الممتع في التّصريف

أبي الحسن علي بن مؤمن بن محمّد بن علي ابن عصفور الحضرمي الإشبيلي « ابن عصفور »

الممتع في التّصريف

المؤلف:

أبي الحسن علي بن مؤمن بن محمّد بن علي ابن عصفور الحضرمي الإشبيلي « ابن عصفور »


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٠

فأما «خدبّ» فالأوّل من المثلين ساكن في الأصل. والأصل في «مكر» و «مستقرّ» : «مكرر» و «مستقرر» ، فنقلت الحركة إلى ما قبله لأنه ساكن غير حرف مدّ ولين. والأصل في «فارّ» و «ضارّ» : «فارر» ، و «ضارر» فسكّنت ولم تنقل الحركة لأنّ الساكن حرف مدّ ولين. ولو بنيت مثل «فعلان» من «رددت» لقلت «ردّان» فأدغمت ولم تنقل الحركة إلى ما قبلها ، لأنه متحرّك.

هذا ما لم يمنع من الإدغام أن يكون الإدغام مؤدّيا إلى تغيير بناء الملحق عمّا ألحق به ، نحو «قردد» فإنه ملحق بـ «جعفر» ، ولو أدغمت فقلت «قردّ» لحرّكت الراء وهي في مقابلة العين من «جعفر» ، وسكّنت الدال الأولى وهي في مقابلة الفاء من «جعفر». فكنت تضع متحرّكا في مقابلة ساكن ، وساكنا في مقابلة متحرّك.

أو يكون أحد المثلين التاء من اسم جار على «افتعل» فإنه لا يلزم فيه الإدغام ، بل يجوز في الاسم من الأوجه ما تقدّم ذكره.

أو يكون أيضا أحد المثلين من اسم جار على «تفاعل» نحو «تتابع» ، فإنه لا يلزم أيضا فيه الإدغام ، بل يجوز فيه الفكّ والإدغام كما جاز في فعله. فتقول «متابع ومتّابع» و «تتابعا واتّابعا» كما يجوز «تتابع واتّابع».

أو يشذّ شيء ، فيحفظ ولا يقاس عليه ، نحو «محجب» و «تهلل». أو تدعو إلى ذلك ضرورة ، نحو قوله :

*الحمد لله العليّ ، الأجلل (١)*

وقوله :

*تشكو الوجى ، من أظلل ، وأظل (٢)*

فإن التقيا في كلمتين فلا يخلو من أن يكونا معتلّين أو صحيحين. فإن كانا صحيحين فلا يخلو من أن يكون الأول منهما ساكنا أو متحرّكا. فإن كان ساكنا فالإدغام ليس إلّا

__________________

(١) الشعر من الرجز ، وهو لأبي النجم في خزانة الأدب ٢ / ٣٩٠ ، وشرح شواهد المغني للسيوطي ١ / ٤٤٩ ، والمقاصد النحوية للعيني ٤ / ٥٩٥ ، وبلا نسبة في الخصائص لابن جني ٣ / ٨٧ ، وشرح الأشموني ٣ / ٨٠٥ ، والمقتضب للمبرد ١ / ١٤٢ ، والمنصف لابن جني ٢ / ٦٤٩ ، وهمع الهوامع للسيوطي ٢ / ١٥٧.

(٢) الشعر من الرجز ، وهو للعجاج في ديوانه ١ / ٢٣٦ ، والخصائص لابن جني ٣ / ٨٧ ، والكتاب لسيبويه ٢ / ٣١٠ ، وكتاب الصناعتين للعسكري ص ١٥٠ ، ولسان العرب لابن منظور ، مادة (ظلل ، ملل) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر للسيوطي ١ / ٥١ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ٢٤٤ ، والكتاب لسيبويه ٣ / ٥٣٥ ، والمقتضب للمبرد ١ / ٢٥٢ ، والمنصف لابن جني ١ / ٣٣٩ ، ولسان العرب لابن منظور ، مادة (كفح).

٣٢١

نحو «اضرب بكرا» ، لأنه لا فاصل بين المثلين ، فهو أثقل من أن لو فصلت بينهما حركة وأيضا فإنّ الإدغام لا يؤدّي إلى تغيير شيء.

وإن كان الأوّل متحرّكا فإنه لا يخلو من أن يكون ما قبله ساكنا أو متحرّكا. فإن كان ما قبله متحرّكا جاز الإدغام والإظهار ، وإذا أدغمت فلا بدّ من حذف الحركة ، لما ذكرناه قبل. وكلاهما حسن ، والبيان لغة أهل الحجاز.

وإنما لم يلتزم الإدغام هنا ، لأنّ الأوّل من المثلين لا يلزم أن يكون ما بعده من جنسه ، ويلزم ذلك في الكلمة الواحدة ، فكأنّ اجتماع المثلين فيهما عارض ، فلذلك اعتدّ به مرّة ، ولم يعتدّ به أخرى. وذلك نحو «جعل لّك» و «يد دّاود» و «خاتم مّوسى». وأقوى ما يكون الإدغام وأحسنه إذا أدّى الإظهار إلى اجتماع خمسة أحرف بالتحريك فأكثر ، نحو «جعل لّك» و «فعل لّبيد» ، لثقل توالي الحركات. وكلّما كان توالي الحركات أكثر كان الإدغام أحسن.

وإن كان ما قبله ساكنا ـ أعني ما قبل الأوّل من المثلين ـ فلا يخلو من أن يكون الساكن حرف علّة أو لا يكون. فإن كان الساكن حرف علّة حذفت الحركة من المثلين وأدغمته في الثاني ، وإن شئت أظهرت. وذلك نحو «دار رّاشد» و «ثوب بّكر» و «جيب بّشير» و «يظلمونني».

وإنما جاز الجمع بين ساكنين لما في الساكن الأول من اللّين ، ولما في الحرف المشدّد من التشبّث بالحلاكة ، ولأنّ التقاء الساكنين فيها غير لازم إذ قد يزول بالإظهار. والبيان هنا أحسن من البيان في مثل «جعل لك» ، لسكون ما قبله ، فلم يتوال فيه من الحركات ما توالى في «جعل لك». وأيضا فإنّ الإدغام يؤدّي إلى اجتماع ساكنين.

فإن كان الساكن حرفا صحيحا لم يجز الإدغام ، نحو «اسم موسى» و «ابن نوح». وإنما لم يجز الإدغام فيه لأنّ الإدغام في الكلمتين أضعف منه في الكلمة الواحدة ؛ ألا ترى أنه يلزم في الكلمة الواحدة ولا يلزم في الكلمتين. فلمّا كان أضعف لم يقو على أن يغيّر له الحرف الساكن بالتحريك. إذ لو أدغمت لم يكن بدّ من تحريك سين «اسم» وباء «ابن». ولكنك تخفى إن شئت ، وتحقّق إن شئت. والمخفى بزنة المحقّق. إلّا أنك تختلس الحركة اختلاسا.

فأما قول بعضهم في القراءة «نعمّا» فحرّك ، فلم يحرّك العين للإدغام ، بل جاء على لغة من يقول «نعم» فيحرّك العين ، وهي لغة هذيل.

٣٢٢

فإن كانا معتلّين فإنه لا يخلو من أن يكون الأوّل منهما ساكنا ، أو متحرّكا. فإن كان ساكنا فلا يخلو من أن يكون حرف لين ، أو حرف مدّ ولين. فإن كان حرف لين أدغمت ، إذ لا مانع من الإدغام ، نحو «اخشي يّاسرا» و «اخشوا واقدا». وإن كان حرف مدّ ولين لم تدغم ، نحو «يغزو واقد» و «اضربي ياسرا» لئلّا يذهب المدّ بالإدغام ، مع ضعف الإدغام في الكلمتين ـ فأما مثل «مغزوّ» فاحتملوا فيه ذهاب المدّ لقوّة الإدغام ـ وأيضا فإنه يشبه «قوول» ، في أنّ الأول حرف مدّ ولين ، ولا يلزم المثلان فيهما كما لا يلزمان في قوول إذ يزول المثلان في «قوول» إذا أسندته إلى الفاعل ، كما يزول المثلان في «يغزو واقد» ، إذا لم تأت بعد «يغزو» بكلمة أولها واو ، نحو «يغزو راشد».

وإن كان الأول متحرّكا فلا يخلو من أن يكون ما قبله ساكنا ، أو متحرّكا.

فإن كان ما قبله متحرّكا جاز الإدغام والإظهار ، على حسب ما ذكر في مثله من الصحيح ، نحو «ولي يزيد» و «لقضو واقد».

وإن كان ما قبله ساكنا فلا يخلو من أن يكون حرف علّة ، أو حرفا صحيحا :

فإن كان حرفا صحيحا لم تدغم. كما فعلت في مثله من الصحيح ، نحو «ظبي ياسر» و «غزو واقد».

وإن كان حرف علّة فلا يخلو من أن يكون مدغما ، أو غير مدغم :

فإن كان غير مدغم جاز الإظهار والإدغام ، كما جاز في نظيره من الصحيح ، نحو «واو واقد» و «آي ياء سين».

وإن كان مدغما لم يجز الإدغام ، لأنّ المدّ الذي كان فيه قد زال بالإدغام ، فصار بمنزلة الساكن الصحيح. فكما لا تدغم إذا كان الساكن صحيحا فكذلك لا تدغم إذا كان معتلا. وذلك نحو «وليّ يزيد» و «عدوّ واقد».

والدليل على أنّ المدّ قد زال بالإدغام وقوع «ليّ» و «قوّ» في القوافي مع «ظبي» و «غزو». ولو كانت غير مدغمة لم يجز ذلك ، كما لا يجوز وقوع «عين» في قافية مع «جون». فدلّ ذلك على أنّ الإدغام يصيّرها بمنزلة الحرف الصحيح.

فإن كان الثاني ساكنا فلا يخلو من أن يجتمعا في كلمتين ، أو في كلمة واحدة. فإن اجتمعا في كلمتين لم يجز الإدغام أصلا نحو «اضرب ابن زيد» ، لأنّ سكون الحرف الثاني من المثلين إذ ذاك لا تصل إليه الحركة ، فلا يتصوّر فيه الإدغام ، بل يكونان مفكوكين.

٣٢٣

وقد شذّ العرب في «علماء بنو فلان» فحذفت الألف لالتقاء الساكنين ، فاجتمعت اللّامان : لام «على» مع لام التعريف. واستثقل ذلك ، مع أنه قد كثر استعمالهم له في الكلام ، وما كثر استعماله فهو أدعى للتخفيف مما ليس كذلك ، فحذفت لام «على» تخفيفا ، لمّا تعذّر التخفيف بالإدغام.

وإن اجتمعا في كلمة واحدة فلا يخلو الثاني من أن يكون حرف علّة ، أو حرفا صحيحا. فإن كان حرف علّة فقد تقدّم حكمه في باب القلب ، فأغنى ذلك من إعادته.

وإن كان حرفا صحيحا فلا يخلو من أن يكون تصل إليه الحركة في حال ، أو لا تصل :

فإن وصلت إليه الحركة فإنّ أهل الحجاز لا يدغمون ، لأنّ الإدغام يودّي إلى التقاء الساكنين ، لأنك لا تدغم الأول في الثاني حتى تسكّنه ، لئلّا تكون الحركة فاصلة بين المثلين كما تقدّم ، والثاني ساكن فيجتمع ساكنان. فلمّا كان الإدغام يؤدّي إلى ذلك رفضوه. وذلك نحو «أن تردد أردد» و «لا تضارر» و «اشدد».

فإن قلت : فهلّا حرّكوا الثاني من الساكنين إذا التقيا ، ثم أدغموا الأول فيه!

فالجواب : أنّ حركة التقاء الساكنين عارضة فلم يعتدّ بها كما لم يعتدّ بها في نحو : (قُمِ اللَّيْلَ) [المزمل : ٢] ؛ ألا ترى أنهم لا يردّون الواو المحذوفة من «قم» لالتقاء الساكنين ، وإن كانت الميم قد تحرّكت ، لأنّ الحركة عارضة.

وأما غيرهم من العرب فيدغم ويعتدّ بالعارض ، لأنّ العرب قد تعتدّ بالعارض في بعض الأماكن. وأيضا فإنه حمل ما سكونه جزم على المعرب بالحركة ، لأنه معرب مثله. فكما أنّ المعرب بالحركة تدغمه نحو «يفرّ» فكذلك المعرب بالسكون. وحمل ما سكونه بناء على ما سكونه جزم لأنه يشبهه ؛ ألا ترى أنّ العرب قد تحذف له آخر الفعل في المعتلّ كما تحذفه للجزم ، فتقول «اغز» كما تقول «لم يغز». وأيضا فإنك قد تحرّك لالتقاء الساكنين فتقول «اردد القوم». فصار بذلك يشبه المعرب بتعاقب الحركة والسكون على آخره ، كما أنّ المعرب كذلك في نحو «يضرب» ولم «يضرب». فلمّا أشبه المعرب في ذلك حمل في الإدغام عليه.

والذين من لغتهم الإدغام يختلفون في تحريك الثاني :

فمنهم من يحرّكه أبدا بحركة ما قبله إتباعا فيقول «ردّ» و «فرّ» و «عضّ» ، ما لم تتّصل

٣٢٤

به الهاء والألف التي للمؤنث فإنه يفتح على كلّ حال نحو «ردّها» و «عضّها» و «فرّها» (١) ، أو الهاء التي هي للمذكّر فإنه يضمّه نحو «ردّه» و «فرّه» و «عضّه». وذلك لأنّ الهاء خفيّة فكأنك قلت «ردّا» أو «ردّوا». فكما أنك تفتح مع الألف وتضمّ مع الواو فكذلك تفعل هنا. لأنّ الهاء خفيّة أو لم تجيء بعد الفعل بكلمة أولها ساكن فإنه يكسر أبدا نحو «رد ابنك» و «ردّ القوم». وذلك لأنك قد كنت تحرّك الآخر قبل الإدغام بالكسر على أصل التقاء الساكنين نحو «اردد القوم». فلمّا أدغمت في هذا الموضع حرّكت بالحركة التي كانت له قبل الإدغام ، كما أنهم لمّا حرّكوا «مذ» لالتقاء الساكنين فقالوا «مذ اليوم» ضمّوا لأنّ الأصل فيه منذ ، فلمّا حرّكوا أتوا بالحركة التي كانت له في الأصل.

ومنهم من يفتح على كلّ حال. إلّا إذا كان بعده ساكن. وذلك لأنه آثر التخفيف واعتدّ بالهاء في مثل «ردّه» ولم يلتفت إلى خفائها ، إلّا إذا كان بعده ساكن لأنه آثر حركة الأصل على التخفيف.

ومنهم من يفتح على كلّ حال ـ كان بعده ساكن أو لم يكن ـ وذلك لأنه آثر التخفيف في جميع الأحوال.

ومنهم من يكسر ذلك أجمع على كلّ حال. وهؤلاء حرّكوا بالحركة التي هي لالتقاء الساكنين في الأصل.

هذا ما لم يتّصل بشيء من ذلك ألف أو واو أو ياء ، فإنّ الحركة إذ ذاك تكون من جنس الحرف المتّصل به ، لا خلاف بينهم في شيء من ذلك. نحو «ردّا» و «ردّي» و «ردّوا».

فأما «هلمّ» فللتركيب الذي دخلها التزمت العرب فيها التخفيف لذلك ، فحرّكوها بالفتح على كلّ حال ، إلّا مع الألف والواو والياء نحو «هلمّا» وهلمّوا و «هلمّي».

وإن لم تصل الحركة إلى الساكن الثاني فإنّ العرب ، الحجازيين وغيرهم ، لا يدغمون ذلك نحو «رددت» وكذلك «ارددن» ، لأنّ سكون الدال هنا لا يشبه سكون الجزم ، ولا سكون الأمر والنهي ، وإن كان «ارددن» أمرا لأنها إنما سكّنت من أجل النون كما سكّنت من أجل التاء في «رددت».

والسبب في أن لم يدغم مثل هذا كما أدغم «ردّ» أن السكون في «اردد» ـ وإن كان

__________________

(١) فرّ الدابة : كشف عن أسنانها لينظر ما سنّها. انظر لسان العرب لابن منظور ، مادة (فرر).

٣٢٥

بناء ـ أشبه المعرب من الوجهين المتقدّمين فحمل عليه في الإدغام. وليس بين سكون الدال في «رددت» وأمثاله وبين المعرب شبه ، فلم يكن له ما يحمل عليه.

إلّا ناسا من بكر بن وائل فإنهم يدغمون في مثل هذا ، فيقولون «ردّت» و «ردّن». كأنهم قدّروا الإدغام قبل دخول النون والتاء. فلمّا دخلتا أبقوا اللفظ على ما كان عليه قبل دخولهما.

فإن كان الثاني من المثلين ساكنا فالإظهار. ولا يجوز الإدغام لأنّ ذلك يؤدّي إلى اجتماع الساكنين. وقد شذّ العرب في شيء من ذلك ، فحذفوا أحد المثلين تخفيفا ، لمّا تعذّر التخفيف بالإدغام. والذي يحفظ من ذلك : «أحست» و «ظلت» و «مست». وسبب ذلك أنّه لمّا كره اجتماع المثلين فيها حذف الأول منها تشبيها بالمعتلّ العين. وذلك أنك قد كنت تدغم قبل الإسناد للضمير فتقول «أحسّ» و «مسّ» و «ظلّ». والإدغام ضرب من الاعتلال ؛ ألا ترى أنك تغيّر العين من أجل الإدغام بالإسكان ، كما تغيّرها إذا كانت حرف علّة. فكما تحذف العين إذا كانت حرف علّة ، في نحو «قمت» و «خفت» و «بعت» ، كذلك حذفت في هذه الألفاظ تشبيها بذلك.

وممّا يبيّن ذلك أنّ العرب قد راعت هذا القدر من الشبه ، لأنهم يقولون «مست» بكسر الميم ، فينقلون حركة السين المحذوفة إلى ما قبلها كما يفعلون ذلك في «خفت» ؛ ألا ترى أنّ الأصل «خوفت» ، فنقلوا حركة الواو إلى الخاء ، وحذفوها لالتقاء الساكنين ، على حسب ما أحكم في بابه.

وأما «ظلت» و «مست» في لغة من فتح الميم فحذفوا ، ولم ينقلوا فيهما الحركة ، تشبيها لهما بـ «لست» ، لمّا كان لا يستعمل لهما مضاره إذا حذفا كما لا يستعمل لـ «ليس» مضارع ، ولأنّ المشبّه بالشيء لا يقوى قوّة ما يشبّه به.

وأما «علماء بنو فلان» فأصله «على الماء» فحذفت الألف لالتقاء الساكنين ، فاجتمع اللّامان ـ لام «على» مع لام التعريف فاستثقل ذلك ، مع أنّ ذلك قد كثر استعمالهم له في الكلام. وما يكثر استعماله فهو أدعى للتخفيف مما ليس كذلك ، فحذفت لام «على» تخفيفا لمّا تعذّر التخفيف بالإدغام.

فهذا وجه هذه الأسماء التي شذّت.

* * *

٣٢٦

ذكر إدغام المتقاربين

اعلم أنّ التقارب الذي يقع الإدغام بسببه قد يكون في المخرج خاصّة ، أو في الصّفة ، أو في مجموعهما. فلا بدّ إذا ، قبل الخوض في هذا الفصل ، من ذكر مقدّمة في مخارج الحروف وصفاتها.

فحروف المعجم الأصول تسعة وعشرون ، أوّلها الألف وآخرها الياء ، على المشهور من ترتيب حروف المعجم. لا خلاف في ذلك بين أحد من العلماء ، إلا أبا العباس المبرّد فإنها عنده ثمانية وعشرون ، أولها الباء وآخرها الياء ، ويخرج الهمزة من حروف المعجم ، ويستدلّ على ذلك بأنها لا تثبت على صورة واحدة. فكأنها عنده من قبيل الضبط ، إذ لو كانت حرفا من حروف المعجم لكان لها شكل واحد ، لا تنتقل عنه ، كسائر حروف المعجم.

وهذا الذي ذهب إليه أبو العباس فاسد. لأنّ الهمزة لو لم تكن حرفا لكانا «أخذ» و «أكل» وأمثالهما على حرفين خاصّة ، لأنّ الهمزة ليست عنده حرفا. وذلك باطل ، لأنه أقلّ أصول الكلمة ثلاثة أحرف : فاء وعين ولام.

فأما عدم استقرار صورتها على حال واحدة فسبب ذلك أنها كتبت على حسب تسهيلها. ولو لا ذلك لكانت على صورة واحدة وهي الألف. ومما يدلّ على ذلك أنّ الموضع الذي لا تسهّل فيه تكتب فيه ألفا ، بأيّ حركة تحرّكت ، وذلك إذا كانت أوّلا ، نحو «أحمد» و «أيلم» و «إثمد».

ومما يبيّن أيضا أنها حرف أنّ واضع أسماء حروف المعجم وضمها ، على أن يكون في أول الاسم لفظ الحرف المسمّى بذلك الاسم ، نحو «جيم» و «دال» و «ياء» وأمثال ذلك. فـ «الألف» اسم للهمزة ، لوجود الهمزة في أوله. فأما الألف التي هي مدّة فلم يتمكّن ذلك في اسمها ، لأنها ساكنة ولا يبتدأ بساكن ، فسمّيت ألفا باسم أقرب الحروف إليها في المخرج ، وهو الهمزة.

ومما يبيّن أيضا أنها حرف ، وليست من قبيل الضبط ، أنّ الضبط لا يتصوّر النطق به

٣٢٧

إلّا في حرف ، والهمزة يتصوّر النطق بها وحدها كسائر الحروف. فدلّ ذلك على أنها حرف.

وقد تبلغ الحروف خمسة وثلاثين حرفا بفروع حسنة تلحقها ، يؤخذ بها في القرآن وفصيح الكلام. وهي : النون الخفيفة ـ وهي النون الساكنة إذا كان بعدها حرف من الحروف التي تخفى معه ـ والهمزة المخفّفة ، وألف التفخيم ، وألف الإمالة ، والشين التي كالجيم نحو «أجدق» في «أشدق» ، والصاد التي كالزاي في نحو «مصدر». وسيبيّن بعد ، إن شاء الله تعالى.

وقد تبلغ ثلاثة وأربعين حرفا بفروع غير مستحسنة ، ولا مأخوذ بها في القرآن ولا في الشعر. ولا تكاد توجد إلّا في لغة ضعيفة مرذولة. وهي :

الكاف التي كالجيم : وقد أخبر أبو بكر بن دريد أنها لغة في اليمن ، يقولون في «كمل» : «جمل». وهي كثيرة في عوامّ أهل بغداد.

والجيم التي كالكاف : وهي بمنزلة ذلك ، فيقولون في «رجل» «ركل» ، فيقرّبونها من الكاف.

والجيم التي كالشين : نحو «اشتمعوا» و «أشدر» ، يريدون «اجتمعوا» و «أجدر».

والطاء التي كالتاء : نحو «تال» تريد «طال». وهي تسمع من عجم أهل المشرق كثيرا ، لأنّ الطاء في أصل لغتهم معدومة. فإذا احتاجوا إلى النطق بها ضعف نطقهم بها.

والضاد الضعيفة : يقولون في «اثردله» : «اضردله». يقرّبون الثاء من الضاد. وكأنّ ذلك في لغة قوم ليس في أصل حروفهم الضاد ، فإذا تكلّفوها ضعف نطقهم بها لذلك.

والصاد التي كالسين : نحو «سائر» في «صائر». قرّبت منها ، لأنّ الصاد والسين من مخرج واحد.

والباء التي كالفاء : وهي كثيرة في لغة الفرس وغيرهم من العجم. وهي على لفظين : أحدهما لفظ الباء أغلب عليه من لفظ الفاء ، والآخر بالعكس نحو «بلح» و «برطيل».

والظاء التي كالثاء : يقولون في «ظالم» : «ثالم».

وكأنّ الذين تكلّموا بهذه الحروف المسترذلة خالطوا العجم ، فأخذوا من لغتهم.

* * *

٣٢٨

تبيين مخارج حروف العربية الأصول

وهي ستة عشر مخرجا :

فللحق منها ثلاثة :

فأقصاها مخرجا : الهمزة والألف والهاء هكذا هي هذه الثلاثة عند سيبويه. وزعم أبو الحسن أنّ الهمزة أوّلا ، وأنّ الهاء والألف بعدها ، وليست واحدة عنده أسبق من الأخرى. ويدلّ على فساد مذهبه ، وصحّة ما ذهب إليه سيبويه ، أنه متى احتيج إلى تحريك الألف اعتمد بها على أقرب الحروف إليها ، فقلبت همزة نحو «رسالة ورسائل». فلو كانت الهاء معها من مخرج واحد لقلبت هاء ، لأنها إذ ذاك أقرب إليها من الهمزة.

ومن وسط الحلق مخرج : العين والحاء.

وأدنى مخارج الحلق إلى اللسان مخرج : الغين والخاء.

ومن أقصى اللسان وما فوقه من الحنك الأعلى مخرج : القاف.

ومن أسفل من موضع القاف من اللسان قليلا ، ومما يليه من الحنك الأعلى ، مخرج : الكاف.

ومن وسط اللسان ، بينه وبين وسط الحنك الأعلى ، مخرج : الجيم والشين والياء.

ومن بين أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس مخرج : الضاد. إلّا أنك إن شئت تكلّفتها من الجانب الأيمن ، وإن شئت من الأيسر.

ومن أوّل حافة اللسان ، من أدناها إلى منتهى طرف اللسان ، ما بينها وبين ما يليها من الحنك الأعلى ، مما فويق الضاحك والناب والرّباعية والثنيّة مخرج : اللّام.

ومن طرف اللسان ، بينه وبين ما فويق الثنايا ، مخرج : النون.

ومن مخرج النون ، غير أنه أدخل في ظهر اللسان قليلا ، لانحرافه إلى اللّام ، مخرج : الراء.

٣٢٩

ومن بين طرف اللسان وأصول الثنايا مخرج : الطاء والدال والتاء.

ومن بين طرف اللسان وفويق الثنايا مخرج : الصاد والزاي والسين.

ومن بين طرف اللسان وأطراف الثنايا مخرج : الظاء والثاء والذال.

ومن باطن الشفة وأطراف الثنايا العلى مخرج : الفاء.

ومن بين الشفتين مخرج : الباء والميم والواو.

ومن الخياشيم مخرج : النون الخفيفة.

* * *

٣٣٠

ذكر تقسيمها بالنظر إلى صفاتها

فمن ذلك انقسامها إلى مجهور ومهموس : فالمهموسة عشرة أحرف يجمعها «ستشحثك خصفه» وباقي الحرف مجهورة.

والمجهور حرف أشبع الاعتماد عليه في موضعه ، فمنع النّفس أن يجري معه حتى ينقضي الاعتماد. غير أنّ الميم والنون ، من جملة المجهورة ، قد يعتمد لهما في الفم والخياشيم ، فتصير فيهما غنّة.

والمهموس : حرف أضعف الاعتماد عليه في موضعه ، حتى جرى معه النّفس. واعتبار ذلك بأن تكرّر الحرف نحو «سسس ، كككك» فتجد النّفس يجري مع الحرف. ولو رمت في المجهور لما أمكنك.

وتنقسم أيضا إلى شديد ، ورخو ، وبين الشّدّة والرّخاوة. فالشديد ثمانية أحرف يجمعها «أجدك قطبت». والتي بين الشديدة والرّخوة أيضا ثمانية أحرف يجمعها «لم يرو عنّا». وباقي الحروف رخو.

والشديد : حرف يمتنع الصوت أن يجري فيه لانحصار الصوت ؛ ألا ترى أنك لو قلت «الحقّ» و «الشطّ». ثم رمت مدّ الصوت في القاف والطاء لكان ممتنعا.

والرّخو : هو الذي يجري فيه الصوت من غير ترديد ، لتجافي اللسان عن موضع الحرف ؛ ألا ترى أنك تقول «المسّ» و «الرّشّ» و «الشّحّ» ونحو ذلك ، فتجد الصوت جاريا مع السين والشين والحاء.

والذي بين الشديدة والرّخوة : هو الذي لا يجري الصوت في موضعه عند الوقف ، ولكن يعرض له أعراض توجب خروج الصوت ، باتّصاله بغير مواضعها :

فأما العين فإنك قد تصل إلى الترديد فيها كما تصل إلى ذلك في الرّخوة ، لشبهها بالحاء كأنّ صوتها ينسلّ عند الوقف إلى الحاء ، فليس لصوتها الانحصار التامّ ، ولا جري الرّخو.

٣٣١

وأما اللّام فإنّ الصوت قد يمتدّ فيها لأنّ ناحيتي مستدقّ اللسان تتجافيان ، فيخرج الصوت منهما ، وليس يخرج الصوت من موضع اللّام ، لأنّ طرف اللسان لا يتجافى فليس للصوت جري تامّ. وبيان ذلك أنك لو شددت جانبي موضع اللّام لانحصر الصوت ، ولم يجر البتّة.

وأما النون والميم فيجري معهما الصوت في الأنف لأنّ الغنّة صوت ، ولا يجري في الفم لأنّ اللسان لازم لموضع الحرف من الفم.

وأما الراء فللتكرار الذي فيها قد يتجافى اللسان بعض تجاف ، فيجري معه الصوت إذ ذاك.

وأما الياء والواو فلأنّ مخرجهما اتّسع لهواء الصوت ، فجرى لذلك الصوت بعض جري. وأما الألف فلأنّ مخرجها اتّسع لهواء الصوت أشدّ من اتّساع مخرج الياء والواو ، لأنك تضمّ شفتيك في الواو وترفع في الياء لسانك قبل الحنك ، وليس في الألف شيء من ذلك. فهذه الأحرف الثلاثة لها أصوات في غير موضعها من الفم. فصارت بذلك مشبهة للرّخوة ، وهي تشبه الشديدة للزومها مواضعها ، وليس للصوت جري في مواضعها كالرّخوة.

وتنقسم أيضا إلى مطبق ومنفتح. فالمطبقة أربعة أحرف : الطاء والظاء والصاد والضاد. وباقي الحروف منفتح. والإطباق أن ترفع ظهر لسانك إلى الحنك الأعلى مطبقا له. ولو لا الإطباق لصارت الطاء دالا والصاد سينا والظاء ذالا ـ لأن الفارق بينها إنما هو الإطباق ـ ولخرجت الضاد من الكلام ، لأنه ليس من موضعها حرف غيرها ، فترجع الضاد إليه إذا زال الإطباق. والانفتاح ضدّ ذلك.

وتنقسم الحروف أيضا إلى مستعل ومنخفض. فالمستعلية سبعة : الأربعة المطبقة ، وثلاثة من غيرها وهي الخاء والغين والقاف. والمنخفض ما عذا ذلك. والاستعلاء أن يتصعّد اللسان إلى الحنك الأعلى ، انطبق اللسان أو لم ينطبق. والانخفاض ضدّ ذلك.

وتنقسم إلى مكرّر وغير مكرّر. فالمكرّر : الراء. وما عداها غير مكرّر. وأعني بالتكرار : أنك إذا وقفت عليها رأيت طرف اللسان يتعثّر فيها. ولذلك احتسبت في الإمالة بحرفين على ما ذكر في باب الإمالة.

وتنقسم أيضا إلى متقلقل ، ومشرب ، وما ليس فيه قلقلة ولا إشراب.

٣٣٢

فالمتقلقلة : القاف والجيم والطاء والدال والباء. وذلك أنها تضغط عن مواضعها ، وتحفز في الوقف ، فلا تستطيع الوقف عليها إلّا بصوت. نحو «الحق» و «اخرج» و «اهبط» و «اذهب» و «امدد».

والمشربة : الزاي والظاء والذال والضاد والراء. والمشرب : حرف يخرج معه عند الوقف عليه نحو النفخ ، إلّا أنه لم يضغط ضغط المقلقل.

ومن المشرب ما لا يخرج بعده شيء من ذلك نحو الهمزة ، والعين ، والغين ، واللّام ، والنون ، والميم.

وجميع الحروف التي تسمع معها في الوقف صوتا ، متى أدرجتها ووصلتها زال ذلك الصوت ، لأنّ أخذك في صوت آخر وحرف سوى الأوّل عن إتباع الحرف الأول صوتا ، نحو «خذه» و «اخفضه» و «احفظه».

وتنقسم إلى مهتوت وغير مهتوت. فالمهتوت الهاء ، وذلك لما فيها من الضعف والخفاء. وما عداها فليس بمهتوت.

وتنقسم أيضا إلى ذلقيّة وغير ذلقيّة. فالذلقيّة ستّة ، وهي اللّام والراء والنون والفاء والباء والميم. وما عداها فهو المصمت. وسمّيت ذلقيّة لأنها يعتمد عليها بذلق اللسان ، وهو صدره وطرفه. وفي الحروف الذلقيّة سرّ طريف ينتفع به في اللغة. وذلك أنك متى رأيت اسما رباعيّا أو خماسيّا غير ذي زوائد فلا بدّ فيه من حرف منها أو حرفين أو ثلاثة ، نحو «جعفر» و «قعضب» (١) و «سلهب» (٢) و «فرزدق» و «سفرجل» و «قرطعب» (٣). فمتى وجدت كلمة رباعيّة أو خماسيّة معرّاة من حروف الذّلاقة فاقض بأنه دخيل في كلام العرب وليس منه. ولذلك سمّي ما عدا هذه الحروف مصمتا أي : صمت عن أن تبنى منه كلمة رباعيّة أو خماسيّة. وربما جاء بعض ذوات الأربعة معرّى من حروف الذلاقة ، وذلك قليل جدّا ، نحو «العسجد» و «العسطوس» (٤) و «الدّهدقة» (٥) «الزّهزقة» (٦).

__________________

(١) القعضب : الضخم الشديد الجريء. انظر لسان العرب لابن منظور ، مادة (قعضب).

(٢) السلهب : الفرس الطويل على وجه الأرض. انظر الصحاح للجوهري ، مادة (سلهب).

(٣) القرطعب : قطعة من خرقة. انظر لسان العرب لابن منظور ، مادة (قرطعب).

(٤) العسطوس : شجرة لينة الأغصان. انظر لسان العرب لابن منظور ، مادة (عسط).

(٥) دهدق اللحم : قطعه وكسر عظامهع ، انظر القاموس المحيط للفيروز آبادي ، مادة (دهدق).

(٦) الزهزقة : شدة الضحك. انظر الصحاح للجوهري ، مادة (زهزق).

٣٣٣

وتنقسم أيضا إلى مستطيل وما ليس كذلك. فالمستطيل الضاد لأنها استطالت في مخرجها على حسب ما ذكر في المخارج. وغير المستطيل ما عداها.

وتنقسم أيضا إلى منحرف وغير منحرف. فالمنحرف اللّام ، وما عداها ليس بمنحرف.

وتنقسم أيضا إلى أغنّ وغير أغنّ. فالأغنّ الميم والنون ، والغنّة : صوت في الخياشيم. وما عدا ذلك فليس بأغنّ.

وإنما ذكرت صفات الحروف لأنّ إدغام المتقاربين يبنى عليها أو على أكثرها ، على ما يبيّن بعد ، إن شاء الله عزّ وجلّ. وإذ قد فرغنا من المقدّمة فينبغي أن نرجع إلى تبيين حكم إدغام المتقاربات في المخارج أو في الصفات.

* * *

٣٣٤

ذكر أحكام حروف الحلق في الإدغام

قد تقدّم أنّ للحلق ثلاثة مخارج : فمن أقصاه الألف والهمزة والهاء ، ومن وسطه العين والحاء ، ومن أدنى مخارج الحلق إلى اللسان مخرج الغين والخاء.

أما الألف والهمزة فلا يدغمان في شيء ، ولا يدغم فيهما شيء. والسبب في ذلك أنّ إدغام المتقاربين محمول على إدغام المثلين. فلما امتنع فيهما إدغام المثلين ـ كما ذكرنا في فصل إدغام المثلين ـ امتنع فيهما إدغام المتقاربين.

وأما الهاء فليس لها من مخرجها ما يدغم فيها أو تدغم فيه ، لأنها من مخرج الألف والهمزة ، فلم يبق ما تدغم فيه إلّا ما هو من المخرج الذي يلي مخرجها.

فإذا اجتمعت مع الحاء فلا يخلو أن تتقدّم الحاء أو تتقدّمها الحاء. فإن تقدّمت على الحاء جاز الإدغام والبيان نحو «اجبه حاتما». إن شئت لم تدغم ، وإن شئت قلبت الهاء حاء وأدغمت الحاء في الحاء فقلت «اجبحّاتما» ، لأنهما متقاربان ليس بينهما شيء ، إلّا أنّ الحاء من وسط الحلق ، وهما مهموسان. وإنما قلبت الأوّل إلى جنس الثاني ولم تقلب الثاني إلى جنس الأوّل. لأنّ الذي ينبغي أن يغيّر بالقلب الأوّل كما غيّر بالإسكان ؛ ألا ترى أنّ الذي يسكن لأجل الإدغام إنما هو الأول. فإن قلب الثاني إلى جنس الأوّل في موضع ما فلعلّة ، وسيبيّن ما جاء من ذلك في موضعه. والبيان وترك الإدغام أحسن لاختلاف المخرجين ، ولأنّ حروف الحلق ليست بأصل للإدغام لقلّتها ، والتصرّف بابه أن يكون فيما يكثر.

وإن تقدّمتها الحاء نحو «امدح هلالا» فالبيان ، ولا يجوز الإدغام. والعلّة في ذلك أنّ المخرجين ، كما تقدّم ، قد اختلفا مع أنّ الإدغام في حروف الحلق ليس بأصل. وأيضا فإنك لو أدغمت لوجب أن تقلب الأوّل إلى الثاني على أصل الإدغام ، فكنت تقلب الحاء هاء ، وذلك لا يجوز لأنّ الهاء أدخل في الحلق من الحاء ، ولا يقلب الأخرج إلى الفم إلى جنس الأدخل في الحلق. والسبب في ذلك أنّ حروف الفم أخفّ من حروف الحلق ، ولذلك يقلّ اجتماع الأمثال في حروف الحلق. وما قرب من حروف الحلق إلى الفم كان

٣٣٥

أخفّ من الذي هو أدخل منه في الحلق. فكرهوا لذلك تحويل الأخرج إلى جنس الأدخل ، لأنّ في ذلك تثقيلا ، فإن أردت الإدغام قلبت الهاء حاء. وأدغمت ، فقلت «امد حّلالا» وجاز قلب الثاني لمّا تعذّر قلب الأوّل ، وليكون الإدغام فيما هو أقرب إلى حروف الفم التي هي أصل للإدغام. والإدغام في مثل هذا أقلّ من الإدغام في مثل «اجبه حاتما» لأنّ الباب ـ كما تقدّم ـ أن يحوّل الأوّل إلى الثاني.

فإن اجتمعت مع العين فالبيان ـ تقدّمت العين أو تأخّرت ـ ولا يجوز الإدغام إلّا أن تقلب العين والهاء حاء ، ثم تدغم الحاء في الحاء. وذلك نحو قولك «اجبحّتبة» و «اقطحّاذا» و «ذهب محّم» تريد «اجبه عتبة» و «اقطع هذا» و «ذهب معهم». وهي كثيرة في كلام بني تميم. وإنما لم تدغم إلّا بتحويل الحرفين ، لأنك لو قلبت العين إلى الهاء كنت قد قلبت الأخرج إلى جنس الأدخل. وقد تقدّم ذلك. ولو قلبت الهاء إلى العين لاجتمع لك عينان ، وذلك ثقيل ، لأنّ العين قريبة من الهمزة ، فكما أنّ اجتماع الهمزتين ثقيل فكذلك اجتماع العينين. وأيضا فإنها بعيدة من الهاء ، لأنها ليست من مخرجها ، وتباينها في الصفة ، لأنّ العين مجهورة والهاء مهموسة ، والعين بين الشدّة والرّخاوة والهاء رخوة. فكرهوا أن يقلبوا واحدة منهما إلى الأخرى ، للتباعد الذي بينهما. فلذلك أبدلوا منهما الحاء ، لأنّ الحاء من مخرج العين ، وتقارب الهاء في الهمس والرّخاوة.

وأما العين إذا اجتمعت مع الحاء فلا يخلو أن تتقدّم أو تتقدّم الحاء. فإن تقدّمت كنت بالخيار : إن شئت أدغمت فقلبت العين حاء ، وإن شئت لم تدغم نحو «اقطع حبّلا». وحسّن الإدغام هنا كونهما من مخرج واحد.

وإن تقدّمت الحاء بيّنت ولم تدغمها في العين ، لأنّ العين أدخل في الحلق. ولا يقلب الأخرج إلى الأدخل لما تقدّم. وأيضا فإن اجتماع العينين ثقيل كما تقدّم فإن أردت الإدغام قلبت العين حاء ، وأدغمت الحاء في الحاء ، لأنه قد تقدّم أنّ الثاني قد يقلب إذا تعذّر قلب الأوّل.

وأما الغين مع الخاء فإنه يجوز فيهما البيان والإدغام ، وكلاهما حسن ، لأنهما من مخرج واحد. وإذا أدغمت قلبت الأوّل منهما إلى الثاني ، كائنا ما كان ، نحو «اسلخ غنّمك» و «ادمغ خلّفا». وإنما جاز قلب الخاء غينا ، وإن كانت أخرج إلى الفم منها ، لأنّ الغين والخاء لقرب مخرجهما من الفم أجريا مجرى حروف الفم ، وحروف الفم يجوز فيها قلب الأخرج إلى الأدخل.

٣٣٦

ومما يبيّن أنهما يجريان مجرى حروف الفم أنّ العرب قد تخفي معهما النون ، كما تفعل بها مع حروف الفم ، على ما يبيّن بعد.

ولهذه العلّة بنفسها لم يجز إدغام واحد من الحاء والعين والهاء في الغين والخاء ، أعني لكونهما قد أجريا مجرى حروف الفم. فكما أنّ حروف الحلق لا تدغم في حروف الفم ، فكذلك لا تدغم الهاء والحاء ولا العين.

هذا مذهب سيبويه. وحكى المبرّد أن من النحويين من أجاز إدغام العين والحاء في الغين والخاء. نحو قولك «امد غالبا» و «امد خّلقا» و «اسمغّالبا» و «اسمخّلفا». تريد : امدح غالبا ، وامدح خلفا ، واسمع غالبا ، واسمع خلفا. وزعم أنّ ذلك مستقيم في اللغة ، معروف ، جائز في القياس ، لأنّ الخاء والغين أدنى حروف الحلق إلى الفم. فإذا كانت الهاء تدغم في الحاء والهاء من المخرج الأوّل من الحلق ، والحاء من الثاني ، وليست حروف الحلق بأصل للإدغام ، فالمخرج الثالث أولى أن يدغم فيما كان بعده ، لأنّ ما بعده متصل بحروف الفم ، التي هي أصل للإدغام ؛ ألا ترى أنهم أدغموا الباء في الفاء ، والباء من الشفة محضة ، والفاء من الشفة السفلى وأطراف الثنايا العلى ، فقالوا «اذهفّي ذلك» و «اضر فرّجا» ، لقرب الفاء من حروف الفم. وسيبويه يأبى ذلك ، لما ذكر من أنّ العرب كما لا تدغم ...

* * *

٣٣٧

ذكر حكم حروف الفم في الإدغام

فأولها مما يلي حروف الحلق ـ كما تقدّم ـ القاف والكاف. وكلّ واحد منهما يدغم في صاحبه فتقول «الحق كّلدة» و «انهك قّطنا» ترفع اللسان بهما رفعة واحدة. والبيان والإدغام في «الحق كّلدة» حسنان. والبيان في «انهك قّطنا» أحسن من الإدغام ، لقرب القاف والكاف من حروف الحلق ، وحروف الحلق ـ كما تقدّم ـ لا يجوز إدغام الأخرج منها في الأدخل. فلذلك ضعف إدغام الكاف ، التي هي الأخرج ، في القاف التي هي أدخل ، كما سبّه أقرب حروف الحلق إلى اللسان ، وهما الغين والخاء ، بحروف اللسان ، فأخفيت النون الساكنة عندهما كما تقدّم.

ولا يجوز إدغام كلّ واحد من القاف والكاف في غيرهما ، ولا غيرهما فيهما.

ثم الجيم والشين والياء :

أما الجيم فإنها تدغم في الشين خاصّة كقولك «ابعج شبّثا». ويجوز البيان ، وكلاهما حسن. وإنما جاز إدغامها فيها لكونهما من حروف وسط اللسان.

ولم يجز إدغامها في الياء ، وإن كانت من مخرجها ، لأن الياء حرف علّة ، وحروف العلة بائنة من جمع الحروف ، بأنها لا يمدّ صوت إلّا بها ، ولأنّ الحركات بعضها. ولذا كانت منفردة بأحكام لا توجد لغيرها ، ألا ترى أنك تقول «عمرو» و «بكر» و «نصر» وما أشبه ذلك في القوافي ، فيعادل الحروف بعضها بعضا ، ولو وقعت ياء أو واو بحذاء حرف من هذه الحروف نحو «جور» و «خير» لم يجز. وكذلك تكون القافية مثل «سعيد» و «قعود» ، ولو وقع مكان الياء والواو غيرهما لم يصلح وتحذف لالتقاء الساكنين في الموضع الذي يحرّك فيه غيرها نحو «يغزو القوم» و «يرمي الرجل» و «مثنى القوم». فصارت لذلك قسما برأسه. فلذلك لم تدغم في غيرها ، ولا أدغم غيرها فيها ، ما عدا النون فإنها أدغمت فيها ، لعلّة تذكر في موضعها.

ولا يدغم في الجيم من مخرجها شيء : أما الشين فلم تدغم فيها لأنّ فيها تفشّيا فكرهوا إذهابه بالإدغام ، وأيضا فإنّ الشين بتفشّيها لحقت بمخرج الطاء والدال ، فبعدت عن

٣٣٨

الجيم. وأما الياء فلم تدغم لما تقدّم ، من ذكر العلّة المانعة من إدغام الياء والواو في حروف الصحّة.

ويدغم فيها من غير مخرجها ستّة أحرف ، وهي : الطاء والدال والتاء والظاء والذال والثاء ، نحو «لم يربط جملا» و «قد جّعلّ» و «وجبت جّنوبها» و «احفظ جّابرا» وانبذ جّعفرا و «ابعث جامعا». وإنما جاز إدغام هذه الأحرف في الجيم ، وإن لم تكن من مخرجها ، لأنها أخت الشين وهي معها من مخرج واحد. فكما أنّ هذه الأحرف تدغم في الشين فكذلك أدغمت في أختها ، وهي الجيم ، حملا عليها. والبيان في جميع ذلك أحسن للبعد الذي بينها وبينهنّ. وإذا أدغمت الطاء والظاء في الجيم فالأحسن أن تبقى الإطباق الذي فيهما ، لئلّا تخلّ بهما وتضعفهما ، بزوال الإطباق منهما. وقد يجوز أن تذهب الإطباق جملة.

وأما الشين فإنها لا تدغم في شيء. وسبب ذلك أنها متفشّية ، كما تقدّم ، والإدغام في مقاربها يذهبه ، فيكون ذلك إخلالا بها.

وتدغم فيها الجيم ـ وقد تقدّم ذكر ذلك ـ والطاء والدال والتاء والظاء والذال والثاء واللّام. أما إدغام الجيم فيها فلكونهما من مخرج واحد. وأما إدغام سائر الحروف فيها فلأنها استطالت بالتفشّي الذي فيها ، حتى اتصلت بمخرجها ، فجرت لذلك مجرى ما هو من مخرج واحد. والبيان عربيّ جيّد ، لبعد ما بينها وبينهنّ.

وأما الياء فلا تدغم في حرف صحيح أصلا ، وقد تقدّم سبب ذلك. وتدغم في الواو ، لأنها شابهتها في اللّين والاعتلال ، إلّا أنّ الواو هي التي تقلب لجنس الياء ، تقدّمت أو تأخّرت ، لأنّ القصد بالإدغام التخفيف ، والياء أخفّ من الواو ، فقلبوا الواو ياء على كلّ حال ـ وأيضا فإنّ الواو من الشّفة ، والياء من حروف الفم ، وأصل الإدغام أن يكون في حروف الفم ـ نحو «سيّد» و «ميّت». الأصل فيهما «سيوّد» و «ميوت» ، و «طيّ» و «ليّ» الأصل فيهما «طوي» و «لوي».

ولا يدغم فيها حرف صحيح أصلا ، إلّا النون نحو «من يّوقن». والسبب في أن أدغمت النون وحدها ، من بين سائر الحروف الصحاح ، في الياء ، أنّ النون غنّاء فأشبهت بالغنّة التي فيها الياء ، لأنّ الفنّة فضل صوت في الحرف ، كما أنّ الليّن فضل صوت في حروف العلّة. وأيضا فإن النون قريبة في المخرج من الواو التي هي أخت الياء. ويدغم فيها الواو لتشاركهما في الاعتلال والليّن ، كما تقدّم. وذلك نحو «طويت طيّا» و «لويت ليّا».

٣٣٩

ثم الضاد ، ولا تدغم في شيء من مقارباتها. وسبب ذلك أنّ فيها استطالة وإطباقا واستعلاء ، وليس في مقارباتها ما يشركها في ذلك كلّه. فلو أدغمت لأدّى ذلك إلى الإخلال بها ، لذهاب هذا الفضل الذي فيها.

فأما إدغام بعضهم لها في الطاء بقوله «مطّجع» يريد «مضطجعا» فقليل جدّا ، ولا ينبغي أن يقاس. والذي شجّعه على ذلك أشياء ، منها : موافقة الضاد للطاء في الإطباق الذي فيها والاستعلاء ، وقربها منها في المخرج ، ووقوعها معها في الكلمة الواحدة أكثر من وقوعها في الانفصال ، لأنّ الضاد التي تكون آخر كلمة لا يلزمها أن يكون أول الكلمة التي تليها طاء ، ولا يكثر فيها بخلاف «مضطجع». فلمّا اجتمعت هذه الأسباب أدغموا ، واغتفروا لها ذهاب الاستطالة التي في الضاد.

وتدغم فيها الطاء والدال والتاء والظاء والذال والثاء واللّام. وذلك نحو «هل ضلّ زيد» و «ابعث ضرمة» ـ قال سيبويه : «وسمعنا من يوثق بعربيّته قال :

*ثار ، فضجّت ضّجّة ركائبه (١)*

فأدغم التاء في الضاد» ـ و «اضبط ضرمة» و «احفظ ضّرمة» و «خذ صّرمة» و «قد ضّعف». أما اللّام فأدغمت فيها ، لقربها منها في المخرج. وأما سائر الحروف فإنّ الضاد ، فالاستطالة التي فيها ، لحقت مخرج الطاء والدال والتاء ، لأنها اتصلت بمخرج اللّام ، وتطأطأت عن اللّام حتى خالطت أصول ما اللّام فوقه ، إلّا أنها لم تقع من التثنيّة موقع الطاء لانحرافها ، لأنك تضع لسانك للطاء بين الثّنيّتين. وقربت بسبب ذلك من الظاء والذال والثاء ، لأنهنّ من حروف طرف اللسان والثنايا ، كالطاء وأختيها. والبيان عربيّ جيّد ، لتباعد ما بينها وبينهنّ.

ثم اللّام والنون والراء :

أما اللّام فإنها تدغم في ثلاثة عشر حرفا ، وهي : التاء والثاء والدال والذال والراء والزاي والسين والشين والصاد والضاد والطاء والظاء والنون. وإنما أدغمت في هذه الحروف لموافقتها لها. وذلك أنّ اللّام من طرف اللسان ، وهذه الحروف : أحد عشر حرفا منها حروف طرف اللسان ، وحرفان منها ـ وهما الضاد والسين ـ يخالطان طرف اللسان.

__________________

(١) الشعر من الرجز ، وهو للقتابي في شرح أبيات سيبويه للسيرافي ٢ / ٤١٧ ، وبلا نسبة في الكتاب لسيبويه ٤ / ٤٦٥.

٣٤٠