اللآلي العبقريّة في شرح العينيّة الحميريّة

محمّد بهاء الدين الاصبهاني

اللآلي العبقريّة في شرح العينيّة الحميريّة

المؤلف:

محمّد بهاء الدين الاصبهاني


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-96-7
الصفحات: ٦٠٠

فالأوّل كقولك : لو جئتني لأكرمتك.

والثاني : كقوله تعالى : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاّ اللّه لَفَسَدَتا ) (١) فإنّه مسوق للاستدلال على نفي تعدّد الإله.

والسرّ في ذلك أنّها تدل على علّيّة الشرط على تقدير وجوده للجزاء ، وكما يصحّ الاستدلال على عدم المعلول بعدم العلّة يصحّ العكس إذا كانت العلّة منحصرة فيه حقيقة أو ادّعاه.

وقد تؤتى بها فيما الجزاء مستمرّ الوجود على تقديري وجود الشرط وعدمه ، وذلك في كلّ ما يكون نقيض الجزاء أليق بالشرط ، ونقيض الشرط أوفق بالجزاء ، كقولك : لو أهنتني لأكرمتك.

ومنه قوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّما فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرة أَقْلام ) (٢) الآية.

وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما روي عنه في بنت أبي سلمة : أنّها لو لم تكن ربيبتي في حجري (٣) ما حلّت لي ، إنّها لابنة أخي من الرضاعة (٤).

وقول عمر : نعم العبد صهيب لو لم يخف اللّه لم يعصه (٥).

ومن ذلك ذهب بعض النُّحاة إلى أنّها إنّما تدل على امتناع الشرط ولا دلالة لها على امتناع الجزاء ، بل إن كان مساوياً للشرط في العموم لزم انتفاؤه ؛ للزوم انتفاء المسبب من انتفاء سببه المساوي نحو : لو كانت الشمس طالعة كان النهار موجوداً ، وإن كان أعمّ لم يلزم ؛ لعدم استلزام انتفاء السبب الخاص انتفاء المسبّب

__________________

١ ـ الأنبياء : ٢٢.

٢ ـ لقمان : ٢٧.

٣ ـ من المصدر.

٤ ـ الإمام الشافعي : المسند : ص ٤٣٤ وفيه أيضاً ( بنت أُمّ سلمة ) ، وكتاب الأُم : ٥ / ١٥٢.

٥ ـ محمد بن عبد الله الزركشي : البرهان في علوم القرآن : ٣٦٥ ، دار إحياء الكتب العربية ـ ١٣٧٧ هـ القاهرة ، ولسان العرب : ٩ / ١٩٠.

٢٢١

العام نحو : لو كانت الشمس طالعة كان الضوء موجوداً.

وقسم ما بعد « لو » إلى ثلاثة أقسام :

الأوّل : ما اقتضى العقل أو الشرع انحصار مسببية الثاني في سببيّة الأوّل نحو : ولو شِئنا لرفعناه بهما ، ونحو : لو كانت الشمس طالعة كان النهار موجوداً ، وهذا يلزم فيه من امتناع الأوّل امتناع الثاني.

والثاني : ما يوجب العقل أو الشّرع عدم الانحصار المذكور نحو : لو نام لا ينقض وضوؤه ، ونحو : لو كانت الشمس طالعة كان الضوء موجوداً ، وهذا لا يلزم فيه من امتناع الأوّل امتناع الثاني.

والثالث : ما يجوّز العقل فيه كلاً من الانحصار وعدمه ، نحو : لو جاءني لأكرمته ، وهذا يدلّ على امتناع الثاني دلالة قطعيّة ، ولكن المتبادر منه في العرف والاستعمال ذلك ، وعندي ليس هذا التحقيق والتقسيم بشيء ، فإنّه لا شبهة لمن له أدنى استقراء وتتبّع أنّ المتبادر في جميع هذه الأقسام انتفاء كلّ من الشرط والجزاء ولا يعانده عدم انحصار سبب الجزاء في الشرط ، فإنّ المتكلّم حين يقول : لو كانت الشمس طالعة كان الضوء موجوداً ، فرض أنّه ليس شيء من أسباب الضوء موجوداً ولا مفروض الوجود إلاّ طلوع الشمس ، فإذا انتفى انتفى الضوء البتة ، وكذا إذا قال : لو نام انتقض وضوؤه ، فرض انتفاء جميع نواقض الوضوء حقيقة وفرضاً إلاّ النوم ، فانحصار السبب في جميع الأقسام لازم بادّعاء المتكلّم وإن لم يكن منحصراً في الحقيقة.

ومن الغريب ما ذهب إليه الشلوبين (١) ، وتبعه عليه ابن هشام

__________________

١ ـ ترجمه ابن قايماز في سِير أعلام النُّبلاء : ٢٣ / ٢٠٧ قائلاً : الأُستاذ العلام ، إمام النحو أبو علي عمر بن محمد بن عمر الأزدي الاشبيلي الاندلسي النحوي الملقّب ب‍ « الشلوبين ».

و ذكره الشيخ عباس القمي في : الكُنى والألقاب : ٢ / ٣٦٨ وذكر وفاته في إشبيلة سنة ٦٤٥ هـ.

٢٢٢

الخضراوي (١) من أنّها لا تدلّ على امتناع شيء من الشرط والجزاء ، قال ابن هشام المتأخّر : وهذا الذي قالاه كإنكار الضروريات إذ فهم الامتناع منها كالبديهي ، فإنّ كلّ من سمع لو فعل ، فهم عدم وقوع الفعل ، من غير تردّد ، ولهذا يصحّ في كلّ موضع استعملت فيه أن تعقبه بحرف الاستدراك داخلاً على فعل الشّرط منفياً لفظاً أو معنى ، تقول : ( لو جاءني أكرمته لكنّه لم يجئ ).

ومنه قوله :

ولَوْ أنّما أسْعَى لأدْنَى مَعِيشَةٍ

كفاني ولم أُطْلُبْ قليلٌ (٢) مِنَ المالِ

و لَكِنَّما أسْعَى لِمَجْد مُؤَثَّلِ

وقَدْ يُدْرِكُ المَجْدَ المُؤَثَّلَ أَمثالي (٣)

وقوله :

فَلَوْ كانَ حَمْدٌ يُخْلِدُ النّاسُ لَمْ يَمُتْ

ولكنَّ حَمْدَ النّاسِ لَيْسَ بِمُخْلِدِ (٤)

ومنه قوله تعالى : ( وَلَوْ شِئْنا لآتَيْنا كُلّ نَفس هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَولُ مِنّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ ) (٥) أي ولكن لم أشأ ذلك فحقّ القول منّي ، وقوله تعالى : ( وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ ) (٦) أي فلم يريكموهم

__________________

١ ـ هو محمد بن يحيى المعروف ب‍ « ابن هشام » الخضراوي ( المتوفّى سنة ٦٤٦ هـ ) ، وله « الاقتراح في تلخيص الإيضاح » في النحو ، وكتاب « غرر الصباح في شرح أبيات الإيضاح » انظر كشف الظنون للخليفة الحاجبي : ١ / ٢١٣ وإيضاح المكنون ، لإسماعيل باشا البغدادي عن ذكر كتابيه.

٢ ـ إنّما رفع « قليل » لأنّه لم يجعل القليل مطلوباً ، وإنّما المطلوب ، عنده « المُلْكُ » وجعل القليل كافياً ، ولو لم يُرد ذلك ونصبَ فَسَد المعنى. ( كتاب سيبويه : ١ / ٧٩ ).

٣ ـ ديوان امرئ القيس : ١٣٩ ، في قصيدته التي مطلعها ( ألا عِمْ صباحاً أيّها الطللُ البالي ) يتغزّل ويصف مغامراته وصيده وسعيه إلى المجد.

٤ ـ البيت من قصيدة لزهير بن أبي سُلمى ، يمدح بها هَرَم بن سنان. انظر شرح ديوانه : ص ١٣٠.

٥ ـ السجدة : ١٣.

٦ ـ الأنفال : ٤٣.

٢٢٣

كذلك. وقول الخماسي :

لَو ْ كُنْتُ مِنْ مازِن لَمْ تَسْتَبِحْ إبِلي

بَنُو اللَّقِيطَةِ مِنْ ذُهْل بن شَيْبَانا (١)

ثمّ قال :

لكنَّ قَوْمي وإن كانُوا ذَوِي عَدَدٍ

لَيْسُوا مِنَ الشرِّ في شيَء وإن ْهَانا (٢)

إذ المعنى : لكنني لست من مازن (٣). بل من قوم ليسوا في شيء من الشر ، وإن هان وإن كانوا ذوي عدد فهذه المواضع ونحوها بمنزلة قوله تعالى : ( وَما كَفَرَ سُلَيْمان ُوَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا ) (٤) ( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ ) (٥) ( وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللّهَ رَمى ) (٦). (٧)

وفي تعليله صحّة الاستدراك داخلاً على فعل الشرط منفياً بفهم عدم

__________________

١ و ٢ ـ البيتان لرجل من بَلْعَنْبر اسمه قُريط بن أنيف ، هكذا ذكره البياوي في شرحه ، يُعيّر قومه بتخاذلهم عن نصره ، وقد أغارت عليه بنو شيبان وآستباحت إبله. شرح شواهد المغني : ١ / ٦٨ الشاهد ١٧.

٣ ـ مازن بطن من بني تميم ، وخصهم بالذكر لأنه أبلغ فيما أراد من انحطاط قومه بني العنبر حيث تثاقلوا عن نصرته واستنقاذ ماله ، إذ هم أقرب نسباً بهم وجواراً ، من أجل أن الحسد والبغضاء أسرع إلى الأقرباء منه إلى البُعداء وكذلك الجيران.

واستباح الشيء : وجده أو جعله مباحاً واستأصله. وكل ذلك صحيح هاهنا.

وقال التبريزي في شرح الحماسة : الاستباحة ، قيل : هي الإباحة ، وقيل : الإباحة التي بين الشيء وبين طالبه ، والاستباحة : اتخاذ الشيء مباحاً ، والأصل في الإباحة ، إظهار الشيء للناظر ليتناوله متى شاء ، ومنه : باح بسرّه.

ونسبوا اللقيطة نسبهم إلى أُمّهم ، وهنا أراد أنها نبذت فلقطت ، فليس لها أصل يعرف. ( منه ).

٤ ـ البقرة : ١٠٢.

٥ و ٦ ـ الأنفال : ١٧.

٧ ـ مغني اللبيب : ١ / ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

٢٢٤

الشرط ، غرابة ، فإنّه على عدم فهمه أدلّ منه على فهمه ، فإنّ الأصل في الكلام التأسيس وعلى العدم يكون تأسيساً وعلى الفهم تأكيداً.

ثمّ إنّ من المعلوم أنّ هذا الاستدراك جار في أن تقول : إن كانت الشمس طالعة كان النهار موجوداً ، لكن الشمس ليست طالعة ، بل الأولى أن تقول : ولهذا لا يصحّ الاستدراك داخلاً على فعل الشّرط كما يجوز ذلك في « إن » فإنّه يدل على أنّ الشرط لا يحتمل الثبوت كما يحتمله مع « ان » فيكون الاستدراك بذلك مناقضاً له ، ثمّ جعلها بمنزلة نحو : ( وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ ) وما بعده أغرب ، لأنّها كلّها استثناء للإثبات من النفي ، والمطلوب استثناء النفي من النفي ، وإن قال إنّ الإثبات فيها بمعنى نفي المنفى سابقاً ، حتى إنّ قوله : ( لكِنَّ الشَّياطينَ كَفَرُوا ) بمعنى : لكن ما كفر سليمان ، وكذا ما بعده كان عليه منع ظاهر.

نعم نسلّم الاستلزام فيما بعده لا فيه ، لأنّ كفر الشياطين لا ينافي كفر سليمان ، وما الداعي إلى جعل هذه الجمل بذلك المعنى مع أنّ عليه يلزم أن تكون تأكيدات والتأسيس راجح.

فإن أجاب عن الاعتراض الأوّل : بأنّ هذا الاستدراك يدلّ على أنّ المتكلّم يعلم انتفاء الشرط ، فلا يكون لو كان.

وأمّا الاستدراك بعد « ان » فليس على وفق وضعها وحقيقتها فإنّها موضوعة لما يكون المتكلّم شاكّاً في وقوعه ولا وقوعه ، ولا يصحّ استدراكه للإيجاب ولا للنفي ، فإن وقع شيء من ذلك لم تكن « ان » على حقيقتها.

قلنا : غاية ذلك أن لا تكون « لو » مختصّة بمقام الشكّ ، وأن يكون إذا تعقبها الاستدراك كانت فيما يمنع الشرط ، ولا يلزم اختصاصها بذلك لجواز أن تكون مشتركة بين المقامين.

وغاية ما يقال في الجواب : أنّه إنّما ذكره تأييداً وتنبيهاً على البديهي ومثله في

٢٢٥

مثله كاف.

ثمّ إنّ الجمهور على أنّها لا يليها إلاّ ماض لفظاً ومعنًى ، أو معنى فقط ، وأنّه إن وليّها مضارع قلبتها إلى الماضي ، على عكس « ان » ، كقوله تعالى : ( لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ ) (١).

وزعم قوم أنّ استعمالها في المضي هو الغالب وأنّها قد تستعمل للشرط في المستقبل بمعنى « ان » كقوله :

وَلَوْ تَلتَقي أَصْداؤنا بَعْدَ مَوْتِنا

وَمِنْ دُونِ رَمْسَيْنا مِنَ الأرْضِ سَبْسَبُ

لَظلَّ صَدَى صَوْتِي وإنْ كُنْتُ رِمَّةً

لِصَوْتِ صَدَى لَيلَى يَهَشُّ وَيَطْرَبُ (٢)

وقوله :

وَلَوْ أنَّ لَيلى الأَخْيَلِيّةَ سَلَّمَتْ

عَليَّ وَدُونِي جَنْدَلٌ وَصَفائِحُ

لَسَلَّمْتُ تَسْلِيمَ البَشاشَةِ أَوْزَقا

إلَيها صَدىً مِنْ جانِب ِالقَبْرِ صائِحُ (٣)

__________________

١ ـ الأعراف : ١٠٠.

٢ ـ البيتان من قصيدة لأبي صخر الهُذَلي ، وهما آخرها. ونسبهما العيني في الكبرى لقيس بن الملوّح المجنون ، وليس كذلك. ( شرح شواهد المغني : ٢ / ٦٤٣ ، الشاهد ٤٠٣ ).

٣ ـ البيتان لتوبة بن الحُميّر ـ بضمّ الحاء المهملة ، وفتح الميم وتشديد الياء المثناة. شرح شواهد المغني : ٢ / ٦٤٤ ، الشاهد : ٤٠٤.

و « الجندل » : بفتح الجيم وسكون النون : الحجارة.

والصفائح : الحجارة العراض تكون على القبور ، وهي جمع صحيفة.

٢٢٦

وقوله تعالى : ( وليَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ ) (١) فهنا تناول الماضي بالمستقبل.

ومن أوجه « لو » أن تكون للتمنّي نحو : لو يأتني فيحدّثني ، قيل : ومنه قوله تعالى : ( فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً ) (٢) ولذا نصب جوابها.

واختلف في لو هذه فقيل : إنّها قسم برأسها لا جواب لها ، إلاّ أنّه قد يؤتى لها بجواب منصوب كما يؤتى لليت.

وقيل : إنّها « لو الشرطية » اشتربت معنى التمني ، بدليل أنّه جمع لها بين جوابين : منصوب بعد الفاء ، وآخر باللام في قوله :

فَلَوْ نُبِشَ المَقابِرُ عَنْ كُلَيْب

فَيُخْبَرَ بِالذّنائِبِ أَيُّ زِيرِ

بِيَوْمِ الشَّعْثَمِينَ لَقَرَّ عَيْناً

وَ كَيْفَ لِقاءُ مَنْ تَحْتَ القُبُورِ (٣)

__________________

وزق : بالزاي والقاف : الصدى ، وقد ذكر معناه في الحاشية.

والأصداء : جمع صدى ، وهو الذي يجيئك بمثل صوتك في الجبال وغيرها ، صمّ صداه

وأصم اللّه صداه ، أي أهلكه لأنّ الرجل إذا مات لم يسمع الصدى منه شيئاً فيجيبه.

والرمس : تراب القبور.

وسبسب : بمهملتين مفتوحتين وموحدتين أوّلهما ساكن : المفازة.

والرِّمّة ـ بكسر الراء وتشديد الميم ـ : العظام البالية ، والجمع : رمم ورمام ، رمّ العظم يرم إذا بلى. وهشّ من الهشاشة وهو الارتياح والخفة للشيء ( منه ).

١ ـ النساء : ٩.

٢ ـ الشعراء : ١٠٢.

٣ ـ البيتان من قصيدة ل‍ « مهلهل » يرثي بها أخاه كليبا ، وآولّها :

إلَيلتُنا بذي حُسم أنيري

إذا أنتِ انقضيت فلا تحوري

انظر « شرح شواهد المغني » : ٢ / ٦٥٤ ، الشاهد ٤١٢ عن « شعراءالجاهلية » : ١٦٨ ـ ١٧٠.

٢٢٧

وقيل : إنّها « لو » المصدرية أغنت عن فعل التمنّي ، ومن أوجهها أن يكون للعرض نحو : لو تنزل

عندنا فتصيب خيراً.

« المشيئة » : الإرادة وقد شئت الشيء أشاؤه ، ويقال : كلّ شيء بمشيئة اللّه ـ بكسر الشين ـ كشيعة ، أي بإرادته.

وعن الأصمعي : شيأت الرجل على الأمر : حملته عليه.

قال الراغب : والمشيئة عند أكثر المتكلّمين كالإرادة سواء ، وعند بعضهم أنّ المشيئة في الأصل إيجاد الشيء وإصابته ، وإن كان قد يستعمل في التعارف موضع الإرادة فالمشيئة من اللّه تعالى هي الإيجاد ، ومن الناس الإصابة ، قال : والمشيئة من اللّه تقضي وجود الشيء ، ولذلك قيل : « ما شاء اللّه كان ومالم يشأ لم يكن » والإرادة منه لاتقتضي وجود المراد لا محالة ، ألا ترى أنّه قال : ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر ) (١) وقال : ( وَمَا اللّهُ يُريدُ ظُلْماً لِلْعِباد ) (٢). ومعلوم أنّه قد يحصل العسر والتظالم فيما بين الناس ، قالوا : ومن الفرق بينهما أنّ إرادة الإنسان قد تحصل من غير أن تتقدّمها إرادة اللّه ، فإنّ الإنسان قد يريد أن لا يموت ويأبى اللّه ذلك ، ومشيئته لا تكون إلاّ بعد مشيئته ، لقوله تعالى : ( وَما تَشاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ ) (٣).

وروي أنّه لمّا نزل قوله : ( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيم ) (٤) ، قال الكفّار : الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم ، فأنزل اللّه تعالى : ( وَما تَشاءُونَ إِلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ ).

وقال بعضهم : لولا أنّ الأُمور كلّها موقوفة على مشيئة اللّه وأنّ أفعالنا معلّقة

__________________

١ ـ البقرة : ١٨٥.

٢ ـ غافر : ٣١.

٣ ـ الإنسان : ٣٠ ، والتكوير : ٢٩.

٤ ـ التكوير : ٢٨.

٢٢٨

بها وموقوفة عليها لما أجمع الناس على تعليق الاستثناء به في جميع أفعالنا نحو : ( سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّهُ صابِراً ) (١) وقال : ( سَتَجِدُني إِنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرينَ ) (٢) ( يَأْتِيكُمْ بهِ اللّهُ إِنْ شاءَ ) (٣) ( ادخُلوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللّه ) (٤) ( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاّ ما شاءَ اللّهُ ) (٥) ( وَما يَكُون لَنا أَنْ نَعُود فِيها إِلاّأَنْ يَشاءَاللّهُ ) (٦) ( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْء إِنّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً * إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّه ) (٧). انتهت مقالة الراغب بألفاظها (٨).

ويؤيّد ما نقله عن البعض ، أخبار شتّى.

منها : ما رواه الشيخ الصدوق ثقة الإسلام والمسلمين أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني رضوان اللّه عليه في كتاب « الكافي » عن عدّة من أصحابه عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي ، عن أبيه ، عن محمد بن أبي عمير ، عن عمر بن أُذينة ، عن محمد بن مسلم (٩). ورواه الشيخ الصّدوق أبوجعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ( رض ) في كتاب « التوحيد » عن أبيه ، عن سعد ابن عبد اللّه الأشعري ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن أُذينة ، عن محمد بن مسلم عن الإمام الصادق جعفر بن محمد صلوات اللّه عليهما قال : المشيئة محدثة (١٠).

ومنها : ما رواه ابن بابويه في كتابه المذكور عن محمد بن الحسن بن أحمد بن

__________________

١ ـ الكهف : ٦٩.

٢ ـ الصافات : ١٠٢.

٣ ـ هود : ٣٣.

٤ ـ يوسف : ٩٩.

٥ ـ الأعراف : ١٨٨.

٦ ـ الأعراف : ٨٩.

٧ ـ الكهف : ٢٣ ـ ٢٤.

٨ ـ مفردات الراغب : ٢٧١ ـ ٢٧٢.

٩ ـ الكافي : ١ / ١١٠ ، ح ٧.

١٠ ـ الصدوق : التوحيد : ١٤٧ ح ١٨.

٢٢٩

الوليد ، عن محمد بن الحسن الصفّار ، عن محمد بن عيسى بن عبيد ، عن سليمان بن جعفر الجعفري قال : قال الرضا عليه‌السلام : المشيئة من صفات الأفعال ، فمن زعم أنّ اللّه تعالى لم يزل مريداً شائياً ، فليس بموحّد (١).

ويدلّ على مغايرة المشيئة للإرادة [ مارواه ] ثقة الإسلام الكليني المتقدّم ذكره ، في « الكافي » عن عدّة من أصحابه ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، ومحمد ابن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ومحمد بن خالد ، جميعاً عن فضالة بن أيّوب ، عن محمد بن عمارة ، عن حريز بن عبد اللّه وعبد اللّه ابن مسكان ، عن الصادق أبي عبد اللّه عليه‌السلام أنّه قال : « لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بهذه الخصال السبعة بمشيئة وإرادة وقدر وقضاء وإذن وكتاب وأجل ، فمن زعم أنّه يقدر على نقص واحدة فقد كفر ». (٢)

وروى مثل ذلك بطريق آخر إلاّ أنّ فيه بعد السبع : فمن زعم غير هذا فقد كذب على اللّه ، أو ردّ على اللّه. (٣)

وممّا هو ظاهر في كون المشيئة هي الإيجاد : ما رواه ثقة الإسلام في « الكافي » عن علي بن محمد بن عبد اللّه ، عن أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي ، عن أبيه ، عن محمد ابن سليمان الدّيلمي ، عن علي بن إبراهيم الهاشمي ، قال : سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام يقول : لا يكون شيء إلاّ ما شاء اللّه وأراد وقدّر وقضى.

قلت : ما معنى « شاء »؟ قال : ابتداء الفعل.

قلت : ما معنى « قدّر »؟ قال : تقدير الشيء من طوله وعرضه.

قلت : ما معنى « قضى »؟ قال : إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مردّله (٤).

__________________

١ ـ الصدوق : التوحيد : ٣٣٨ ح ٥ ( باب ٥٥ المشيئة والإرادة ).

٢ ـ الكافي : ١ / ١٤٩ عنه بحارالأنوار : ٥ / ١٢١.

٣ ـ الكافي : ١ / ١٤٩ ، ح ٢ باختلاف.

٤ ـ الكافي : ١ / ١٥٠ ، ح ١. باب المشيئة والإرادة.

٢٣٠

الاعلام من اللّه : إيجاد العلم في نفس ومن غيره التسبّب لوجود العلم في نفس.

والعلم إدراك الشيء إدراكاً جازماً على ما هو عليه في الخارج ، هذا هو اللائق بهذه الكتب من تفسيره.

« نا » : ضمير متّصل موضوع للمتكلّم إذا شرك غيره معه في الفعل مرفوعاً أو منصوباً أو مجروراً.

« إلى » : للانتهاء. « من » : اسم استفهام.

« الألف وآللاّم » في كلّ من الغاية والمفزع ؛ للعهد عوضاً عن المضاف إليه ، أي غايتنا أو غاية الرئاسة ومفزعنا.

« الغاية » : مدى الشيء ، والجمع « غاي » كساعة وساع.

والغاية : الرّاية ، يقال : غييت غاية وأغييت ، أي نصبتها.

« المفزع » : مصدر ميمي بمعنى « الملجأ » وبمعنى : الالتجاء.

الإعراب :

جملة البيت إمّا استئناف بياني ، أي جواب لسؤال مقدّر ، كأنّه قيل : كيف أتوا بخطبته ، أو : ما تلك الخطبة؟

أو عطف بيان لجملة « أتوا أحمد بخطبة ».

« لو » إن كانت شرطية فجوابها « أعلمتنا » ، ومفعول شئت محذوف مدلول عليه بالجواب ، أي « لو شئت إعلامنا » وحذف مفعول المشيئة الواقعة فعلاً للشرط كثير مطّرد ، لدلالة الجواب عليه كقوله تعالى : ( وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعين ) (١) إلاّ

__________________

١ ـ النحل : ٩.

٢٣١

أن يكون مفعولاً غريباً يستبعد وقوعها عليه فإنّه يذكر غالباً كقوله :

وَلَوْ شِئْتُ أنْ أبكي دَماً لَبَكيْتُهُ

عَليهِ ولكِنْ ساحةُ الصَّبرِ أوْسَعُ (١)

وإن كانت « لو » للتمنّي أو العرض كان « أعلمتنا » مفعول « شئت » بتقدير « أن » المصدرية أو تأويله بالمصدر ، من غير تقدير « ان » كما في قولهم : تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه » (٢) ، ونحو : ( سَواءٌ عَلَيْهِمْ ءَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ ) (٣) ونحو : يعجبني قام زيدٌ ، كما صوّره هشام وثعلب ، ونحو : ( ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأوا الآيات لَيَسْجُنَنَّهُ ) (٤) على ما يقول الفرّاء وجماعة.

وإن كانت « لو » للعرض كان « شئت » بمعنى المضارع.

« أعلمتنا » يلغى عن العمل في مفعوليه الثاني والثالث ، وقد أُقيم مقامهما الجملة الاسمية التي بعده.

« إلى من » خبر للغاية ، وهو متعلّق إمّا بالكون المطلق وهو على رأي من لا يجوّز تقدير الكون الخاص كأبي حيّان ، أو بالانتهاء أي منتهيان أو ينتهيان ، كما يقدر في قوله تعالى : ( الحُرُّ بِالحُرّ ) (٥) مقتول ، وفي قوله تعالى : ( إِنَّ النَّفْسَ

__________________

١ ـ البيت ل‍ « أبي يعقوب إسحاق بن حسان الخُزيمي بن قوهي » من شعراء الدولة العباسية. ( الانساب للسمعاني : ٢٥٤ ).

ملكت دموع العين حين رددتها

إلى ناظري والعين كالقلب تدمع

تفسير كنزالدقائق ل‍ « الميرزا محمد المشهدي » : ١ / ١٦٣ نقلاً عن هامش الكشّاف : ١ / ٨٧.

٢ ـ « المُعيدي » رجل من كنانة صغيرالجثّة عظيم الهيبة ، قال له النعمان : أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. فذهب مثلاً ( كتاب العين : ٢ / ٦٢ ) وجاء في الصحاح : ٢ / ٥٠٦ : قال الكسائي : وفي المثل ... وهو تصغير « معدي » منسوب إلى معد ، وآنما خففت الدال استثقالاً للجمع بين الشدتين مع ياء التصغير.

٣ ـ البقرة : ٦.

٤ ـ يوسف : ٣٥.

٥ ـ البقرة : ١٧٨.

٢٣٢

بِالنَّفْسِ ) (١) الآية ؛ مقتولة ومفقودة ومجذوع ومصلوبة ومقلوعة ، وفي قوله تعالى : ( الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبان ) (٢) يجريان.

فعلى الأوّل يكون الظرف مستقرّاً دون الثاني ، إذ لا يجب حذف العامل إذا لم يكن كوناً مطلقاً ، ولا ينتقل الضمير منه إلى الظرف.

المعنى :

الظاهر أنّ « لو » إن كانت للشرط فبمعنى « ان » يعني أنّهم قالوا لأحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن شئت أن تعلمنا أنّ مدانا أو مدى الرئاسة والتجاؤنا في الدين والدُّنيا منتهيان إلى أيّ شخص أعلمتنا ذلك.

ويجوز أن يكون بمعناها الحقيقي ، أي لو كنت تشاء فيما مضى من الزّمان أن تعلّمنا ذلك أعلمتنا ، فيكون سؤالاً عن علّة أنّه لم يشأ أن يعلمهم أو عتاباً منهم له على عدم إعلامهم ، فكأنّهم قالوا : هلاّ أعلمتنا ، أو قالوا : إنّا نتمنّى منك أن تشاء أن تعلّمنا ذلك ، أو قالوا : شِئْ أن تعلّمنا ذلك.

ويحتمل أن يريد بالغاية : الراية ، فإنّ الراية إنّما تكون للرئيس فهي علامة الرئاسة فيجوز أن يتجوّز بها عنها.

وحينئذ فإمّا المراد بالألف واللام فيها الجنس.

أو المراد رايتنا أي الراية التي نحن تحتها.

أو المراد رايتك أو راية الإسلام.

ويجوز أن لا يكون تجوّز بها عن الرئاسة ، بل أراد بها حقيقتها وحيئنذ فالأولى أن يكون « الألف وآللام » فيها عوضاً عن المضاف إليه ، أي راية الرئاسة ، وإن لم يكن كذلك فالمراد ذلك المعنى.

__________________

١ ـ المائدة : ٤٥.

٢ ـ الرحمن : ٥.

٢٣٣

المعاني :

فيه مسائل :

الأُولى : في إيضاح الخطبة بعد إبهامها ، تعظيم لها وزيادة تعجيب من شأنها ، وتأكيد لوقوعها.

الثانية : في التصريح بالقول أيضاً نوع من الإيضاح بعد الإبهام فإنّ الإتيان بالخطبة يعمّ القول والكتابة والإشارة.

الثالثة : التصريح بقوله له لأنّه لم يكن ما قبله صريحاً في أنّ تلك الخطبة معه أو منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الرابعة : في التعبير ب‍ « لو » إن كان المراد بها « ان » إشارة إلى أنّهم خالفوا وصيته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وادّعوا أنّه لم يوص إلى أحد بعينه وإنّه لم يعلمهم ذلك ، وأنّهم لما كانوا حين السؤال أظمروا الإنكار في أنفسهم فكأنّهم حين السؤال رأوا الاعلام ممتنعاً ، أو إشارة إلى غاية استحقارهم أنفسهم حتى أنّهم كانوا يستبعدون وقوع هذا الإعلام بالنسبة إليهم ، لأنّهم لا يليقون به ، أو إشارة إلى أنّ هذا الإعلام لعسره في الغاية ولذا كان يحجم عنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أتته العزيمة من ربّه وجاءه الوعيد والتهديد كما ستعلم مفصّلاً إن شاء اللّه تعالى ؛ ممّا يليق بأن يحرم بامتناعه ، أو إلى أنّهم استبعدوا ذلك لأنّهم كانوا يطمعون في ذلك لأنفسهم وكانوا بمعزل عنه ، وأيضاً كانوا شديدي الرغبة والطماعية فيه ، ومن كان شديد الرغبة في أمر يستبعد ذلك الأمر لنفسه ، وربما كان بعد حصوله له ينفيه ويستبعده ، لأنّه عظيم لديه جدّاً فيستبعد وقوعه بنفسه أو بالنظر إليه بتخييل أنّه لا يليق به وقد أضمروا في أنفسهم الإنكار إن نصّ على غيرهم ، وحينئذ كان الإعلام وجوده كعدمه ، فكأنّ الإعلام كان ممتنعاً عندهم سواء وصّى إليهم أو إلى غيرهم لكن كلاً باعتبار ، هذا كلّه مع ما في التعبير ب‍ « لو » من التوجيه كما عرفت.

٢٣٤

الخامسة : في العدول عن نحو « أعلمتنا » إلى هذه الجملة الشرطية تأدب ، وعدول عن صورة الأمر إلى التفويض إلى مشيئته واختياره كما يقول العبد : إن أراد المولى فعل بي كذا وكذا.

وإن كانت « لو » للتمنّي أو العرض كان توسيط المشيئة لبعد أصل المطلوب عن حرف التمنّي أو العرض تأدباً وتفويضاً إلى المشيئة.

السّادسة : في الإتيان بالمشيئة ، الإعلام بصيغة الماضي إن لم يكن المراد ب‍ « لو » معناها الحقيقي ، لموافقة لفظه « لو » ، وللدلالة على غاية حرصهم على الوقوع ، حتى كأنّه قد وقع تنزيلاً للحضور الذهني منزلة الوقوع الخارجي وتفألاً.

أو للتحريض على فعله بتخييل أنّ المخاطب قد استجاب لهم وأسعف بمطلوبهم.

أو للمبالغة في إظهار امتناعه بإظهار أنّ الزمان اللاّئق به هو الماضي وقد انتفى فيه.

السابعة : إبهام الغاية والمفزغ للوزن والقافية والتعميم فيهما.

البيان :

« لو » استعارة تبعيّة إن كانت بمعنى « ان » فإنّه شبّه العلاقة التي بين شرطها وجزائها بالعلاقة بين الأمرين المنتفيين المقدّرين ؛ لأحد الوجوه التي علمتها.

وإن كان المراد بالغاية الراية وكان المراد بها الرئاسة كان مجازاً مرسلاً تسمية للشيء باسم علامته وتنزيلاً للدال على الشيء منزلته.

وإن كان المراد بها المدى كان إثباتها لأنفسهم أو للرئاسة استعارة كاستعارة اليد الشمال تشبيهاً لهم ، أو لها بما يكون له مدى وغاية.

ثمّ جملة « قولهم » إمّا إخبار أرادوا به الإنشاء ، أو إنشاء أرادوا به إنشاءً آخر ، وهو إذا كانت « لو » للتمنّي فإنّه إنشاء تمنّي ، وآلمراد إنشاء الطلب.

٢٣٥

[ ١٠ ]

إذا تُوفّيـتَ وفارَقْتَنـا

وفيهمُ في مُلكِ مَنْ يطمَعُ (١)

اللغة :

« إذا » اسم موضوع للزمان المستقبل متضمّنة لمعنى الشرط غالباً إذا لم يكن بمعنى المفاجأة ، وحيئنذ فلا يقع بعدها إلاّ جملة فعلية إمّا مضاف إليها « إذا » ، أو غير مضاف إليها ، بل كما يقع بعد « متى » و « كيف » و « أنّى » وسيأتي الخلاف في ذلك.

وجوّز الأخفش إضافتها إلى الاسمية كما هو ظاهر قوله تعالى : ( إِذا السَّماءُ انْشَقَّتْ ) (٢) ونحوه. وغيره يُقدّر نـحو « السماء » ـ فاعلاً لفعل محذوف مدلول عليه بالمذكور ، كما يقدّر في نحو : ( إنِ امْرؤا هَلَكَ ) (٣) ، ( وآنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ ). (٤)

__________________

١ ـ كان ينبغي أن أردف هذا البيت بما قبله وأشرحهما جميعاً وقد كتبتهما كذلك إلاّ أنّي أُنسِيته في الشرح فضربتُ عليه وأفردتُ شرحه ولا بأس فيه ( منه ).

٢ ـ الانشقاق : ١.

٣ ـ النساء : ١٧٦.

٤ ـ التوبة : ٦.

٢٣٦

وذهب بعضهم إلى حرفيّتها إذا كانت شرطيّة. وقد يخرج عن معنى الشرطية فيكون ظرفاً محضاً كما في قوله تعالى : ( واللّيلِ إِذا يَغْشى ) (١) فإنّه يجب أن يجعل ظرفاً مستقرّاً حالاً عن « اللّيل » أي : أقسم باللّيل كائناً في زمان الغشيان ، ولا يكون من الأحوال المقصود مقارنتها للعامل ، بل بمنزلة الصفات.

أو يكون من الأحوال المقدّرة ، أو متعلّقاً بالعظمة المفهومة من القسم ، لأنّه لا يقسم بشيء إلاّ لعظمة فيه وكأنّه قيل : وعظمة اللّيل إذا يغشى ، كما يقال : عجبت من زيدإذا ركب ، بمعنى : عجبت من عظمة زيد.

وإن جعلت للشرط لزم أن يكون جوابها مدلولاً عليه بما قبلها وهو : أقسم باللّيل ، فيلزم تعليق القسم بزمان الغشيان. وإنشاء القسم لا يقبل التعليق ، وكما في قوله تعالى : ( وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُون ) (٢) ( وَالّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُون ). (٣) إذ لو كان للشرط لزمت القاؤه في الجواب ، وتقديرها لم يثبت في غير الضرورة ، وتقدير الجواب ، أو جعل الضمير توكيداً وما بعده جوابان ضعيفان ظاهران لا حاجة إليهما.

وقد تخرج عن معنى الاستقبال إمّا إلى الماضي كقوله تعالى : ( وَإِذا رأَوا تِجارة أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها ) (٤) وقوله تعالى : ( وَلا عَلَى الّذِينَ إِذا ما أَتَوكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا ) (٥) وآمّا إلى الحال ، على ما قيل في نحو : ( واللّيلِ إِذا يَغْشى ) تمسّكاً بأنّها لو كانت للاستقبال لم يمكن أن يكون ظرفاً للقسم ، لأنّه إنشاء لا إخبار عن قسم يأتي ، ولا أن يكون ظرفاً ، لكون محذوف حالاً

__________________

١ ـ الليل : ١.

٢ ـ الشورى : ٣٧.

٣ ـ الشورى : ٣٩.

٤ ـ الجمعة : ١١.

٥ ـ التوبة : ٩٢.

٢٣٧

عن « الليل » لتنافي الحال والاستقبال ، فلابدّ من أن يكون لأحدهما ، وآلمراد بها الحال.

وذهب جماعة ، منهم الأخفش وابن جنّي إلى أنّها قد تخرج عن الظرفية ، نحو قوله تعالى : ( حَتّى إِذا جاءُوها ) (١) فزعم الأخفش أنّها مجرورة ب‍ « حتّى » أي : حتى وقت مجيئهم إيّاها ، وقوله تعالى : ( إِذا وَقَعتِ الواقِعَةُ ) (٢) فيمن نصب ( خافضة رافعة ) (٣) فقد زعم ابن جنّي أنّ « إذا » الأُولى مبتدأ والثانية خبر والمنصوبين حالان ، وكذا جملة ( لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ ). (٤)

وقيل في نحو : اخطب ما يكون الأمير قائماً ، إنّ التقدير « اخطب ما يكون الأمير إذا كان قائماً » وإذا مع ما بعدها خبر المبتدأ ، والمعنى : اخطب أوقات أكوان الأمير وقت كونه قائماً.

وقيل في قول الخماسي :

وَبَعْدَ غَد ، لَهْفَ نَفْسِي مِنْ غَدٍ

إذا راحَ أصحابي ولَسْتُ برائحِ (٥)

إن إذا بدل من غد.

وزعم ابن مالك فيما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله لعائشة : « إنّي لأعلم إذا كنت عنّي راضية وإذا كنت عليّ غضبى ». (٦) إن إذا مفعول به لأعلم.

وقيل في نحو : ( واللّيل إذا يَغشى ) (٧) ( والقَمَرَِ إِذا اتَّسَق ) (٨) أنّ « إذا »

__________________

١ ـ الزمر : ٧١ و ٧٣.

٢ ـ الواقعة : ١.

٣ ـ الواقعة : ٣.

٤ ـ الواقعة : ٢.

٥ ـ جاء في شرح شواهد المغني : ١ / ٢٧٤ الشاهد ١٢٨ ، أنّه عزاه جماعة إلى هُدْبة بن خَشرم ، وعزاه صاحب الحماسة إلى أبي الطمَحان شرقي بن حنظلة القيني من مخضرمي الجاهلية والاسلام.

٦ ـ النووي : شرح النووي على مسلم : ١٥١ / ٢٠٣ دار احياء التراث العربي ، بيروت ١٣٩٢.

٧ ـ الليل : ١.

٨ ـ الانشقاق : ١٨.

٢٣٨

بدل عن المقسم به ، والمعنى : والمعنى : ووقت الغشيان ووقت الاتّساق.

والجمهور لا يجيزون خروج « إذا » عن الظرفية.

قال نجم الأئمة رضي اللّه عنه : وعن بعضهم أنّ « إذا » الزمانيّة تقع اسماً صريحاً ، في نحو : إذا يقوم زيد إذا يقعد عمرو ، أي وقت قيام زيد وقت قعود عمرو ، وأنا لم أعثر له على شاهد من كلام العرب ، وآمّا قوله تعالى : ( إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ) (١) ف‍ « إذا » الأُولى زمانية ، والثانية للمفاجأة في مكان « الفاء » (٢).

أقول : وهؤلاء يقولون في الآية الأُولى : إنّ « حتى » ابتدائيّة داخلة على جملة مستقلّة ، وفي الآية الثانية : إنّ « إذا » الثانية بدل عن الأُولى والجواب محذوف ، أي انقسمتم أقساماً وكنتم أزواجاً ثلاثة.

وفي المثال أنّ « إذا » ظرف مستقر خبر للمبتدأ ، إذ لا دليل على تقدير الزمان المضاف إلى ما يكون ، وفي البيت أنّها ظرف ل‍ « لهف » ، وفي الخبر أنّها ظرف لمحذوف مفعول اعلم ، أي اعلم شأنك.

« توفّيت » : فعل مبني للمفعول من وفاه حقه وأوفاه ، أي أعطاه كاملاً.

توفّاه واستوفاه توفّاه اللّه ، أي قبض روحه فكأنّه كان حقّاً له تعالى فاستوفاه ، يقال للميت : « المتوفّـى » اسم مفعول لا « المتوفي » اسم فاعل ، ويجوز أن يقال له « المتوفي » إذا أُريد أنّه استوفى أجله أو حظه من الدنيا فبهذا الاعتبار يجوز أن يكون « توفيت » في البيت مبنيّاً للفاعل.

« التاء » المفتوحة : ضمير متّصل موضوع للمخاطب الواحد وآنّما فُتحت ،

__________________

١ ـ الروم : ٢٥.

٢ ـ شرح الرضي على الكافية : ٣ / ١٩٣.

٢٣٩

فرقاً بينها وبين « تاء » المتكلّم و « تاء » خطاب المؤنث ، وإنّما لم تكسر وتفتح تاء خطاب المؤنث; لأنّ خطاب المذكر أكثر فناسب التخفيف ؛ ولأنّ الأصل في الألفاظ الموضوعة على حرف واحد أن تكون مفتوحة كما عرفت والمذكر أصل فأُعطي الأصل ، وإنّما أُعطي الضم تاء المتكلّم ؛ لأنّه لمّا كان اعرف المضمرات ، أُريد أن يجعل له نوع من شبه استقلال فجرت خفته بأن ضمّت ، فإنّ الضمّة حركة ثقيلة تقوم مقام حرف آخر.

« الواو » إمّا للعطف ، أو لحال.

« المفارقة » : انفصال أحد الشيئين عن الآخر ، من الفرق بمعنى الفصل.

« الواو » للحال.

« الألف واللام » للجنس.

« الملك » هو التصرّف بالأمر والنهي في الجمهور ، وذلك يختصّ بسياسة الناطقين ، ولذا يقال ( مَلِكِ النّاس ) (١) ولا يقال : ملك الأشياء ، أو : ملك الدوابّ ، أو نحو ذلك.

قال الرّاغب : والملك ضربان : ملك هو التملّك والتولّي ، وملك هو القوّة على ذلك تولّى أو لم يتولّ.

فمن الأوّل قوله تعالى : ( إِنَّ المُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها ). (٢)

ومن الثاني قوله تعالى : ( إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً ) (٣) فجعل النبوّة مخصوصة ؛ والملك فيهم عامّاً فإنّ معنى الملك هيهنا هو القوة التي بها

__________________

١ ـ الناس : ٢.

٢ ـ النمل : ٣٤.

٣ ـ المائدة : ٢٠.

٢٤٠