الممتع في التّصريف

أبي الحسن علي بن مؤمن بن محمّد بن علي ابن عصفور الحضرمي الإشبيلي « ابن عصفور »

الممتع في التّصريف

المؤلف:

أبي الحسن علي بن مؤمن بن محمّد بن علي ابن عصفور الحضرمي الإشبيلي « ابن عصفور »


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٠

فإن قيل : وما الذي يدلّ على أنّ «كينونة» (١) و «قيدودة» (٢) ، وأمثالهما في الأصل «فيعلولة»؟.

فالجواب : أنّ الذي يدلّ على ذلك شيئان : أحدهما : أنهما من ذوات الواو ، فلو لا أنّ الأصل ذلك لقيل «قودودة» و «كونونة» ، إذ لا موجب لقلب الواو ياء. والآخر أنّه ليس في كلام العرب «فعلولة» ، على ما تقدّم في الأبنية.

فإن قيل : فإنهما مصدران ، وليس في المصادر ما هو على وزن «فيعلولة»؟.

فالجواب : أنّ «فيعلولة» قد ثبت في غير المصادر ، نحو «خيسفوجة» (٣) ، ولم يثبت «فعلولة» في موضع من المواضع. فحمله على ما ثبت في بعض المواضع أحسن ، إن أمكن. وإلّا فقد يجيء المعتلّ على بناء لا يكون للصحيح ، كما قدّمنا.

وزعم الفرّاء أنهما في الأصل «كونونة» و «قودودة» بضمّ الفاء ، وكذلك «صيرورة» و «طار طيرورة» ، ثم قلبت الضّمّة فتحة في «صيرورة» و «طيرورة» لتصحّ الياء. ثم حملت ذوات الواو على ذوات الياء ، ففتحوا الفاء وقلبوا الواو ياء ، لأنّ مجيء المصدر على «فعلولة» أكثر ما يكون في ذوات الياء ، نحو «صيرورة» و «سيرورة» و «طيرورة» و «بينونة».

وهذا الذي ذهب إليه فاسد ، من جهات :

منها : أنّ ادّعاء قلب الضمّة فتحة لتصحّ الياء مخالف لكلام العرب. بل الذي اطّرد في كلامهم أنه إذا جاءت الياء ساكنة بعد ضمّة قلبت واوا ، نحو قولهم «موقن» و «عوطط» (٤) وهما من اليقين والتّعيّط.

ومنها : أنّ الضّمّة إذا قلبت لتصحّ الياء فإنما تقلب كسرة ، كما فعلوا في «بيض» ، لا فتحة.

فإن قيل : لم يقلبوها كسرة ، استثقالا للخروج من كسر إلى ضمّ؟.

فالجواب : أنّ الكسر إذا كان عارضا فلا يكرهون الخروج منه إلى ضمّ ، نحو «بيوت» و «شيوخ».

__________________

(١) الكينونة : مصدر كان يكون. انظر الصحاح للجوهري ، مادة (كون).

(٢) القيدودة : مصدر قاد يقود. انظر الصحاح للجوهري ، مادة (قود).

(٣) الخيسفوجة : رجل السفينة. انظر لسان العرب لابن منظور ، مادة (خسفج).

(٤) العوطط : الناقة التي لم تحمل سنين من غير علة. انظر الصحاح للجوهري ، مادة (عوط).

٢٦١

ومنها : أنّ حمله ذوات الواو على ذوات الياء ليس بقياس مطرّد. أعني أنه إذا كثر أمر ما في ذوات الياء ، ثم جاء منه في ذوات الواو شيء ، لم يوجب ذلك حمل ذوات الواو على الياء ، وإن فعل ذلك فشذوذا ؛ ألا ترى أنّ كثرة «فعالة» ، في المصادر من ذوات الياء نحو «السّقاية» و «الرّماية» و «النّكاية» ، وقلّتها من ذوات الواو ، لم تخرج «جباوة» عن الشذوذ.

ومنها : أنّ ما ادّعاه ، من أنّ «فعلولة» في ذوات الواو قد كثر ، غير مسلّم. بل هذا الوزن في المصادر قليل في ذوات الياء والواو. وما جاء في ذوات الواو كالمعادل لما جاء منه في ذوات الياء.

ومما يدلّ على صحّة مذهب سيبويه ما حكي من مجيء «كيّنونة» على الأصل. أنشد المبرّد :

قد فارقت قرينها القرينه

وشحطت ، عن دارها ، الظّعينه (١)

يا ليت أنّا ضمّنا سفينه

حتّى يعود الوصل كيّنونه

وما عدا هذه المستثنيات ممّا سكن ما قبله ، أو ما بعده ، أو ما قبله وما بعده ، فلا يعلّ أصلا بأكثر من أن تقلب الواو فيه ياء ، إذا اجتمعت مع الياء وقد تقدّم أحدهما بالسكون. فإذا قلبت الواو ياء أدغمت الياء في الياء. وذلك نحو «فيعول» من القيام ، تقول فيه «قيّوم». وكذلك «فيعال» نحو «قيّام». الأصل فيهما «قيووم» و «قيوام» ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت الياء في الياء.

وكذلك تفعل في كلّ عين ، تكون واوا فتجتمع مع ياء ، ويسبق أحدهما بالسكون ، إلّا أن يشذّ من ذلك شيء نحو «ضيون» (٢) ، أو يكون أحدهما مدّة فإنك لا تدغم. فلو بنيت مثل «فوعل» من القول لقلت «قوول» ولم تدغم لأنّ الواو مدّة ، وقد تقدّم السبب في ذلك في الفعل.

فإن جمعت اسما معتلّ العين على وزن «مفاعل» أو «مفاعيل» فإنك تبقي العين على أصلها ، من ياء أو واو ، ولا تعلّ. إلّا أن تقع في الجمع حسب ما كانت عليه في المفرد

__________________

(١) البيتان من الرجز ، وهما بلا نسبة في الأشباه والنظائر للسيوطي ٥ / ٢٠٥ ، والإنصاف للأنباري ص ٧٩٧ ، وشرح شواهد الشافية ص ٣٩٢ ، والمنصف لابن جني ٢ / ١٥ ، ولسان العرب لابن منظور ، مادة (كون).

(٢) الضّيون : السّنّور. انظر لسان العرب لابن منظور ، مادة (ضون).

٢٦٢

معتلّة ، نحو قولك في «قائم» : «قوائم» ، فتقلب العين همزة كما قلبت في «قائم» ، لأنها بعد ألف زائدة في الجمع كما كانت في المفرد. أو يكتنف ألف الجمع واوان أو ياءان أو واو وياء. بشرط القرب من الطّرف. وقد تقدّم إحكام ذلك في البدل ، وذلك نحو قولك في جمع «فعّل» من القول نحو «قوّل» : «قوائل» ، وفي جمع «فيعل» نحو «قيّل» : «قيائل» ، وفي جمع «فعّل» من البيع : «بيائع».

فإن لم تقع في الجمع على حسب ما اعتلّت عليه في المفرد ، ولا اكتنف ألف الجمع حرفا علّة ، فإنك تبقي العين على أصلها من واو أو ياء. فتقول في جمع «مقول» : «مقاول» ، وفي جمع «مقام» : «مقاوم» ، وفي جمع «معيشة» : «معايش» إلّا لفظة واحدة شذّت فيها العرب ، وهي «مصيبة» ، قالوا في جمعها : «مصائب» فهمزوا العين ، وكان ينبغي أن يقال في جمعها «مصاوب» ، لأنها من ذوات الواو. ووجه إبدالهم من العين همزة أنهم شبّهوا الياء في «مصيبة» لسكونها وانكسار ما قبلها ، بالياء الزائدة في مثل «صحيفة». فكما قالوا في «صحيفة» : «صحائف» ، فكذلك قالوا في «مصيبة» : «مصائب». هذا مذهب سيبويه ومذهب الزجّاج أنهم قالوا «مصاوب» ، ثم أبدلوا من الواو المكسورة همزة تشبيها لها ، حشوا ، بها في أوّل الكلام. وقد تقدّم في البدل ترجيح مذهب الزّجّاج على مذهب سيبويه.

هذا حكم العين المعتلّة إذا كانت اللّام حرفا صحيحا ليس الهمزة. فإن كانت اللّام همزة فلا تخلو الفاء ، إذ ذاك ، من أن تكون همزة أو لا تكون.

فإن كانت همزة فإنه لا يجيء منه شيء في الأفعال ، لأنّ حروفه كلّها تعتلّ ؛ ألا ترى أنّ الألف من حروف العلّة ، وكذلك الهمزتان فكما لا تكون حروف الفعل كلّها معتلّة فكذلك لا تكون عينه حرف علّة وفاؤه ولامه همزتان. وإنما يجيء في الأسماء ؛ قالوا «آء» وهو شجر. ونظيره من الأسماء في اعتلال جميع حروف «واو».

وإن لم تكن الفاء همزة فحكمه حكم ما لامه غير همزة ، إلّا فيما أستثنيه لك :

من ذلك اسم الفاعل في نحو «جاء» ، فإنه يخالف اسم الفاعل من «قام» وأمثاله ، في أنك إذا أبدلت من العين همزة ، كما فعلت ذلك في «قائم» وأمثاله ، اجتمع لك همزتان ـ الهمزة التي هي لام والهمزة المبدلة من العين ـ فتبدل من الهمزة الثانية ياء ، لانكسار ما قبلها. هذا مذهب سيبويه. ومذهب الخليل أنهم قلبوا اللّام في موضع العين ، فلم تلتق همزتان.

٢٦٣

فإن قيل : وما الذي حمل الخليل على ادعاء القلب؟.

فالجواب : أنّ الذي حمله على ذلك كثرة العمل الذي في مذهب سيبويه ؛ ألا ترى أنّ «جائيا» في مذهب سيبويه أصله «جايىء» ثم «جائىء» ثم «جائيء» ثم «جاء» ، وفي مذهب الخليل أصله «جايىء» ، فقلب فصار «جائيء» ثم «جاء». فمذهب سيبويه فيه زياد عمل على مذهب الخليل. فلذلك تكلّف القلب ، إذ كانوا يقلبون فيما لا يؤدّي فيه عدم القلب إلى اجتماع همزتين ، نحو قولهم «شاك» و «لاث» والأصل فيهما «شائك» و «لائث».

وكلا المذهبين عند سيبويه حسن. ورجّح الفارسيّ مذهب الخليل على المذهب الأوّل ، بأنه يلزم في مذهب سيبويه توالي إعلالين على الكلمة من جهة واحدة ، وهما قلب العين همزة ، وقلب الهمزة التي هي لام ياء. وتوالي إعلالين على الكلمة ، من جهة واحدة ، لا يوجد في كلام العرب إلّا نادرا في ضرورة الشعر ، نحو قوله :

وإنّي لأستحيي وفي الحقّ مستحى

إذا جاء باغي العرف أن أتنكّرا (١)

أصل «مستحى» : «مستحيي» فتحركت الياء الأخيرة ، وما قبلها مفتوح ، فقلبت ألفا فصار «مستحيا». ثم أعلّوا الياء التي هي عين بنقل حركتها إلى الساكن قبلها ، وقلبها ألفا ، فالتقى ساكنان فحذف أحدهما. ولا يلزم في مذهب الخليل إلّا القلب ، والقلب أكثر ، في كلام العرب من توالي الإعلالين على الكلمة ، حتى إنّ يعقوب قد وضع كتابا في «القلب والإبدال».

وهذا الترجيح حسن ، إلّا أنّ السماع يشهد للمذهب الأوّل. وذلك أنّ من العرب من يقول : «شاك» و «لاث» ، فيحذف العين من «شائك» و «لائث». ومنهم من يقول «شاك» و «لاث» ، كما تقدّم ، فيقلب. والذي من لغته القلب ليس من لغته الحذف. وكلهم يقول «شائك» و «لائث». فلمّا وجدنا العرب كلّها تقول «جاء» ، ولا تحذف ، علمنا أنه في لغة الحاذفين على أصله ، إذ ليس من لغتهم القلب ، ومن لغتهم البقاء على الأصل. وأمّا في لغة القالبين في «شاك» و «لاث» فيحتمل أن يكون مقلوبا ، ويحتمل أن يكون باقيا على أصله. فقد حصل إذا ما ذهب إليه سيبويه سماعا. وما ذهب إليه الخليل ليس له من السماع ما يقطع به ، فهو محتمل.

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لابن مقبل في تهذيب اللغة للأزهري ، ولسان العرب لابن منظور ، وتاج العروس للزبيدي ، مادة (سمح) ، ومنتهى الطلب لابن ميمون ص ٣١ ، وبلا نسبة في التمام لابن جني ص ١٥.

٢٦٤

ومن ذلك الجمع ، فإنه يوافق جمع ما لامه غير همزة ، في جميع ما ذكر. فتقول في جمع «جاء» : «جواء» ، كما تقول في جمع «قائم» : «قوائم». والأصل «جوائيء» فقلبت الهمزة الثانية ياء لاجتماع الهمزتين. وعلى مذهب الخليل «جواييء» فقلبت الهمزة. وتقول في جمع «مجيئ» : «مجايئ» ، كما تقول في جمع «مبيع» : «مبايع» ، إلّا أن يؤدّي الجمع إلى وقوع همزة عارضة بعد ألف الجمع ـ أعني لم تكن في حال الإفراد ـ فإنك إذا قلبت الهمزة الثانية ياء فإنك تحوّل كسرة الهمزة التي هي عين فتحة ، فتجيء الياء متحركة وما قبلها مفتوح ، فتقلب ألفا. فتجيء الهمزة متوسّطة بين ألفين ، والهمزة قريبة الشّبه من الألف ، فتجيء الكلمة كأنها اجتمع فيها ثلاثة أمثال ، فتقلب الهمزة ياء فرارا من اجتماع الأمثال. وذلك نحو «فعّل» من المجيء نحو «جيّأ» فإنك تقول في جمعه «جيايا». والأصل «جيايىء» ، فاكتنف ألف الجمع ياءان ، فقلبت الثانية همزة فقالوا «جيائىء» ، فقلبت الهمزة الثانية ياء لاجتماع الهمزتين وانكسار ما قبل الثانية فقالوا «جيائي» ، ثم حوّلوه إلى «جياءي» ، فتحرّكت الياء وما قبلها مفتوح فقلبت ألفا ، فصار «جياءى» ـ وكان هذا التحويل لازما إذا كانوا قد يحوّلون في مثل «صحارى» مع أنه أخفّ من «جياءى» ، لأنه لم تعرض فيه همزة كما عرضت في «جياءى». وإنما لزم تحويله ، لمّا عرضت فيه الهمزة ، لأنّ عروضها تغيير ، والتغيير يأنس بالتغيير ـ ثم قلبت الهمزة ياء فصار «جيابا». وإنما لزم الهمزة ياء لمّا وقعت بين ألفين ، لأنّ مخرج الهمزة يقرب من مخرج الألف ، فكان كالتقاء ثلاث ألفات. وكذلك تفعل بكلّ ما تعرض فيه الهمزة من الجمع. فأما قوله :

*سماء الإله فوق سبع سمائيا (١)*

فإنه ردّه إلى أصله ، لمّا اضطرّ ، كما تردّ جميع الأشياء إلى أصلها ، عند الضرورة.

ومن ذلك «أشياء». فمذهب سيبويه والخليل أنّها «لفعاء» مقلوبة من «فعلاء» ، والأصل «شيئاء» من لفظ «شيء» ، وهو اسم جمع كـ : «قصباء» (٢) و «طرفاء» (٣) ، ومذهب الكسائيّ أنها «أفعلاء» جمع «شيء». ومذهب الفرّاء والأخفش أنها «أفعلاء» والأصل

__________________

(١) عجز بيت من البحر الطويل ، وصدره :

له ما رأت عين البصيرة وفوقه

وهو لأمية بن الصلت في ديوانه ص ٧٠ ، وخزانة الأدب للبغدادي ١ / ٢٤٤ ، وشرح أبيات سيبويه للسيرافي ٢ / ٣٠٤ ، والكتاب لسيبويه ٣ / ٣١٥ ، ولسان العرب لابن منظور ، مادة (سما).

(٢) القصباء : واحدتها : قصبة ، وهي كل نبات ذي أنابيب. انظر لسان العرب لابن منظور ، مادة (قصب).

(٣) الطرفاء : شجر. انظر لسان العرب لابن منظور ، مادة (طرف).

٢٦٥

«أشيئاء» ، فحذفت الهمزة التي هي لام وانفتحت الياء لأجل الألف. ويخالف الفراء أبا الحسن في «شىء» الذي هو مفرد «أشياء». فمذهب أبي الحسن أنه «فعل» كـ «بيت» ، ومذهب الفرّاء أنه مخفّف من «فيعل» ، والأصل «شيّىء» فخفّف «ميّت» و «هيّن» ، فقالوا «ميت» و «هين».

فالذي يردّ به على الكسائيّ أنه لو كان «أفعالا» لكان مصروفا «شيء» : «شيّىء» وذلك لم ينطق به في موضع من المواضع. ولو كان «شيء» كـ «ميت» و «هين» لجاء على أصله ، في موضع من المواضع.

فثبت إذا أنّ الأحسن مذهب الخليل. إذ ليس فيه أكثر من القلب ، والقلب كثير في كلامهم.

ومن ذلك «أشاوى» في معنى «شياء». حكي من كلامهم «إنّ لك عندي لأشاوى».

وفيها خلاف أيضا :

فمذهب المازنيّ أنها جمع «أشياء». وكان الأصل أن يقال «أشايا» ، فأبدلت الياء واوا شذوذا ، كما قالوا «جبيت الخراج جباوة». ففيها ـ على هذا ـ شذوذان : قلب اللّام إلى أوّل الكلمة ، وقلب الياء واوا.

ومذهب سيبويه أنها جمع «إشاوة» وإن لم ينطق بها. وتكون «إشاوة» المتوهّمة كأنها في الأصل «شياءة» فقلبت اللّام إلى أول الكلمة ، وأخّرت العين إلى موضع اللام ، وأبدلت الياء واوا. فلمّا جمعوا فعلوا به ما يفعل بـ : «علاوة» (١) ـ وسيذكر ذلك في المعتلّ اللّام ـ فقالوا «أشاوى» كما قالوا «علاوى». ورأى سيبويه أنّ هذا أولى ، ليكون الشّذوذ في المتوهّم ـ وهو المفرد الذي لم ينطق به ـ ثم يجيء الجمع على قياس المفرد : وإذا جعلنا «أشاوى» جمع «أشياء» كان الشّذوذ في الملفوظ به. وأيضا فإنّ أبا الحسن الأخفش حكى أنّ العرب التزمت فيه الفتح ، فلم يقولوا «أشاو» كـ «صحار» ، فدلّ ذلك على أنه ليس جمع «أشياء» بل جمع «إشاوة» ولذلك التزم فيه الفتح كما التزم في جمع «إداوة» و «هراوة» وأمثالهما.

وذهب بعض النحويّين إلى أنّ «أشاوى» غير مقلوب ، وأنّ الواو غير مبدلة من ياء. وجعله من تركيب «أش و» ، وقد جاء ذلك في قول الشاعر :

__________________

(١) العلاوة : أعلى الرأس ، وقيل : أعلى العنق ، وقيل : رأس الإنسان ما دام في عنقه. انظر لسان العرب لابن منظور ، مادة (علا).

٢٦٦

وحبّذا حين تمسي الرّيح باردة

وادي أشيّ وفتيان به هضم (١)

ف «أشيّ» في الأصل «أشيو» لأنّ اللّام الغالب عليها إذا كانت حرف علّة أن تكون واوا. فتكون على هذا موافقة لـ «أشياء» في المعنى ، ومخالفة لها في الأصل. فيكون ذلك من باب «لؤلؤ ولأآل» و «سبط وسبطر». وذلك قليل جدّا.

ومن ذلك «سواية» ، أعني أنه شذّ عن القياس ، بحذف الهمزة منه التي هي لام. والأصل «سوائية». وقد تقدّم.

ومن ذلك ما حكاه أبو زيد من قولهم «غفر الله مسائيتك» جمع «مساءة». والأصل «مساوئتك» فقلب فصار «مسائوئك». فجاءت الواو طرفا بعد كسرة فقلبت ياء ، وألحقت التاء التي تلحق لتأنيث الجمع ، فصار «مسائيتك».

فهذه المستثنيات لا يقاس على شيء منها.

[المعتل اللام]

فأما المعتلّ اللّام فلا يخلو أن يكون اسما أو فعلا. فإن كان فعلا فلا يخلو من أن يكون على ثلاثة أحرف ، أو على أزيد. فإن كان على ثلاثة أحرف فإنه يكون على «فعل» و «فعل» و «فعل» بفتح العين وضمّها وكسرها :

أما المفتوحة العين والمكسورتها فإنها تكون في ذوات الواو والياء. فمثال «فعل» من الياء «رمى» ، ومن الواو «غزا». ومثال «فعل» من الواو «شقي» ، ومثاله من الياء «عمي».

وأما المضمومة العين فلا توجد إلّا في الواو نحو «سرو». ولا توجد في الياء إلّا في التعجّب نحو «لقضو الرّجل» (٢) ، أصله «لقضي» ، فقلبت الياء واوا ، لانضمام ما قبلها ، لأنّ الياء وقبلها الضمّة بمنزلة الياء والواو. فكما أنّ اجتماع الياء والواو ثقيل فكذلك الياء إذا كان قبلها ضمّة ، لا سيّما والياء في محل التغيير. وهو الطّرف. فلم يكن بدّ من قلب الياء حرفا من جنس الضمة وهو الواو ، أو قلب الضمّة كسرة لتصحّ الياء ، ، فلم يمكن قلب الضمّة كسرة كراهية أن يلتبس «فعل» بـ «فعل». فقلبت الياء واوا.

__________________

(١) البيت من البحر البسيط ، وهو للمرار بن منقذ في جمهرة اللغة لابن دريد ، ولسان العرب لابن منظور ، مادة (أشي).

(٢) يقال : لقضو الرجل ، إذا بالغت في الخبر عنه بجودة القضاء. انظر المنصف لابن جني ١ / ٣٠٧.

٢٦٧

فإن قيل : ولأيّ شيء امتنع بناء «فعل» من ذوات الياء؟.

فالجواب : أنّ الذي منع من ذلك أنهم لو فعلوا ذلك لأدّى إلى الخروج من الخفيف إلى الثقيل ، لأنه يلزم فيه كما ذكرنا ـ قلب الياء واوا ، والياء أخفّ من الواو ، مع أنه يلزم أن يكون المضارع على «يفعل». فكنت تقول «رمو يرمو» ، فيجتمع لك في الماضي والمضارع ضمّة وواو ، وذلك ثقيل. وليس كذلك ذوات الواو ، لأنه لا يلزم فيها أكثر من ثقل الواو والضمّة نحو «سرو يسرو» ، إذ ليس يلزم فيها خروج من خفيف إلى ثقيل وإنما ساغ ذلك في فعل التعجب ، لأنه لا مضارع له ، فقلّ فيه الثقل لذلك. وأيضا فإنه يشبه الأسماء ، ولذلك صحّحوا الفعل في نحو «ما أطوله» ، تشبيها له بـ «أطول منه». فكذلك أيضا قلبوا الياء في مثل «رمو» ، إذا أرادوا التعجّب ، واوا تشبيها له بـ «فعلة» ، ممّا لامه ياء ، إذا بنيت على التأنيث ، نحو «رموة» من الرمي.

فإن قيل : وكيف شبّهت الياء المتطرّفة في الفعل بالياء غير المتطرّفة في الاسم ، بل كان يجب أن تشبّه بالياء المتطرّفة ، فكما أنّ الياء المضموم ما قبلها ، إذا كانت في آخر الاسم ، تقلب الضمّة كسرة نحو «أظب» جمع ظبي ، فكذلك كان يجب فيما أشبهه من الفعل؟.

فالجواب : أنّ الذي منع من قلب الياء المضموم ما قبلها واوا في آخر الاسم أنّ الواو المضموم ما قبلها في آخر الاسم مستثقلة ، وهي مع ذلك معرّضة لأن تليها ياء النسب وياء الإضافة ، نحو «أدلويّ» و «أدلوي» لو ثبتت الواو. والفعل ليس بمعرّض لذلك ، فلم يستثقل أن يكون آخره واوا مضموما ما قبلها ، كما استثقل ذلك في الاسم. فلذلك شبّه «رمو» في التعجّب بـ «فعلة» من الرّمي نحو «رموة» ، لأن الواو إذ ذاك لا تليها ياء الإضافة كما أنّ الفعل كذلك.

فإن كان الفعل على «فعل» بضمّ العين فإنّ لامه تصحّ نحو «سرو» ، إذ لا موجب للإعلال فيه ، لأنّ الضمة مع الواو بمنزلة واوين. فكما تصحّ الواوان في مثل «عدّو» فكذلك تصحّ الواو المضموم ما قبلها في آخر الفعل ، إلّا أن يكون من ذوات الياء ، فإنه يصنع به ما ذكرنا من قلب الياء واوا ، لما تقدّم من ثقل الياء وقبلها الضمة ، نحو «لقضو الرّجل». فإن خففّت العين فقلت «لقضو الرّجل» أبقيت الواو على أصلها ، لأنّ التسكين عارض. وأيضا فإنّ الفعل إذا لزم فيه الإعلال في بعض المواضع حملت سائر المواضع على ذلك ، وإن لم يكن فيها موجب ، نحو «أعزيت» قلبت فيه الواو ياء حملا على «يغزي» ، وإن لم يكن في «أغزيت» ما في «يغزي» من انكسار ما قبل الواو المتطرّفة.

٢٦٨

فكذلك قلبت الياء في «لقضو» واوا حملا على «لقضو» ، وإن لم يكن في لغة المخفّف ما قبل الياء مضموما.

فإن كان الفعل على «فعل» بكسر العين فلا يخلو من أن يكون من ذوات الياء ، أو من ذوات الواو :

فإن كان من ذوات الياء بقي على أصله ولم يعتلّ ، نحو «غنيت» من الغنية ، كما لم يعتلّ ما في آخره واو قبلها ضمّة. بل إذا صحّت الواو في مثل «سرو» فالأحرى أن تصحّ الياء في مثل «غني». لأنّ الياء وقبلها الكسرة أخفّ من الواو وقبلها الضمّة.

وإن كان من ذوات الواو قلبت الواو ياء ، نحو «شقي» و «رضي» ، لأن الواو وقبلها الكسرة بمنزلة الياء والواو ، لأنّ الكسرة بعض الياء. فكما أنّ الياء والواو إذا اجتمعتا في مثل «سيد» و «ميّت» قلبت الواو ياء ، والأصل «سيود» و «ميوت» ، فكذلك يفعل بالكسرة مع الواو. فإن سكّنت العين قلت «شقي» و «رضي» ولم تردّ الواو ، لأنّ الإسكان عارض. وأيضا فإنك تحمل التخفيف على التحريك ، كما فعلت ذلك في «لقضو» للعلّة التي ذكرنا.

وإن كان الفعل على وزن «فعل» بفتح العين فإنك تقلب حرف العلصة ألفا ـ ياء كان أو واوا. نحو «غزا» و «رمى» من الغزو والرمي. والسبب في ذلك اجتماع ثقل المثلين ، أعني فتحة العين واللّام ، مع ثقل الياء أو الواو ، فقلبت الياء والواو ألفين لخفّة الألف ، ولأنها لا تتحرّك فيزول اجتماع المثلين ، ولأنّه ليس للياء والواو يقلبان إليه ، أقرب من الألف ، لاجتماعهما معها في أنّ الجميع حروف علّة ولين. وأيضا فإنه لمّا قلبت الواو إذا كان قبلها كسرة حرفا من جنس الحركة التي قبلها ، وهو الياء في نحو «رضي» ، والياء المضموم ما قبلها حرفا أيضا من جنس الحركة التي قبلها ، وهو الواو في نحو «لقضو» ، كذلك قلبت الياء والواو ، إذا انفتح ما قبلهما ، حرفا من جنس الحركة التي قبلهما ، وهو الألف.

فإن بني شيء ، من هذه الأوزان الثلاثة ، للمفعول صيّر الفعل على وزن «فعل» بضمّ أوّله وكسر ثانيه. فإن كان من ذوات الياء لم يعتلّ ، كما لم يعتلّ «فعل» ، نحو «عني بزيد» و «رمي السّهم». وإن كان من ذوات الواو قلبت الواو ياء ، لانكسار ما قبلها ، نحو «شقي به» و «غزي العدوّ» ، كما قلبت في «فعل» نحو «شقي». فإن خفّفت العين بقيت الياء ولم ترجع الواو نحو «غزي» ، كما لم ترجع في «رضي» إذا خفّفت. والدليل ، على أنّ الفعل بعد التخفيف يبقى على حكمه قبل التخفيف ، قوله :

٢٦٩

تهزأ منّي أخت آل طيسله

قالت : أراه دالفا ، قددني له (١)

يريد «قد دني له» وهو من «دنوت» ، فأسكن النون ، وأقرّ الياء بحالها.

فإن اتّصل بشيء من هذه الأفعال علامة تأنيث فإنه يبقى على ما كان عليه ، إن كان لامه في اللفظ ياء أو واوا ، نحو «سرو» و «رضي» و «غزي» ، نحو «سروت المرأة» و «رضيت هند» و «غزيت الأعداء». وإن كان لامه ألفا حذفت لالتقاء الساكنين ، نحو «رمت هند» وإن تحرّكت التاء لالتقاء الساكنين لم ترجع الألف ، لأنّ التحريك عارض ، نحو «رمت المرأة» و «الهندان رمتا».

ومن العرب من يعتدّ بالحركة في «رمتا» ، وإن كانت عارضة ، لشدّة اتّصال الضمير بما قبله حتّى كأنه بعضه ، فيردّ الألف فيقول «رماتا». وذلك ضرورة ، لا يجيء إلّا في الشعر. وعليه قوله :

لها متنتان ، خظاتا ، كما

أكبّ ، على ساعديه ، النّمر (٢)

أراد «خظتا». وقد يجوز أن يكون تثنية «خظاة» (٣) ، كأنه قال «خظاتان» ، ولكنه حذف النون ضرورة ، فيكون كقوله :

ومتنان ، خظاتان

كزحلوق ، من الهضب (٤)

ومن حذف نون الاثنين ضرورة قوله :

هما خطّتا : إمّا إسار ومنّة

وإمّا دم ، والقتل بالحرّ أجدر (٥)

__________________

(١) البيت من الرجز ، وهو لصخير بن عمير في الأصمعيات ص ٢٣٤ ، ولأعرابيّ في أمالي القالي ٢ / ٢٨٤ ، وسمط اللآلي للبكري ص ٩٣٠ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة لابن دريد ، مادة (سطل).

(٢) البيت من البحر المتقارب ، وهو لامرئ القيس في ديوانه ص ١٦٤ ، والأشباه والنظائر للسيوطي ٥ / ٤٦ ، وخزانة الأدب للبغدادي ٧ / ٥٠٠ ، وسر صناعة الإعراب لابن جني ٢ / ٤٨٤ ، وشرح اختيارات المفضل للخطيب التبريزي ٢ / ٩٢٣.

(٣) خظاة : من قولهم : خظا بظا ، أي : كثير اللحم مكتنزها. انظر لسان العرب لابن منظور ، مادة (خظا).

(٤) البيت من البحر المتقارب ، وهو لأبي داود الإيادي في المعاني الكبير لابن قتيبة ص ٣٤ ، وسر صناعة الإعراب لابن جني ٢ / ٤٨٤ ، والحماسة البصرية ٢ / ٣٢٧ ، وبلا نسبة في لسان العرب لابن منظور ، مادة (خظا).

(٥) البيت من البحر الطويل ، وهو لتأبط شرا في ديوانه ص ٨٩ ، وجواهر الأدب للإربلي ص ١٥٤ ، وخزانة الأدب للبغدادي ٧ / ٤٩٩ ، وشرح التصريح للشيخ خالد الأزهري ٢ / ٥٨ ، والمقاصد النحوية للعيني ٣ / ٤٨٦ ، ولسان العرب لابن منظور ، مادة (خطا).

٢٧٠

أراد «هما خطّتان». ومما يعزى إلى كلام البهائم قول الحجلة للقطا : «قطا قطا ، بيضك ثنتا ، ويضي مائتا» أي «ثنتان ومائتان». وقول الآخر :

لنا أعنز لبن ثلاث ، فبعضها

لأولادها ثنتا ، وما بيننا عنز (١)

والأوّل أولى ، لأنّ له نظائر كثيرة من الاعتداد بالعارض ، في الكلام وحذف نون الاثنين للضرورة قليل جدّا.

فإن أسند شيء من هذه الأفعال إلى ضمير رفع فلا يخلو أن يكون المسند ما في آخره ألف ، أو ما في آخره ياء ، أو واو :

فإن كان ما في آخره ألف فإنه إن أسند إلى ضمير غائب مفرد بقي على ما كان عليه قبل الإسناد ، نحو «زيد غزا» و «عمرو ورمى». وإن أسند إلى ضمير غائبين ردّت الألف إلى أصلها ، نحو «غزوا» و «رميا» ، ولم تحذف لالتقاء الساكنين ، لئلا يلتبس فعل الاثنين بفعل الواحد. وإن أسند إلى ضمير غائبين حذفت لالتقاء الساكنين وعدم اللّبس ، نحو «غزوا» و «رموا». وإن أسند إلى ضمير غائبات ردّت الألف إلى أصلها ، ولم تعتلّ ، نحو «غزون» و «رمين» ، لأنّ ما قبل نون جماعة المؤنّث ساكن أبدا ، وحرف العلّة إذا سكن وانفتح ما قبله لم يعتلّ إلّا في «يوجل» خاصّة. وإن أسند إلى ضمير متكلّم أو مخاطب ، كائنا ما كان ، رددت الألف إلى أصلها من الياء أو الواو ، نحو «رميت» و «غزوت» ، و «رميتما» و «غزوتما» ، و «رميتم» و «غزوتم» ، و «رميتن» و «غزوتنّ» ، و «رمينا» و «غزونا» ، لأنّ ما قبل ضمير المتكلم أو المخاطب أبدا ساكن أيضا.

وإن كان ما في آخره ياء أو واو ، فإنه إن أسند إلى ضمير غائب أو مخاطب أو متكلّم بقي على حاله لا يتغيّر ، نحو «رضي» و «سرو» ، و «رضيا» و «سروا» ، و «رضين» و «سرون» ، و «رضيت» و «سبروت» ، و «رضيتما» و «سروتما» و «رضيتم» و «سروتم». و «رضيتن» و «سروتنّ» ، و «رضينا» و «سرونا». إذ لا موجب لتغييرها عن حالها ، إلّا أن يكون الضمير ضمير جماعة مذكّرين غائبين ، فإنك تحذف الواو والياء ، وتضمّ ما قبل واو الجمع ، نحو «رضوا» و «سروا». وسبب ذلك أنّ الواو يتحرّك ما قبلها أبدا بالضمّ نحو «ضربوا» فلو قلت «رضيوا» و «سرووا» لاستثقلت الضمّة في الياء والواو ، لتحرّك ما قبلهما ، فيجب حذفها

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو بلا نسبة في خزانة الأدب للبغدادي ٧ / ٥٨٩ ، والخصائص لابن جني ٢ / ٤٣٠ ، وسر صناعة الإعراب لابن جني ٢ / ٤٨٧ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٨٠ ، وشرح شواهد الشافية ص ١٥٩.

٢٧١

فيجتمع ساكنان : واو الضمير والياء والواو اللتان قبلها. فتحذف ما قبل واو الضمير ، لأنّ حذف الحرف أسهل من حذف الاسم ، فتقول «سروا». وتضمّ بعد الحذف ما قبل الواو في مثل «رضي» فتقول «رضوا» لتسلم واو الضمير ، لأنك لو أبقيت الكسرة لانقلبت واو الضمير ياء ، لسكونها وانكسار ما قبلها ، فكنت تقول «رضي» ، فيلتبس الجمع بالمفرد.

هذا ما لم يكن ما قبل الياء والواو ساكنا ، فإن كان ما قبلهما ساكنا نحو «رضي» و «سرو» فإنّ الياء والواو يجريان مجرى الحرف الصحيح ، فلا يحذفان أصلا ، نحو «رضيوا» و «سرووا». ولا تردّ الياء إلى أصلها من الواو في «رضيوا» كما لم تردّ في المفرد.

وأما حكم المضارع من هذه الأفعال فإن الماضي ، إن كان على «فعل» أتى مضارعه أبدا على «يفعل» ، كما كان ذلك في الصحيح ، فتقول «يسرو». وإن كان على «فعل» فإنه يأتي مضارعه على «يفعل» ، فتحرّك حرف العلّة ، وما قبله مفتوح ، فينقلب ألفا نحو «يرضى» ، على قياس الصحيح. فإن كان على «فعل» فإنّ مضارعه ، إن كان من ذوات الياء ، على «يفعل» بكسر العين نحو «يرمي» ، وإن كان من ذوات الواو ، على «يفعل» نحو «يغزو».

فإن قيل : فلأيّ شيء لم يجىء مضارع «فعل» على قياس الصحيح ، كما جاء ذلك في «فعل» و «فعل» ، فيكون تارة على «يفعل» ، وتارة على «يفعل» ، بالضمّ والكسر ، في ذوات الياء وذوات الواو؟.

فالجواب : أنهم لو فعلوا ذلك لالتبست ذوات الياء بذوات الواو ؛ ألا ترى أنّ مضارع «غزا» ، لو جاء على «يفعل» لكان «يغزي» ، فيصير كـ «يرمي». وكذلك مضارع «رمى» ، لو جاء على «يفعل» لقلت «يرمو» كـ «يدعو». فالتزموا في مضارع ذوات الواو «يفعل» ، وفي مضارع ذوات الياء «يفعل» ، لئلّا تخلتط ذوات الياء بذوات الواو.

فإن قيل : فهلّا فعلوا ذلك في مضارع «فعل» و «فعل». أعني يلتزمون «يفعل» في ذوات الواو ، و «يفعل» في ذوات الياء ، خوف الالتباس؟.

فالجواب : أنهم لو فعلوا ذلك لأخرجوا مضارعهما عن قياس نظائرهما من الصحيح ، لأنّ «يفعل» من «فعل» المضموم العين في الصحيح إنما يأتي مضموم العين ، و «يفعل» من «فعل» المكسور العين إنما يأتي على «يفعل» بفتح العين ، إلّا ما شذّ نحو «حسب يحسب» وليس كذلك «فعل» ، بل يأتي على «يفعل» و «يفعل» بضمّ العين وكسرها. فإذا التزموا في ذوات الياء «يفعل» ، وفي ذوات الواو «يفعل» ، لم يخرجوا عن قياس المضارع ، بل أتوا

٢٧٢

بأحد الجائزين. وأيضا فإنّ المعتلّ اللّام أجري مجرى المعتلّ العين. فكما أنّ «فعل» المعتلّ العين يلتزم في ذوات الواو منه «يفعل» بضمّ العين ، وفي ذوات الياء «يفعل» بكسرها ، فكذلك المعتلّ اللّام. إلّا ما شذّ من ذلك فجاء على «يفعل» بفتح العين نحو «أبى يأبى» ، أو ما كان عينه حرف حلق نحو «نأى ينأى» ، فإن المضارع يأتي أبدا على «يفعل» بفتح العين ، كما كان ذلك في الصحيح. ووجه مجيء مضارع «أبى» على «يفعل» تشبيه الألف بالهمزة ، لقربها منها في المخرج. فكما أنّ ما لامه حرف حلق من «فعل» يأتي مضارعه على «يفعل» ، نحو «يقرأ» فكذلك ما لامه ألف.

وما كان من ذلك لما لم يسمّ فاعله فإن مضارعه أبدا يأتي على «يفعل» ، بفتح العين وضمّ أول الفعل ، نحو «يرضى» و «يغزى» على قياس الصحيح ، ثم يقلب حرف العلّة ألفا ، لتحرّكه وانفتاح ما قبله.

وحكمه أبدا إذا أسند إلى الألف التي هي ضمير المثنّى ، أو الواو التي هي ضمير جماعة المذكّرين ، أو النون التي هي ضمير جماعة المؤنّثات ، حكم الماضي المعتلّ اللّام إذا أسند إلى شيء من ذلك ، وقد تقدّم ، إلّا أنّك إذا قلبت الألف في الماضي رددتها إلى أصلها من ياء أو واو نحو «غزوا» و «رميا» ، وإذا قلبت الألف في المضارع رددتها أيضا إلى أصلها ، من ياء أو واو ، نحو «يخشى» تقول : «يخشيان» ، وفي «يبأى» من البأو (١) : «يبأوان». إلّا أن تكون الواو قد قلبت ياء في الماضي ، فإنّ المضارع يجري على قياس الماضي فتردّ الألف إلى الياء فتقول في «يرضى» : «يرضيان» ، وفي «يشقى» : «يشقيان» : كما قالوا «رضي» و «شقي» ، فحملوا المضارع على الماضي في الإعلال ، وإن لم يكن في المضارع كسرة قبل الواو توجب قلبها ياء ، كما كان ذلك في الماضي. وإذا حملوا اسم الفاعل والمفعول على الفعل في الإعلال ، في نحو «قائل» و «بائع» و «مقول» و «مبيع» ، فحمل الفعل أولى. إلّا لفظة واحدة شذّت فقلبت الألف فيها ياء وأصلها الواو ، ولم تقلب في الماضي ياء ، وهي «شأى يشأى» من «الشّأو» ، فإنهم قالوا «يشأيان» ، وكان القياس «يشأوان». لكنّهم شذّوا فيه فقلبوا الألف ياء لغير موجب. وعلّل ذلك أبو الحسن بأن قال : لمّا كان «شأى» : «فعل» ، وجاء مضارعه على «يفعل» نحو «يشأى» ، و «يفعل» إنما هو مضارع «فعل» المكسور العين ، عاملوه معاملة مضارع «فعل» من ذوات الواو نحو «رضي يرضى». فكما قالوا «يرضيان» قالوا «يشأيان».

__________________

(١) البأو : الكبر والفخر. انظر الصحاح للجوهري ، مادة (بأي).

٢٧٣

وهذا الذي علّل به أبو الحسن باطل ، لأنّ «شأى» عينه حرف حلق ، وما عينه حرف حلق فإنّ قياس مضارعه أن يجيء على «يفعل» بفتح العين ، نحو «جأر يجأر». ولو كان هذا القدر يوجب قلب الألف ياء لوجب أن تثبت الواو في مثل «يطأ» و «يسع» ، كما يفعل ذلك في مضارع «فعل» الذي فاؤه واو ، نحو «وجل يوجل» ، فكما لم يرع هنا شبهه بـ «فعل» فكذلك ينبغي أن يفعل في «يشأى».

وكأنّ أبا الحسن أخذ هذا التعليل من سيبويه ، حيث علّل كسر أوّل «تئبى» ـ وإن كان الماضي على «فعل» ، وإنما يكسر أوّل المضارع من «فعل» بكون المضارع جاء على «يفعل» ، فلمّا جاء مضارعه كمضارع «فعل» المكسور العين كسر أوّل المضارع ، كما يكسر أوّل المضارع من «فعل» وليس ما ذهب إليه أبو الحسن مثل ما ذكر سيبويه لأنّ «أبى» ليس لامه حرف حلق ، فكان قياس مضارعه أن يجيء على «يفعل» بكسر العين ، فجاء مضارعه مفتوح العين كمضارع «فعل». فتوهّم ماضي «يأبى» على «فعل» توهّم صحيح.

وما كان من هذه الأفعال المضارعة في آخره واو أو ياء فإنه يكون في موضع الرفع ساكن الآخر نحو «يغزو» و «يرمي». فتحذف الضمّة لاستثقالها في الياء والواو ؛ لأنها مع الواو بمنزلة واوين ، ومع الياء بمنزلة ياء وواو. وذلك ثقيل.

ويكون في موضع الجزم محذوف الآخر ، نحو «لم يرم» و «لم يغز» وإنما حذفت الياء والواو في الجزم ، لئلّا يكون لفظ المرفوع كلفظ المجزوم لو أبقيت الياء والواو. وأيضا فإن الياء والواو لمّا عاقبتا الضّمّة فلم تظهر معهما ، أجريتا مجرى الضّمّة ، فحذفتا للجزم كما تحذف الضّمّة.

ويكون في موضع النّصب مفتوح الآخر ، نحو «لن يغزو» و «لن يرمي» ، لأنّ الفتحة خفيفة. وقد تسكن الياء والواو في موضع النصب ضرورة ، تشبيها لها بالضّمّة ، أو للياء والواو بالألف فتقول «لن يغزو» و «لن يرمي». ومن ذلك قوله :

وأن يعرين إن كسي الجواري

فتنبو العين عن كرم عجاف (١)

يريد «فتنبو العين». وقول الأخطل :

__________________

(١) البيت من البحر الوافر ، وهو لعمران بن حطان في الأغاني للأصبهاني ١٨ / ٤٩ ، ولأبي خالد الفناني في شرح شواهد المغني للسيوطي ٢ / ٨٨٦ ، ولسان العرب لابن منظور ، مادة (كرم) ، ولسعيد الشيباني في لسان العرب لابن منظور ، مادة (كسا).

٢٧٤

إذا شئت أن تلهو ببعض حديثها

رفعن وأنزلن القطين المولّدا (١)

كما أنهما قد تثبت فيهما الضّمّة ، ولا تحذف في الجزم آخر المعتلّ وتجريه مجرى الصحيح ، وذلك في الضرورة أيضا ، نحو «يغزو» و «يرمي» وعلى ذلك قوله :

ألم يأتيك ، والأنباء تنمي

بما لاقت لبون بني زياد (٢)

وقول الآخر :

هجوت زبّان ، ثم جئت معتذرا

من هجو زبّان ، لم تهجو ، ولم تدع (٣)

فكأنما قبل دخول الجازم عليهما كانا «يأتيك» و «تهجو» ، فدخل الجازم فحذف الحركة. ومنهم من حمل «ألم يأتيك» و «لم تهجو» على حذف الضمّة المقدّرة. وما قدّمناه أولى ، لئلا يؤدّي ذلك إلى كون المجزوم والمرفوع على صورة واحدة.

وما كان منها في آخره ألف فإنه يكون في موضع الرفع والنصب ساكن الآخر ، لتعذّر الحركة في الألف ، وفي موضع الجزم محذوف الألف ، لمعاقبتها الحركة. فكما أنّ الجازم يحذف الحركة فكذلك ما عاقبها.

وزعم بعض النحويّين أن العرب قد تثبت الألف في الجزم ضرورة ، فتحذف الحركة المقدّرة ، وتجريها في الإثبات مجرى الياء والواو ، وإن لم يكن تحريكها كتحريكهما ، واستدلّ على ذلك بما أنشده أبو زيد من قوله :

إذا العجوز غضبت فطلق

ولا ترضّاها ، ولا تملّق (٤)

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو للأخطل في ديوانه ص ٨٦ ، وخزانة الأدب للبغدادي ٥ / ٣٤٨ ، والخصائص لابن جني ٢ / ٣٤٢ ، والمحتسب لابن جني ١ / ١٢٦.

(٢) البيت من البحر الوافر ، وهو لقيس بن زهير في الأغاني للأصبهاني ١٧ / ١٣١ ، وخزانة الأدب للبغدادي ٨ / ٣٥٩ ، وشرح أبيات سيبويه للسيرافي ١ / ٣٤٠ ، وشرح شواهد الشافية ص ٤٠٨ ، وشرح شواهد المغني للسيوطي ص ٣٢٨.

(٣) البيت من البحر البسيط ، وهو بلا نسبة في الإنصاف للأنباري ١ / ٢٤ ، وخزانة الأدب للبغدادي ٨ / ٣٥٩ ، وسر صناعة الإعراب لابن جني ٢ / ٦٣٠ ، وشرح التصريح للشيخ خالد الأزهري ١ / ٨٧ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ١٨٤.

(٤) البيت من الرجز ، وهو لرؤبة في ملحق ديوانه ص ١٧٩ ، وخزانة الأدب للبغدادي ٨ / ٣٥٩ ، والمقاصد النحوية للعيني ١ / ٢٣٦ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر للسيوطي ٢ / ١٢٩ ، والإنصاف للأنباري ص ٢٦ ، والخصائص لابن جني ١ / ٣٠٧ ، وسر صناعة الإعراب لابن جني ص ٧٨.

٢٧٥

وبقراءة حمزة لا تخف دركا ولا تخشى [طه : ٧٧] ، بجزم «تخف» وإثبات الألف في «تخشى» ؛ ألا ترى أنّ «تخشى» معطوف على «لا تخف» وهو مجزوم ، وكذلك أيضا «ترضّاها» في موضع جزم بـ «لا» ؛ ألا ترى أنه قد عطف عليه «ولا تملّق» وهو مجزوم.

ولا حجّة عندي في شيء من ذلك ؛ أما قوله تعالى : (وَلا تَخْشى) فيحتمل أن يكون خبرا مقطوعا ، كأنه قال : وأنت لا تخشى ، امتثالا لنهينا لك. وكذلك «ولا ترضّاها» يحتمل أن يكون جملة خبريّة ، في موضع الحال ، كأنه قال : فطلّق وأنت لا ترضّاها ، ويكون «ولا تملّق» نهيا معطوفا على جملة الأمر التي هي «فطلّق».

فإن كان الفعل على أزيد من ثلاثة أحرف فلا يخلو من أن يكون الفعل مبنيّا للفاعل ، أو للمفعول.

فإن كان مبنيّا للفاعل فإنّ حرف العلّة ينقلب ألفا ، لتحرّكه وانفتاح ما قبله ، إن كان ياء نحو «استرمى» و «رامى» و «ولّى». وإن كان حرف العلّة واوا قلب ياء ، ثم قلبت الياء ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها ، نحو «أغزاه» و «استدعاه» و «استدناه». أصلها «أغزو» و «استدعو» و «استدنو». ثم قلبت الواو ياء فصار «أغزي» و «استدني». ثم قلبت الياء ألفا ، لتحرّكها وانفتاح ما قبلها ، كما كان ذلك فيما كان على ثلاثة أحرف ، إذا انفتح ما قبل حرف العلّة.

فإن قيل : ولأيّ شيء قلبت الواو في الفعل ياء ، إذا وقعت طرفا ، رابعة فصاعدا ، وليس معها ما يوجب قلبها ياء؟.

فالجواب : أنها في ذلك محمولة على المضارع ، نحو «يغزي» و «يستدني» و «يستدعي». وقلبت في المضارع ياء لانكسار ما قبلها ، كما قلبت في مثل «شقي» و «رضي».

فإن قيل : فلأيّ شيء انقلبت الواو ياء في مثل «تفاعل» و «تفعّل» ، نحو «ترجّى» و «تغازى» ، وليس لها ما يوجب قلبها في الماضي ولا في المضارع ؛ ألا ترى أنّ ما قبل الآخر في المضارع مفتوح ، كما أنّ الماضي كذلك ، نحو «يتغازى» و «يترجّى»؟.

فالجواب : أنّ التاء في «ترجّى» و «تغازى» وأمثالهما إنما دخلت على «رجّى» و «غازى» ، وقد كان وجب قلب الواو ياء في «غازى» و «رجّى» ، حملا على «يرجّي» و «يعازي». فلمّا دخلت التاء بقي على ما كان عليه.

٢٧٦

فإن رددت شيئا من ذلك إلى ما لم يسمّ فاعله ضممت الأوّل وكسرت ما قبل الآخر ، وصارت الألف ، التي كانت في الآخر ، ياء نحو «أغزي» و «استرمي» و «استدعي» و «استدني» ، من ذوات الواو كان الفعل أو من ذوات الياء. وإنما قلبت الواو ياء إما بالحمل على فعل الفاعل ، أو لأجل انكسار ما قبلها كما قلبت في مثل «شقي».

وأما المستقبل فيجيء أبدا على قياس نظيره من الصحيح ، فإن كان ما قبل حرف العلّة فتحة قلب ألفا ، نحو «يتغازى» و «يترجّى» ، و «يغزى» و «يستدعى» و «يسترمى». وإن كان ما قبله كسرة ثبت إن كان ياء نحو «أسترمي» ، وإن كان واوا قلبت ياء نحو «يغزي» و «يستدعي» و «يستدني».

ويكون حكم ما في آخره ألف ، من الماضي أو المضارع المزيد ، في الإسناد إلى الضمير المرفوع ، أو اتصال تاء التأنيث بالماضي ، كحكم غير المزيد في القلب والحذف والإثبات وحكم ما في آخره ياء ، قبلها كسرة ، كحكم الماضي غير المزيد في الإثبات والحذف. إلّا أنك إذا قلبت الألف لم تردّها في المزيد إلى أصلها ، بل تردّها إلى الياء ، من ذوات الياء كان الفعل أو من ذوات الواو ، نحو «أغزينا» و «استدنينا» و «استدعينا» ، للعلّة التي ذكرنا من الحمل على المضارع.

وإن كان المعتلّ اسما فلا يخلو من أن يكون على ثلاثة أحرف أو على أزيد. وكيفما كان فإنه لا يخلو من أن يكون ما قبل حرف العلّة ـ ياء كان أو واوا ـ ساكنا أو متحرّكا. فإن كان ساكنا فلا يخلو أن يكون الساكن حرف علّة ، أو حرفا صحيحا.

فإن كان الساكن حرفا صحيحا جرت الياء والواو مجرى حرف الصّحّة ولم تتغيّر نحو «غزو» و «ظبي».

إلّا أن يكون الاسم على وزن «فعلى» مما لامه ياء ، وذلك قولهم «شروى» و «تقوى» و «فتوى». فإنّ العرب تبدل من الياء واوا في الاسم ، والصفة تترك على حالها نحو «خزيا» و «صديا» و «ريّا».

وإنما فعلوا ذلك تفرقة بين الاسم والصفة. وقلبوا الياء واوا في الاسم دون الصفة ، لأنّ الاسم أخفّ من الصفة ، لأنّ الصفة تشبه الفعل ، والواو أثقل من الياء ، فلما عزموا على إبدال الياء واوا جعلوا ذلك في الاسم لخفته ، فكان عندهم ، من أجل ذلك ، أحمل للثقل.

وكأنّ العرب جعلت قلب الياء واوا في هذا عوضا من غلبة الياء على الواو ؛ ألا ترى

٢٧٧

أنّ انقلاب الواو إلى الياء أكثر من انقلاب الياء إلى الواو ، وإلّا فليس ذلك بقياس ، أعني : قلب الأخفّ ، وهو الياء ، إلى الأثقل وهو الواو. ولو لا ما ورد السماع به لم يقل. لكنّ الذي لحظت العرب من ذلك والله أعلم ـ ما ذكرنا. وإنما خصّوا بها الفعل المعتلّ اللام دون المعتلّ العين أو الفاء ، لأنها أقبل للتغيير ، لتأخّرها وضعفها.

و «الشّروى» من شريت ، و «التّقوى» من «وقيت» ، و «الفتوى» من ذوات الياء بدليل قولهم «الفتيا» بالياء. ولا تحمل «الفتيا» على «القصيا» ، أعني مما قلبت فيه الواو ياء ، لأنه لا نعلم لها أصلا في الواو. ومع هذا فإنّ «الفتيا» تقوية لنفس المستفتي ، فهو من معنى «الفتى» و «الفتاء».

أو يكون الاسم على وزن «فعلى» وتكون لامه واوا ، فإنّ العرب تبدل من الواو ياء في الاسم ، وذلك نحو «العليا» و «الدّنيا» و «القصيا». الأصل فيها «الدّنوى» و «العلوى» و «القصوى» فقلبت الواو ياء ، والدليل على ذلك أنّ «الدّنيا» من الدنوّ ، و «العليا» من «علوت» ، وأنهم قد قالوا في «القصيا» : «القصوى» فأظهروا الواو.

فإن قال قائل : فإنّ «القصيا» و «العليا» و «الدّنيا» صفات؟.

فالجواب : أنها قد استعملت استعمال الأسماء في ولايتها العوامل وترك إجرائها تابعة. فلذلك قلبت فيها الواو ياء.

فإن كانت صفة بقيت على لفظها ولم تقلب الواو ياء ، نحو «خذ الحلوى وأعطه المرّى».

وقد شذّ من «فعلى» الاسم شيء ، فلم تقلب فيه الواو ياء. وذلك «القصوى» و «حزوى» اسم موضع. وكأنّ «القصوى» (١) ـ والله أعلم ـ إنما صحّت فيه الواو تنبيها على أنه في الأصل صفة.

وإنما قلبت الواو ياء في الاسم دون الصفة ، فرقا بين الاسم والصفة. وكان التغيير هنا في الاسم دون الصفة ، كما كان التغيير في «فعلى» من الياء في الاسم دون الصفة ، ليكون قلب الواو هنا ياء كالعوض من قلب الياء هنالك واوا. وهذا أحسن. أعني قلب الواو إلى الياء ، لأنّ في ذلك تخفيفا للثقل ، لأنّ الياء أخفّ من الواو. وهو مع ذلك على غير قياس ، لأنه قلب لغير موجب ، ولو لا ورود السّماع بذلك ما قيل.

__________________

(١) القصوى : طرف الوادي. انظر لسان العرب لابن منظور ، مادة (قصا).

٢٧٨

فأما «فعلى» من الياء ـ اسما كانت أو صفة ـ فإنها لا تغيّر عما تكون عليه ، لأنهم إذا كانوا يفرّون فيها من الواو إلى الياء ، فإذا وجدوا الياء فينبغي ألّا يجاوزوها ، كما أنّ «فعلى» من الواو لا تغيّر عما تكون عليه ـ اسما أو صفة ـ لكونهم يفرّون فيها من الياء إلى الواو ، فإذا وجدوا الواو فينبغي ألّا يعدل عنها.

وأما «فعلى فينبغي أن يبقى على الأصل ولا يغيّر ، من الياء كان أو من الواو ، لأنّ التغيير في «فعلى»» و «فعلى» على غير قياس ، ولو لا السماع لما قيل به ، ولم يرد سماع بتغيير في «فعلى» فينبغي أن يبقى على الأصل. وأيضا فإنّ التغيير إنما وقع في هذا الباب فرقا بين الاسم والصفة ، و «فعلى» لا يكون صفة. فلا ينبغي أن يغيّر ، لأنه لا يحصل بتغييره فرق بين شيئين.

وإن كان الساكن حرف علّة فلا يخلو أن يكون ياء أو واوا أو ألفا. فإن كان ألفا فإنّ الياء والواو يقلبان بعدها همزة ، إذا وقعتا طرفا نحو «كساء» و «سقاء» ، لأنهما من «كسوت» و «سقيت». وإنما فعل ذلك بهما لوقوعهما في محلّ التغيير ، وهو الآخر ، مع أنّ ما قبلهما مفتوح ، وليس بين الفتحة وبينهما إلّا حرف ساكن زائد من جنس الفتحة ، فكأنه لم يقع بينهما وبين الفتحة حاجز. فكما أنّ الياء والواو يقلبان إلى الألف ، إذا انفتح ما قبلهما وكانا في الطرف ، فكذلك قلبا في هذا الموضع. فلمّا قلبت الياء والواو ألفا التقى ساكنان ، الألف المبدلة والألف الزائدة قبلها ، فقلبت الثانية همزة لالتقاء الساكنين ، إذ لا بدّ من التحريك ، وتحريك الألف لا يمكن ، فقلبت إلى أقرب الحروف لها ، مما يقبل الحركة ، وهو الهمزة.

وكذلك تفعل أيضا ، إذا دخل على الكلمة تاء التأنيث ، أو علامة التثنية ، أو ياء النسب ، نحو «كساءة» و «سقاءة» ، و «كساءان» و «سقاءان» ، و «كسائيّ» و «سقائي». إلّا أنه يجوز مع علامة التثنية وياءي النسب أن تبدل من الهمزة واوا ، فتقول «كساوان» و «كساويّ» ، على ما تقدّم في النسب.

إلّا أن يبنى الاسم على التاء ، أو علامة التثنية ، فإنّ حرف العلّة لا يبدل إذ ذاك منه هموة ، نحو «علاوة» و «نهاية» و «إداوة» (١) ؛ ألا ترى أنّ الكلمة هنا مبنيّة على التاء ، وأنه لا يجوز أن تحذف هذه التاء ، فتقول «علاء» و «نهاء» و «إداء». وكذلك قول العرب «عقلته بثنايين» كأنه تثنية «ثناء» وإن لم ينطق به ، بل الواحد في هذا لم يسمع إلّا مثنّى.

__________________

(١) الإداوة : إناء صغير من جلد يتخذ للماء. انظر لسان العرب لابن منظور ، مادة (أدا).

٢٧٩

فأما قوله :

إذا ما المرء ضمّ ، ولم يكلّم

ولم يك سمعه إلّا دعايا (١)

وسائر أبيات هذه القصيدة فضرووة ، ولو يسمع مثله في غير هذا الموضع. ووجهه أنه أجرى ألف الإطلاق مجرى تاء التأنيث التي بنيت عليها الكلمة. فكما لم تقلب الواو ولا الياء في مثل «إداوة» و «نهاية» همزة فكذلك لم تقلب في «دعايا» وأخواته.

فإن كان الساكن ياء أو واوا أدغمت فيما بعده. فإن كان الساكن مخالفا للّام ، أعني : بأن يكون أحدهما واوا والآخر ياء ، قلبت الواو ياء تقدّمت أو تأخرت ، وأدغمت الياء في الياء نحو «بغيّ» و «سريّ». أصلهما «بغوي» و «سريو» ، فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء ، ثم قلبت الضمّة التي في العين من «بغي» كسرة ، لتصحّ الياء. والدليل على أنّ «بغيّا» : «فعول» كونه للمؤنث بغير تاء. قال الله تعالى : (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) [مريم : ٢٨] ، ولو كان «بغيّ» : «فعيل» لكان بالتاء كـ «ظريفة».

فإن كان الساكن موافقا للّام أدغمت من غير قلب ، وذلك نحو «عدوّ» و «وليّ». وقد حكي القلب في الواو ، وهو قليل ، قالوا «أرض مسنيّة» من «يسنوها المطر» ، وقالوا «معديّ» من «عدوت». قال :

وقد علمت عرسي ملكية أنّني

أنا اللّيث ، معديّا عليه ، وعاديا (٢)

وإنما جاز القلب ، على قلّته ، لكون الواو متطرّفة لم يفصل بينها وبين الضمّة إلّا حاجز غير حصين ، وهو الواو الساكنة الزائدة الخفيّة بالإدغام. فكما قلبت الواو ياء إذا تطرّفت وقبلها الضمّة. وتقلب الضمّة التي قبلها كسرة ، فكذلك تقلب هنا.

وزعم الفرّاء أنه إنما جاز في «مسنيّة» و «معديّ» لأنهما مبنيّان على «سني» و «عدي» فكما قلبت الواو ياء في الفعل فكذلك فيما بني عليه. وهذا باطل ، لأنهم قد فعلوا ذلك في غير اسم المفعول فقالوا «عتا عتيّا». قال الله تعالى : (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) [مريم : ٨] والمصدر ليس مبنيّا على فعل المفعول فدلّ ذلك على أنّ العلّة فيه ما ذكرنا.

__________________

(١) البيت من البحر الوافر ، وهو للمستوغر بن ربيعة في حماسة البحتري ص ٢٠٣ ، وطبقات فحول الشعراء لابن سلام ص ٣٤ ، وللأعصر بن سعد بن قيس بن غيلان في لسان العرب لابن منظور ، مادة (حمى).

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو لعبد يغوث بن وقاص الحارثي في خزانة الأدب للبغدادي ٢ / ١٠١ ، وسر صناعة الإعراب لابن جني ٢ / ٦٩١ ، وشرح أبيات سيبويه للسيرافي ٢ / ٤٣٣ ، وشرح اختيارات المفضل للخطيب التبريزي ص ٧٧١ ، وشرح التصريح للشيخ خالد الأزهري ٢ / ٣٨٢ ، والكتاب لسيبويه ٤ / ٣٨٥.

٢٨٠