دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٤

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٤

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢١٢

فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) (١).

وهكذا كانت حياة نوح عليه‌السلام ، حياة شاقة مريرة ، ومحنته مع قومه محنة شريدة أليمة ، فقد قام بينهم قرونا ودهورا ، بذل فيها أقصى جهده لكي يؤمن قومه بالله تعالى ، وأن يذروا عبادة الأصنام ، وطال الزمن وهو يدعو قومه في السر والعلانية ، ويضرب لهم الأمثال ، ويوجه نظرهم إلى صنع الله بخلقهم أطوارا مختلفة ، وعنايته بهم في حياتهم الجنينية ، وحياتهم في الدنيا ، وخلقه السماوات والأرض ، وأن من بدأهم قادر على إعادتهم ، ذلك أن من خلق لهم الأرض ومتعهم بما خلق فيها ، قادر على إعاداتهم ومجازاتهم (٢).

ورغم ذلك كله ، فإن نوحا عليه‌السلام ، لم ير من قومه إلا آذانا صماء ، وقلوبا غلفا ، وعقولا متحجرة ، لقد كانت نفوسهم أيبس من الصخر ، وأفئدتهم أقسى من الحديد ، لم ينفعهم نصح أو تذكير ، ولم يزجرهم وعيد أو تحذير ، وكلما ازداد لهم نصحا ، ازدادوا في طريق الضلال سائرين ، لا يلتفتون إلى دعوة نوح ، ولا يبالون بتحذيره وإنذاره وقد أقام بينهم تسعمائة وخمسين عاما داعيا ومذكرا وناصحا ، وسلك جميع الطرق الحكيمة لإنقاذهم ، وإبعادهم عن عبادة الأصنام والأوثان ، فلم يفلح معهم أبدا ، وكانت دعوته لهم ليلا ونهارا ، وسرا وجهارا ، ومع ذلك لم تلن قلوبهم ، بل قابلوا الإحسان بالشدة ، ومالوا عليه بالضرب والأذى ، وهو لا يفتأ يقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.

روى المفسرون أن نوحا عليه‌السلام كان يأتي قومه فيدعوهم إلى

__________________

(١) سورة هود : آية ٣٨ ، وانظر : تفسير المنار ١٢ / ٦١ ـ ٦٢ ، تفسير القرطبي ص ٣٢٥٨ ـ ٣٢٥٩ ، تفسير الطبري ١٥ / ٣١٠ ـ ٣١٧ ، تفسير ابن كثير ٢ / ٦٨٨ ـ ٦٦٩ ، تفسير النسفي ٢ / ١٨٧.

(٢) محمود الشرقاوي : الأنبياء في القرآن الكريم ـ القاهرة ١٩٧٠ ص ١٣٣ ـ ١٣٤.

٢١

الله ، فيجتمعون عليه ويضربونه الضرب المبرح ، ويخنقونه حتى يغشى عليه ثم يلفونه في حصير ويرمون به في الطريق ، ويقولون إنه سيموت بعد هذا اليوم ، فيعيد الله سبحانه وتعالى إليه قوته فيرجع إليهم ويدعوهم إلى الله ، فيفعلون به مثل ذلك (١).

وقال مجاهد وعبيد بن عمير : كانوا يضربونه حتى يغشى عليه ، فإذا أفاق قال : «رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».

وقال ابن عباس ، رضي‌الله‌عنه ، إن نوحا كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته يرون أنه مات ، ثم يخرج فيدعوهم ، حتى إذا يئس من إيمان قومه ، جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكأ على عصا ، فقال : يا بني انظر هذا الشيخ لا يغرنك ، قال : يا أبت أمكني من العصا ، فأخذ العصا ، ثم قال : ضعني في الأرض فوضعه ، فمشى إليه بالعصا فضربه فشجه شجة موضحة في رأسه ، وسالت الدماء ، فقال نوح : «رب قد ترى ما يفعل بي عبادك فإن يك لك في عبادك خير فاهدهم ، وإن يك غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين» (٢).

وهكذا بقي النبي الكريم يؤذى ويعذب ، وهو مع ذلك صابر ، لا يدعو على قومه بالعذاب ، وإنما كان يؤمل فيهم أو في أبنائهم الخير والصلاح ، ويقول : لعل الله يخرج من أصلابهم من يستجيب لدعوتي ويؤمن بالله ، ولكن مع هذه المدة الطويلة لم يؤمن معه إلا القليل منهم ، وكان كلما انقرض جيل جاء من بعده جيل أخبث وألعن ، فلقد كان القوم يوصون أولادهم بعدم الإيمان به ، وكان الوالد يقول لولده إذا بلغ وعقل : يا بني احذر هذا لا يغرنك عن دينك وألهتك (٣).

__________________

(١) محمد علي الصابوني : النبوة والأنبياء ـ بيروت ١٩٧٠ ص ١٥٠.

(٢) تفسير القرطبي ص ٣٢٧١.

(٣) محمد علي الصابوني : المرجع السابق ص ١٥٠ ـ ١٥١.

٢٢

وأوحى الله تعالى إلى نبيه نوح إنه لن يؤمن من هؤلاء القوم الكافرين أحد بعد ذلك بل إنه لم يبق في أصلاب الرجال ، ولا في أرحام النساء مؤمن (١) ، قال تعالى : (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) (٢) ، قال الضحاك : فدعا عليهم لما أخبر بذلك فقال : «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» ، وقيل إن رجلا من قوم نوح حمل ابنه على كتفه ، فلما رأى الصبي نوحا قال لأبيه : أعطني حجرا ، ورمى به نوحا عليه‌السلام فأدماه ، فأوحى الله تعالى إليه : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) ، فدعا عليهم ، فكان الطوفان الذي أغرقهم جميعا (٣).

(٤) قضية ابن نوح : ـ اختلف المفسرون في ابن نوح الذي غرق في الطوفان من دون أهله ، وقد أشار القرآن الكريم إلى قصته في قوله تعالى : (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ ، قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ، وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ، وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ ، قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ ، قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ، وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٤).

__________________

(١) تفسير القرطبي ص ٣٢٧١.

(٢) سورة هود : آية ٣٦.

(٣) سورة نوح : آية ٢٦ ـ ٢٧ ، تفسير القرطبي ص ٣٢٥٧ ، ٣٢٧١ ، وانظر : تفسير الطبري ١٥ / ٣٠٦ ـ ٣٠٧.

(٤) سورة هود : آية ٤٢ ـ ٤٧ ، وانظر : تفسير ابن كثير ٢ / ٦٩٠ ـ ٦٩٤ ، تفسير القرطبي ص ٣٢٦٤

٢٣

وقد انقسم المفسرون في ابن نوح هذا إلى فرق ، ففريق يرى أنه ولد على فراشه ولم يكن ابنه ، قال قتادة : سألت الحسن (أي الحسن البصري) عنه فقال : والله ما كان ابنه ، قلت إن الله أخبر عن نوح إنه قال : «إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي» ، فقال : لم يقل مني ، وهذه إشارة إلى أنه كان ابن امرأته من زوج آخر ، فقلت له : إن الله حكى عنه إنه قال : «إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي» و «وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ» ، ولا يختلف أهل الكتاب إنه ابنه ، فقال الحسن : ومن يأخذ دينه عن أهل الكتاب ، إنهم يكذبون ، وقرأ «فخانتاهما» ، وقال ابن جريج : ناداه وهو يحسب أنه ابنه ، وكان ولد على فراشه ، وكانت امرأته خانته فيه ، ولهذا قال : «فخانتاهما» (١).

هذا وقد استهجن كثير من علماء السلف والخلف هذا الإتجاه ، فقال ابن عباس ـ حبر الأمة وترجمان القرآن ـ «ما بغت امرأة نبي قط» ، وقال الإمام الرازي في التفسير الكبير : والقائلون بهذا القول (أي أنه ولد على فراشه لغير رشده) فقد احتجوا بقوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط «فخانتاهما» فليس فيه أن تلك الخيانة إنما حصلت بالسبب الذي ذكروه ، قيل لابن عباس ، رضي‌الله‌عنه ، ما كانت تلك الخيانة؟ فقال : كانت امرأة نوح تقول : زوجي مجنون ، وامرأة لوط تدل الناس على ضيفه إذا نزلوا ، وفي تفسير الطبري : عن سليمان بن قتة قال : سمعت ابن عباس يسأل ، وهو إلى جنب الكعبة ، عن قوله تعالى : (فَخانَتاهُما) ، قال : أما إنه لم يكن بالزنا ، ولكن كانت هذه تخبر الناس أنه مجنون ، وكانت هذه تدل على الأضياف ، ثم قرأ «إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ» ، ثم الدليل القاطع على فساد هذا المذهب ، قوله تعالى :

__________________

٣٢٧٦ ، تفسير الطبري ١٥ / ٣٣١ ـ ٣٥٢ ، تفسير النسفي ٢ / ١٨٨ ـ ١٩٢ ، تفسير المنار ١٢ / ٦٥ ـ ٨٤ ، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ٣ / ٢٠٠ ـ ٢٠١ ، صفوة التفاسير ٢ / ١٦ ـ ١٩ ، التسهيل ٢ / ١٠٦ ـ ١٠٧.

(١) تفسير القرطبي ص ٣٢٧٤.

٢٤

(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ ، وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ ، وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) ، وقوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ، وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ، وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (١).

وقال الألوسي في روح المعاني : وما يقال من أنه كان لغير رشده لقوله سبحانه وتعالى : (فَخانَتاهُما) ، فارتكاب عظيمة لا يقادر قدرها ، فإن الله قد طهر الأنبياء عليهم‌السلام عما هو دون ذلك من النقص بمراحل ، فحاشاهم ثم حاشاهم أن يشار إليهم بإصبع الطعن ، وإنما المراد بالخيانة في الدين ، ونسبة هذا القول إلى الحسن ومجاهد كذب صريح.

وقال أبو السعود في بحره المحيط : وما يقال إنه كان لغير رشده لقوله «فخانتاهما» ، فارتكاب عظيمة لا يقادر قدرها فإن جناب الأنبياء ، صلوات الله وسلامه عليهم ، أرفع من أن يشار إليهم بإصبع الطعن ، وإنما المراد بالخيانة الخيانة في الدين ، وقال البيضاوي : وكان لغير رشده لقوله تعالى : (فَخانَتاهُما) ، وهو خطأ ، إذ أن الأنبياء عصمت من ذلك ، والمراد بالخيانة الخيانة في الدين.

وأما ما استند إليه البعض في عدم استبعاد أن تكون امرأة النبي زانية من القياس على الكفر ، الذي هو أشد ذنبا من الزنا ، وامرأة نوح كانت كافرة ، وقد ضربها الله مثلا في الكفر ، ومن أتى الذنب الأكبر يهون عليه الإتيان بالأصغر ، فواضح البطلان ، لأن كفر المرأة ، وإن كان من أكبر الكبائر لا يعود ضرره إلا عليها ، ولا يلحق الزوج منه عار ولا فضيحة بين الناس ، ولذلك أباح الله للمسلم أن يتزوج من الكتابيات ، بخلاف زناها ، فإنه ، وإن كان أصغر من الكفر ، لا يقصر ضرره عليها وحدها ، بل يلحق الزوج أيضا

__________________

(١) سورة النور : آية ٣ ، ٢٦ ، تفسير الطبري ١٥ / ٣٤٣ ، تفسير القرطبي ص ٣٢٧٤ ، عبد الوهاب النجار : قصص الأنبياء ـ القاهرة ١٩٦٦ ص ٤١.

٢٥

بسببه عار وفضيحة بين الناس في مطرد العادة ، بحيث يكون بحالة لا يستطيع معها مجالسة الناس ، ومن ثم ، فقد نص ، كما يقول ابن كثير ، غير واحد من الأئمة على تخطئة من ذهب في تفسير هذا إلى أنه ليس بابنه ، وإنما كان ابن زانية (١).

وهناك وجه آخر للنظر يذهب إلى أنه كان ابن امرأته ، قاله الحسن ومجاهد وعبيد بن عمير وأبي جعفر الباقر وابن جريج (٢) ، وفي تفسير القرطبي ، قرأ عروة بن الزبير : «ونادى نوح ابنها» يريد ابن امرأته ، يقول القرطبي : إلا أنها قراءة شاذة ، فلا نترك المتفق عليه لها ، والله أعلم (٣).

على أن هناك وجها ثالثا للنظر ، يذهب إلى أنه ابنه من صلبه ، وهذا ما نؤمن به الإيمان كل الإيمان ، وإنه كان ممن سبق عليه القول بالغرق لكفره ومخالفته أباه نبيّ الله نوحا عليه‌السلام ، قال ابن عباس : «ما بغت امرأة بني قط ، وأنه كان ابنه لصلبه ، وكذلك قال الضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وغيرهم ، وإنه كان ابنه لصلبه ، وقيل لسعيد بن جبير يقول نوح : «إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي» أكان من أهله؟ أكان ابنه؟ فسبح الله طويلا ثم قال : لا إله إلا الله ، يحدث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إنه ابنه ، وتقول إنه ليس ابنه ، نعم كان ابنه ، ولكن كان مخالفا في النية والعمل والدين ، ولهذا قال الله تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) (٤).

ويقول القرطبي : وهو الصحيح في الباب إن شاء الله تعالى لجلالة من قال به ، وإن قوله «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» ليس مما ينفي عنه أنه ابنه ، وقوله «فخانتاهما» ، يعني في الدين ، لا في الفراش ، وذلك أن هذه كانت تخبر

__________________

(١) انظر : عبد الوهاب النجار : المرجع السابق ص ٤١ ـ ٤٥.

(٢) تفسير ابن كثير ٢ / ٦٩٣.

(٣) تفسير القرطبي ص ٣٢٧٥.

(٤) تفسير القرطبي ص ٣٢٧٤.

٢٦

الناس أنه مجنون ، وذلك أنها قالت له : أما ينصرك ربك؟ فقال لها نعم ، قالت فمتى ، قال : إذا فار التنور ، فخرجت تقول لقومها : يا قوم والله إنه مجنون ، يزعم أنه لا ينصره الله إلا أن يفور هذا التنور ، فهذه خيانتها ، وخيانة الأخرى إنها كانت تدل على الأضياف (١).

وروى الطبري في تفسيره عن فضالة بن الفضل الكومي قال قال بزيغ : سأل رجل الضحاك عن ابن نوح ، فقال : ألا تعجبون إلى هذا الأحمق ، يسألني عن ابن نوح ، وهو ابن نوح ، كما قال الله تعالى : (قال نوح لابنه) ، وعن جويبر عن الضحاك قال : هو والله ابنه لصلبه ، وروى الطبري أيضا عن الضحاك إنه قرأ «وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ» ، وقوله «لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» ، قال يقول : ليس هو من أهلك ، قال يقول : ليس هو من أهل ولايتك ، ولا ممن وعدتك أن أنجي من أهلك «إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ» ، قال يقول : «كان عمله في شرك» (٢).

وروى النسفي في تفسيره ، قال الشيخ أبو منصور رحمه‌الله ، كان عند نوح عليه‌السلام أن ابنه كان على دينه لأنه كان ينافق ، وإلا لا يحتمل أن يقول ابني من أهلي ، ويسأله نجاته ، وقد سبق منه النهي عن سؤال مثله بقوله : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) ، فكان يسأله على الظاهر الذي عنده ، كما كان أهل النفاق يظهرون الموافقة لنبينا عليه الصلاة والسلام ، ويضمرون الخلاف له ، ولم يعلم بذلك حتى أطلعه الله عليه ، وقوله : (لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) أي من الذين وعدت النجاة لهم ، وهم المؤمنون حقيقة في السر والظاهر (٣).

__________________

(١) تفسير القرطبي ص ٣٢٧٥.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٣٤٥.

(٣) تفسير النسفي ٢ / ١٩١ ـ ١٩٢.

٢٧

وأولى الأقوال بالصواب ، عند الإمام الطبري ، قول من قال : تأويل ذلك ، إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم ، لأنه كان لدينك مخالفا ، وبي كافرا ، وكان ابنه ، لأن الله تعالى ذكره ، قد أخبر نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه ابنه ، فقال : «وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ» ، وغير جائز أن يخبر أنه ابنه ، فيكون بخلاف ما أخبر ، وليس في قوله «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» دلالة على إنه ليس بابنه ، إذ كان قوله «لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» محتملا من المعين ما ذكرنا ، ومحتملا «إنه ليس من أهل دينك» ، ثم يحذف الدين ، فيقال : «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» ، كما قيل «وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها» (١).

__________________

(١) تفسير الطبري ١٥ / ٣٤٦ (دار المعارف ـ القاهرة ١٩٦٠.

٢٨

الفصل الثّاني

قصّة الطّوفان بين الآثار والتّوراة

من المعروف منذ زمن طويل أن قصص الطوفان الكبير الذي هلك فيه كل الناس على وجه التقريب ، تنتشر انتشارا واسعا في جميع أنحاء العالم ، فهناك قصص عن الطوفان ، في بعض مجتمعات الشرق الأدنى القديم ، وفي الهند وبورما والصين والملايو واستراليا وجزر المحيط الهادي ، وفي مجتمعات الهنود الحمر (١).

وقد قدم لنا «السير جيمس فريزرsir James Frazer» دراسة عن قصص «الطوفان الكبير» في أساطير الأمم المختلفة ، نستنتج منها أنها كانت منتشرة في قارة آسيا وفي استراليا وفي أمريكا الشمالية والوسطى والجنوبية ـ فيما قبل العهد الأوربي ـ ولكنها قليلة نسبيا في قارة أوربا ، وأقل منها في إفريقيا (٢).

ولعل من الأهمية بمكان أن نشير إلى أنه رغم كثرة قصص الطوفان وانتشارها ، فإنها تختلف فيما بينها اختلافات كثيرة ، كما أن قسما منها أساطير وضعت وضعا لتفسير بعض العوارض الأرضية كالمنخفضات الواسعة في البلاد التي وضعت فيها تلك الأساطير (٣) أضف إلى ذلك أنه ليست هناك رواية واحدة أصيلة عن الطوفان الكبير دونت في إفريقيا ، فمثلا لم يكتشف أثر لهذه الحكاية في الأدب المصري القديم ـ وهو دون شك أهم الآداب الأفريقية وأكثرها أصالة دون منازع ـ أما عن رواية الطوفان التي تنسب

__________________

(١) ٢٦٩١ ,,P.١١ Sollerder.E.The Fiood ,londoon ,

(٢) جيمس فريزر ، الفلكلور في العهد القديم ، ترجمة نبيلة إبراهيم ، مراجعة حسن ظاظا ، ص ٩١ ـ ٢١٩

(٣) طه باقر : مقدمة في تاريخ الحضارة القديمة ـ الجزء الأول ـ العراق ، ص ٤٦٠.

٢٩

إلى «غينيا الشمالية» فهي أسطورة أكثر منها قصة ، اختلطت فيها الخرافات بالمعجزات حتى بات من الصعب علينا مقارنتها بغيرها من قصص الطوفان ، هذا إلى أنها نقلت إلينا عن طريق المبشرين الأوربيين ، حتى أصبحنا لا نستطيع الحكم عليها وإرجاعها إلى أصل غيني أو أوربي ، أضف إلى ذلك أن هناك رواية أخرى تذهب إلى أن الرجال قد تحولوا بعد الطوفان إلى قرود ، كما تحولت النساء إلى سحالي ، وأن ذيل القرد هو بندقية الرجل ، مما يدل بوضوح على مدى التأثير الأوربي الحديث في هذه الأسطورة الأفريقية عن الطوفان ، كما أن الروايات التي اكتشفها الكتاب الألمان عن الطوفان الكبير بين سكان إفريقيا الشرقية ليست سوى روايات مختلفة لقصة الطوفان في الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل) والتي تسربت إلى هؤلاء البدائيين عن طريق المسيحيين (١). وبديهي أننا لن نناقش هنا كل القصص والأساطير التي دارت حول الطوفان الكبير الذي أغرق العالم ، ولكننا سوف نقتصر على دراسة قصة الطوفان في منطقة الشرق الأدنى القديم ، سواء تلك القصص التي روتها المصادر التاريخية ، أو تلك التي تحدثت عنها الكتب المقدسة ـ التوراة والإنجيل والقرآن العظيم ـ وكلها ـ دون استثناء ـ أنزلت على أرض هذا الشرق القديم ، كما أنه ليس واحدا من أصحابها ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ إلا وكان من هذا الشرق الخالد.

ولعل الذي دفعني إلى دراسة هذا الموضوع إحساس عميق بأن تنال الموضوعات التاريخية المتصلة بالكتب المقدسة قسطا وافرا من المؤرخين المسلمين ، بعد أن ظل الميدان في العصر الحديث يكاد يكون مقصورا على الغربيين من يهود ونصارى ، وساعدني على هذه المحاولة تخصصي في التاريخ القديم ، فضلا عن دراسات إسلامية قضيت فيها الشطر المبكر من حياتي العلمية ، وإن كنت لا أزعم لنفسي فيها ـ بحال من الأحوال ـ مكانة تعدو مكانة عامة المسلمين الذين تعلموا من أمور دينهم القدر الذي يتعرفون به عليه ، وإن كان مما لا ريب فيه أنه لا يصل بهم إلى مكانة الخاصة من المتخصصين في دراسات القرآن الكريم والحديث الشريف وعلومهما ، ثم كان لوجودي بين أعضاء

__________________

(١) جيمس فريزر : المرجع السابق ص ٢٠١ ـ ٢٠٢.

٣٠

هيئة التدريس بقسم التاريخ في كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية سبب آخر للقيام بهذه الدراسة.

أولا : قصة الطوفان السومرية :

كان الناس يعتقدون حتى أواخر القرن الماضي أن التوراة هي أقدم مصدر لقصة الطوفان ، ولكن الاكتشافات الحديثة أثبتت أن ذلك مجرد وهم ، حيث عثر في عام ١٨٥٣ م على نسخة من رواية الطوفان البابلية ، وفي الفترة ما بين عامي ١٨٨٩ ، ١٩٠٠ م ، اكتشفت أول بعثة أمريكية قامت بالحفر في العراق اللوح الطيني الذي يحتوي على القصة السومرية للطوفان في مدينة «نيبور» (نفر) ، وكان «أرنو بوبل» أول من قام بنشره في عام ١٩١٤ م ، ثم تبعه آخرون (١) ، وإن كانت ترجمة «بوبل» هي الأساس الذي ما يزال يعتمد عليه الباحثون.

ويبدو من طابع الكتابة التي كتبت بها القصة السومرية أنها ترجع إلى ما يقرب من عهد الملك البابلي الشهير «حمورابي» (١٧٢٨ ـ ١٦٨٦ ق. م) ، على أنه من المؤكد أن القصة نفسها ، إنما ترجع إلى عصر أقدم من ذلك بكثير ، ذلك لأنه في هذا الوقت الذي كتب فيه اللوح لم يكن هناك وجود للسومريين ، بوصفهم عنصرا مستقلا ، إذ كانوا قد ذابوا في الشعب السامي ، كما أن لغتهم الأصلية كانت قد أصبحت من قبل لغة ميتة ، وذلك على الرغم من أن الكهنة والكتاب الساميين كانوا لا يزالون يدرسون الأدب القديم والنصوص المقدسة المحفوظة في ثنايا تلك الآداب ، ويعيدون كتابتها ، ومن ثم فإن اكتشاف رواية قصة الطوفان السومرية يدعو إلى افتراض أنها إنما ترجع إلى زمن سابق على احتلال الساميين لوادي الفرات ، وأن هؤلاء الساميين قد أخذوا هذه

__________________

(١) «أ»٩ ـ ٠٧ Arno Poebel ,in ,IV ,Pt.I.P.

«ب» L. W. King, Legends of Babylon and Egypt in Relation to Hebrow Tradition ٤١٩١.

«ح» S. N. Kramer, Sumerian Mythology, Philadelphia. ٤٤٩١. p. ٧٩ ـ ٨٩. وكذلك ANET ,P.٢٤ / ٤٤.

٣١

لقصة ـ فيما يبدو ـ بعد هجرتهم إلى وادي الفرات عن السومريين (١) الذين سكنوا المنطقة قبلهم (٢).

وأما سبب الفيضان ، فلا يعسر علينا إدراكه ، ولا سيما في بلد تكثر فيه الفيضانات الفجائية كالقسم الجنوبي من العراق ، ولكن طوفانا كبيرا كالذي تحدثت عنه المصادر لسومرية والبابلية هو دون شك حدث عظيم وقع قبيل تغلب الإنسان على الأنهار ، بما أنشأه من السدود وأعمال الإرواء ، وأن هطول الأمطار كان مصحوبا بعواصف مدمرة (٣).

وتتضمن قصة الطوفان السومرية عدة وقائع هامة ، يتعلق أول ما يمكن قراءته من سطورها بخلق الإنسان والنبات والحيوان ، وبأصل الملكية السماوي ، فضلا عن خمس مدن ترجع إلى ما قبل فترة الطوفان ، ومن أسف أن من بين اللوحات التي تتناول القصة لم تبق سوى لوحة واحدة ، وحتى هذه فإن ما بقي منها لا يعدو ثلثها الأخير فحسب ، وقد فقدت المقدمة والنهاية الخاصة بذلك النص ، ومن ثم فإنه غامض في أكثر نواحيه ، هذا ويقدر عدد الأسطر التي يتكون منها النص في جملته بحوالي ثلاثمائة سطر ، لم يعثر إلا على حوالي المائة منها ، ورغم ذلك فانها تقدم لنا الخطوط الرئيسية للنص.

__________________

(١) السومريون : يتفق المؤرخون على أن السومريين جنس غير سامي ، وأن لغتهم غريبة لا تشبه اللغات السامية ، ولا يعلم زمن مجيئهم إلى وادي الرافدين ، وإن رأى البعض أن ذلك ربما كان في فترة مبكرة من الألف الرابعة ق. م. ، (٦٤ ـ ١٥٦.p ، ١٩٤٨ ، ٥٢ ، AJA) وقد اختلفت الآراء في موطنهم الأصلي ، فقد ذكرت أساطيرهم أنهم جاءوا من الجنوب ، ومن ثم ذهب رأي إلى أنهم مهاجرون من منطقة ما تقع فيما بين شمال الهند وبين أفغانستان وبلوجستان عن طريق الخليج العربي وجزيرة البحرين بعد أن استقروا في غربي إيران فترة ما (عبد العزيز صالح : الشرق الأدنى القديم ج ١ ص ٨٣٨) ،) E.A.Speiser ,The Sumerian Problem revieved (وذهب رأي ثان إلى اعتبارهم بدوا مما وراء القوقاز أو مما وراء بحر قزوين ، ويرى «روتزني» أنهم جاءوا من آسيا الصغرى ، بينما رأى آخرون أنهم جاءوا من السند (أحمد فخري : دراسات في تاريخ الشرق القديم ص ٢٨) بل لقد ذهب طه باقر (المرجع السابق ص ٨٩ ـ ٩٠) إلى أنهم من الأقوام التي قطنت العراق في عصور ما قبل التاريخ ، وأن حضارتهم أصيلة في العراق ، بل ويمكن تسمية أهل حضارة «العبيد» بالسومريين ، على الرغم من أننا لا نعرف اللغة التي تكلم بها أهل حضارة العبيد.

(٢) جيمس فريزر : المرجع السابق ص ١٠٣.

(٣) مجلة سومر ـ المجلد السابع ١٩٥١ م ـ العدد الأول.

٣٢

وعلى أى حال ، فبعد ٣٧ سطرا ، نلتقي بمعبود يشير إلى أنه سوف ينقذ البشر من الهلاك وأن الإنسان سوف يبني المدن والمعابد ، ويلي ذلك ثلاثة سطور غامضة ، ربما كانت تتضمن ما سوف يبذله المعبود في هذا السبيل ، ثم الحديث عن خلق الإنسان والحيوان وربما النبات ... ثم ٣٧ سطرا ضائعة ، نعرف بعدها أن الملكية هبطت من السماء ، وأن خمس مدائن أسست ... ثم ٣٧ سطرا ضائعة ... ربما تشير إلى إصرار الآلهة على الإتيان بالفيضان وتدمير البشر ، وحين يصبح النص مقروءا نجد بعض الآلهة غير راضين ، وتجتاحهم التعاسة بسبب القرار القاسي .... ثم نلتقي ببطل القصة «زيوسودراZiusudra» الذي يوصف بالتقوى ، وبأنه ملك يخاف الإله ، ويكب على خدمته في تواضع وخشوع ، ويطيل النظر إلى المكان المقدس ، وهو يقيم بجوار حائط يستمع منه إلى صوت معبوده أنكى الذي أخبره بالقرار الذي اتخذه مجمع الآلهة بإرسال الطوفان «لإهلاك بذرة الجنس البشري».

ولعل من المؤكد أن ما يلي ذلك تعليمات مسهبة إلى «زيوسودرا» ببناء سفينة هائلة لينقذ نفسه من الهلاك ، غير أن هذا كله ناقص لوجود كسر كبير في اللوحة ، ربما كان يشغل ٤٠ سطرا ، ومن ثم فنحن ننتقل فجأة من موضوع تحذير الإله للإنسان إلى موضوع الطوفان ، فيصف اللوح العاصفة والأمطار وقد ثارت جميعا ، ثم تستمر الرواية فتقول «وبعد أن هبت العاصفة الممطرة على الأرض سبعة أيام وسبع ليال يكتسح الفيضان فيها الأرض ، ويدفع الفلك قدما على المياه المضطربة ، ثم يظهر بعد ذلك إله الشمس «أوتو» وهو يكسب الضوء على السماء والأرض ، وعند ما تخترق أشعة الشمس السفينة ، ويرى «زيوسودرا» نور ربه ، ويعلم بصفحة ، يخرج من الفلك ويسجد للرب مضحيا له بفحل وشاة».

ويلي ذلك كسر يشغل ٣٩ سطرا ، ثم تصف الأسطر الباقية كيف نفث الإله روح الخلود في «زيوسودرا» ، مستقرا بأرض دلمون ، حيث تشرق الشمس ، أي حيث القوة القاهرة للموت (١) ، دلمون التي هي مركز الخلق في الأساطير السومرية ، جنة الخلد ،

__________________

(١) E. O. James, Mythes et Rites dsns le Proche ـ Oeient Ancien, Paris, ٠٦٩١, p. ٧٤٢.

٣٣

«أرض دلمون مكان طاهر ، أرض دلمون مكان مقدس (١)» ، ثم يوصف «زيوسودرا» بعد ذلك بأنه «الشخص الذي حافظ على سلامة الجنس البشري» (٢).

ويحتمل من سياق لوح صغير أن «زيوسودرا» كان قد تلقى الحكمة عن أبيه «شورباك» بن «وبار ـ توتو» أحد ملوك ما قبل الطوفان ، وقد كرر في وصاياه لولده أن يتقبل نصائحه وأن يعمل بها ، وألا يحيد عنها (٣) وهاك ترجمة للنص السومري لقصة الطوفان ـ كما هو موجود الآن (٤).

٣٧ سطرا على وجه التقريب مهشمة في بداية النص ، ثم يلي ذلك :

إن البشر عبادي ، وعن الهلاك المحيق بهم سأعمل ... إلى نينتو ... سأعيد مخلوقاتي. سأعيد القوم إلى مواطنهم ، أما المدن ، فحقا سوف يبنون فيها لأنفسهم أماكن للشرائع الإلهية ، وسأجعل ظلالها في سلام ، وأما عن بيوتنا (ربما يعني أماكن الشرائع الإلهية) فحقا سوف يضعون آجرها في أماكن طاهرة ، وهو (أي الإله) قد وجه ... الخاص بالحرم ، وأكمل الشعائر ، والشرائع الإلهية المبجلة ، وعلى الأرض ... قد وضع ... هناك،وبعد أن خلق آتو وانليل وانكى ونينهو رساج البشر«ذوي الرءوس السود (٥)» ،

__________________

(١)J. Mougayrol et J. M. Aynard, La Mesopotamie, paris, ٥٦٩١, p. ٨٥ ـ ٩٥

(٢) «أ» صمويل نوح كريمر : أساطير العالم القديم ، ترجمة د. أحمد عبد الحميد يوسف ، مراجعة د.

عبد المنعم أبو بكر ، ص ٩٧ ، «ب» جيمس فريزر : المرجع السابق ص ١٠٣ ـ ١٠٥ ، «ج» نجيب ميخائيل : مصر والشرق الأدنى القديم ج ٦ ص ٢٦٤ ـ ٢٦٥ ، «د» رشيد الناضوري : جنوب غربي آسيا وشمال إفريقيا ـ الكتاب الأول ص ٢٢٢ ـ ٢٢٤ ، وكذلك Samuel Noah Kramer, The Deluge, in ANET, ٦٦٩١, P. ٢٤ ـ ٤٤.

(٣) W. G. Lambert, Babylonian Wisdom Literature, Oxford, ٠٦٩١, P. ٢٩ F.

وكذا عبد العزيز صالح : المرجع السابق ص ٤٣٩.

(٤) «أ» محمد عبد القادر محمد : قصة الطوفان في أدب بلاد الرافدين ص ١١٠ ـ ١١٤.

«ب»Jack Finegan, Light from the Ancient past, ٩٦٩١, P. ٠٣ ـ ١٣.

«ج»S. N. Kramer, in ANET, P. ٢٤ ـ ٤٤, and Sumerian Mythology, P. ٧٩ F.

«د» S.Langdon ,Semitic Mythology ,١٣٩١ ,P.٦٠٢ ـ ٨. وكذلك كريمر : من ألواح سومر ص ٢٥٢ ـ ٢٥٩.

(٥) أصحاب الرءوس السوداء : أرضهم سومر ، وهم ليسوا ساميين ولا آريين ، ولغتهم ليست سامية

٣٤

وازدهر الزرع في الأرض ، وأخرجت الحيوانات ومخلوقات السهول ذوات الأربع إلى الوجود بحكمة ... ثم نجابه بحوالي ٣٧ سطرا مهشمة ... وبعد أن أنزلت الملكية من السماء ، وبعد أن أنزل «تيارا» المعظم ، عرش الملك من السماء ... أكمل الشعائر والشرائع الإلهية المبجلة ، وأسس المدن الخمس في ... مواضع طاهرة ، وسماها بأسمائها وجعلها مراكز للعبادة ، وكانت أولى هذه المدن «أريدو» فأعطاها إلى «نوديمو» القائد ، والثانية «بادتيبيرا» وأعطاها إلى ... ، وكانت الثالثة «لاراك» وأعطاها إلى أندو بيلهور ساج ، وأعطى الرابعة «سيبار» للبطل «أوتو» ، وأما الخامسة ف «شورباك» وقد أعطاها ل «سود» ، وحين سمى هذه المدن وجعلها مراكز للعبادة ، فإنه أحضر ... ثم قرر تطهير الأنهار الصغيرة ... ثم حوالي ٣٧ سطرا مهشمة ...

الطوفان ... هكذا حلّ ب ... ثم بكت نينتو مثل ... وناحت «أنانا» الطاهرة من أجل أناسها ، ثم قام زيوسودرا ، الملك ، الباشيشو (لقب كهنوتي) وبنى ... ضخما ، مطيعا متواضعا في احترام ... حاضرا كل يوم دائما ... محضرا كل أنواع الاحترام ... ناطقا اسمي السماء والأرض ... الآلهة حائط ... وكان زيوسودرا واقفا إلى جانبه ، وقد سمع ... قف عند الحائط إلى جانبي الأيسر ، وعند الحائط سوف ألقي إليك كلمته ... أصغ إلى تعليماتي ، بقضائنا ... طوفانا سوف يكتسح مراكز العبادة ، ويقضي على بذرة البشر ، ذلك قرار ، إنها كلمة مجلس الآلهة ، بناء على الكلمة التي أمر بها «أنو» و «إنليل» ... وسوف ينتهي ملكها وحكمها ... (حوالي ٤٠ سطرا مهشمة).

وهبت جميع الزوابع بعنف وضراوة كقوة واحدة ، وبعد ذلك ولمدة سبعة أيام وسبع ليال ، اكتسح الطوفان الأرض (١) فيها ، وتقاذفت الأعاصير السفينة الضخمة فوق المياه

__________________

أو هندو أوروبية (انظر ، H. Frankfort, the Art and Architecture of the Ancient Orient,) ٢. n, ٢٣٥. P وربما كانت كتابة الوركاء التصويرية سومرية ، ومن ثم فإن هؤلاء القوم ربما كانوا في ميزوبوتاميا على الأقل منذ الفترة الأخيرة من عصر الوركاء ، وربما منذ فترة مبكرة من الألف الرابعة ق. م (انظر ، J.Finegan ,op ـ cit ,p.٩٢ (على أن هذا التعبير ، وإن كان يعني السومريين ، فربما يعني كذلك سكان سومر واكد معا ، وربما يشير في هذا النص إلى البشر عامة.

(١) المقصود أرض سومر ، وليس الكرة الأرضية (ANET ,P.٣٤).

٣٥

الضخمة ، وظهر «أوتو» الذي يضيء السماء والأرض ، وفتح زيوسودرا كوة (نافذة) في الفلك العظيم ، وأنفذ البطل «أوتو» أشعته في الفلك العظيم ، وسجد زيوسودرا الملك أمام أوتو العظيم ، وفي نفس الوقت اكتسح الطوفان مراكز العبادة ، وضحى الملك بفحل وشاة ... (حوالي ٣٩ سطرا مهشمة) تنطق أنت «نسمة السماء» و «نسمة الأرض» حقا ، وتبسط نفسها عنه ... ونادى آنو وأنليل نسمة السماء ونسمة الأرض ب ... فبسطت نفسها ... وازدهر الزرع الذي ينبت من الأرض ، وسجد زيوسودرا أمام أنو وإنليل ، ورضي أنو وإنليل عن زيوسودرا ، الملك ، الذي حافظ على اسم الزرع وبذرة البشر ، وفي أرض دلمون ، أرض العبور ، حيث تشرق الشمس أسكناه هناك ، ... أما بقية اللوح (٣٩ سطرا) فهي مكسورة ، ولهذا لا نعرف ما ذا حدث لزيوسودرا بعد ذلك.

ولكن أين أرض دلمون هذه؟

إن العلماء مختلفون في موقع دلمون السومرية هذه ، فذهب بعضهم إلى أنها في الجهة الجنوبية الغربية من بلاد فارس (الجزء الشرقي من ساحل الخليج العربي) (١) ، ومنهم من رأى أنها منطقة وادي السند (٢) ، ومنهم من رأى أنها سهول العراق الكائنة إلى جنوب غرب بابل (٣) ، وهناك من رأى أنها إنما تقع في القسم الشرقي من جزيرة العرب بين مجان وبيت نبسانو (٤) ، إلا أن غالبية العلماء يكادون يتفقون على أن موقع دلمون ، إنما هو جزيرة البحرين الحالية ، أو جزيرة البحرين والساحل المقابل لها (٥).

وسؤال البداهة الآن : هل هناك من الأدلة الأثرية في العراق ما يثبت قصة الطوفان السومرية هذه؟.

__________________

(١). S. N. Kramer, Dilmun, the land of the Living, BASoR, ٦٩, ٤٤٩١, P. ٨١ ـ ٨٢.

(٢).S. N. Kramer, the Indus Civilization and Dilmun, the Sumerian Paradise Land Expedition, Philadelphia, ٦٤٩١, P. ٥٤.

(٣) جون ألدر : الأحجار تتكلم ـ ترجمة عزت زكي ـ ص ٣٠.

(٤).F.Hommel ,Grundriss ,I ,S.٠٥٢.

(٥).P.B.Cornwell ,On the Location of Dilmun , وكذلك J. Finegan, op ـ cit., P. ٢٣ BASOR, ٣٠١, ٦٤٩١, P. ٣ ـ ١١.

٣٦

لقد عثر «سير ليونارد وولي (١)» في حفائره في «أور» عام ١٩٢٩ م على طبقة من الغرين السميك الذي يقدر بحوالي ثمانية أقدام والذي اعتبره دليلا ماديا على الطوفان السومري نظرا لكثافة تلك الطبقة الغرينية وتوافقها الزمني إلى حد كبير مع النصوص السومرية ، هذا مع ملاحظة أن تلك الطبقة الغرينية تقع فوق وتحت آثار تنتمي إلى عصر حضارة العبيد ، والتي تمثل عصر ما قبل الأسرات الأول في جنوب العراق ، ثم اتجه «وولي» بعد ذلك إلى الحفر في موقع بعيد عن «أور» بحوالي ثلاثمائة ياردة من ناحية الشمال الغربي للبحث عن مدى امتداد تلك الطبقة الغرينية ، وكانت نتيجة الحفر إيجابية ، مما أدى إلى القول بوجهة نظره المشهورة في ارتباط تلك الطبقة الغرينية السميكة بالطوفان الذي ذكرته الكتب المقدسة (٢).

ولكن أستاذنا الدكتور رشيد الناضوري يرى أنه لا ينبغي الجزم بصورة حاسمة في هذا الشأن ، ذلك لأن جنوب العراق القديم قد واجه الكثير من الفيضانات والطوفان ، فهناك أدلة غرينية على فيضان أو طوفان كبير في شورباك يرجع إلى نهاية عصر «جمدة نصر» ، وآخر في «كيش» يرجع إلى فترة لاحقة للفيضان السابق ، وهكذا بات من الصعب علينا المقارنة بين تلك الفيضانات ، وأيها هو الذي يتفق مع قائمة الملوك السومرية ، ولعل فيضان «شورباك» أكثر قربا منها على أساس أن تلك القائمة قد أشارت إلى المدينة الأخيرة ، كآخر مدينة قبل حادث الطوفان ، ولكن في نفس الوقت علينا ألا نستبعد كلية طوفان «أور» ذي الطبقة السميكة للغاية ، أضف إلى ذلك أن عدم العثور على الطبقة الغرينية الموازية في كافة المدن السومرية يدفع إلى الاتجاه باحتمال كون الطبقة الغرينية التي عثر عليها «وولي» في أور ، إنما هي مجرد ترسيب محلي ، ليس له الصفة الشاملة (٣).

__________________

(١) C. L. Woolley, ur of the Chaldees, London, ٠٥٩١, P. ٢٢ ـ ٩٢, Excavations at ur, P. ٦٢ ـ ٦٣.

(٢) رشيد الناضوري : المرجع السابق ص ٢٢٥.

(٣) نفس المرجع السابق ص ٢٢٥ ـ ٢٢٦ ، وانظر كذلك.J.Finegan ,op cit ,P.٤٢ وكذلك H. W. F. Saggs, the Greatness that was Babylon, London, ٢٦٩١, footnote, P. ٤٣ ـ ٥٣.

٣٧

وهناك من الأدلة كذلك قائمة الملوك السومرية. والمكتوبة بالخط المسماري بعد عام ٢٠٠٠ ق. م (١) ، أو في فترة لا تتأخر كثيرا عن منتصف عهد أسره أور الثالثة (حوالي ٢١١٢ ـ ٢٠١٥ ق. م) ، وربما قبيل عهد «أوتوحيجال» من أسرة الوركاء الخامسة ، وإن كان يبدو أنها نسخت عن قوائم قديمة ربما ترجع إلى أخريات العهد الأكدي ، وعلى أى حال ، فإنها تحتوي على معلومات تاريخية ترجع إلى بداية العصر التاريخي في العراق القديم ، وربما إلى أقدم من ذلك (٢).

وتبدأ الوثيقة بالقول أنه «عند ما أنزلت الملكية من السماء كانت في مدينة «أريدو» ، ثم تذكر القائمة ثمانية ملوك حكموا قبل الطوفان في خمس مدن هي : أريدو ، بادتيبيرا (تل المدائن قرب تللو) لارك (الوركاء : قرب كوت العمارة) ، سيبار (أبو حبة) وشورباك (تل فارة) ، وأن هؤلاء الملوك قد حكموا ٢٠٠ ، ٢٤١ سنة ، وأن آخر هؤلاء الملوك كان «وبار ـ توتو» وأنه قد حكم في مدينة شورباك لمدة ٦٠٠ ، ١٨ سنة ، ثم جاء من بعدهم الطوفان الذي أغرق الأرض ، وبعد زوال الطوفان هبطت الملكية ثانية من السماء إلى «كيش» ـ وهي تل الأحيمر الآن قرب الحلة ـ ثم الوركاء (إرك في التوراة) ، وهنا تعود القائمة مرة أخرى إلى ذكر أسماء المدن التي حكمت العراق القديم بعد ذلك (٣).

ورغم الأرقام الأسطورية التي قدمتها الوثيقة كفترة حكم لملوكها ، حتى بات من الصعب علينا أن نعرف منها متى انتهى العصر الأسطوري ومتى بدأ العصر التاريخي؟ ، إلا أن الوثيقة ـ دون شك ـ تحمل بين طياتها كثيرا من المعلومات التاريخية الصحيحة ، ومع ذلك ، فما يهمنا هنا في الدرجة الأولى ، أن الوثيقة تتحدث بوضوح عن طوفان يفصل بين فترتي حكم ، الأولى سابقة له ، والثانية تالية له ، تبدأ بنزول الملكية مرة ثانية

__________________

(١) S. L. Woolley, Excavations At Ur, London, ٣٦٩١, P. ٤١.

(٢) J.Fin egan ,op.cit.,P.٩٢. وكذلك Ibid.,P.٤١

(٣) J.Fin egan ,op ـ cit.,P.٩٢ ـ ٠٣ وكذلك S.L.Woolley ,op.cit.,P.٤١ ـ ٥١ , وكذلك A.L.Oppenheim ,in ANET ,P.٥٦٢ ـ ٧٦ وكذلك Thorkild Jacobson, the Sumerian King List, Assyrian Studies, ١١, Chicago, ٩٣٩١ وكذلك

G. A. Barton, the Royal Inscriptions of Sumer and Akkad, P. ٦٤٣ F.

٣٨

من السماء إلى كيش ثم الوركاء فأور ، ولعل في هذا دليلا واضحا على أن قائمة الملوك السومرية إنما تعتبر حادث الطوفان الخطير بمثابة كسر في عملية استمرار تاريخ العراق القديم ، ومن ثم فهو حد فاصل بين عصور ما قبل التاريخ والعصر التاريخي.

ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الأدلة الأثرية التي عثر عليها في طبقات مدينتي أريدو والوركاء لتثبت حقيقة ما نصت عليه وثيقة قائمة الملوك السومرية من حيث انتقال السيادة السياسية في جنوب العراق القديم بين تلك المدن (١).

ويتجه «Sir Leonard Woolley» إلى اعتبار هذا الطوفان ـ موضوع الحديث ـ طوفانا كبيرا لا مثيل له في أي عصر لاحق من تاريخ العراق القديم ، صحيح أن هناك في أور ، وفي مواضع أخرى من ميزوبوتاميا ، أدلة على فيضانات مؤقتة ومحلية حدثت في أوقات مختلفة من تاريخ العراق القديم ، وفي بعض الأحايين لم يكن أكثر من نتيجة أمطار هطلت في منطقة محدودة ، ولكن صحيح كذلك أن الطوفان الذي وضع نهاية لحضارة «العبيد» إنما يتفق في توقيته مع التاريخ السومري الذي وصل إلينا عن طريق التقاليد ، وأنه بعينه الطوفان الذي تحدثت عنه قائمة الملوك السومرية ، وهو الطوفان الذي روته التوراة في سفر التكوين ، على أنه يجب ألا يفهم أن القصة بحذافيرها صحيحة ، صحيح أن الخلفية حقيقة تاريخية ، ولكن التفاصيل قد زخرفها المؤلف السومري والعبري ببيانات وأوصاف تتفق وهدف كل منهما من كتابتها ، فمثلا تقول التوراة إن الماء قد ارتفع ٢٦ قدما ، وهذا ما يبدو صحيحا إلى حد كبير ، كما أن القصة السومرية تصف إنسان ما قبل الطوفان بأنه كان يعيش في أكواخ من بوص ، وهذا أمر أثبتته الحفائر في العبيد وفي أور ، وأن نوحا قد بنى فلكه من خشب خفيف لا ينفذ منه الماء ولا يؤثر فيه ، وأنه قد طلاه من داخل ومن خارج ، وهو أمر قد أثبتته الحفائر (٢).

وهناك من الأدلة كذلك ما حدثنا عنه «سير ليونارد وولي» من أنه قد وجد في أمور

__________________

(١) رشيد الناضوري : المرجع السابق ص ٢٤٧.

(٢) ٤٣ ـ ٦٣.Sir Leonard Woolley ,op.cit.,P.

٣٩

أسفل طبقة المباني السومرية طبقة طينية مليئة بقدور من الفخار الملون ، مختلط بها أدوات من الصوان والزجاج البركاني ، وكان سمك هذه الطبقة حوالي ١٦ قدما (٣ أمتار تقريبا) أسفل المباني الطينية التي يمكن تأريخها بحوالي عام ٢٧٠٠ ق. م ، وأن أور قد عاشت أسفل هذه الطبقة في عصر ما قبل الطوفان ، ولم تجر حتى الآن أي حفائر على نطاق واسع في هذه المنطقة ، وكل ما أمكن إثباته هو وجود مدينة قبل الطوفان ... وأن الفخار الملون قد اختفى ، ويستنتج «وولي» أن سبب اختفاء هذا الفخار الملون الذي كان منتشرا في جنوب بلاد الرافدين قبل الطوفان اختفاء تاما مرة واحدة ، هو أن الطوفان قد قضى قضاء تاما على سكان هذه البلاد ، وحتى من بقي منهم حيا فقد فقد القدرة على الإنتاج ، فجاء شعب جديد ، هم السومريون ، إلى تلك البلاد الخالية ، وأسسوا حضارة جديدة ، وكان فخارهم مصنوعا على دولاب الفخار ، بدلا من الفخار المصنوع باليد الذي كان سائدا في عصور ما قبل الطوفان ، كما استعملوا الأدوات المعدنية بدلا من الصوان (١).

ولعل سائلا يتساءل ، وهل كان الطوفان السومري هذا طوفانا عاما أغرق الدنيا كلها ، أم أنه كان مقصورا على جنوب العراق؟.

ويجيب «وولي» بأن الطوفان لم يكن طوفانا عالميا عمّ الكون بأسره ، وإنما كان مقصورا على الحوض الأسفل لنهري الدجلة والفرات ، وأنه قد أغرق المنطقة الصالحة للسكنى هناك بين الجبال والصحراء ، ـ والتي هي بالنسبة إلى السكان الذين يعيشون فيها بمثابة العالم كله ـ وأن المساحة التي شملها الطوفان ربما كانت ٤٠٠ ميل طولا ، في ١٠٠ ميل عرضا ، وأن الغالبية العظمى من السكان قد أغرقهم الطوفان ، وأن القوم قد رأوا أن هذه الكارثة بمثابة عقاب من الإله بسبب آثام الناس وخطاياهم ، وأن قلة نادرة قد نجت ، وأن رأس هذه القلة قد نظر إليه كبطل للقصة ، وهو هنا «زيوسودرا» (٢).

__________________

(١) محمد عبد القادر : المرجع السابق ص ٩٦ ـ ٩٧.

(٢) وكذلك Werner Keller ,the Bib As History ,

Sir Leonard Woolley, op. cit., P. ٦٣. London, ٧٦٩١, P. ٠٥ ـ ٥١.

٤٠