شرح الرضيّ على الكافية - ج ٣

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٧٨

وأمّا قالي قلا ، فعدّها سيبويه من أخوات أيدي سبا ، وجار الله من أخوات : معد يكرب ، ولا دليل فيها على مذهب سيبويه ، لأن مجموع الكلمتين : علم بلدة ، فيجوز الّا ينصرف للتركيب والعلمية ، ولا يكون مبنيا ؛

وأمّا تخفيف همزتي بادي بدي ، فنقول انه سكن الهمز من بادئ وقلب ياء ؛ وحذف الهمز من بدئ ، وكلا التخفيفين خلاف القياس ؛

وثانيتها (١) : بادي بدا ، أولى كلمتي هذه ، كأولى كلمتي اللغة الأولى ، والثانية على وزن «دعا» ، وأصله : بداء ، كنبات ، لأن «بدأ» على وزن طلب لم يأت من هذا التركيب فحذفت الهمزة تخفيفا ، وبداء ، مصدر بمعنى المفعول ، فهو كبدئ من حيث المعنى ؛ والثالثة والرابعة ، والخامسة : بادي بدء أو بدئ أو بداء ، الكلمة الأولى من هذه اللغات كأولى المذكورتين ، ساكنة الياء والثانية إمّا على وزن : سمح ، أو كريم ، أو جبان ، والبدء والبداء مصدران بمعنى المفعول ، وليس الجزآن في هذه اللغات مبنيّين ، بل هما المضاف والمضاف إليه ، لكن ألزم ياء بادي : السكون بعد القلب للتخفيف والثانية؟؟؟ فيها كلها غير مخففة ؛

وقد يقال : بدأة ذي بدء ، وبدأة ذي بدأة ، وبدأة ذي بداءة ، على فعلة ذي فعل وفعلة وفعالة ، المضاف إليه في الثلاث بمعنى المفعول ، لأنه يقال للمضروب : ذو ضرب ، كما يقال للضارب ؛

والمضاف مصدر ، إمّا بمعنى الفاعل ، فيكون انتصابه على الحال ، فيكون المعنى ، كما في بادي بدي ، أو منصوب على الظرف بتقدير حذف المضاف أي : وقت ابتدائك بما تبتدئ به ، فهو مصدر مضاف إلى المفعول ؛

ومنها (٢) : أيدي سبا ، في قولهم : تفرقوا أيدي سبا ، وأيادي سبا ، أي : مثل تفرق أولاد سبأ بن يشجب ، حين أرسل عليهم سيل العرم ، والأيدي كناية عن الأبناء والأسرة ،

__________________

(١) ثانية اللغات في بادئ بدئ ؛ وقد طال حديثه في الأولى ؛

(٢) يعني : من المركبات ، وإن كان قد تعرض له استطرادا في أثناء الكلام على بادي بدا.

١٤١

لأنهم في التقوّي والبطش بهم بمنزلة الأيدي ؛ ويجوز أن يكون في الأصل انتصابه على الحال ، على حذف المضاف ، وهو «مثل» ، ويجوز أن يكون على المصدر ، والمعنى مثل تفرق أيدي سبا ، وأمره في بناء الأول والثاني ، كما مرّ في : بادي بدي ، فلذا ألزم ياء «أيدي» السكون ، وسكنت همزة «سبأ» ثم قلبت ألفا ؛ وقد يقال : أيدي سبأ بالتنوين ، فيكون : أيدي ، وأيادي ، مضافين إلى «سبا» لكنه يلزم سكون ياءيهما ، وقلب همزة «سبا» ؛

وقد استعمل جوازا كخمسة عشر مبنية الجزأين : ظروف ، كيوم يوم وصباح مساء ، وحين حين ؛ وأحوال نحو : لقيته كفة كفة ، وهو جاري بيت بيت ؛ وأخبرته أو لقيته صحرة بحرة ؛

ويجوز أيضا ، إضافة الصدر من هذه الظروف والأحوال إلى العجز ، وإنما لم يتعيّن بناء الجزأين فيهما ، كما تعيّن في «خمسة عشر» ، لظهور تضمن الحرف في خمسة عشر ، دون هذه المركبات ، إذ يحتمل أن تكون كلها بتقدير حرف العطف ، وألّا تكون ؛

فإذا قدّرناه قلنا ان معنى لقيته يوم يوم ، وصباح مساء ، وحين حين ، أي : يوما فيوما ، وصباحا فمساء ، وحينا فحينا ، أي : كل يوم وكل صباح ومساء وكل حين ، والفاء تؤدّي معنى هذا العموم ، كما في قولك : انتظرته ساعة فساعة أي في كل ساعة ، إذ فائدة الفاء : التعقيب ، فيكون المعنى : يوما فيوما عقيبه ، بلا فصل ، إلى ما لا يتناهى ، فاقتصر على أول المكرّر ، أي التثنية ، كما في قوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ)(١) ، ولبّيك ، ونحوه ، وكذا في : صباح مساء ، وحين حين ؛

وقلنا (٢). ان أصل لقيته كفّة كفّة ، معناه : متواجهين ذوى كفّة مني ، وكفّة منه ، كأنّ كلّا ، منّا كان يكف صاحبه عن التولّي والاعراض ، وأصل جاري بيت بيت ،

__________________

(١) الآية ٤ سورة الملك ؛

(٢) متصل بقوله : فإذا قدرناه قلنا ..

١٤٢

متلاصقا بيتي وبيته أي مجتمعان (١) ملتزقان ، كما تقول : كل رجل وضيعته ، كما ذكرنا ، في باب الحال في قولهم : بعت الشاء : شاة ودرهما ؛

وأصل لقيته صحرة بحرة : صحرة وبحرة ، ومعناه : ظاهرين ذوى صحرة أي انكشاف ، وبحرة أي اتساع ، أي في غير ضيق ، وأخبرته صحرة بحرة ، معناه : كاشفا للخبر ، ذا صحرة .. ؛

ويجوز أن يكون مصدرا لا حالا ، أي لقاء واخبارا ذا صحرة ؛

وإن لم نقدر حرف العطف قلنا : إن المعنى : يوما بعد يوم وصباحا بعد مساء ، وحينا بعد حين ، كقوله :

٤٧٢ ـ ولا تبلى بسالتهم وإن هم

صلوا بالحرب حينا بعد حين (٢)

ولقيته ذا كفة مع كفة أو بعد كفة ، كما يروى عن رؤبة : كفة عن كفة ، كقولهم : كابرا عن كابر ؛ (٣) وهو جاري بيت بيت ، أي : ذا بيت مع بيت ، أو عند بيت ، وأخبرته ذا صحرة مع بحرة ، وإذا ضموا «نحرة» إليهما ، أعربوا الثلاثة ، نحو : صحرة بحرة نحرة ، على الإتباع ، كما في : خبيث نبيث ، إذ يتعذّر تركيب ثلاث كلمات ؛ والنحر ، أيضا ، بمعنى الإظهار ، لأن نحر الإبل يتضمنه ، ومنه قولهم : قتلته نحرا ، وقولهم للعالم : نحرير ، لأن القتل والنحر يتضمنان إظهار ما في داخل الحيوان ؛

فإذا أضيفت هذه الظروف والأحوال ، فإمّا أن تكون الإضافة بمعنى اللام ، على المعنى المذكور فيها عند عدم تقدير الحرف ، وإمّا أن تكون لتشبيه هذه المركبات بالمضاف

__________________

(١) أي هما مجتمعان ملتزمان ، واللزق بالزاي مثل اللصق بالصاء ، وكذلك ما تصرف من هذه المادة ، كالالتزاق بمعنى الالتصاق ؛

(٢) ينسب لأبي الغول الطهويّ ، أو النهشلي ، إذ يقول عن قومه :

قدت نفسي وما ملكت يميني

فوارس صدقت فيهم ظنوني

في عدة أبيات ، رواها أبو تمام في الحماسة ، والقالي في الأمالي ،

(٣) ورد هذا في قول الشاعر : ورث السيادة كابرا عن كابر ، وهو شطر بيت سيذكره الشارح في معاني حروف الجر ؛

١٤٣

والمضاف إليه ، كما قلنا في معد يكرب ، وكذا في نحو : خمسة عشر إذا جعل علما ، جازت الإضافة تشبيها ؛

فإذا أخرجت هذه الظروف والأحوال عن الظرفية والحالية ، وجبت الإضافة ، ولم يجز التركيب ، قال :

٤٧٣ ـ ولو لا يوم يوم ما أردنا

جزاءك والقروض لها جزاء (١)

وتقول : أتيته في كل يوم يوم ، وأتيتك في صباح مساء ، وذلك لأن علة بناء الاسمين لم تكن فيها ظاهرة ، كما مرّ ، لكنّه حسّن تقدير ذلك : وقوعها موقع ما يكثر بناؤه ، وهو الظرف ، وموقع الحال المشبه به ، فإذا لم تقع موقعهما لم يقدّر ذلك ؛

واستعمل كخمسة عشر ، وجوبا ، أحوال لازمة للحالية ، نحو : تفرقوا شغر بغر ، وشذر مذر ، بفتح فاء الكلمات وكسرها ، وخذع مذع بكسر الفائين ، وأخول أخول ، (٢) كلها بمعنى منتشرين ؛ وتركتهم حيث بيث ، أي متفرقين ضائعين ، وسقط بين بين ، أي بين الحي والميت ، وبين ، الثانية زائدة ، كما في قولهم : المال بيني وبينك ؛

ولم يسمع في هذه الكلمات الإضافة ، كما سمعت في المذكورة قبل ، مع أنه يمكن الّا يقدّر فيها ، أيضا ، حرف العطف كما في الأولى ؛

فشغر ، من اشتغرت عليه ضيعته ، أي انتشرت ولم تنضبط ، وبغر ، من بغر النجم أي هاج بالمطر ونشره ، وشذر ، من التشذر أي التفريق ، ومذر من التبذير وهو الإسراف ، والميم بدل من الباء ، ويقال : شذر بذر ، على الأصل ، أو من : مذرت البيضة أي فسدت ، وخذع من الخذع وهو القطع ، ومذع من قولهم : فلان مذّاع ، أي كذّاب يفشي الأخبار ،

__________________

(١) للفرزدق ، كما جاء ذلك في سيبويه ٢ / ٥٣ والمراد : ولو لا نصرنا لك في هذا اليوم ما طلبنا نصرك لنا الآن ، جعل النصر قرضا يطلب رده ؛

(٢) ورد هذا في شعر ضابئ البرجمي في إحدى القصائد ، رواها الأصمعي ، حيث وصف ثورا وحشيا يدافع عن نفسه كلاب الصيد فكان يطعنها بقرنه فتتساقط من حوله كما يتساقط الشرر من الحديد عند ما يطرقه الحداد ، وذلك في قوله :

يساقط عنه روقه ضارياتها

سقاط شرار القين أخول أخولا

١٤٤

وينشرها ؛ وحيث بيث ، وقد ينونان ، وقد يقال : حيث بيث بكسر الفائين ، وأصلهما : حوث بوث ، وقد يستعملان على الأصل مع التنوين وعدمه نحو : حوثا بوثا ، من الاستحاثة والاستباثة ، وهما بمعنى ، يقال : استحثت الشيء إذا ضاع في التراب فطلبته ، وقد جاء : حاث باث بفتح الثائين ، وحاث باث بكسرهما أيضا ، تشبيها بالأصوات ، نحو : قاش ماش (١) ، وخاق باق ، (٢) وجاز قلب الواو ياء ، أو ألفا ، للاستثقال الحاصل بالتركيب ، ومن نونهما فلكون الثاني إتباعا ، كما في : خبيث نبيث ؛

وكثير من ألفاظ هذه المركبات ، مع كونها مشتقة ، كخذع مذع ، وشغر بغر ، لم تستعمل إلا مع التركيب ؛

وندر مثل هذا المركب في غير الظروف والأحوال ، لما قلنا إن تقدير الحرف في مثله غير متعيّن ، وانما حسّنه الحالية والظرفية ؛

وذلك نحو قولهم : وقعوا في حيص بيص ، أي في فتنة عظيمة ، بفتح الصادين ؛ والفاءان مكسورتان أو مفتوحتان ، والحيص : الهرب ، والبوص السبق والتقدم أي وقعوا في هرب وسبق بعضهم بعضا لعظم الفتنة ، فقلبوا الواو ياء ، (٣) للازدواج ، وهو أولى من العكس ، لأن الياء أخف ، وقد يقال : حوص بوص بقلب الياء واوا ؛ وقد ينون الجزءان مع كسر الفاءين وفتحهما ، فيكونان معربين ، والثاني إتباع كما ذكرنا ؛

وقد يقال : حيص بيص بكسر الصادين ، والفاءان مفتوحتان أو مكسورتان تشبيها بالأصوات ، وجاء : حاص باص ، كحاث باث بفتحهما ؛

وأمّا الخازباز (٤) ، فإنه مركب من اسم فاعل : خزى أي قهر وغلب ، ومن اسم فاعل : بزى ، إذا سما وارتفع كأنه قيل : هو الخازي البازي ، فركبا وجعلا اسما واحدا ، وتصرّف

__________________

(١) صوت القماش عند طيّه ؛

(٢) صوت النكاح .. وسيذكرهما الشارح ؛

(٣) يعني في كلمة بوص ؛

(٤) يأتي تفسيره وذكر معانيه بعد ذكر لغاته ؛

١٤٥

فيه على سبعة أوجه :

خازباز ، بحذف الياءين وبناء الاسمين على الكسر تشبيها بالصوت ؛

وخازباز ، تشبيها بخمسة عشر ، وكأنّ أصله : الخازي والبازي على عطف أحد النعتين على الآخر ،

وخازباز ، كبعلبك ، على أن يبنى أولهما على الفتح ، أو الكسر ، وإنما جاز كسر الأول ههنا بخلاف بعلبك ، نظرا إلى أصل الزاي ، وإنما منع الصرف في هذين الوجهين ، للعلمية الجنسية والتركيب ، فإذا دخله اللام انكسر الثاني جرّا كما في سائر غير المنصرف ؛ وخازباز بإعرابهما على إضافة الأول إلى الثاني ، كما يجوز في بعلبك ، فيجوز صرف الثاني وترك صرفه ؛

وخازباء ، كقاصعاء ، وخزباز ، كقرطاس ، وليس الأخيران مركبين من كلمتين ، بل كل واحد منهما اسم صيغ من اسمين ، كما قيل : عبقسيّ ، في عبد القيس ؛

واذا دخلت اللام على هذه اللغات ، لم تغيّر ما كان مبنيا عن بنائه ، كما في : الخمسة عشر ، قال :

٤٧٤ ـ تفقّأ فوقه القلع السواري

وجنّ الخازباز به جنونا (١)

ولها خمسة معان (٢) : ضرب من العشب ، وذباب يكون في العشب ، وصوت الذباب ، وداء في اللهازم ، والسّنّور ؛

وأمّا خاق باق ، للنكاح ، وقاش ماش ، للقماش ، فكل واحد منهما سمّي بصوته ، فبقيا على بنائهما ؛

__________________

(١) قائله : عمرو بن أحمر الباهلي ، يصف مكانا غمره المطر فأخصب واخضرّ والمراد من الخازباز في البيت : الذباب أو العشب نفسه كما يأتي في تفسير معنى الخازباز ، والقلع جمع قلعة وهي القطعة العظيمة من السحاب ومعنى تفقأ : تنشق عن الماء وأصله تنفقأ بتاءين خفف بحذف إحداهما ؛

(٢) استشهد ابن يعيش في شرح المفصل ٤ / ١٢٠ لثلاثة من هذه المعاني وقال عن كونه بمعنى السّنور : إنه غريب ، ولم يستشهد له ؛

١٤٦

[الكنايات]

[معنى الكناية والغرض منها]

[علة بناء الكنايات]

[قال ابن الحاجب :]

«الكنايات : كم ، وكذا ، للعدد ، وكيت وذيت ، للحديث»

[قال الرضى :]

الكناية في اللغة والاصطلاح : أن يعبّر عن شيء معيّن ، لفظا كان أو معنى ، بلفظ غير صريح في الدلالة عليه ، إمّا للإبهام على بعض السامعين ، كقولك : جاءني فلان ، وأنت تريد : زيدا ، وقال فلان : كيت وكيت ، إبهاما على بعض من يسمع ، أو لشناعة المعبّر عنه ، كهن في الفرج ؛ أو الفعل القبيح ، كوطئت وفعلت ، عن جامعت ، والغائط للحدث ، أو للاختصار كالضمائر الراجعة إلى متقدم ، أو لنوع من الفصاحة ، كقولك : كثير الرماد ، للكثير القرى (١) ، أو لغير ذلك من الأغراض ؛

والمكنى عنه إن كان لفظا ، فقد يكون المراد معنى ذلك اللفظ ، كقوله :

٤٧٥ ـ كأن فعلة لم تملأ مواكبها

ديار بكر ولم تخلع ولم تهب (٢)

__________________

(١) يعني الكريم ؛

(٢) من قصيدة للمتنبي في رثاء أخت سيف الدولة واسمها خولة كما قال الشارح ، ومطلع القصيدة :

يا أخت خير أخ يا بنت خير أب

كناية بهما عن أشرف النسب

وقبل البيت الذي أورده الشارح :

طوى الجزيرة حتى جاءني خبر

فزعت فيه بآمالي إلى الكذب

حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا

شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي

١٤٧

أي خولة ، وكقولك مررت برجل أفعل ، أي أحمق ، وقد يكون المراد مجرّد ذلك اللفظ ، كالألغاز والمعمّيات ، نحو : اكفف اكفف (١) ، في : مهمه ، وكذا الأوزان التي يعبّر بها عن موزوناتها في اصطلاح النحاة ، كقولهم : أفعل صفة لا ينصرف ، وهو عبارة عن كلمة أولها همزة زائدة بعدها فاء ساكنة بعدها عين مفتوحة ، بعدها لام ؛ وكذا غيره من الأوزان ، كما يجيئ في باب الأعلام ؛ فيكون ، على هذا ، «كم» الاستفهامية كناية ، لأنها سؤال عن عدد معيّن ، وكذا : من ، وما ، وكيف ، وغيرها من أسماء الاستفهام ، لأنها كلها سؤال عن معيّن غير مصرّح باسمه ؛ فمن : سؤال عن ذي العلم ، المعيّن غير المصرّح باسمه ، ولو صرّحت لقلت أزيد أم عمرو ، و : أذلك الفاضل أم ذلك الجاهل ، وكذا «أين» سؤال عن مكان معيّن غير مصرّح باسمه ؛ وكذا أسماء الشرط ، كلها كنايات وذلك لأن كلمات الشرط والاستفهام بمعنى «أيّ» الموضوع للمعيّن ، شرطا كان أو استفهاما ؛ تكنى بهذه الأسماء شرطا أو استفهاما عن المعيّنات غير المحصورة ، اختصارا ، إذ كان يطول عليك لو قلت مكان : أين زيد ، أفي الدار ، أم في السوق ، أم في الخان ، إلى غير ذلك من جميع المعيّنات ، فحرف الشرط وحرف الاستفهام مقدّران قبل هذه الأسماء كما هو مذهب سيبويه ؛ وهي كنايات عن المعيّنات التي لا تتناهى كما مرّ ،

وقول المصنف : ليس نحو من ، وما ، وكيف ، كناية ؛ ممنوع ، إذ كثيرا ما يجري في كلامهم : أن «من» كناية عن العقلاء ، و «ما» عن غيرهم وقولك : أنا ، وأنت ، ليس بكناية لأنه تصريح بالمراد ، وضمير الغائب كناية ، إذ هو دالّ على المعنى بواسطة المرجوع إليه غير صريح بظاهره فيه ،

ويقال : كنيت عن كذا بكذا ، وكنوت ، قال :

__________________

(١) هذا مما جاء في مقامات الحريري مما يراد به الألغاز ، وحله أنه يقصد كلمة مهمه بمعنى المكان القفر فإنه مكون من كلمة مه مرتين ، وهي بمعنى اكفف ، وقد جاء في المقامات منظوما في قوله :

يا من تقصّر عن مدا

ه خطى تجاريه وتضعف ..

ما مثل قولك للذي

أضحى يحاجيك اكفف اكفف

وأورده البغدادي في الخزانة وشرحه ؛ وأورد ما يشبهه من الألغاز ؛

١٤٨

٤٧٦ ـ وإني لأكنو عن قذور بغيرها

وأعرب أحيانا بها فأصارح (١)

فالكناية ضد التصريح لغة واصطلاحا ؛

اعلم أن جميع الكنايات ليست بمبنية ، (٢) فإن فلانا وفلانة ، منها ، بالاتفاق وهما والمبني منها : كم ، وكذا ، وكأيّن ، وكيت ، وذيت ، وأمّا أسماء الاستفهام والشرط فلم تعدّ هنا ، لأن لها بابا آخر ، هي أخصّ به ، فالكنايات ، كالظروف في كون كل واحد منهما قسمين : معربا ومبنيا ،

قال المصنف : المراد بالكنايات ألفاظ مبهمة يعبّر بها عمّا وقع في كلام متكلم مفسّرا ، إمّا لإبهامه على المخاطب ، أو لنسيانه ، فكم ، لا تكون من هذا القبيل ، على ما أقرّ به ، استفهامية كانت أو خبرية ، ولا لفظ «كذا» في قولك : عندي كذا رجلا ، لأنه ليس حكاية لما وقع في كلام متكلم مفسّرا ، ولا كيت وكيت ، وذيت وذيت ، بلى ، مثل قولك : قال فلان كذا ، وقال فلان كيت وكيت ، داخل في حدّه ، وكأيّن ، خارج عنه ، نحو قولك : كأيّن رجل عندي ؛

واعلم أن بناء «كم» الخبرية لشبهها بأختها الاستفهامية ، قال المصنف : والأندلسي ، أو لتضمنها معنى الإنشاء الذي هو بالحروف غالبا ، كهمزة الاستفهام وحرف التحضيض وغير ذلك ، فأشبهت ما تضمّن الحرف ؛

فإن قيل : الكلام الخبري هو الذي يقصد المتكلم أن له خارجا موجودا في أحد الأزمنة مطابقا لما تكلم به ، فإن طابقه سمّي كلامه صدقا وإلا فكذبا ، والإنشائي ما لا يقصد المتكلم به ذلك ، بل إنما يحصّل المتكلم المعنى الخارج ، بذلك الكلام ؛ والكلام المصدّر بكم ، أو بربّ ، لا بدّ فيه من أن يقصد المتكلم مطابقته للخارج ، نحو : كم رجل لقيته ، و :

__________________

(١) أراد بقذور : امرأة بعينها ، فكنى عنها بهذا اللفظ ، وقال البغدادي : إن هذا البيت مما جاء في بعض كتب النوادر غير منسوب لأحد ؛

(٢) يقصد أنها ليست كلها مبنية ، بل بعضها معرب ؛ وعبارته لا تؤدي المقصود ؛

١٤٩

ربّ من أنضجت غيظا قلبه

قد تمنّى لي موتا لم يطع (١) ـ ٤٢٨

فيصح أن يقال : ما لقيت رجلا ، ولم تنضج صدر أحد ، وجواز التصديق والتكذيب دليل كونهما خبرين ؛

فالجواب : ان معنى الإنشاء في «كم» في الاستكثار ، وفي «ربّ» في الاستقلال ، (٢) ولا يقصد المتكلم أن للمعنيين خارجا ، بل هو الموجد لهما بكلامه ، بلى ، يقصد أن في الخارج قلة أو كثرة ، لا استكثارا ولا استقلالا فلا يصح أن يقال له : كذبت ، فإنك ما استكثرت اللقاء ، وما استقللت الإنضاج ، كما لو قال : ما أكثرهم ، صحّ أن يقال : ليسوا بكثيرين ، ولم يصح أن يقال : ما تعجبت من كثرتهم ؛ وليس كذلك نحو : ما قام زيد ، فإنه لا يفيد ، أنك تعدّ قيامه منفيا بهذا الكلام كما أفاد : كم رجل لقيته ، أنك تعد لقاءه كثيرا بهذا الكلام ، بل المعنى أنك تحكم بانتفائه في الخارج ؛

ويأتي تمام القول فيه ، في أفعال المدح والذم ، إن شاء الله تعالى ؛ وأمّا بناء «كذا» فلأنه في الأصل «ذا» المقصود به الإشارة ، دخل عليه كاف التشبيه ، وكان «ذا» مشارا به إلى عدد معيّن في ذهن المتكلم ، مبهم عند السامع ، ثم صار المجموع بمعنى «كم» ، وانمحى عن الجزأين معنى التشبيه ، والإشارة ، كما ذكرنا في : فاها لفيك ، وأيدي سبا ، فصار الكلمتان ككلمة واحدة ، ولذا نقول : إن كذا مالك ، يرفع «مالك» على أنه خبر «إنّ» ولا نقول إن اسم «ان» : الكاف الاسمية ، لأنها عند سيبويه لا تكون اسمية إلا للضرورة ، كما يجيئ في حروف الجر ، فيبقى ذا ، على أصل بنائه ؛ قوله : «كذا للعدد» ، وقد يكون لغير العدد ، أيضا ، نحو : قال فلان كذا ،

وأمّا «كأيّن» فهو كاف التشبيه دخلت على «أيّ» التي هي في غاية الإبهام إذا قطعت عن الإضافة ، فكأيّن ، مثل «كذا» في كون المجرورين مبهمين عند السامع إلا أنّ في «ذا» إشارة في الأصل إلى ما في ذهن المتكلم بخلاف «أيّ» فإنه للعدد المبهم ؛ والتمييز

__________________

(١) تقدم ذكره في باب الموصول من هذا الجزء ؛

(٢) يعني اعتبار الشيء قليلا وهو مقابل للاستكثار أي عدّ الشيء كثيرا ؛

١٥٠

بعد كذا وكأيّن ، في الأصل ، عن الكاف ، لا عن «ذا» و «أيّ» ، كما في : مثلك رجلا ، لأنك نبيّن في : كذا رجلا ، وكأيّن رجلا ، أن مثل العدد المبهم من أي جنس هو ، ولم تبيّن العدد المبهم حتى يكون التمييز عن ذا ، وأيّ ؛

فأيّ في الأصل ، كان معربا ، لكنه ، كما قلنا في «كذا» انمحى عن الجزأين ، معناهما الإفرادي ، وصار المجموع كاسم مفرد بمعنى «كم» الخبرية ، فصار كأنه اسم مبني على السكون ، آخره نون ساكنة ، كما في «من» لا تنوين تمكن ، فلذا يكتب بعد الياء نون ، مع أن التنوين لا صورة له خطّا ، ولأجل التركيب ، تصرّف فيه فقيل : كائن بالألف بعد الكاف ، بعدها همزة مكسورة بعدها نون ساكنة ؛

قال يونس (١) : هو : اسم فاعل من كان ، وذهب المبرد ، وهو الأولى ، إلى أنهم بنوا من الكلمتين لما ركبوهما : اسما على فاعل ، فالكاف فاء الكلمة ، والهمزة التي كانت فاء «أيّ» ، صارت عينا ، وحذفت إحدى الياءين ، وبقيت الأخرى لاما ؛

وقال الخليل : الياء الساكنة من «أي» قدّمت على الهمزة وحركت بحركتها لوقوعها موقعها ، وسكنت الهمزة لوقوعها موقع الياء الساكنة ثم قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فاجتمع ساكنان : الألف والهمزة ، فكسرت الهمزة لالتقاء الساكنين ، وبقيت الياء الأخيرة بعد كسرة فأذهبها التنوين بعد زوال حركتها كالمنقوص ؛

وقال بعضهم : الياء المتحركة قدّمت على الهمزة وقلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، ثم سكنت الهمزة وكسرت للساكنين وحذفت الأولى كما في : قاض ؛ ومنهم من قال : قدّمت العين ، أي الياء الساكنة على الهمزة وقلبت ألفا مع سكونها كما في : طائيّ ، وحاريّ ، (٢) ثم نقلت كسرة الياء إلى الهمزة اتماما للتغيير ، وحذفت للتنوين بدليل أن من لغاته : كيئ نحو : كيع ؛ (٣) وقد يقال : كيأ بفتح الهمزة على أنها بقيت مفتوحة ، ثم قلبت الياء التي

__________________

(١) يونس بن حبيب أحد شيوخ سيبويه ، وتقدم ذكره في هذا الجزء وفيما قبله ؛

(٢) طائي : نسبة شاذة إلى طيئ ؛ وحاريّ منسوب إلى الحيرة ، وهو شاذ أيضا ؛

(٣) كلمة أراد بها ضبط ما قبلها فجعل مكان الهمزة عينا ، وكذلك في قوله بعد هذا : كعي وكع ؛

١٥١

هي لام الكلمة ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وقد يقال : كأي ، نحو : كعي بحذف حركة الهمزة مع الياء الأولى ؛

وجاء : كأ ، نحو : كع ، إمّا على حذف العين واللام معا ، ونقل كسرة اللام إلى الهمزة ؛ وإمّا على حذف العين ونقل كسرة اللام وحذفها للتنوين ، كما في عم وشج ؛

وعند الكوفيين : «كم» ، أيضا ، مركبة مثل كأيّن وكذا ، من كاف التشبيه و «ما» ، وذلك لأن «ما» ، كما ذكرنا في الموصولات ، للمجهول ماهيته ، فهي في إبهام «أي» ، و «ذا» ، ثم حذفت ألفها ، وسكنت الميم للتركيب ، وحذف ألفها إذا كانت في الاستفهام قياس ، نحو : لم ، وفيم ، فتكون «كم» الاستفهامية كقوله :

٤٧٧ ـ يا أبا الأسود لم خليّتني

لهموم طارقات وفكر (١)

وأمّا عند البصريين ، فلا تركيب في «كم» ؛

وأمّا كيت وذيت ، فإنما بنيا ، لأن كل واحدة منهما كلمة واقعة موقع الكلام ، والجملة من حيث هي هي ، لا تستحق إعرابا ولا بناء ، كما مرّ في المركبات ،

فإن قيل : فكان يجب ألّا تكون مبنية ، أيضا ، كالجمل ؛

قلت : يجوز خلوّ الجمل من الإعراب والبناء ، لأنهما من صفات المفردات من الأسماء ، ولا يجوز خلوّ المفرد عنهما ، فلما وقع المفرد موقع ما لا إعراب له في الأصل ولا بناء ، ولم يجز أن يخلو منهما مثله ، بقي على الأصل الذي ينبغي أن تكون الكلمات عليه ، وهو البناء ، إذ بعض المبنيات ، وهو الخالي عن التركيب يكفيه عريّه عن سبب الإعراب ، فعريّه عن سبب الإعراب : سبب للبناء ، كما قيل : عدم العلة : علة العدم ؛

فإن قلت : انهما وضعتا لتكونا كناية عن جملة لها محل من الاعراب نحو : قال

__________________

(١) استشهد به كثير من النحاة ، ولم ينسبه أحد منهم ، ولم يعرف المقصود بأبي الأسود ، وروي : لم أسلمتني ولم خلّفتني ، كما يروى آخره : وفكر ، وذكر ، الأول جمع فكرة والثاني جمع ذكرة وممن أورده : ابن هشام في المغني ولكن السيوطي لم يتعرض له في شرحه للشواهد ؛

١٥٢

فلان كيت وكيت ، أي : زيد قائم ، مثلا ، وهي في موضع النصب ؛

قلت : إن الإعراب المحلّى في الجملة عارض ، فلم يعتدّ به ؛

وبناؤهما على الفتح أكثر ، لثقل الياء ، كما في : أين ، وكيف ، أو لكونهما في الأغلب كناية عن الجملة المنصوبة المحلّ ، ويجوز بناؤهما على الضم ، والكسر أيضا ؛ تشبيها بحيث ، وجير (١) ، ولا تستعملان إلا مكررتين ، بواو العطف نحو قال فلان كيت وكيت ، وكان من الأمر ذيت وديت ، وهما مخففتان من : كيّة ، وذيّة ، بحذف لام الكلمة وإبدال التاء منها ، كما في بنت ، والوقف عليهما بالتاء ، كما على بنت ؛ ومن العرب من يستعملهما على الأصل فلا يكونان إلا مفتوحتين ، لثقل التشديد ، والوقف عليهما بالهاء ؛

ولا مهما ياء لا واو ، إذ ليس في الكلام مثل : حيوت ، وواو حيوان بدل من الياء ، إلا عند المازني ، وعنده واو حيوان : أصل ، فيجوز أن يكون ، أيضا ، لام كيّة وذيّة واو ؛ ولم نقل إن أصلها كوية وذوية ، لأن التاء في كيت وذيت بدل من اللام ، فلو كانت العين واوا ، لقلت : كوت وذوت ؛ والتاء فيهما لكونهما عبارتين عن القصة ؛

وحكى ابو عبيدة (٢) : كيه بالهاء مكان تاء كيت ، مفتوحة ومكسورة.

[تمييزكم بنوعيها]

[والفرق بينهما]

[قال ابن الحاجب :]

«فكم الاستفهامية مميزها منصوب مفرد ، ومميّز الخبرية مجرور»

«مفرد ومجموع ، وتدخل من فيهما ، ولهما صدر الكلام» ؛

__________________

(١) حرف جواب ، مثل نعم ؛

(٢) أبو عبيدة بالتاء : معمر بن المثنى وهو شيخ أبي عبيد القاسم بن سلام صاحب كتاب الغريب المصنف ، والمذكور في النسخة المطبوعة : أبو عبيدة بالتاء ؛

١٥٣

[قال الرضى :]

كم الاستفهامية ، وكم الخبرية تدلّان على عدد ومعدود ، فالاستفهامية لعدد مبهم عند المتكلم ، معلوم ، في ظنه ، عند المخاطب ، والخبرية لعدد مبهم عند المخاطب وربّما يعرفه المتكلم ، وأمّا المعدود فهو مجهول عند المخاطب في الاستفهامية والخبرية فلذا احتيج إلى التمييز المبيّن للمعدود ، ولا يحذف إلا لدليل ، كما تقول مثلا : كم عندك ، إذا جرى ذكر الدنانير ، أي كم دينارا ، أو : كم عندي ، أي كم دينار ، قالوا : وحذف مميز الاستفهامية أكثر ، لأنه في صورة الفضلات ؛ ومميز الاستفهامية منصوب مفرد ، حملا لها على المرتبة الوسطى من العدد ، وستجيء العلة في باب العدد ، وإنما حملت على وسطى المراتب ، لأن السائل لا يعرف في الأغلب : الكثرة والقلة ، فحملها على الدرجة المتوسطة بين القلة والكثرة أولى ؛ وكم ، منونة تقديرا ، لكن فصل المميز عن كم الاستفهامية جائز في الاختيار ، نحو : كم لك غلاما ، ولا يجوز ذلك في العدد ، إلا اضطرارا كما قال :

على أنني بعد ما قد مضى

ثلاثون للهجر حولا كميلا (١) ـ ٢٠٧

وذلك لأن العدد مع المعدود ككلمة واحدة ، ألا ترى أن «عشرون» مع مميزه بمنزلة : رجل ورجلان ، ولو وجدوا لفظا دالّا على المعدود مع العدد كما في المفرد والمثنى ، لم يحتاجوا إلى العدد ؛ وكذا كل مقدار مع مميزه ، لا يفصل بينهما نحو : رطل زيتا ، لأنه هو ، بدليل إطلاق أحدهما على الآخر ، بخلاف كم الاستفهامية مع مميزها ؛ ولا يجوز جر مميز الاستفهامية إلا إذا انجرت هي بحرف الجر ، نحو : على كم جذع بني بيتك ، وبكم رجل مررت ، فيجوز في مثله : الجر مع النصب ، وذلك لأن المميّز والمميّز في المعنى : شيء واحد ، فكأن الجار الداخل على «كم» ، داخل على مميّزه فالجر عند الزجاج بسبب إضافة «كم» إلى مميزه كما في الخبرية ، قصد تطابق «كم» ومميزه جرا ، وعند النحاة : هو مجرور بمن مقدرة ، ومجوّز إضمارها : قصد التطابق ، ولا يجوز أن يكون المجرور بدلا

__________________

(١) تقدم هذا الشاهد في باب التمييز ، في الجزء الثاني ؛

١٥٤

من «كم» ، لأن بدل متضمّن الاستفهام ، يقترن بهمزة الاستفهام ، كما مر في باب البدل ؛ ولا يكون مميز الاستفهامية مجموعا ؛ كمميز المرتبة الوسطى ، خلافا للكوفيين ؛ وعلى ما أجاز السيرافي في العدد : أعشرون غلمانا لك ، إذا أردت طوائف من الغلمان ، ينبغي جواز : كم غلمانا لك بهذا المعنى ؛ وقال البصريون : لو جاء نحو : كم غلمانا لك ، فالمنصوب حال لا تمييز ، والتمييز محذوف ، أي : كم نفسا لك في حال كونهم غلمانا ، والعامل في الحال : الجار والمجرور ، فلا يجوز عندهم : كم غلمانا لك إلّا على مذهب الأخفش ، كما تقدم في باب الحال ؛

والجرّ في مميز الخبرية بإضافتها إليه ، خلافا للفراء ، فإنه عنده بمن مقدرة ، وهذا كما قال الخليل في : لاه أبوك (١) ، إنه مجرور بلام مقدرة ، وإنما جوّز الفراء عمل الجارّ المقدر ههنا ، وإن كان في غير هذا الموضع نادرا ، لكثرة دخول «من» على مميز الخبرية ، نحو : (وكم من مَلَك) (٢) ، و (كم من قرية) (٣) ، والشيء إذا عرف في موضع جاز تركه لقوة الدلالة عليه ، فإن فصل بين الخبرية ومميزها جاز جرّه عند الفراء ، لأنه يجره بمن المقدرة ، لا بالإضافة ، وغيره يوجب نصبه حملا على الاستفهامية ، إذ لا يمكن الإضافة مع الفصل ، إلا على مذهب يونس ، فإنه يجيز الفصل بينهما في السعة بالظرف وشبهه ، فيجيز في الاختيار نحو قوله :

٤٧٨ ـ كم بجود مقرف نال العلا

وكريم بخله قد وضعه (٤)

وقال الأندلسي : إن يونس يجيز الفصل ههنا بالظرف وشبهه ، إذا لم يكن مستقرا ؛ ولم ينقل غيره عدم الاستقرار عن يونس ههنا ، كما نقلوه كلهم في باب «لا» التبرئة ، نحو : لا أبا اليوم لك ،

__________________

(١) هو مثل قولهم لله درك ولله أبوك ؛

(٢) الآية ٢٦ سورة النجم ؛

(٣) الآية ٤ سورة الأعراف ؛

(٤) من أبيات نسبها صاحب الأغاني لأنس بن زنيم ، يخاطب عبيد الله بن زياد بن أبيه ، منها قوله :

لا يكن وعدك برقا خلّبا

إن خير البرق ما الغيث معه

١٥٥

والدليل على جواز الفصل بالمستقر ، أيضا ، قوله :

٤٧٩ ـ كم في بني سعد بن بكر سيد

ضخم الدسيعة ماجد نفاع (١)

وأما الجر مع الفصل بالجملة ، فلا يجيزه إلا الفراء ، بناء على مذهبه المتقدم ، وذلك نحو قوله :

٤٨٠ ـ كم نالني منهم فضلا على عدم

إذ لا أكاد من الاقتار أحتمل (٢)

وإذا كان الفصل بين «كم» الخبرية ومميزها بفعل متعدّ ، وجب الإتيان بمن ، لئلا يلتبس المميز بمفعول ذلك المتعدي ، نحو قوله تعالى : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ)(٣) ، و : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ)(٤) ،

وحال «كم» الاستفهامية المجرور مميزها مع الفصل ، كحال «كم» الخبرية في جميع ما ذكرنا ؛

وبعض العرب ينصب مميز «كم» الخبرية ، مفردا كان أو جمعا بلا فصل ، أيضا ، اعتمادا في التمييز بينها وبين الاستفهامية على قرينة الحال ، فيجوز ، على هذا ، أن تكون في : كم عمة (٥) ، بالنصب ، خبرية ،

وإنما انجر مميز «كم» الخبرية المفرد ، وهو أكثر من الجمع ، لأن «كم» للتكثير ،

__________________

(١) ورد هذا البيت في سيبويه ١ / ٢٩٦ غير منسوب لأحد ، ولم ينسبه أحد ممن استشهدوا به ، وقال العيني إنه للفرزدق ، والله أعلم ؛

(٢) من قصيدة للقطامي في مدح بعض الولاة من قريش ، مطلعها :

إنا محيّوك فاسلم أيها الطلل

وإن بليت وإن حالت بك الحول

منها : أما قريش فلن تلقاهم أبدا

إلا وهم خير من يحفى وينتعل

ومن جيّد أبياتها قوله :

والناس : من يلق خيرا قائلون له

ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل

(٣) الآية ٢٥ سورة الدخان ؛

(٤) الآية ٥٨ سورة القصص ؛

(٥) إشارة إلى بيت شعر للفرزدق سيأتي كاملا في الفصل التالي ؛

١٥٦

فصار مميزه كمميز العدد الكثير ، وهو المائة والألف ، وإنما جاز الجمع فيه ولم يجز في العدد الصريح لأن في لفظ العدد الكثير دلالة على الكثرة ، فاستغنى بتلك الدلالة عن جمع المميز ؛ وأمّا «كم» فهو كناية عن العدد الكثير ، وليس بصريح فيه ، فجوّز واجمع مميزه ، تصريحا بالكثرة ؛

قوله : «وتدخل من فيهما» ، أي في مميزيهما ، أمّا في الخبرية فكثير نحو : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ)(١) ، و : (كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ)(٢) ، وذلك لموافقته جرّا للمميز المضاف إليه «كم» ؛ وأمّا مميز «كم» الاستفهامية ، فلم أعثر عليه مجرورا بمن ، في نظم ولا نثر ، ولا دلّ على جوازه كتاب من كتب النحو ، ولا أدري ما صحته (٣) ،

وإذا انجر المميز بمن وجب تقدير «كم» منونة قوله : «ولهما صدر الكلام» أما الاستفهامية فللاستفهام ، وأمّا الخبرية فلما تضمنته من المعنى الإنشائي في التكثير ، كما أن «ربّ» لمّا تضمنت المعنى الإنشائي في التقليل ، وجب لها صدر الكلام ، ولي ، في تضمنهما معنى الإنشاء ، أعني : ربّ ، وكم ، نظر ، كما يجيئ في باب التعجب ؛ (٤)

وإنما وجب تصدير متضمّن معنى الإنشاء ، لأنه مؤثر في الكلام مخرج له عن الخبرية ، وكل ما أثر في معنى الجملة من الاستفهام والعرض والتمني والتشبيه ونحو ذلك فحقه صدر تلك الجملة خوفا من أن يحمل السامع تلك الجملة على معناها قبل التغيير ، فإذا جاء المغيّر في آخرها تشوش خاطره ، لأنه يجوّز رجوع معناه إلى ما قبله من الجملة مؤثرا فيها ، ويجوّز بقاء الجملة على حالها فيترقب جملة أخرى ، يؤثر ذلك المغيّر فيها ؛

__________________

(١) الآية ٢٦ في سورة النجم ؛

(٢) الآية ٤ سورة الأعراف ، وتقدمت الآيتان ؛

(٣) يرى بعض العلماء أن في هذا القول من الرضى تجريحا لابن الحاجب ، وزعموا أن الرد على الرضى : ما قاله الزمخشري من أن كم في قوله تعالى : سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ، استفهامية ؛ والزمخشري إنما جوّز ذلك فقط ، وربما كان الرضى يقصد أن مجيئها للاستفهام غير مقطوع به ، ومن عجيب ما جاء في ذلك البحث أن بعضهم يستدل على كونها استفهامية في : سل بني إسرائيل ، بأن قبلها سل ، وهو أمر من السؤال؟

(٤) هو في باب أفعال المدح والذم ، وإن كان قد عرض لذلك إجمالا في باب التعجب ؛

١٥٧

مواقع كم

من الاعراب

[قال ابن الحاجب :]

«وكلاهما يقع مرفوعا ومنصوبا ومجرورا ؛ فكلّ ما بعده فعل»

«غير مشتغل عنه ؛ كان منصوبا ، معمولا له على حسبه ؛»

«وكل ما قبله حرف جر ، أو مضاف ، فمجرور ، والا»

«فمرفوع مبتدأ ان لم يكن ظرفا ، وخبرا ان كان ظرفا ؛»

«وكذلك أسماء الشرط والاستفهام» ؛

[قال الرضى :]

قوله : «كلاهما» أي : كم الاستفهاميّ ، وكم ، الخبريّ (١) ، وإنما وقع كل منهما مرفوعا ومنصوبا ومجرورا ، لأنهما اسمان ، ولا بد لكل اسم مركب من اعراب ، وهما قابلان لعوامل الرفع والنصب والجر ؛

قوله : «فكل ما بعده فعل ..» ، أخذ يفصل مواقعهما في الاعراب ، يعني إذا كان بعد «كم» فعل لم يشتغل عن نصب «كم» بنصب الضمير الراجع اليه ، كما في نحو : كم رجلا ضربته؟ ، أو بنصب متعلّق ذلك الضمير ، كما في نحو : كم رجلا ضربت غلامه؟ : كان «كم» منصوبا على حسب ذلك الفعل غير المشتغل ، أي على حسب اقتضائه ، فان اقتضى المفعول به ، فكم منصوب المحل بأنه مفعول به ، نحو : كم رجلا ضربت؟ ، وكم غلام ملكت ؛ والأولى أن يقول : معمولا على حسبه وحسب

__________________

(١) تحدث الشارح هنا عن لفظ كم ، فذكّره ، وقد أشرنا من قبل إلى أن الرضى يراعي كلا من اللفظ والكلمة في الحديث عن الأدوات والألفاظ فيذكّرها ، ويؤنثها ، بل ربما جمع بين التذكير والتأنيث في حديث واحد عن لفظ أو كلمة ؛

١٥٨

المميز معا ؛ وذلك أنك تقول : كم يوما ضربت ، فكم ، منصوب على الظرف مع اقتضاء الفعل للمفعول به والمصدر والمفعول فيه ، وغير ذلك من المنصوبات ، فتعيّنه لأحد المنصوبات : إنما هو بحسب الفعل وحسب المميز ، فبقولك «معا» ، تعيّن للظرفية ، ولو قلت : كم رجلا .. لكان انتصابه بكونه مفعولا به ، ولو قلت : كم ضربة ، لانتصب بكونه مفعولا مطلقا ؛

ويجوز أن يجعل «كم» في هذه المواضع مبتدأ ، والجملة خبره ، والضمير في الجملة مقدر على ضعف كما مر ؛ (١)

قوله : «ما بعده فعل» ، أي فعل أو شبهه ، ليشمل نحو : كم يوما أنت سائر ، وكم رجلا أنت ضارب ، وليس بمعروف انتصابها (٢) الا مفعولا بها أو ظرفا ، أو مصدرا ، أو خبر كان ، نحو : كم كان مالك ، أو مفعولا ثانيا لباب ظنّ ، نحو : كم ظننت مالك ؛

قوله : «كل ما بعده فعل غير مشتغل عنه» ، منتقض بقولك : كم جاءك ، فان «جاءك» فعل غير مشتغل عن «كم» بضميره ، لأن معنى الاشتغال عنه بضميره : أنه كان ينصبه لو لم ينصب ضميره ، كما ذكرنا في المنصوب على شريطة التفسير ؛

قوله : «وكل ما قبله حرف جر ، أو مضاف ، فمجرور» ، إنما جاز تقدم حرف الجر أو المضاف عليهما ، مع أن لهما صدر الكلام ، لأن تأخير الجارّ عن مجروره ممتنع ، لضعف عمله ، فجوّز تقديم الجار عليهما ، على أن يجعل الجار ، سواء كان اسما أو حرفا ، مع المجرور ككلمة واحدة مستحقة للتصدّر ، حتى لا يسقط المجرور عن مرتبته ؛ ولهذا حذف ألف «ما» الاستفهامية المجرورة ، كما مرّ في الموصولات ؛ تقول : بكم رجل مررت؟ ، وغلام كم رجل ضربت ، ويكون اعراب المضاف كاعراب «كم» لو لم يكن مضافا اليه ؛

__________________

(١) لأن الضمير العائد من الخبر الفعلي على المبتدأ ، لا يحذف في الأفصح ؛

(٢) يعني كم ، يقصد كونها في محل النصب ، وقد عاد هنا إلى الحديث عن كم ، باعتبارها كلمة فأنثها ؛

١٥٩

قوله : «والا فهو مرفوع» ، أي إن لم يكن بعده فعل غير مشتغل بضميره ، ولا قبله جارّ ، فهو مرفوع ، وذلك أنه إذا لم يكن لا قبله عامل ، ولا بعده ، كان اسما مجردا عن العوامل ، على مذهب البصريين ، فيكون مبتدأ أو خبرا ؛

فأمّا ألّا يكون بعده فعل ، نحو : كم مالك ، أو إن كان ، كان عاملا في ضميره ، أو متعلقه ، إما على وجه الفاعلية ، نحو : كم رجلا جاءك ، أو : كم رجلا جاءك غلامه ، أو على وجه المفعولية ، نحو : كم رجلا ضربته أو ضربت غلامه ؛

ولو قيل في المشتغل بضمير المفعول أو بمتعلقه : انه مفسر لناصب «كم» ، والتقدير : كم رجلا ضربت ضربته ، لجاز ، إلّا أن الرفع فيه أولى ، للسلامة من التقدير ، على ما تبيّن ، فيما أضمر عامله على شريطة التفسير ؛ والأولى أن يقدر الناصب بعد «كم» ومميزه ، لحفظ التصدر على «كم» ، ولا منع من تقدير الناصب قبل «كم» ، لأن المقدّر معدوم لفظا ، والتصدّر اللفظي هو المقصود ؛

قوله : «إن لم يكن ظرفا» ، يعني «كم» ، وكونه ظرفا باعتبار مميزه ، نحو : كم يوما سفرك ، فكم ههنا منصوب المحل ، أولا ، داخل في قوله : ما بعده فعل أو شبهه ، غير مشتغل عنه ، لأن التقدير : كم يوما كائن سفرك ، ومرفوع المحل ثانيا ، لقيامه مقام عامله الذي هو خبر المبتدأ ؛

ومثال كونه مبتدأ ، كم رجل جاءني ؛ وأمّا : كم مالك؟ ، فالأولى فيه أن يكون خبرا ، لا مبتدأ ، لكونه نكرة ، ما بعده معرفة ، كما مرّ في باب المبتدأ ،

قوله : «وكذلك أسماء الاستفهام والشرط» ، أي تقع مرفوعة ومنصوبة ومجرورة ، على ما ذكر من مواقع «كم» ، إلا أن ما هو ظرف من هذه الأسماء ، كمتى ، وأين ، وإذا ؛ إذا لم ينجر بحرف جر ، نحو : من أين ، فلا بدّ من كونه منصوبا على الظرفية ؛ وقد يخرج «إذا» عن الظرفية ، كما يجيئ في الظروف ؛

ويرتفع اسم الاستفهام محلّا مع انتصابه على الظرفية ، إذا كان خبر مبتدأ مؤخر نحو : متى عهدك بفلان؟ ؛

وأمّا أسماء الشرط الظرفية، فلا تكون إلا منصوبة على الظرفية أبدا، وما ليس بظرف ،

١٦٠