اللآلي العبقريّة في شرح العينيّة الحميريّة

محمّد بهاء الدين الاصبهاني

اللآلي العبقريّة في شرح العينيّة الحميريّة

المؤلف:

محمّد بهاء الدين الاصبهاني


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-96-7
الصفحات: ٦٠٠

فصل

في ذكر شطر من أحوال الناظم رحمه‌الله

اسمه : إسماعيل. وكنيته : أبو هاشم ، على ما قاله سيّدنا الأجل الشريف المرتضى علم الهدى سلام اللّه عليه ، في آخر شرح بائيّته التي مطلعها :

هلاّ وَقَفتَ على المكانِ المُعشبِ

بين الطّوَيْلِعِ فَاللّوى مِنْ كُبكُبِ (١)

وكذا في كتاب « بشارة المصطفى لشيعة المرتضى » للشيخ الجليل أبي جعفر محمد بن أبي القاسم الطبري رحمه‌الله. (٢)

وفي كتاب « الرجال » لشيخ الطائفة المحقّة ورئيسها أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي رضوان اللّه عليه : أنّ كنيته أبو عامر. (٣)

وأمّا « السيد » فهو ممّا لقّبوه به للتعظيم ، قيل : إنّ أوّل من لقّبه به : حمّال كان

____________

١ ـ الشريف المرتضى : شرح القصيدة الذهبية ( للسيد الحميري ) : ص ١. يقول الشريف المرتضى قدس‌سره في مقدّمته بعد الحمد والصلاة على النبي وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سأل السيد الوالد ـ أطال اللّه بقاءه ـ تفسير قصيدة أبي هاشم إسماعيل بن محمد الحميري الملقّب ب‍ « السيد » ـ رضي اللّه عنه ـ البائية ... وإيضاح معانيها ومشكل ألفاظها ، وأنا أُُجيب إلى ذلك.

و كُبكُب : جبل مطلّ على عرفات.

٢ ـ بشارة المصطفى : ٢٧٨.

٣ ـ رجال الطوسي : ص ١٤٨ رقم ١٠٨ ، في أصحاب الصادق عليه‌السلام.

٦١

يسأل عن حمل بعيره فيقول : ميمات السيّد. (١)

وفي بعض الأخبار أنّه ممّا سمّته به أُمّه ، فقد قال الشيخ الصدوق أبو عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي في كتابه « الرجال » : وروي أنّ أبا عبداللّه عليه‌السلام (٢) لقي السيد ابن محمد الحميري فقال : سمّتك أُمّك سيّداً ووُفّقت في ذلك وأنت سيّد الشعراء ، ثمّ أنشد السيد في ذلك :

ولَقَدْ عَجبتُ لِقائل لي مَرَّةً

عَلاّمة فهم منَ الفُهماءِ (٣)

سَمّاك قَومُكَ سَيّداً صَدقُوا به

أنتَ الموفَّقُ سيِّدُ الشُّعراءِ

ما أنتَ حينَ تخصُّ آل محمّدٍ

بِالمدحِ منكَ وشاعر بسواءِ

مَدحُ الملوكَ ذَوُو الغنا لِعَطائِهم

والمدحُ مِنْكَ لَهُم لغيرِ عَطاءِ

فَأَبْشِرْ فإنّكَ فائزٌ في حُبِّهِم

لَوْ قَدْ وَردتَ عليهم بِجَزاءِ

ما تعدلُ الدُّنيا جَميعاً كُلّها

مِنْ حَوضِ أحمد شربةً من ماءِ (٤)

وكان السيّد نظّاماً للوقائع كثير الشعر مُجيده ، حتى روي أنّه وُجد حمّال وهو

__________________

١ ـ يأتي نص الحديث في ص ٦٣ عن كشف الغمة.

٢ ـ الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام.

٣ ـ في المصدر : « الفقهاء ».

٤ ـ رجال الكشي : ٢ / ٥٦٩ ـ ٥٧٤ رقم ٥٠٥.

٦٢

يمشي بحمل ثقيل ، فقيل : ما معك؟ فقال : ميمات السيّد. (١)

وعن الأصمعي أنّه قال : لولا أنّه يسبّ الصحابة في شعره ما قدّمتُ عليه أحداً في طبقته.

وقد كان في بادئ الأمر كيسانياً (٢) فرجع إلى الحقّ بهداية الإمام الهمام أبي عبد اللّه الصادق عليه‌السلام.

وممّا قاله وهو كيسانيّ :

ألا إنّ الأئمّة من قُريشٍ

وُلاة الأمر أربعة سَواءُ

عليٌّ والثلاثة من بَنيهِ

هُمُ أسْباطُنا والأوصياءُ

فسبطٌ سِبطُ إيمان وبِرٍّ

وسبطٌ غيّبته كربلاءُ

وسِبطٌ (٣) لا يذوقُ الموتَ حتّى

يَقودُ الجيش يَقدمه اللِّواءُ

__________________

١ ـ علي بن عيسي الإربلي : كشف الغمّة : ١ / ٥٤٨.

٢ ـ الكيسانيّة : يدّعي أصحاب المقالات أنّ عدة من الشيعة التفّوا حول محمد ابن الحنفيّة وكان اسمه « كيسان » ـ بادعاء بعض الكيسانيّة ـ واتّخذوه قائداً ( في حياة الإمام زين العابدين عليه‌السلام ).

والشيعة تعتقد بأنّه مذهب مختلق في حينه من جانب الأعداء ملصق بشيعة أهل البيت عليهم‌السلام لتشويههم آنذاك أولاً وتحطيم سمعة الثائر المختار بن أبي عبيدة ثانياً. ( انظر بحوث في الملل والنحل للعلاّمة السبحاني : ٧ / ٢٧ ـ ٤٤.

٣ ـ يعني بالسبط الذي لا يذوق الموت محمد ابن الحنفية.

٦٣

تَغَيَّبَ لا يُرى عنّا زماناً

برَضوى عنده عسلٌ وماءُ (١)

وقد رأيت أخطب خطباء خوارزم أبا المؤيّد موفق بن أحمد المكي في كتاب « مقتل الحسين صلوات اللّه عليه » (٢) نسب هذه الأبيات إلى كثير بن عبدالرحمن.

وقوله :

يا شعب رَضوى ما لِمَن بكَ لا يُرى

وبنا إليه من الصبابة أولَق

حتى متى وإلى متى وكم المدى

يا ابن الوصيّ وأنت حيٌّ تُرزق

إنّي لآملُ أن أراكَ وإنّني

مِنْ أن أموت ولا أراك لأفرقُ

وقوله :

ألا حيِّ المقيم بشعبِ رَضْوى

واهدِ لَهُ بمنزله السَّلاما

__________________

١ ـ محمد بن بابويه ( الصدوق ) : كمال الدين وإتمام النعمة : ٣٢. وفي « الأغاني » لأبي الفرج الاصفهاني ( ٧ / ٢٤٥ ) وذكر رواية السيد : أنّه حضر يوماً وقد ناظره محمد بن عليّ بن النعمان فغلبه محمد في دفع ابن الحنفيّة عن الإمامة ؛ فقال السيد ـ وذكر الأبيات ـ.

٢ ـ الخوارزمي : مقتل الحسين عليه‌السلام : ٢ / ١٢٩.

٦٤

وقُل يا ابنَ الوصيّ فدتكَ نفسي

أطلتَ بذلك الجبلِ المقاما

أضِر (١) بمعشر والوكَ مِنّا

وَسَمّوكَ الخليفة والإماما

فما ذاقَ ابنُ خولَة طَعمَ مَوت

ولا وارت له أرض عظاما

وقوله :

أياشعب رَضوى ما لمن بك لا يُرى

فحتّى متى يخفى وأنت قريبُ

فلو غاب عنّا عُمر نُوح لأيقَنَتْ

مِنّا النفوس بأنّه سَيَؤوبُ (٢)

قال الشيخ الصدوق ثقة الإسلام والمسلمين أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي رحمهم‌الله في كتاب « كمال الدين وإتمام النعمة » : حدّثنا عبد الواحد بن محمد العطار رحمه‌الله قال : حدّثنا علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري ، قال : حدّثنا حمدان بن سليمان ، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع ، عن

__________________

١ ـ أضرّ بي فلان ، أي دنا منّي دنوّاً شديداً ، وكلّ ما دنا دنوّاً مضيّقاً فقد أضرّ ، وأضرّ السيل من الحائط : دنا منه ( لسان العرب : « ضرر » ).

٢ ـ الصدوق : كمال الدين : ٣٢ و ٣٣.

٦٥

حيّان السرّاج (١) قال : سمعت السيد ابن محمد الحميري يقول : كنت أقول بالغلوّ وأعتقد غيبة محمد بن علي ابن الحنفية ، قد ظللت في ذلك زماناً فمنّ اللّه عليّ بالصادق جعفر بن محمد عليهما‌السلام وأنقذني به من النّار وهداني إلى سواء الصراط ، فسألته بعد ما صحّ عندي بالدلائل الّتي شاهدتها منه أنّه حجّة اللّه عليّ وعلى جميع أهل زمانه وأنّه الإمام الّذي فرض اللّه طاعته وأوجب الاقتداء به ، فقلت له : يا ابن رسول اللّه قد روي لنا أخبار عن آبائك عليهم‌السلام في الغيبة وصحّة كونها فأخبرني بمن تقع؟

قال عليه‌السلام : إنّ الغيبة ستقع بالسّادس من ولدي وهو الثاني عشر من الأئمة الهداة بعد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وآخرهم القائم بالحقّ بقيّة اللّه في الأرض وصاحب الزّمان ، واللّه لو بقي في غيبته ما بقي نوح في الأرض في قومه لم يخرج من الدنيا حتى يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.

قال السيّد : فلمّا سمعت ذلك من مولاي الصادق جعفر بن محمد عليهما‌السلام تبت إلى اللّه تعالى ذكره على يديه ، وقلت قصيدتي التي أوّلها :

فلمّا رأيتُ الناسَ بالدِّين قَد غووا

تجعفرتُ باسم اللّهِ واللّه أكبرُ

__________________

١ ـ حيّان السرّاج : من الكيسانية القائلين بأنّ محمد بن الحنفية إمام وهو حيّ لم يمت ، وقد ذكر الكشي في ذلك عدّة روايات. ( السيد الخوئي قدس‌سره : معجم رجال الحديث : ٦ / ٣٠٨ رقم ٤١٢٠ ).

٦٦

تجعفرتُ بسم اللّه واللّه أكبر

وأيقَنْتُ أنّ اللّه يعفو ويَغفرُ

ودِنْتُ بدين غيرَ ما كنتُ دائناً

بهِ ونَهاني واحدُ الناسِ جعفرُ

فقلتُ فهبني قد تهوَّدتُ بُرهَةً

وإلاّ فديني دينُ مَنْ يتنصَّرُ

فإنّي إلى الرحمن من ذاك تائبٌ

وإنّي قد أسلمتُ واللّهُ أكبرُ

فلستُ بغال ما حييتُ ، وراجعٌ

إلى ما عليهِ كنت أُخفي وأُضمرُ

ولا قائل حيّ برضوى محمد

وإن عابَ جُهّالُ مَقالي وأكثرُوا

ولكنّه ممّن مَضى لسبيلهِ

على أفضلِ الحالاتِ يَقْفِي ويخبرُ

مع الطيِّبينَ الطاهرين الأُولى لَهُمْ

مِنَ المُصْطَفى فرعٌ زكيٌّ وعنصرُ

٦٧

إلى آخر القصيدة وهي طويلة ، وقلت بعد ذلك قصيدة أُخرى :

أيا راكباً نحو المدينة جَسرةً

عذافرة يطوى بها كلّ سَبسَبِ (١)

إذا ما هَداك اللّه عاينتَ جعفراً

فقُل لِوليّ اللّه وابن المُهَذَّبِ

ألا يا أمين اللّهِ وابن أمينه

أتوبُ إلى الرحمنِ ثمّ تأوّبي

إليك من الأمر الذي كنت مطنباً

أُحارب فيه جاهداً كلَّ معربِ

وما كان قولي في ابن خولة مطنباً

معاندة منّي لنسل المطيّبِ

ولكن روينا عن وصيِّ محمّد

وما كان فيما قال بالمتكذِّبِ

إنّ وليّ اللّه يُفقدُ لا يُرى

سنين كفعلِ الخائف المترقِّبِ

__________________

١ ـ الجَسْرُ : ـ بالفتح ـ : العظيم من الإبل وغيرها ، والأُنثى جَسْرَة. العَذافِرة : الناقة العظيمة. والناقة الشديدة. الأمينة الوثيقة الظهيرة. وجَمَل عُذافر وعَذَوْفَر : صلب عظيم شديد. السبسب : المفازة ، والأرض المستوية البعيدة ( لسان العرب : « جسر » ، « عذفر » و « سبسب » ).

٦٨

فيقسم أموال الفقيد كأنّما

تغيّبه بين الصفيح المنصّبِ

فيمكت (١) حيناً ثمّ يشرق شخصه

مضيئاً بنور العدل إشراق كوكبِ

يسير بنصر اللّه من بيت ربّه

على سؤدد منه وأمر مسبّبِ

يسير إلى أعدائه بلوائه

فيقتلهم قتلاً كحران مغضبِ

فلمّا روى أنّ ابن خولة غائب

صرفنا إليه قولنا لم نكذبِ

وقلنا هو المهدي وآلقائم الذي

يعيش بجدوى عدله كلُّ مجدبِ

فإن قلت : لا ، فالحقُّ قولك والّذي

أمرتَ فحتمٌ غير ما متعقّبِ

وأُشهد ربّي أنّ قولك حجّة

على النّاس طُرّاً من مطيع ومُذنبِ

بأنّ ولي اللّه والقائم الّذي

تطلع نفسي نحوه بتطرّبِ

__________________

١ ـ مَكت بالمكان : أقام ، كَمَكَد. ( لسان العرب : « مكت » ).

٦٩

له غيبة لا بدّ أن سيغيبها

فصلّى عليه اللّه من متغيّبِ

فيمكث حيناً ثم يظهر عينه

فيملأ عدلاً كلّ مشرق ومغربِ

بذاك أدين اللّه سرّاً وجهرةً

ولستُ وإن عوتبتُ فيه بمعتّبِ (١)

وفي المناقب للشيخ الجليل رشيد الدين محمد بن علي بن شهر اشوب رحمه‌الله : داود الرقي : بلغ السيد الحميري أنّه ذُكر عند الصادق عليه‌السلام فقال : السيد كافر ، فأتاه وقال : يا سيّدي أنا كافر مع شدّة حبّي لكم ومعاداتي الناس فيكم؟! قال : وما ينفعك ذاك وأنت كافر بحجّة الدهر والزمان ، ثمّ أخذ بيده وأدخله بيتاً فإذا في البيت قبر ، فصلّى ركعتين ثمّ ضرب بيده على القبر فصار القبر قطعاً ، فخرج شخص من قبره ينفض التراب عن رأسه ولحيته فقال له الصادق عليه‌السلام : من أنت؟ قال : أنا محمد بن علي المسمى بابن الحنفية ، فقال : فمن أنا؟ فقال جعفر بن محمدحجّة الدهر والزمان. فخرج السيد يقول : ( تجعفرت باسم اللّه فيمن تجعفرا ). (٢)

ثمّ قال رحمه‌الله (٣) : وفي اخبار السيد أنّه ناظر معه مؤمن الطاق في ابن الحنفية فغلبه عليه ، فقال :

__________________

١ ـ الصدوق : كمال الدين : ص ٣٣ ـ ٣٥.

٢ ـ ابن شهر اشوب : مناقب آل أبي طالب : ٤ / ٢٤٥.

٣ ـ أي صاحب الكتاب.

٧٠

تركتُ ابن خولةَ لا عَن قلى

وإنّي لَكَالْكَلِفِ الوامِقِ (١)

وَإنّي لَهُ حافظٌ في المغيبِ

أدينُ بما دانَ في الصادقِ

هوَ الحبرُ حبرُ بني هاشم

ونورٌ مِنَ المَلكِ الرّازِقِ

بِه يُنعِشُ اللّهُ جَمعَ العِبادِ

ويُجري البَلاغَةَ في النّاطِقِ

أتاني بُرهانهُ مُعْلَناً

فَدُنتُ ولَمْ أكُ كالمائِقِ

فَمَنْ صدَّ بعد بَيانِ الهُدى

إلى حَبْتَر وَأبَى حامِقِ

فقال الطاقي : أحسنت ; الآن أتيت رشدك ، وبلغت أشدّك ، وتبوّأت من الخير موضعاً ومن الجنّة مقعداً. وأنشأ السيد يقول :

تجعفرت باسم اللّه واللّه أكبر

ـ إلى قوله : ـ

__________________

١ ـ الكلَف : الوُلوع بالشيء مع شغل قلب ومَشقّة.

ووَمِقَ : أحبَّ ، والوِماق : محبة لغير رِيبة. ( لسان العرب : « كلف » ، « ومق » ).

٧١

ولَستُ بغال ما حَيِيتُ وراجع

إلى ما عَليهِ كُنتُ أُخفي وأُظمرُ (١)

وقد رويناه فيما مرّ : « وأضمر ».

وحكى أيضاً في القصيدة الأُخرى التي صدرها :

( أيا راكباً نَحوَ المَدينةِ جَسْرَةً )

بعض أبياتها ، بمخالفة ما في الألفاظ والترتيب.

ـ ثم قال : ـ

و أنشد فيه :

امدح أبا عبد الإله

فتى البريّة في احتمالِهِ

سِبطُ النَّبيّ محمَّد

حَبلٌ تَفرَّعَ مِنْ حِبالِهِ

تغْشَى العُيونُ النّاظِراتُ

إذا سَمَوْنَ إلى جَلالِهِ

عَذْبُ المَوارِدِ بَحْرُهُ

يَروي الخَلائِقَ مِنْ سجالِهِ


__________________

١ ـ نص البيت من المصدر ، وفي الأصل :

« ولست مغال ما حييت » البيت إلاّ ان عجزه وأظهر. وهو غير مستقيم.

٧٢

بَحرٌ أطلَّ عَلَى البُحورِ

يَمُدُّهُنَّ نَدَى بلالِهِ

سَقَتِ العِبادَ يَمينَُهُ

وسَقَى البلادَ نَدى شمالِهِ

يَحكي السَّحابَ يَمينُهُ

وَالودق يَخْرجُ مِنْ خلالِهِ

الأرضُ مِيراثٌ لَهُ

والناسُ طُرّاً في عِيالِهِ

يا حُجَّةَ اللّهِ الجَليلِ

وَعَيْنِهِ وزَعيمَ آلِهِ

وابن الوَصيّ المُصطفى

وشَبيهَ أحمدَ في كَمالِهِ

أنتَ ابنُ بِنتِ مُحمَّد

حَذْوَاً خُلقتَ على مِثالِهِ

فَضِياءُ نُورِكَ نُورُهُ

وظِلالُ رُوحِكَ من ظِلالِهِ

فيكَ الخَلاصُ مِنَ الرَّدَى

وبِكَ الهداية مِن ضَلالهِ

٧٣

أَثني ولستُ بِبالغٍ

عُشْرَ الفَريدة من خِصالِهِ (١)

وقال الشيخ أبو عمرو الكشي في كتاب « الرجال » : وحدّثني نصر بن الصباح قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن عيسى ، عن عبد الرحمن بن أبي نجران ، عن عبد اللّه بن بكير ، عن محمد بن النعمان قال : دخلت على السيّد ابن محمد وهو لما به قد اسودّ وجهه وازرقّت عيناه وعطش كبده ، وهو يومئذ يقول بمحمد ابن الحنفية وهو من حشمه ، وكان ممّن يشرب المسكر ، فجئت وكان قد قدم أبو عبد اللّه عليه‌السلام الى الكوفة لأنّه كان انصرف من عند أبي جعفر المنصور ، فدخلت على أبي عبد اللّه عليه‌السلام فقلت : جعلت فداك إنّي فارقت السيّد ابن محمد الحميري لما قد اسودّ وجهه وازرقّت عيناه وعطش كبده وسُلب الكلام ، فإنّه كان يشرب المسكر.

فقال أبو عبد اللّه عليه‌السلام : أسرجوا له ، فركب ومضى ومضيت ومعه حتى دخلنا على السيّد وإنّ جماعة محدقون به ، فقعد أبو عبد اللّه عليه‌السلام عند رأسه وقال : يا سيّد! ففتح عينه ينظر إلى أبي عبد اللّه عليه‌السلام ولا يمكنه الكلام (٢) ، وإنّا لنتبيّن فيه أنّه يريد الكلام ولا يمكنه.

فرأينا أبا عبد اللّه عليه‌السلام حرَّك شفتيه فنظر السيّد (٣) فقال أبو عبد اللّه عليه‌السلام : قل بالحقّ يكشف اللّه ما بك ويرحمك ويدخلك جنّته التي وعد أولياءه ، فقال في ذلك :

( تجعفرت باسم اللّه واللّه أكبر ). فلم يبرح أبو عبد اللّه عليه‌السلام حتى قعد السيّد

__________________

١ ـ ابن شهر اشوب : مناقب آل أبي طالب : ٤ / ٢٤٦ ـ ٢٤٧.

٢ ـ « وقد اسودّ وجهه ، فجعل يبكي وعينه إلى أبي عبد اللّه عليه‌السلام ولا يمكنه الكلام » : ( رجال الكشي ).

٣ ـ « فنطق السيد فقال : جعلني اللّه فداك أبأوليائك يفعل هذا! » بدل : « فنظر السيد » : ( رجال الكشي ).

٧٤

على استه. (١)

وفي كتاب « كشف الغمة في معرفة الأئمّة » للشيخ الإمام علي بن عيسى الإربلي رحمه‌الله : روى الحسين بن عون قال : دخلت على السيّد ابن محمد الحميري عايداً في علّته التي مات فيها فوجدته يساق به ، ووجدت عنده جماعة من جيرانه ، وكانوا عثمانية ، وكان السيّد جميل الوجه رحب الجبهة عريض مابين السالفين ، فبدَت في وجهه نكتة سوداء مثل النقطة من المداد ، ثمّ لم تزل تنمو وتزيد حتى طبّقت وجهه بسوادها ، فاغتمّ لذلك من حضره من الشيعة ، وظهر من الناصبة سرور وشماتة ، فلم يلبث بذلك إلاّ قليلاً حتّى بدت في ذلك المكان من وجهه لمعة بيضاء ، فلم تزل تزيد أيضاً وتنمى حتى اسفر (٢) وجهه وأشرق وأفتر السيد ضاحكاً وقال :

كذب الزاعمون أنّ علياً

لم ينج محبّه من هنات

فقد وربّي دخلت جنّة عدن

وعفا لي الإله عن سيّئاتي

فأبشروا اليوم أولياء عليّ

وتولّوا عليّاً حتى الممات

ثمّ من بعده تولّوا بنيه

واحداً بعد واحد بالصفات

__________________

١ ـ الكشي : الرجال : ص ٥٧٢ ـ ٥٧٣.

٢ ـ « اسفرّ » : المصدر.

٧٥

ثمّ أتبع قوله هذا : أشهد أنْ لا إله إلاّ اللّه حقّاً حقّاً ، أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه حقّاً حقّاً ، أشهد أنّ عليّاً أمير المؤمنين حقّاً حقّاً ، أشهد أنْ لا إله إلاّ اللّه ، ثم أغمض عينيه بنفسه فكأنّما كانت روحة ذبالة طفئت أو حصاة سقطت. (١)

وفي كتاب « الرجال » للكشي : حدثني أبو سعيد محمد بن رشيد الهروي قال : حدّثني السيّد وسمّاه ، وذكر أنّه خيّر قال : سألته عن الخبر الّذي يروى أنّ السيّد اسودّوجهه عند موته؟ فقال ذلك الشعر الذي يروى له في ذلك قال : حدثني أبو الحسين المروزي قال : روي أنّ السيد ابن محمد الشاعر اسودّ وجهه عند الموت فقال : هكذا يفعل بأوليائكم يا أمير المؤمنين؟! قال : فابيض ّوجهه كأنّه القمر ليلة البدر فأنشأ يقول :

أحبّ الّذي من مات من أهل ودّه

تلقّاه بالبشرى لدى الموت يضحك

ومن مات يَهوى غيره من عدوّه

فليس له إلاّ إلى النار مسلك

أبا حسن تفديك نفسي وأُسرتي

ومالي وما أصبحت في الأرض أملك

أبا حسن إنيّ بفضلك عارف

( وإنّي بحبل من هواك لممسك

__________________

١ ـ عليّ بن عيسي الإربلي : كشف الغمة : ١ / ٥٤٨ ـ ٥٤٩.

٧٦

وأنت وصي المصطفى وابن عمّه ) (١)

وإنّا نعادي مبغضيك ونترك

ولاحٍ لحاني في عليّ وحزبه

فقلت لحاك اللّه إنّك أعفك (٢)

مواليك ناج مؤمن بين الهدى

وقاليك معروف الضلالة مشرك (٣)

ومن أشعاره ما رواه الشيخ الجليل أبو جعفر محمد بن أبي القاسم الطبري في كتاب « بشارة المصطفى لشيعة المرتضى » قال : أخبرني الشيخ أبو علي الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي رحمه‌الله عن أبيه أبي جعفر الطوسي قال : أخبرنا الشيخ أبو عبد اللّه محمد بن محمد بن النعمان قال : أخبرني عبد اللّه بن محمد بن عمران المرزباني قال : أخبرني محمد بن يحيى قال : حدّثنا جبلة بن محمد بن جبلة الكوفي قال : حدّثني أبي قال : اجتمع عندنا السيد ابن محمد الحميري وجعفر بن عفان الطائي فقال له السيّد : ويحك أتقول في آل محمّد عليهم‌السلام :

ما بال بيتكم يخرب سقفه

و ثيابكم من أرذل الأثواب

فقال جعفر : فما أنكرت من ذلك؟! قال له السيد : إذا لم تحسن المدح فاسكت ، أيوصف آل محمد عليهم‌السلام بمثل هذا؟! ولكنّي أعذرك ، هذا طبعك وعلمك ومنتهاك وقد قلت ما أمحو عنهم عار مدحك :

أُقسم بالله وآلائه

والمرء عمّا قال مسؤولُ

__________________

١ ـ ما بين القوسين من المصدر.

٢ ـ البيتين الأخيرين تقديم وتأخير عمّا في المصدر.

٣ ـ الكشي : الرجال : ٢ / ٥٧٠ ـ ٥٧١.

٧٧

إنّ عليّ بن أبي طالب

على التُّقى والبرّ مَجبولُ

وإنّه كانَ (١) الإمام الّذي

لَهُ على الأُمة تَفضيلُ

يقول بالحقّ ويفتي به

ولا تلهيه الأباطيلُ

كان إذا الحرب مرتها القنا

وأحجمت عنها البهاليل

يَمشي إلى القرن وفي كفّه

أبيض ماضي الحدّ مصقُول

مشي العَفرني (٢) بين أشباله

أبرزه للقنص الغيلُ

ذاك الذي سلّم في ليلة

عليه ميكال وجبريلُ

ميكال في ألف وجبريل في

ألفٍ ويتلوهم سرافيلُ

ليلة بدرمَدداً اُنزِلوا

كأنّهم طير أبابيلُ

فسلّموا لمّا أتوا نحوه (٣)

وذاك إعظامٌ وتبجيلُ

هكذا يقال فيهم يا جعفر وشعرك يقال مثله لأهل الخصاصة والضعف.

فقبّل جعفر رأسه وقال : أنت واللّه الرأس يا أبا هاشم ونحن الأذناب. (٤)

حكى أبو عمر الزاهد (٥) في كتاب « الياقوتة » أنّ بعض الشيعة أنشد أبا

__________________

١ ـ « ذاك » : المصدر.

٢ ـ العَفَرني والعِفرِّين : الأسد ، سمّي بذلك لشدّته. ( اللسان : « عفر » ).

٣ ـ « حذوه » : المصدر.

٤ ـ أبو جعفر محمد بن أبي القاسم الطبري : بشارة المصطفى لشيعة المرتضى : ٥٣ و ٥٤. ( المطبعة الحيدرية ، النجف الأشرف ، ط ٢. وذكره الشيخ الطوسي في الامالي ١٩٨. ( دار الثقافة قم ـ ١٤١٤ هـ ).

٥ ـ هو أبوعمر الزاهد محمد بن عبد الواحد المطرّز الباوردي ( ٢٦١ ـ ٣٤٥ هـ ) المعروف ب‍ « غلام ثعلب » ( السيد بحر العلوم : الفوائد الرجاليّة : ٣ / ٨ ـ ٩ ).

٧٨

مخالد هذه الأبيات فقال له أبو مخالد : يا هذا إنّ الشاعر لم يمدح صاحبك وإنّما هجاه في موضعين :

أحدهما : أنّ عليّاً مجبول على البرّ والتُّقى ، ومن جُبل على أمرلم يُمدح عليه لأنّه لم يكسبه بسعيه.

وثانيهما : أنّه ادّعى أنّه أُيِّد في حروبه بالملائكة ولا فضيلة له حينئذفي الظفر لأنّ حيّة النميري لو أُيِّد بهؤلاء لقهر الأعداء. (١)

ولا يخفى على كلّ كبير وصغير أنّ ما ذكره من الإيرادين من السّخافة بمكان ، وآنّهما ممّا تستهجنه الأذهان وتمجّه الآذان.

أمّا الأوّل فمن وجوه :

الأوّل : إنّ من المعلوم عند أُولي الفهوم أنّ أمثال هذه العبارات شائعة في المبالغة على المواظبة على الأمر حتى كأنّه مجبول عليه ، كما قال تعالى : ( خُلِقَ الإِنْسانُ مِنْ عَجَل ) (٢) وقد اشتهر أنّ العادة كالطّبيعة الثابتة (٣) ، فالمجبوليّة هنا ليست على حقيقتها كما فهمه هذا المورد الأحمق ، بل إنّما هي نهاية في المبالغة في الوصف بالمواظبة والاعتياد.

والثاني : إنّ من المشهور المسطور أنّ المدح لا يجب أن يكون على ما يكون بالسعي والاختيار ، إنّما ذلك الحمد على ما هو المشهور ، فأيّ وجه لما قاله من أنّه عليه‌السلام إذا كان مجبولاً عليهما لم يستحقّ المدح عليهما؟!

والثالث : إنّ غاية ما ألزمه هذا الأحمق أن لا يكون الوصف بذلك ممّا يسمى مدحاً ، وهو إنّما نصر السيّد لو صرّح بكونه مدحاً أو أشار إليه وليس وإن قال إنّه

__________________

١ ـ لم يتوفر المصدر بأيدينا.

٢ ـ الأنبياء : ٣٧.

٣ ـ في الأصل : « الثانية » وهو تصحيف.

٧٩

لا يمكن الوصف بأمثاله ، لم يستحق الجواب (١).

وأمّا الثاني فمن وجهين :

الأوّل : إنّ السيّد سلام اللّه عليه لم يتعرّض لتأييد الملائكة له عليه‌السلام لا تصريحاً ولا تلويحاً وإنّما أفاد أنّهم سلّموا عليه إجلالاً له وتبجيلاً.

والثاني : أنّا لو سلّمنا أنّه تعرّض لذلك فمنع ، انّه لا فضيلة له في ذلك ، بمنزلة منع أن يكون تأييد الملائكة والنّصر بالرعب وغير ذلك من جنود اللّه ، من فضائل رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم افتخر بذلك في غير موطن ، نعم لوكان في مقام مدحه عليه‌السلام بأنّه هزم الكفار وظفر عليهم لكان للإيراد توجيه ، ولا شبهة في أنّه لا نصّ عليه ولا إشارة إليه في الشعر ، مع أنّه على ذلك أيضاً ظاهر الاندفاع ، فإنّ المدح بأنّه هزم الكفّار وظفر عليهم بتأييد الملائكة ممّا تقبله الطباع ، بل هو أولى بالمدح من الظفر شدة بأسه وقوّة شجاعته ( فَإِنَّها لا تَعمَى الأَبصارُ ولكنْ تَعْمى القُلوبُ التي في الصُّدُورِ ) (٢). ثمّ من العجب العجيب أنّ هذا المغفّل الجهول لم يقتصر على إبطال المدح بل ادّعى أنّه هجاه بهذين الوصفين!! أترى أحداً من المجانين يفوه بمثل هذا؟!

__________________

١ ـ هنا عبارة غير مقروءة.

٢ ـ الحج : ٤٦.

٨٠