم يثبت في كلامهم كما ثبتت حكاية الحال الماضية.

وإذا جاءت «ما» بعد «إذا» فهي باقية على ما كانت عليه ، لا تصير بها جازمة متعينة للشرط ، بخلاف «إذ» فانها تصير جازمة بما ، كما يجيئ في الجوازم ، ومنهم من قال : يجازي بإذا ما ، فيجزم الشرط والجزاء ،

وأنشد للفرزدق.

٤٩٩ ـ فقام أبو ليلى إليه ابن ظالم

وكان إذا ما يسلل السيف يضرب (١)

والرواية : متى ما ؛

[من الظروف المبنية]

[أين ، وأنّى وأيان ومتى وكيف]

[قال ابن الحاجب :]

«ومنها أين وأنّى للمكان ، استفهاما وشرطا ، ومتى للزمان»

«فيهما ، وأيّان للزمان استفهاما ، وكيف للحال استفهاما» ؛

[قال الرضى :]

أين ، الاستفهامية نحو : أين كنت؟ والشرطية نحو : أين تكن أكن ، وبناؤهما على الحركة للساكنين ، وعلى الفتح لاستثقال الضم والكسر بعد الياء ؛

__________________

(١) من قصيدة للفرزدق يتحدث فيها عن الحارث بن ظالم المري وكان قد أنصف امرأة من قومه شكت اليه أن عاملا للنعمان بن المنذر أخذ ابلا لها ، فعمل على ردها إليها مع أنه كان في هذا الوقت نزيلا عند النعمان ، وفي هذه القصيدة يقول الفرزدق :

لعمري لقد أوفى ، وزاد وفاؤه

على كل جار ، جار آل المهلب .. الخ

٢٠٢

و «أنّى» ، لها ثلاثة معان ، استفهامية كانت أو شرطية : أحدها : أين ، الّا أن «أنّى» مع «من» إمّا ظاهرة كقوله :

٥٠٠ ـ من اين عشرون لنا من أنّى (١)

أي : من أين ، أو مقدرة ، كقوله تعالى : (أَنَّى لَكِ هذا)(٢) ، أي من أنّى ، أي من أين ، ولا يقال : أنّى زيد؟ بمعنى : أين زيد ، وإنما جاز اضمار «من» لأنها تدخل في أكثر الظروف التي لا تتصرف أو يقلّ تصرفها نحو : من عند ، ومن بعد ، ومن أين ، ومن قبله ومن أمامه ومن لدنه ، فصارت مثل «في» فجاز أن تضمر في الظروف اضمار «في» ومنه قوله :

٥٠١ ـ صريع غوان راقهن ورقنه

لدن شبّ حتى شاب سود الذوائب (٣)

أي : من لدن شبّ ؛

ويجيئ «أنّى» بمعنى «كيف» نحو : (أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(٤) ، ويجوز أن يكون بمعنى : من أين يؤفكون ، ويجيئ بمعنى «متى» ، وقد أوّل قوله تعالى : (أَنَّى شِئْتُمْ)(٥) ، على الأوجه الثلاثة ؛ ولا يجيئ بمعنى متى ، وكيف ، إلا وبعده فعل ؛

وأمّا «أنىّ» الشرطية ، فكقوله :

__________________

(١) من أرجوزة رواها الأخفش عن ثعلب ، وروى أبو زيد الأنصاري في النوادر بعضا منها ، وقال ابن السكيت إنها قيلت في عامل زكاة كان يظلم الناس ويغير من عمر إبلهم فيأخذ بنت اللبون ويكتبها بنت مخاض إلى آخر ما أورده البغدادي في ذلك ؛

(٢) الآية ٣٧ سورة آل عمران ،

(٣) من قصيدة للقطامي وسمّي صريع الغواني لقوله هذا البيت في المقدمة الغزلية لهذه القصيدة ، وقبله :

كأن فضيضا من غريض غمامة

على ظمأ ، جادت به أم غالب ..

لمستهلك قد كاد من شدة الهوى

يموت ، ومن طول العدات الكواذب

(٤) الآية ٣٠ سورة التوبة ،

(٥) من الآية ٢٢٣ سورة البقرة ،

٢٠٣

٥٠٢ ـ فأصبحت أنّى تأتها تلتبس بها

كلا مركبيها تحت رجليك شاجر (١)

أي من أين تأتها ؛

قوله : «ومتى للزمان فيهما» ، أي في الاستفهام والشرط ، وربّما جرّت هذيل بمتى ، على أنها بمعنى «من» كقوله :

٥٠٣ ـ شربن بماء البحر ثم ترفعت

متى لجج خضر لهن نئيج (٢)

أو بمعنى «في» ، فيكون على الوجهين حرفا ، أو بمعنى «وسط» كما حكى أبو زيد ، (٣) وضعته متى كميّ أي وسط كميّ ، أو في كميّ ؛

ولا يجوز : متى زيد ، لأن الزمان لا يكون خبرا عن الجثة ، وأما قولهم : متى أنت وبلادك؟ فمتى ليس بخبر ، بل ظرف لخبر المبتدأ الذي بعده غير ساد مسدّه ، كما سدّ في نحو : أمامك زيد ؛ وأنت وبلادك نحو : كل رجل وضيعته ، أي : متى أنت وبلادك مجتمعان ؛ (٤)

و : «أيان» للزمان ، استفهاما كمتى الاستفهامية ، الّا أنّ «متى» أكثر استعمالا ؛ وأيضا ، أيان مختص بالأمور العظام نحو قوله تعالى : (أَيَّانَ مُرْساها)(٥) ، و : (أَيَّانَ

__________________

(١) ليس البيت في وصف ناقة كما زعم ابن سيده وغيره وقالوا إن الضمائر المؤنثة في البيت راجعة إليها ؛ وإنما هو من شعر لبيد يصف حاله مع عمّ له كان يسبب له بعض المتاعب ، يقول فيه قبل هذا البيت :

وإن هوان الجار للجار مؤلم

وفاقرة تأوى إليها الفواقر

والفاقرة : الداهية التي تكسر فقار الظهر ، والفواقر جمعها ، فالضمائر راجعة إلى الداهية ، وكان عمه عامر ابن مالك الملقب بملاعب الأسنة قد ضرب جارا للبيد بالسيف فغضب لبيد ؛

(٢) من شعر أبي ذؤيب الهذلي وقبله المطلع في بعض الروايات ، وهو :

سقى أم عمرو كل آخر ليلة

حناتم سوء ماؤهن شجيج

الحناتم : الجرار الخضر شبه بها السحاب الممتلىء المسود ، وفي بيت الشاهد روايات أخرى ،

(٣) أبو زيد الأنصاري ، تقدم ذكره ،

(٤) فيكون المعنى : في أي وقت يكون الاجتماع

(٥) الآية ٤٢ سورة النازعات ؛

٢٠٤

يَوْمُ الدِّينِ» ، (١) ولا يقال : أيان نمت؟

وكسر همزته لغة سليم ؛ وقال الأندلسي (٢) : كسر نونها لغة ، والأولى الفتح لمجاورة الألف ؛ وكتب الجمهور ساكتة عن كونها للشرط ، وأجاز بعض المتأخرين ذلك ، وهو غير مسموع ؛ ويختص «أيان» في الاستفهام بالمستقبل بخلاف «متى» فإنه يستعمل في الماضي والمستقبل ؛

قال ابن جني (٣) : ينبغي أن يكون «أيان» من لفظ «أيّ» لا من لفظ «أين» للمكان ، ولقلّة فعّال ، وكثرة فعلان في الأسماء ، فلو سميت بها لم تصرفها ؛

قال الأندلسي : ينبغي أن يكون أصلها : أيّ أوان ، فحذفت الهمزة مع الياء الأخيرة فبقي : أيوان ، فأدغم بعد القلب ؛

وقيل : أصله : أيّ آن ، أي : أيّ حين ، فخفف بحذف الهمزة ، فاتصلت الألف والنون بأيّ ؛ وفيه نظر ؛ لأن «آن» غير مستعمل بغير لام التعريف ، وأيّ : لا يضاف إلى مفرد معرفة ؛

قوله : «وكيف للحال استفهاما» ، إنما عدّ «كيف» في الظروف لأنه بمعنى : على أيّ حال ، والجارّ والظرف متقاربان ، وكون «كيف» ظرفا ، مذهب الأخفش ؛ وعند سيبويه : هو اسم ، بدليل إبدال الاسم منه ، نحو : كيف أنت؟ أصحيح أم سقيم ، ولو كان ظرفا لأبدل منه الظرف نحو : متى جئت أيوم الجمعة أم يوم السبت؟ وللأخفش أن يقول يجوز إبدال الجار والمجرور منها ، نحو : كيف زيد ، أعلى حال الصحة أم على حال السقم؟

فكيف، عند سيبويه ، مقدر بقولنا: على أيّ حال حاصل ، وعند الأخفش بقولنا :

__________________

(١) الآية ١٢ سورة الذاريات ؛

(٢) القاسم بن أحمد الأندلسي ، تقدم ذكره في هذا الجزء وفيما قبله ؛

(٣) أبو الفتح عثمان بن جني العالم الحجة ، تلميذ أبي علي الفارسي ، تكرر ذكره فيما سبق من هذا الشرح ؛

٢٠٥

على أي حال ، و «حاصل» عنده مقدر ؛

فإن جاء بعد «كيف» قول يستغنى به عنه ، نحو : كيف يقوم زيد ، فكيف منصوب المحل على الحال ، فجوابها والبدل منها منصوبان ،

تقول في الجواب : متكئا على آخر ، أو معتمدا ، وفي البدل : كيف يقوم زيد؟ أمعتمدا أم لا ؛ فكأنك قلت : بأي صفة موصوفا ، يقوم زيد ، أمعتمدا أم لا ، فمعتمدا ، بدل من موصوفا ، مع الجارّ المتعلق به ،

ويجوز أن يكون «كيف» في مثل هذا الموضع ، وهو أن يليه قول مستغنى به ، منصوب المحل صفة للمصدر الذي تضمنه ذلك القول ، فكأن معنى كيف يقوم زيد : قياما حاصلا على أي صفة يقوم زيد ، ولا يجوز مثل هذا الاستعمال ، لسقوط الاستفهام عن مرتبة التصدر ؛ لكن لما كان الموصوف بكيف ، أي المصدر ، مقدّرا ، جاز ذلك ؛ فجوابه نحو : قياما سريعا ، والبدل منه : أقياما سريعا أم قياما بطيئا؟ ،

وإن جاء بعد «كيف» ما لا يستغنى به ، نحو : كيف زيد فهو في محل الرفع ، على أنه خبر المبتدا ، فتقول في جوابه : صحيح ، أو ، سقيم ، وفي البدل منه : أصحيح أم سقيم؟ ؛ وإن دخلت نواسخ الابتداء على غير المستقل الذي بعد «كيف» ، نحو : كيف أصبحت ، وكيف تعلم زيدا ، فكيف منصوب المحل ، خبرا ، أو ، مفعولا به ، حسب مطلوب ذلك الناسخ ؛

والاستفهام بكيف عن النكرة ، فلا يكون جوابه إلا نكرة ، فلا يجوز أن يقال : الصحيح ، في جواب : كيف زيد؟ ؛

وشد دخول «على» عليه ، كما روي : على كيف تبيع الأحمرين ، وأما قولهم : أنظر إلى كيف تصنع ، فكيف فيه مخرج عن معنى الاستفهام لسقوطه عن الصدر ،

والكوفيون يجوّزون جزم الشرط والجزاء بكيف ، وكيفما ، قياسا ، ولا يجوّزه البصريون إلا شذوذا ؛

٢٠٦

قال سيبويه (١) : انها في الجزاء مستكرهة ، وقال الخليل : مخرجها مخرج المجازاة ، يعني في قولهم : كيف تكون أكون ، لأن فيها معنى العموم الذي يعتبر في كلمات الشرط ، إلا أنه لم يسمع الجزم بها في السّعة ؛

وجاء في كيف : كي ، قال :

٥٠٤ ـ أو راعيان لبعران لنا شردت

كي لا يحسّان من بعراننا أثرا (٢)

قال الأندلسيّ، إمّا أن يقال: هي لغة في كيف ، أو يقال : حذف فاء كيف ضرورة ؛

__________________

(١) سيبويه ١ / ٤٣٣ ، وهو مقتبس بمعناه ،

(٢) البعران جمع بعير ، وفي رواية : شردن لنا ، وقد ذكر البغدادي عدة روايات في ألفاظ البيت ثم ختم ذلك بأن البيت مجهول لا يعرف قائله واستطرد من ذلك إلى الرد على ما زعمه العيني من أن البيت في كتاب سيبويه ، وهو ليس فيه ؛

٢٠٧

[مذ ومنذ]

[معناهما واستعمالاتهما]

[قال ابن الحاجب :]

«ومذ ومنذ ، بمعنى أول المدة ، فيليهما المفرد المعرفة ، وبمعنى»

«الجميع فيليهما المقصود بالعدد ، وقد يقع المصدر أو الفعل ،»

«أو أن فيقدر زمان مضاف ، وهو مبتدأ وخبره ما بعده ،»

«خلافا للزجاج» ؛

[قال الرضى :]

عند النحاة ، أن أصل «مذ» : منذ ، فخفف بحذف النون ، استدلالا بأنك لو سمّيت بمذ ، صغرته على «منيذ» وجمعته على أمناذ ، وبنوا على هذا أن الاسمية على «مذ» أغلب ، للحذف وهو تصرّف ، فيبعد عن الحرف ، فإن الحرف لا يحذف منه حرف ، إلّا المضعّف منه ، نحو : ربّ ورب فهذا كما قال بعضهم في «إذ» انه مقصور من «إذا» ؛

ومنع منه صاحب المغني (١) في الموضعين ، وقال : منيذ ، وأمناذ ، غير منقول عن العرب ، وامّا تحريك ذال «مذ» في نحو : مذ اليوم بالضم للساكنين أكثر من الكسر ، فلا يدل أيضا على أنّ أصله «منذ» ، لجواز أن يكون للاتباع ؛

وضم ذال «مذ» سواء كان بعده ساكن ، أو ، لا : لغة غنويّة ، فعلى هذا يجوز أن

__________________

(١) منصور بن فلاح اليمني وتقدم ذكره ،

٢٠٨

يكون أصله الضم فخفف ، فلما احتيج إلى التحريك للساكنين ردّ إلى أصله ، كما في نحو : لهم اليوم ؛

وكسر ميم مذ ومنذ ، لغة سليمية ؛

قال الأخفش : منذ ، لغة أهل الحجاز ، وأمّا مذ ، فلغة بني تميم وغيرهم ، ويشاركهم فيه أهل الحجاز ؛ وحكى أيضا أن الحجازيين يجرّون بهما مطلقا ، والتميميين يرفعون بهما مطلقا ؛

وجمهور العرب إذا استعملوا «منذ» الذي هو لغة أهل الحجاز على ما حكى أوّلا : يجرّون بهما معا في الحاضر اتفاقا ، وإنما الخلاف بينهم في الجر بهما في الماضي ، ولا يستعملان في المستقبل اتفاقا ؛

قال الفراء منذ ، مركبة من «من» و «ذو» ؛ ولعلّ اللغة السليمية (١) غرّته ، فالمرفوع عنده في نحو : منذ يوم الجمعة : خبر مبتدأ محذوف ، أي : من الذي هو يوم الجمعة ، أي من الوقت الذي هو يوم الجمعة ؛ على حذف الموصوف و «ذو» طائية ،

وينبغي أن يكون التقدير عنده في نحو : ما رأيته منذ يومان : من ابتداء الوقت الذي هو يومان ، على حذف المضاف قبل الموصوف ليستقيم المعنى ؛

وقال بعض الكوفيين : أصل منذ : من إذ ، فركبا ، وضمّ الذال للساكنين ، فالمرفوع فاعل فعل مقدر ، فتقدير منذ يوم الجمعة : من إذ مضى يوم الجمعة ، أي من وقت مضى يوم الجمعة ؛ وينبغي أن يكون التقدير عنده في نحو : ما رأيته منذ يومان : من إذ ابتدأ يومان ، أي : إذ ابتدأ اليومان اللذان قبل هذا الوقت بدخولهما في الوجود ، أي من وقت ابتداء يومين ؛

وأثر التكلف على المذهبين : ظاهر لا يخفى ، وينبغي ألّا تكون «منذ» الجارة ، على المذهبين ، مركبة ، إذ يتعذّر التأويلان المذكوران في الجارة ، بل تكون حرفا موافق اللفظ ،

__________________

(١) وهي كسر الميم في كل منهما ؛

٢٠٩

للفظ هذا الاسم المركب ؛

وقال بعض البصريين : هما اسمان على كل حال ، فإن خفض بهما فعلى الإضافة ؛ وعلة البناء عند هؤلاء ، أمّا في حال رفع ما بعدهما ، فلما يجيئ من كون المضاف إليه جملة ، كما في «حيث» ، وأمّا في حال جرّه ، فلتضمنهما معنى الحرف ، لأن معنى ، منذ يوم الجمعة ، من حدّ يوم الجمعة ومن تاريخه ، فهما بمعنى الحدّ المضاف إلى الزمان متضمنا معنى «من» ، ومعنى ، مذ شهرنا : من أول شهرنا ، وكذا معنى مذ شهر : من أوّل شهر قبل وقتنا ، على ما سيجيئ من أنه لا بدّ لمذ ومنذ من معنى ابتداء الزمان في جميع متصرّفاتهما ؛

فإذا تقرّر هذا قلنا : إذا انجرّ ما بعدهما ففيهما مذهبان : الجمهور على أنهما حرفا جرّ ، وبعض البصريين على أنهما اسمان ؛

وإذا لم ينجرّ ما بعدهما فلا خلاف في كونهما اسمين، لكن في ارتفاع ما بعدهما أقوال:

الأول : لجمهور البصريين : أنهما مبتدآن ما بعدهما خبرهما ، على ما يجيئ تقريره ،

والثاني : لأبي القاسم الزجّاجي (١) : أنهما خبرا مبتدأين ، مقدّمان ؛

فإن فسّر الزجاجي مذ ومنذ ، بأوّل المدة وجميع المدة مرفوعين ، كما يجيئ من تفسير البصريين ، فهو غلط ، لأنك إذا قلت : أول المدة : يومان فأنت مخبر عن الأول ، باليومين ، وأيضا ، كيف تخبر عن النكرة المؤخرة بمعرفة مقدّمة ، والزمان المقدر لا يصحح تنكير المبتدأ المؤخر ، إلا إذا انتصب على الظرفية ، نحو : يوم الجمعة قتال ؛

وإن فسّرهما بظرف ، كما تقول مثلا في ، ما رأيته منذ يوم الجمعة ، أي : مع انتهائها ، أي : انتهاء الرؤية يوم الجمعة ، وفي : ما رأيته مذ يومان : أي عقيبها وبعدها ، أي : بعد الرؤية يومان ، فله وجيه (٢) ، مع تعسف عظيم من حيث المعنى ؛

والثالث والرابع : قولا الفراء ، وبعض الكوفيين ، كما تقدم ؛

__________________

(١) الزجاجي تقدم ذكره قريبا ،

(٢) التصغير في كلمة وجه يقصد به إضعاف الرأي الذي استنبطه من قول الزجاجى ،

٢١٠

ولا بأس أن نركب مذهبا خامسا ، من هذه المذاهب ، وممّا قال المالكيّ (١) ، فيهما ، فنقول :

انهم أرادوا ابتداء غاية للزمان خاصة ، فأخذوا لفظ «من» الذي هو مشهور في ابتداء الغاية ، وركبوه مع «إذ» ، الذي هو للزمان الماضي ؛

وإنما حملنا على تركيبه من كلمتين : وجود معنى الابتداء والوقت الماضي في جميع مواقع منذ ، كما يجيئ ، وهما معنى : من ، وإذ ، فغلب على الظن تركبه منهما ، مع مناسبة لفظه للفظهما ؛ وأمور النحو أكثرها ظنيّ ، فنقول :

حذف لأجل التركيب همزة «إذ» فبقي : منذ ، بنون وذال ساكنين ، وحقّ «إذ» أن يضاف إلى الجمل ، والإضافة إليها كلا اضافة ، كما مرّ ، فضموا الذال لمّا أحوجوا إلى تحريكها للساكنين ، تشبيها له بالغايات المتمكنة في الأصل كقبل وبعد ، لما صار على ثلاثة أحرف ، بخلاف «إذ» قبل التركيب ، فإنه وإن كان واجب الإضافة إلى الجمل ، إلا أن وضعه وضع الحروف ، فلم يشبه الغايات المعربة الأصل ، كما شابهها «حيث» ، فكأنه حرف ، لا اسم مضاف ، وذلك أن أكثر ما يضاف : اسم على ثلاثة أحرف أو أكثر ؛ فبقي : منذ ، كما هو اللغة السليميّة ، ثم استثقلوا الخروج من الكسر إلى ضم لازم مع أن بينهما حاجزا غير حصين ، فضموا الميم اتباعا للذال ، ثم أنهم جوّزوا تخفيفه بحذف النون ، أيضا ، فإذا كان كذا ، رجع الذال إلى السكون الأصلي ، إذ التحريك إنما كان للساكنين ؛

والغرض من هذا التركيب : تحصيل كلمة تفيد تحديد زمان فعل مذكور مع تعيين ذلك الزمان المحدود ، كتحديد زمان عدم الرؤية في نحو : ما رأيته منذ يوم الجمعة ، وتحديد الزمان مع تعيينه يحصل : إمّا بذكر مجموع ذلك الزمان من أوله إلى آخره ، المتصل بزمان التكلم ، نحو : منذ يومان ، ومذ اليومان ومذ سنتان ، ومذ زيد قائم ، إذا امتدّ قيامه

__________________

(١) اتجهت في تحديد المراد من المالكي في هذا الشرح إلى أنه الإمام جمال الدين بن مالك صاحب الألفية والتسهيل ، وكان من أسباب هذا الاتجاه أن بعض ما ينسبه الرضى إلى «المالكي» هو من الآراء المعروفة لابن مالك ، ومن ذلك ما أشار إليه هنا من أنه استنبط منه ومن غيره مذهبا ؛

٢١١

إلى وقت التكلم ، وإمّا بذكر أول الزمان المتصل آخره بزمان التكلم غير متعرض لذكر الآخر ، للعلم باتصاله بوقت التكلم ، مخصصا لذلك الأول بما لا يشاركه فيه غيره مما هو بعده ، نحو : مذ يوم الجمعة ومذ يوم قدمت فيه ، ومذ قام زيد ؛ تريد يوم الجمعة الأقرب إلى وقت التكلم ، إذ لا يشاركه في هذا الاسم ، ما بعده من الأيام ، ففي الأول يجب أن يكون أصل «منذ» : من أول اذ ، فحذف «أول» المضاف إلى «إذ» ثم ركب «منذ» من «من» ، و «إذ» كما ذكرنا ، وذلك لأن معنى منذ زيد نائم : من أول وقت نوم زيد ، وأمّا الثاني فلا يحتاج فيه إلى تقدير مضاف وحذفه، إذ معنى منذ قام زيد، منذ قيام زيد ؛ فنقول :

يضاف منذ إلى جملتين : أمّا الاسمية الجزأين فنحو : منذ زيد قائم ، والمعنى فيها جميع المدة ؛ ولا أعلمها بهذا القيد مستعملة لأول المدة ؛

وأما التي أحد جزأيها فعل ، فان كان الفعل ماضيا ، نحو : منذ قام زيد ، ومنذ زيد قام ، فهو لأول المدة ؛ وان كان مضارعا ، نحو : منذ يكتب زيد ، ومنذ زيد يكتب ، فإن كان المضارع حالا فهو لجميع المدة ، وإن كان حكاية حال ماضية ، فهو لأول المدة ، ولا يكون مستقبلا ، لأن منذ لتوقيت الزمان الماضي فقط ، لتركبه من «إذ» الموضوع للماضي ؛

وقال الأخفش : لا يجوز : مذ يقوم زيد ، للزوم مجازين : كون «يقوم» قائما مقام «قام» ، وحذف زمان مضاف على ما يجيئ في تقرير مذهب جمهور البصريين ،

والأصل جوازه (١) ، لأن «يقوم» ، كما قلنا ، حال ، أو حكاية حال ، وليس المضاف محذوفا ، كما اخترنا ؛

وجاز ، أيضا ، أن يضاف «منذ» إلى الجملة المصدّرة بحرف مصدري ، لتغيّر «إذ» بالتركيب عن صورته التي كان معها واجب الاضافة إلى الجملة ، فيكون كريث ، وآية ،

__________________

(١) هذا ردّ على ما ذهب إليه الأخفش من منع نحو : مذ يقوم زيد ؛

٢١٢

على ما ذكرنا من أنه يجوز تصدير الجملة التي بعدهما بحرف مصدري لكونهما غير صريحين في الظرفية ، فتقول : منذ أنّ الله خلقني ، ويجوز أن يدّعى أن «منذ» في مثله مضاف إلى كلمة محذوف أحد جزأيها ، كما يجيئ بعد في المصدر الصريح ، نحو : منذ سفره ،؟؟؟ : حذف أحد جزأي الجملة المضاف إليها وجوبا ، إذا كان الباقي مجموع زمان؟؟؟ أوله إلى آخره المتصل بزمان التكلم ، معرفة كان أو نكرة ، نحو : منذ يومان ، ومنذ رجب ، إذا كنت في شهر رجب ، ومنذ شهر نحن فيه ، ومنذ شهرنا ، أو كان الباقي أول الزمان المتصل آخره بزمان التكلم ، كما ذكرنا قبل ، معرفة كان أو نكرة ، نحو : أقرؤه منذ يوم الجمعة. ومنذ يوم قدم فيه زيد ، ومثل هذا الحدّ يجوز ثبوت القراءة فيه ويجوز انتفاؤها في جميع أجزائه ، وذلك لجواز دخول الحدّ في المحدود وخروجه منه، وما بعد الحدّ، يجب ثبوت القراءة فيه، بلا ريب ؛

ويجوز كون الزمان المراد به «الأول» ، معدودا ، أيضا بشرط ألّا يكون العدد مقصودا ، بل يكون المراد مجرّد الزمان المخصوص ، نحو : ما رأيته منذ سنة المجاعة ، ومذ شهر رجب ، ومذ يوما لقائك ، ومذ عشر ذي الحجة ؛

وأمّا ان قصدت العدد ، كقولك : ما لقيته منذ عشر ذي الحجة ، وأنت تريد أنّ الرؤية انقطعت في اليوم الأول إلى الآن ، وكذا اليوم الثاني إلى الآن ، وكذا اليوم الثالث ، وهكذا إلى آخر العشر ، فهو محال ؛ لأنه إذا انقطعت في اليوم الأول إلى الآن ، فكيف تبقى حتى تنقطع في الثاني والثالث ، بل المقصود أنها انقطعت قبل العشرة ، إن قلنا بدخول الحد في المحدود في نحو : ما رأيته منذ يوم الجمعة ، وإن لم نقل به فالمعنى أنها انقطعت في يوم غير معيّن من أيام العشر لأن أيامها ، إذن ، كساعات يوم الجمعة في : منذ يوم الجمعة أو عند انقضائها ؛

ويجوز ، أيضا ، حذف أحد جزأي الجملة ، إذا كان الباقي مصدرا دالّا على أحد الزمانين المذكورين بقرينة الحال ، نحو : منذ نوم زيد ، إذا كان وقت الكلام نائما ، ومنذ خروج زيد ، إذا مضى خروجه ؛

وإنما وجب حذف أحد الجزأين في الموضع المقيّد بما ذكرنا ، وإن لم يسدّ مسدّ المحذوف شيء ، لقيام القرينة مع كثرة الاستعمال ؛ وتقدير الأول : منذ ابتدأ يومان ، على حذف

٢١٣

الفعل أي : من وقت ابتداء يومين ، أي اليومين اللذين آخرهما زمان التكلم ؛ أو يومان مبتدئان على حذف خبر المبتدأ وجاز الابتداء بالنكرة لاختصاص «يومان» من حيث المعنى باليومين المتقدمين على وقت التكلم ، وإنما استغنى عن التعريف ، لأنه من المعلوم أن «منذ» موضوع لتوقيت الزمان الذي آخره وقت التكلم ، في جميع استعمالاته ؛ سواء كان ما بعده مفردا ، أو جملة ، نكرة كان المفرد أو معرفة ،

وتقدير الثاني : مذ كان يوم الجمعة ، أو : مذ يوم الجمعة كائن ، أي من وقت كون يوم الجمعة ، وجاز أن تجعل لكون يوم الجمعة وقتا على سبيل المجاز ، كما يقال : إذا كان يوم الجمعة نادى مناد ،

وأمّا المصدر الدال على أحدهما ، فتقول في المعنى الأول : منذ نومه ، إذا كان وقت التكلم نائما ، أي منذ ابتدأ نومه ، أو : نومه مبتدئ ،

وفي المعنى الثاني : مذ خروجه ، أي : مذ كان خروجه أو : خروجه كائن ، ويجوز أن يكون : مذ أنك قائم في المعنى الأول ، ومنذ أنّ الله خلقني ، في الثاني : من هذا ؛

ثم نقول : انهم جوّزوا إضافة «منذ» إلى الظروف المذكورة والمصادر ، نحو : منذ يومين ومنذ يوم الجمعة ومذ سفره ، ومنه قولهم : مذ كم سرت؟ و «كم» سؤال عن الزمان ؛

أي من وقت يومين أي من وقت ابتدائهما ، ومن وقت يوم الجمعة ومن وقت سفره ، ومن وقت كم من الأيام ، أي وقت ابتداءكم منها؟

وإنما جاز ذلك لخروج «إذ» بالتركيب عن كونه واجب الإضافة إلى الجمل ، ويجب ، مع هذا ، مراعاة أصل «منذ» من الضمة ، إذ إضافته إلى المفرد عارضة قليلة ، كما أبقيت ضمة «حيث» عند إضافته إلى المفرد ؛

ولا فرق ، من حيث المعنى ، بين جرّ هذه الظروف ورفعها ، أصلا ، ولا تصغ إلى ما ترى في بعض الكتب : أن بين الجر والرفع في المعرفة فرقا معنويا نحو : ما رأيته منذ يوم الجمعة ، وهو جواز الرؤية في يوم الجمعة مع الجرّ ، وعدمها مع الرفع ، فإن ذلك وهم ؛

هذا الذي مرّ : أصل «منذ» ، ثم انهم قد يوقعون بعده نكرة غير محدودة للدلالة

٢١٤

على طول الزمان ، نحو : منذ حين ، ومنذ سنين ، وذلك خلاف وضعه ، لأن «إذ» لتعيين الزمان ؛ وهذا كما وضع «حتى» لتعيين النهاية ثم قيل : حتى حين ، وحتى مدة ؛

فعلى ما مرّ ، لا بدّ لمنذ ، في كل موضع دخله ، من معنى ابتداء الغاية ، ولا يكون بمعنى «في» وحده ، كما يجيئ ؛

وهذا الذي ذكرنا ، وإن كان في بعض مواضعه أدنى تعسّف (١) ، فان ذلك يجوز أن يغتفر ، مع قصد جعله في جميع استعمالاته راجعا إلى أصل واحد وعلى وتيرة واحدة ؛

ولنرجع إلى شرح ما في الكتاب (٢) من أحكام مذ ، ومنذ ، وهو مذهب جمهور البصريين ؛

قال : «مذ ومنذ بمعنى أول المدة ، فيليهما المفرد المعرفة» ، مذهبهم أنه إذا ارتفع الاسم بعدهما ، فهما اسمان في محل الرفع بالابتداء ، ولهما معنيان : إمّا أول مدة الفعل الذي قبلهما ، مثبتا كان أو منفيا ، نحو : ما رأيته منذ يوم الجمعة ، أي : أول مدة انتفاء الرؤية : يوم الجمعة ، فإذا كانا بهذا المعنى وجب أن يليهما من الزمان مفرد معرفة ؛ ويجوز كما ذكرنا ، أن يكون هذا الحدّ ، غير مفرد ، نحو : ما رأيته منذ اليومان اللذان عاشرتنا فيهما ، إذا لم يكن العدد مقصودا ، وكذا يجوز أن يكون نكرة ، نحو : ما رأيته منذ يوم لقيتني فيه ؛ إذ المقصود بيان زمن مختص ؛

وإمّا جميع (٣) مدة الفعل الذي قبلهما ، مثبتا كان الفعل أو منفيا ، نحو : صحبني منذ يومان ، أي : مدة صحبته يومان ، ومذ اليوم ومذ اليومان ، وقد تقدم أنه يجب أن يليه مجموع زمان الفعل من أوله إلى آخره المتصل بزمان التكلم ، ولا يشترط كون ذلك المجموع مقصودا فيه العدد ، وذلك لأنك تقول : ما لقيناه مذ عمرنا ، ومذ زماننا ، مع

__________________

(١) أطنب الرضى في شرح الرأي الذي اختاره من عدة آراء ؛ كما قال ، ومن عجب أنه ـ رحمه الله ـ كثيرا ما يرد بعض الآراء ، بأن من قبيل الرجم بالغيب ، وما أحرى رأيه هذا بأن يقال فيه مثل ذلك ، وكأنه هو شاعر بذلك فهو يعتذر عن هذا الطول ، ويعترف بأن فيه بعض التعسف ؛

(٢) أي ألفاظ المتن في أول البحث ؛

(٣) هو المعنى الثاني فيما إذا ارتفع ما بعدهما ،

٢١٥

أنك لا تقصد زمانا واحدا أو غير واحد ، حتى يكون فيه معنى العدد ؛

قوله : «المقصود بالعدد» ، أي المقصود مع العدد ، والباء بمعنى «مع» والا كان الواجب أن يقول : المقصود به العدد ، لأنك قصدت بقولك : يومان عدد اثنين ، لا أنك قصدت بالعدد : يومين ؛

قال الأخفش : لا تقول : ما رأيته مذ يومان ، وقد رأيته أمس ؛

قال : ويجوز أن يقال : ما رأيته مذ يومان وقد رأيته أوّل من أمس ، أمّا إذا كان وقت التكلم آخر اليوم ، فلا شك فيه ، لأنه يكون قد تكمّل لانتفاء الرؤية يومان ، وأمّا إذا كان في أوله ، أعني وقت الفجر ، فإنما يجوز ذلك إذا جعلت بعض اليوم ـ أي يوم انقطاع الرؤية ـ يوما مجازا ، وكذا إن كان في وسطه ، تجعل بعض يوم الانقطاع ، أو بعض يوم الاخبار ، يوما ، ولا تحسب بعض اليوم الآخر ، وإن اعتددت بهما معا جاز لك أن تقول : منذ ثلاثة أيام ؛ قال : ويجوز أن تقول : ما رأيته مذ يومان : يوم (١) الاثنين ، وقد رأيته يوم الجمعة ، ولا تعتدّ بيوم الاخبار ، ولا يوم الانقطاع ، قال : ويجوز أن تقول : ما رأيته مذ يومان وأنت لم تره منذ عشرة قال : لأنك تكون قد أخبرت عن بعض ما مضى ؛

أقول : وعلى ما بيّنا ، وهو أنّ «منذ» لا بدّ فيه من معنى الابتداء في جميع مواقعه : لا يجوز ذلك ؛

وقال : إنهم يقولون مذ اليوم ، ولا يقولون : منذ الشهر ، ولا منذ السنة ، ويقولون : مذ العام ، قال : وهو على غير القياس ، قال : ولا يقال : مذ يوم ، استغناء بقولهم : مذ أمس ، ولا يقولون : مذ الساعة ، لقصرها ؛

فإن كان جميع ما قاله ، مستندا إلى سماع ، فبها ونعمت ، وإلا فالقياس جواز الجميع ، والقصر (٢) ليس بمانع ، لأنه جوّز : منذ أقل من ساعة ؛

__________________

(١) بنصب «يوم» ، وتقدير الكلام انك تقول في يوم الاثنين : ما رأيته مذ يومان ..

(٢) يعني قصر المدّة ،

٢١٦

قوله : (١) «وقد يقع المصدر أو الفعل أو أن ، فيقدّر زمان مضاف» ، أي إلى هذه الثلاثة ، لأن معنى ما رأيته مذ سفره ، أو مذ أنه سافر أو مذ سافر : مذ زمان سفره ومذ زمان أنه سافر ومذ زمان سافر ؛

ولم يذكر المصنف الجملة الاسمية ، نحو : مذ زيد مسافر ، أي مذ زمان زيد مسافر ، على مذهبهم ؛ (٢)

ومذ ومنذ ، الاسميتان ، عندهم ، مبتدآن ما بعدهما خبرهما ، إذ معنى ما رأيته مذ يوم الجمعة : أوّل مدة انتفاء الرؤية يوم الجمعة ، ومعنى ما رأيته مذ يومان ، أول مدة انتفاء الرؤية : يومان ، فكأنه كان في الأصل في الموضعين : مذ ما رأيته ، حتى تكون الجملة مضافا إليها فحذفت لتقدم ما يدل عليها ؛

وبنى مذ ومنذ ، بناء قبل وبعد ، ولذلك قيل منذ بالضم ، وقيل بني مذ ، لكونه على وضع الحروف ، ثم حمل عليه منذ ، لكونه بمعناه ، وقيل حملا على مذ ومنذ الحرفيتين عندهم ، وقيل للزومهما صدر الجملة ، إذ لا يتقدم الخبر عليهما ، فصارا كحرف الاستفهام ونحوه ؛

والكلام مع مذ الاسمية عندهم : جملتان ، فما رأيته : جملة ، ومذ يوم الجمعة ، جملة أخرى ، قالوا : ولا يجوز عطف الثانية على الأولى ، وإن جاز ذلك إذا صرّحت بتفسيرهما ، كما تقول : ما رأيته ، وأمد ذلك يومان ؛ وذلك (٣) أن الثانية صارت مرتبطة بالأولى ممتزجة بها فصارتا كالجملة الواحدة ،

ولا محل للثانية عند جمهورهم ، لأنها كالمفسّرة ؛ وقال السيرافي : هي منتصبة المحل على الحال ، أي ما رأيته متقدّما ؛

قالوا : وإذا انجرّ ما بعدهما ، فهما حرفا جرّ ، فإن كان الفعل العامل فيهما ماضيا ،

__________________

(١) أي قول ابن الحاجب ، وهذا استئناف لشرح ألفاظ المتن ،

(٢) إشارة إلى أن ما ذهب إليه هو ، لا يحتاج إلى هذا التقدير ،

(٣) تعليل لعدم جواز العطف ،

٢١٧

فهما بمعنى «من» نحو : ما رأيته مذ يوم الجمعة ، أي منه ،

ولا يتمّ لهم ذلك في نحو قولك : ما رأيته مذ يومين ، إذا أردت جميع المدة ، إذ لا معنى لقولك : ما رأيته من يومين ، إلّا أن يفسّروه بمن أول يومين ، بتقدير المضاف وهو «أوّل» ؛

وإن كان الفعل حالا ، نحو : ما أراه منذ شهرنا ومنذ اليوم ، فهما بمعنى «في» ، قال الأندلسيّ : وهذا تقريب ، والا ، فمذ يقتضي ابتداء الغاية ولا تقتضيه «في» ؛

هذا تمام الكلام في تقرير المذاهب ، وإليك الخيار في الاختيار (١) ؛

وإذا عطفت على المجرور بمذ ومنذ ، أو المرفوع ، جاز لك أن توافق بالمعطوف ما بعد «مذ» جرّا ورفعا ، وأن تنصبه بالعطف على نفس «مذ» على ما اخترناه ، لأنه ظرف منصوب ، ارتفع ما بعده أو انجرّ ؛ إلا أن المعطوف إن وافق ما بعد «مذ» في كونه لأول المدة أو لمجموع المدة ، فالعطف عليه أولى ، وإن لم يوافق ، فالعطف على «مذ» أولى ؛

فمثال الموافقة في المجموع : ما رأيته مذ سنة ويوم ، وفي أول المدة : ما رأيته مذ يوم الجمعة ويوم الخميس ، أو مذ يوم الجمعة ويوم السبت ، إذا لم يكن العدد مقصودا ، بل المقصود مجرد الزمان المعيّن كما ذكرنا قبل ،

ومثال المخالفة : ما رأيته مذ يوم الجمعة وخمسة أيام ، أو : مذ خمسة أيام ويوم الجمعة ، لأن أحد الزمانين لأول المدة والآخر لمجموعها ؛

قال البصريون بناء على مذهبهم ، وهو أن الزمان مقدر قبل الجملة التي بعد «مذ» : يجوز الرفع والنصب والجر في المعطوف في نحو : مذ قام زيد ويوم الجمعة ، أمّا الرفع والجر فعلى الزمان المقدر ، والنصب على معنى : مذ قام زيد ، لأن معناه : من زمان قيام زيد ، أو على تقدير فعل آخر أي : وما رأيته يوم الجمعة ، وعلى ما ذكرنا ، لا يجوز الا العطف على «مذ» إذ لا زمان مقدر بعده ؛

__________________

(١) هذا من الانصاف وعدم التعصب، وهو في الوقت نفسه، اشادة بالرأى الذي ذهب إليه ، من طرف خفي ؛

٢١٨

قيل : وربّما دخلت كاف الجر على «مذ» ، يروى عن بعض العرب أنه قيل له : مذ كم قعد فلان؟ فقال : كمذ أخذت في حديثك ؛

قيل (١) : والكاف في «كم» للتشبيه ، دخلت على ما الاستفهامية فحذفت ألفها وسكنت الميم ؛ وذلك ، كما قال :

يا أبا الأسود لم خلّيتني

لهموم طارقات وفكر ـ ٤٧٧

وهذا آخر الكلام في : مذ ، ومنذ ؛

__________________

(١) تقدم هذا الشاهد في باب الكنايات وما قاله الشارح هنا تكرار لما قاله هناك ،

٢١٩

[لدى ، ولدن]

[استعمالهما ـ اللغات في لدن]

[قال ابن الحاجب :]

«ومنها : لدا ، ولدن ، وقد جاء : لدن ولدن ولدن ولد ،»

«ولد ، ولد» ؛

[قال الرضى :]

لدن مثل عضد ، ساكنة النون ، هي المشهورة ؛ ومعناها أول غاية زمان أو مكان ، نحو : لدن صباح ، و : (من لدن حكيم عليم) (١) ، وقلّما تفارقها «من» ، فإذا أضيفت إلى الجملة تمحضت للزمان ، لما تقدم ، أن ظروف المكان لا يضاف منها إلى الجملة الا «حيث» ، وذلك كقوله :

صريع غوان راقهن ورقنه

لدن شبّ حتى شاب سود الذوائب(٢) ـ ٥٠١

ويجوز تصدير الجملة بحرف مصدري ، لمّا لم يتمحض «لدن» في الأصل للزمان ، قال عمرو بن حسّان :

__________________

(١) الآية ٦ سورة النمل ،

(٢) تقدم ذكره قريبا ،

٢٢٠