اللآلي العبقريّة في شرح العينيّة الحميريّة

محمّد بهاء الدين الاصبهاني

اللآلي العبقريّة في شرح العينيّة الحميريّة

المؤلف:

محمّد بهاء الدين الاصبهاني


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-96-7
الصفحات: ٦٠٠

حالاً بمعنى اسم الفاعل ، أو للمبالغة.

« كان » اسمه « كبدي » وخبره « تلذع » ، والظرف الأوّل أعني « بالنّار » متعلّق بتلذع ، أي : كان كبدي تلذع بالنار.

ويحتمل أن يكون « بالنار » خبره ، و « كبدي » اسمه ، والباء بمعنى « في » و « تلذع » حالاً عن الاسم أو خبراً بعد خبر ، والظرف الثاني أعني « لما » على التقديرين متعلّق بما يفهم من « كأنّ » من معنى المشابهة.

وقد اختلف في تعلّق الظرف بأحرف المعاني ، فالمشهور منعه مطلقاً ، وقيل بجوازه مطلقاً ، وقيل : إن كان نائباً عن فعل حذف جاز على سبيل النيابة وإلاّ فلا ، وهو الذي اختاره أبو علي وأبو الفتح وقالا : إنّ اللاّم في « يا لزيد » متعلّقة ب‍ « يا ».

والمجوزون مطلقاً قالوا في قول كعب :

وما سُعادُ غَداةَ البَينِ إذ رَحَلُوا

إلاّ أغَنُّ غَضيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ (١)

إنّ الظّرف أعني « إذ » متعلّق ب‍ « ما » النافية.

وقال ابن الحاجب : إنّ « اليوم » في قوله : ( وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ اليَوْمَ ) (٢) إمّا متعلّق بالنفع المنفي ، أو بلن ، لما فيه من معنى انتفى.

وقال في قوله تعالى : ( ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون ) (٣) : إنّ « الباء » الأُولى متعلّقة بالنفي.

__________________

١ ـ البيت لكعب بن زهير بن أبي سلمى المزني ، من قصيدته المعروفة ب‍ « قصيدة البردة » التي يمدح بها النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي مطلعها :

بانت سُعادُ فقلبي اليوم متبولُ

متيم إثرها لم يُفْدَ مَكْبُولُ

٢ ـ الزخرف : ٣٩.

٣ ـ القلم : ٢.

٢٠١

وممّا يدلّ على جواز التعلّق بحرف المعنى خصوصاً :

كَأَنَّ قُلُوب َالطَّيْرِ رَطْباً ويابِساً

لَدَى وَكْرَها العُنّابُ والحَشَفُ البالي (١)

فإنّ « كأنّ » هنا قد عمل في الحال والظرف جميعاً وإذا عمل في الحال فبالطريق الأولى يجوز عمله في الظرف.

وأمّا المانعون من التعلّق بالحرف فيقدّرون في أمثال ما ذكر فعلاً مناسباً لمعنى ذلك الحرف يتعلّق به الظرف ، فعلى قولهم يكون الظرف هنا متعلّقاً بأشبه أو شبهت مقدّراً.

و « ما » إمّا موصولة اسمية أو موصوفة.

و « شَفَّنِي » صلة أو صفة.

و « من » في « من حب أروى » : للبيان أو التبعيض ، والظرف مستقر حال عن الضمير في « شفّ » أو عن « ما » أو صفة أُخرى ل‍ « ما » ، وإمّا موصولة حرفية و « من » زائدة ، فيكون مجرورها فاعل « شفّ ».

أو للتبعيض ، ويجوز جعلها مع مجرورها فاعلاً لكونها بمنزلة « بعض » كما وقع مفعولاً في قوله تعالى : ( حتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّون ) (٢) ، أو تقدّر له موصوفاً أي شيء من حبّ أروى كما تقدّر في الآية مثل ذلك.

ومجموع البيت إمّا مستأنف أو خبر « ليت » كما عرفت ، أو خبر آخر له إن كان « والقلب شج موجع » خبراً له ، أو حال أُخرى إن كان ذلك حالاً.

__________________

١ ـ من قصيدة لامرئ القيس بن حجر الكندي مطلعها : « الاعم صباحاً ايها الطلل البالي » ( ديوانه : ص ٣٣ ).

٢ ـ آل عمران : ٩٢.

٢٠٢

المعنى :

لمّا جعلت إبلي البيض التي يخالط بياضها شقرة واقعة في رسم تلك الدار أو في جنب رسمها ، والحال أنّ عيني ، أو عين العيس ، أو عيني وعينها جميعاً ، تدمع لعرفان ذلك الرسم ، أخطرت ببالي ، الذي ـ أو شخصاً ـ كنت ألعب أو أشتغل به عن غيره ، أو ألعب بسببه أو استعانته ، أي كان لي بسببه ، سرور وفرح ونشاط حتى كنت ألعب معه وبعد أن تذكّرته وبسببه ، أو بسببه ، أو بعد أن تذكّرته بتُّ أو وبتُّ والحال أنّ قلبي حزين مؤلم ، أو أنّ قلبي من الحزن مؤلم ، أو حال كونه حزيناً مؤلم ، أو صرت حزين القلب مؤلم ، أو مؤلم القلب من الحزن ، أو مؤلم القلب حال كونه حزيناً في الليل بتمامه كأنّ كبدي يحرق في النار ، أو كأنَّ كبدي في النار ويحرق ، أو حال كونها تحرق ، أو صرت والحال أنّ قلبي كذا كان كبدي كذا ، أو صرت قلبي كذا كأنّ كبدي كذا.

أوبتّ والحال أنّ قلبي كذا والحال أنّ كبدي كذا وإنّما صار كبدي كأنّه كذا للّذي أو لشيء أذابني أو أحرقني كائناً أو كائن ذلك حب أروى ، أي الحبيبة التي اسمها « أروى ».

أو جماعة من إناث الوعول أي النساء اللاتي يشبهن الوعول في العيون أو في التوحّش أو في عسر الوصول إليها ، لأنّ الوعول في الغالب في قلل الجبال الوعرة المسالك أو يشبهنها في الجميع ، أو كائناً أو كائن ذلك بعض حب أروى.

أو لأنّه شفّني حبّ أروى أو بعض منه ، للذي أو لشيء أحزنني وأذابني من أجل حبّ أروى ، وذلك الشيء هو الفراق أو الحزن.

هذا وإن كان أراد بالدار الرئاسة والخلافة ، فمراده توقّف العيس في رسمها ، وعرفانه الاهتداء إليها والاطّلاع على علاماتها والاستدلال بها عليها ، أو

٢٠٣

الإيمان بها لمن هو أهله والإقامة على ذلك ، ومعرفة أربابها على أن يكون وقف العيس مجازاً على الإقامة ، كحط الرحل وإلقاء العصا والإقامة مجازاً عن الإيمان الثّابت بأهلها.

ويحتمل أن يريد بالعيس مطايا العزم وإثبات المطايا للعزم كإثبات اليد للشمال في قوله : « إذْ أصْبَحَتْ بِيَدِ الشِّمالِ زِمامُها » (١) ، وتخصيص العيس لكونها كرام المطايا.

ويحتمل أن يريد بها نفسه وقواه وجوارحه وكنّى به عن أنّ الإيمان قد انثبت في جميع ذلك وشبّهها بالمطايا لأنّها محامل الأفعال والأخلاق ، وخصّ العيس تنبيهاً على تبرّئها عن شوب مواد الكفر وآلنفاق والشكّ والارتياب ، ولما تضمّن لفظ العيس مخالطة الشقرة تضمّن التنبيه على أنّها لارتكابها المعاصي ليست خالصة البياض بل فيها كدرة ، ثمّ في التعبير عن إيمانه بالجملة الفعلية المقرونة ب‍ « لما » إيماء إلى أنّه تجدّد إيمانه بعد أن لم يكن.

والأمر كذلك لما عرفت من أنّه كان كيسانياً وحيئنذ فيحتمل أن يكون بكاؤه على زلّته السابقة ومضى ما مضى من عمره في عدم الإيمان ، أي والعين لما عرفت الحق تدمع تأسّفاً وتحسّراً على ما فاته من معرفته فيما مضى.

ومراده بمن كان يلهو به : إمّا أئمّة الحقّ إن كان المراد أنّه كان يشتغل به عن غيره أو يسرّ ويبتهج بسببه أو استعانته أو في صحبته.

وإمّا أئمّة الكيسانية ورؤساؤهم ، أو محمد ابن الحنفيّة رضي اللّه عنه إن كان المراد أحد تلك المعاني ، أو أنّه كان يلعب به فإنّ اعتقاد الإمامة بغير أئمّة الهدى

__________________

١ ـ عجزُ بيت ، للبيد بن أبي ربيعة ، أحد أصحاب المعلقات ، والبيت بكامله :

وغداة ريح قد وزعت وقرة

إذ أصبحت بيد الشمال زمامها

كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي : ٨ / ١٠١ ، عن ديوانه : ٣١٥.

٢٠٤

صلوات عليهم ـ وإن كان محمد ابن الحنفيّة وأضرابه ـ فهو مثل اللّعب.

وحينئذ فحزنه على الأوّل لفقد من كان يلهو به.

وعلى الثاني لارتكابه ذلك الأمر ومضى شطر من عمره على ذلك الدِّين.

ومراده ب‍ « أروى » : من كان يحبّه من أئمّة الدِّين ورؤسائه لأنّهم عنده بمنزلة أروى عند عشاقها.

ولا بُعد في التعبير بها عن الأئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم أيضاً كما عرفت في « أُمّ عمرو » إذ لم يلاحظ المعنى العلمي ولا الوضعي وإنّما الوصف الذي اشتهر به المسمّى من المعشوقية كما يقال : حاتم ، ولا يلاحظ إلاّ معنى الجود.

ويحتمل أن يكون مراده بها الرئاسة ؛ والتعبير بها لكونها معشوقة لأهل الدُّنيا ، ولكونها حسنة المنظر كالأروى ، ولتوحّشها عن الأكثر وعسر الوصول إليها ، ولرفعتها في الرتبة.

ومراده بحبّها حبّها لأهلها الذين هم الأئمة صلوات اللّه عليهم ، أو ما كان عليه أوّلاً من حبّها لغير أهلها.

فعلى الأوّل كان كبده يحرق بالنار لما يراها عند غير أهلها من أئمّة الجور.

وعلى الثاني كان كبده يحرق بالنار تأسّفاً على ما مضى شطر من عمره على حبّها لغير أهلها.

المعاني :

فيه مسائل :

الأُولى : في الإتيان ب‍ « لمّا » دلالة على عدم انفصال ذكر من كان يلهو به عن الوقف.

فإنّها إمّا حرف وجود لوجود فيدلّ على أنّ الأوّل علّته الثّاني والمعلول

٢٠٥

ينفكّ عن علّته.

وإمّا ظرف فيدلّ على أنّ الثاني موجود في زمان الأوّل فهو أصرح في عدم التراخي من الأوّل.

الثانية : الإتيان بالجملة فعلية للدلالة على التجدد والمضي ولمقارنة « لمّا » فإنّها لا تدخل إلاّ على الماضي.

الثالثة : إيقاع الوقوف على العيس والعدول عن نسبته إلى نفسه إن كان المراد به الإيمان أدلّ على ثبوت إيمانه ، فإنّه كإلقاء الرحل أدلّ على الإقامة كما لا يخفى ، وأمّا على باقي المعاني فلابدّ من ذلك لتوقّف إفادة المراد عليه.

الرابعة : تعريف العيس لترتبه الفائدة ، ولأنّ الكناية به عن الإقامة والثبات إنّما هي معه ، لأنّ المتعارف في إفادة ذلك المعنى حطّ رحله فكذا مثله وقف عيس لا وقف عيسا.

الخامسة : في العدول عن تعريف العين بالإضافة إلى تعريفها باللاّم التوجيه والإبهام ، لإيهام أنّ مطلق العين أي ماهيتها أو كلّ عين تدمع ، والتحقير لنفسه بعدم ذكره.

السادسة : في إفراد العين التوجيه ، لأنّه لو لم يفرد فإمّا أن كان يثنّيها فيخص نفسه ، أو يجمعها فيعمّ البتة. والدلالة على كثرة البكاء واتّصال الدموع واتّحادها حتى كأنّها من عين واحدة والإبهام لإيهام أنّ ماهية العين تدمع.

السابعة : تقديم الظرف أعني « من عرفانه » على الفعل لرعاية الوزن والقافية وإفادة الحصر وتقريب الضمير من مرجعه.

الثامنة : الإتيان بهذه الحالة جملة ، لكونها الأصل فيها ، وللتّوجيه وللدلالة

٢٠٦

على الاستمرار التجددي وللإبهام في العين إذ لو أفرد لقال : دامع العين أو دامعة عيني أو عيننا أو عينها ، وعلى كلّ لا يكون العين مبهم.

التاسعة : في التعبير عمّن كان يلهو به بلفظ « من » للإبهام ـ للتعظيم أو للتحقير ـ إن أراد به رؤساء الكيسانية ، أو الدلالة على أنّه لمعلوميته لا يحتاج إلى البيان ، أو الاستعفاف عن ذكره إن كان امرأة ، وللاختصار وللتوجيه لتردّد « من » بين الموصولة والموصوفة.

العاشرة : التعبير عن لهوه به بالمضارع مع توسيط كنت الدالّة على الماضي للدلالة على الاستمرار في الزمن الماضي.

الحادية عشرة : في الإتيان ب‍ « قد » من الفوائد ما عرفت.

الثانية عشرة : إبهام القلب للتحقير ، والإبهام المذكور في إبهام العين.

الثالثة عشرة : جملية هذه الحال لكونها الأصل هنا ، ولرعاية القافية ، وليكون صريحاً في الحالية إن لم يجوّز زيادة الواو ، فإنّه لو أفردها كان محتملاً للخبرية ، وإن جوّزنا زيادة الواو فلتكون الحالية أظهر ، وللإبهام في القلب إذ لو قال شجى القلب أو شجياً قلبي ، لم يبق إبهام.

الرابعة عشرة : اسميتها للدلالة على الثبات.

الخامسة عشرة : تأخير هذه الصّفة للدار إن كان جملة ل‍ « ما » وجمليتها صفة لطولها بالنسبة إلى الأوّل لا سيّما إذا كان البيت الأخير خبراً ل‍ « بيت » أو حالاً أُخرى لفاعله ، ولأنّ الأولى وصف لها باعتبار نفسها ، والثانية وصف لها باعتبار ملابسته بينها وبين وردها.

السّادسة عشرة : تقديم « بالنّار » على متعلّقه للقافية والوزن والتوجيه والحصر

٢٠٧

والتعجيب ، وتقديمه على اسم كان ـ إن كان خبراً له ـ للحصر والتعجيب ، وإلاّ فللتعجيب ، وتقديمه على الظرف الثاني أعني : لما شفّني للتعجيب ، وأمّا « لما شفَّني » فمحلّه إمّا قبل ذكر شيء ممّا في حيز « كأنّ » أو بعد تمام الكلّ ، فإنّه كما عرفت متعلّق إمّا ب‍ « كأنّ » أو بما يفهم منه من الفعل.

السابعة عشرة : جعل المجرور في « لمّا شفّني » موصولاً للإبهام إمّا مقروناً بالإيضاح بعده إن كان « من » في « من حبّ أروى » بيانيّة ، أو تبعيضيّة ، أو لا إن كانت تعليلية للتعظيم والدلالة ، على أنّه من العظم بحيث لا يكتنه كقوله تعالى : ( فَغَشِيَهُمْ مِنَ اليَمِّ ما غَشِيَهُمْ ) (١) إن لم يكن ما بعده إيضاحاً ، وإلاّ فالتعظيم من جهة أنّه للاهتمام بشأنه أورده مرّتين : مبهماً مرّة ، وموضّحاً أُخرى ليتمكّن في ذهن السامع فضل تمكّن من جهتين : إحداهما ذكره مرّتين ، والأُخرى وقوع إيضاحه بعد التشوّق إليه. ولذكره مرّتين وجه آخر وهو الالتذاذ بذكره.

الثامنة عشرة : في الإتيان ب‍ « من » التبعيضيّة في « من حبّ أروى » إن كانت تبعيضيّة ، إشارة إلى أنّ ما أصاب ، حصة من حبّها فإنّ المحبّ لها ليس منحصراً فيه. وأمّا إن كانت زائدة ففائدتها التأكيد.

البيان :

إن لم يحمل وقف العيس على حقيقته كان إمّا تمثيلاً ، أو كان العيس استعارة مصرّحة والوقف ترشيحاً لها.

وإن أراد بمن كان يلهو به رؤساء الكيسانية كان « ألهو » استعارة تبعته ، فإنّه شبّه أتباعهم باللّعب بهم. والاستعارة في الفعل تسمّى تبعيّة لأنّها تابعة للاستعارة

__________________

١ ـ طه : ٧٨.

٢٠٨

في الحدث ، وأروى إن لم يكن علماً كان استعارة.

وإسناد « شف » إلى ضمير الموصول مجازي سواء أُريد بالشف الإذابة أو الاحزان فإنّ الحبّ إنّما هو سبب للحزن الذي هو سبب التحول ، وهو من الأحكام المجازية التي ذهب الشيخ الإمام عبد القاهر إلى أنّه لا حقيقة لها ، نحو : اقدمني بلدك حق لي على فلان ، لأنّ الموجود إنّما هو القدوم ، وأمّا الإقدام فهو أمر توهّم المتكلّم فلا فاعل حقيقيّاً له ، لأنّه بنفسه لا حقيقة له ليكون له فاعل حقيقة. ويمكن أن لا يكون من ذلك القبيل ويكون الحقيقة فيه شفّني اللّه لحبّ أروى.

البيت الأخير تشبيه إمّا للنحول والذوبان الذي حصل له بالحزن للحب بالذوبان بالنار ، أو للوجع وآلألم الحاصل بالحزن للحبّ بالوجع للاحتراق بالنار ، فالأوّل إن كان المراد بالشف الإذابة ، والثاني إن كان المراد به الأحزان. ووجه الشبه هو الشدّة. ويحتمل على الأوّل أن يكون السرعة وأن يكون الإيجاع والإيلام.

لمّا فرغ من ذكر الحبيب والدار والمنزل ، والتأسّف على إقفار المنزل ، وبيان ما طراه ، للتذكّر من الحزن والتوجّع شرع في المقصود واقتضبه اقتضاباً كما هو دأب القدماء. فقال :

٢٠٩

[ ٨ ]

عجبتُ مِن قوم أتَوا أحمدا

بخطبـةٍ ليس لهَا موضِـعُ

اللّغة :

« العجب » بالفتح وبفتحتين ، والتعجّب : انفعال للنّفس من إدراك الأشياء النادرة الخفيّة الأسباب ، أو كيفيّة تابعة لذلك الانفعال ، وفي القاموس أنّه إنكار ما يرد عليك.

ثمّ لمّا كان المتعجّب منه ممّا يعظم في نفس المتعجّب ورد في الخبر : عجب ربّك من قوم يساقون إلى الجنة في السلاسل (١) ، أي عظم عنده ، وفيه أيضاً : عجب ربّك من شاب ليست له صبوة. (٢)

« من » للابتداء ، أي ابتداء عجبي ، ونشأ من قوم.

« القوم » ، اختلف فيه أهل اللغة فقيل : هو الجماعة من الرجال والنساء أو منهما.

وقيل : بل هو الجماعة من الرجال خاصّة ، وهو المتصوّر ، لقوله تعالى : ( لا يَسْخَرْقَومٌ مِنْ قَوْم ... ولا نِساءٌ مِنْ نِساء ) (٣) ولقوله :

__________________

١ و ٢ ـ ابن الأثير : النهاية في غريب الحديث : ٣ / ١٨٣.

٣ ـ الحجرات : ١١ ، والآية : ( ... لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوم عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساء ... ).

٢١٠

وَ ما أَدْرِي وَسَوْفَ إِخالُ أدري

أقومٌ آلُ حِصْن أَمْ نِساءُ (١)

وهو في الأصل مصدر ، وصف به ثمّ غلب على الرجال لقيامهم بأمور النساء ، كما قال سبحانه : ( الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساء ). (٢)

« أتيته » إتياً وإتياناً وإتيانة وإتياً ، كعنى ـ بضمّ العين أو كسرها ـ : جئته بسهولة ، ومنه : تأتّى له الأمر ، إذا تسهّل وتهيّأ له ، وأتيت الماء تأتيه وتأتياً : إذا سهّلت طريقه.

وواتيته مواتاة إذا وافقته ، ثمّ اتّسع فاستعمل في مطلق المجيئ ، وجاء أتوته أتوه بمعناه ، قال الرّاجز :

يا قَوْمِ ما لي وأباذُؤَيبِ

كُنْتُ إذا أتوته مِنْ غَيْبِ

يَشَمُّ عطفي ويَبَزُّ ثوبي

كَأَنَّني أَرَبْتُهُ بُريْبِ (٣)

« الواو » هنا ضمير جمع المذكر العاقل ، وذهب المازني إلى أنّها علامة الجمع كما « التاء » علامة التأنيث ، وإنّ الضمير مستكن كاستكنانه في : زيد قام ، وهند قامت ، وكما يقوله الجمهور في نحو : قاما أخواك ، وقاموا أخويك ، وقمن الهندات.

ومن النّحاة من قال : إنّ بعض العرب يقول في الجمع : الزيدون قام ـ بضمّ الميم ـ فيكتفى به عن « الواو » ، والتزموا في الكتابة أن يريدوا بعد « واو » الجمع المتطرّفة في الفعل : « ألفاً » ، فرقاً بينها وبين « واو » يكون لام الفعل ، وبينها وبين واو

__________________

١ ـ البيت من قصيدة للشاعر زهير بن ربيعة ، الملقّب بأبي سلمى ، مطلعها :

عفا من آل فاطمة الجواءُ

فَيَمْنٌ فالقوادِمُ فالحِساءُ

( شرح ديوان زهير : ص ٩٧ ، وديوانه : ص ٧ ).

٢ ـ النساء : ٣٤.

٣ ـ ذكره الخليل في كتاب العين : ٨ / ١٤٥ ، وفي هامشه نسب البيتان ل‍ « خالد بن زهير الهذلي » كما في لسان العرب أيضاً : ١ / ٤٤٢ ، وذكره ابن جرير الطبري في جامع البيان : ١٢ / ٨٣.

٢١١

العطف في نحو : إن عبروا ضربتهم ، بخلاف ما إذا لم تكن متطرفة ولذا كتبوا نحو : ضربوهم ، بلا ألف إذا كان هم مفعولاً ، وبالألف إذا كان تأكيداً.

وأمّا واو الجمع اللاحقة للأسماء نحو : شاربو الماء ، فالأكثرون لا يكتبون بعدها « ألفاً » لقلّة استعمالها بالنسبة إلى المتّصلة بالفعل ، فلم يبال بالالتباس بها.

ومنهم من لا يكتب الألف في اسم ولا فعل.

« أحمد » من أعلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي نصّ عليها في القرآن المجيد (١) ، وهو منقول من « أفعل » الذي هو اسم تفضيل من الفعل المجهول ، أي أكثر محموديّة لكثرة خصاله الحميدة ، أو المعلوم أي أكثر حمداً للّه سبحانه ، أو بمعنى اكسب للحمد ، لكثرة خصاله المحمودة كما يقال في قولهم : العود أحمد (٢) ، أنّه بمعنى اكسب للحمد.

و « الألف » التي بعده لإشباع الفتحة.

« الباء » إمّا للتعدية ، أو المصاحبة ، أو السببية.

« الخطبة » ـ بالضم وبالكسر ـ من الخطب والمخاطبة والتخاطب بمعنى المراجعة في الكلام ، إلاّ أنّ المضمومة اختصّت بالكلام المتضمّن وعظاً وإبلاغاً ، والمكسورة بما تضمّن طلب نكاح امرأة وأصلها الحالة التي عليها الخاطب حين يخطب ، كالحلة والعقدة. ويقال من المضمومة : خاطب وخطيب ، ومن المكسورة : خاطب لا غير ، وقد اتّسع فيهما فاستعملت المضمومة في كلّ كلام كما ورد في الخبر :

__________________

١ ـ في الآية الشريفة ، من سورة الصف : ٦ ( وَإذْ قالَ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إسرائِيلَ إنّي رسُولُ اللّهِ إلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَينَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُول يَأتي مِنْ بَعْدىِ اسْمُهُ أَحْمَد ... ).

٢ ـ في الدرّ المنثور للسيوطي : ٥ / ١٥ في حديث ... فأتاهم أبوبكر فقال : هل لكم في العود ، فإنّ العود أحمد. وذكره الشوكاني في : فتح القدير : ٤ / ٢١٦.

٢١٢

أنّ أعرابياً جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول اللّه علّمني عملاً يدخلني الجنّة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لئن كنت أقصرت الخطبة ، لقد أعرضت المسألة (١).

والأكثر استعمالها في الكلام الطويل ، لأنّ الخطب في الأغلب طوال واستعملت المكسورة في طلب كلّ شيء ، يقال : فلان يخطب عمل كذا أي يطلبه.

« ليس » عند الجمهور : فعل ناقص أصله « لَيِسَ » كَهَيِبَ فَخفّف ، كما قيل : علم في علم ، وصيّد في صيّد ، ولا يجوز أن يكون مضموم الياء في الأصل ، فإنّ الأجوف اليائي لم يجئ مضموم العين ؛ ولا أن يكون مفتوحها لأنّ الفتحة لا تسكن فلا يقال في ضرب ضرب ، وإنّما لم يقلب ياؤه ألفاً مع تحرّكها وانفتاح ما قبلها للدلالة على مفارقته لأخواته ، لعدم تصرفه.

وعن أبي علي في أحد قوليه : إنّه حرف (٢) ، بدليل أنّه لو كان فعلاً لكانت الياء منه متحرّكة في الأصل ، ولو كانت كذلك لعادت إلى حركتها عند اتّصال الضمير به كما يقال : صيدت. أو حذفت مع كسر الفاء ك‍ « هبت » ، قال : وأمّا اتصال الضمير به فلتشبّهه بالفعل لكونه على ثلاثة أحرف ، وكونه بمعنى « ما كان » ، وكونه رافعاً ناصباً.

والجمهور استدلّوا على فعليّته باتّصال الضمائر ، وأجابوا عن دليل أبي علي بأنّ ذلك لمفارقته أخواته في عدم التصرّف.

وعن الكوفيين والبغداديّين أنّه قد يكون حرف عطف يقال : ضربت عبد اللّه ليس زيداً ، وقال عبد اللّه ليس زيد ، ومررتُ بعبد اللّه ليس بزيد ، ولا يجوّزون نحو : إنّ زيداً ليس عمراً قائم ، لأنّهم يقدّرون العامل بعد المعطوف فيصير التقدير :

__________________

١ ـ تفسير القرطبي : ٨ / ١٨٣ ، الطبرسي : تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٣٦٥.

٢ ـ شرح ابن عقيل : ١ / ٢٦٢ ، و « أبو علي » هو « الفارسي ».

٢١٣

إنّ زيداً ليس عمراً ان قائم ، وأن لا يعمل فيما قبلها. وأجازوا ، نحو : ظننت زيداً ليس عمراً قائماً ، فإنّ « ظنّ » يعمل فيما قبله.

وأمّا غيرهم فإن وقع مثل هذه الأمثلة قدّروا ل‍ « ليس » اسماً أو خبراً. وأوّل بعضهم كلام الكوفيين بمثل ذلك وجعل قولهم : إنّه حرف ، بمعنى أنّه جرى مجرى الحرف.

ومن المعربين من ذهب إلى أنّه في باب الاستثناء حرف بمعنى « إلاّ ».

ثمّ إنّ معنى « ليس » عند سيبويه النفي مطلقاً ، تقول في الماضي : ليس خلق اللّه مثله ، وقال عزّ قائلاً : ( أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ) (١) في المستقبل ومنهم من جوّز المستقبل فقط.

وعند الجمهور أنّه للنفي في الحال. وذهب أبو علي إلى أنّه إن لم يقيّد بزمان فهو لنفي الحال وإلاّ فيجب القيد ، واختاره أبوحيان ونجم الأئمة رضي اللّه عنه.

وادّعى الأندلسي أنّه لا نزاع بين القبيلين فإنّ الأوّلين إنّما يعممونه بحسب القيود والآخرين يخصّصونه بالحال إذا لم يكن قيد ، فهم متّفقون على أنّه مع عدم القيد يحمل على الحال ومع القيد يكون بحسبه.

« اللام » للاستحقاق.

« الموضع » ـ بكسر الضاد ـ : اسم مكان أو زمان من وضعه يضعه بفتح الضاد فيهما ، وضعاً وموضعاً بكسر الضّاد وموضوعاً أي حطه ، وقد يفتح ضاد الموضع : اسم مكان وزمان ومصدر ، أو الأكثر على كسر مفعل مصدراً ، أو اسم مكان أو زمان من المثال الواوي.

وإن كان مضارعه على يفعل بالفتح قال سيبويه : إنّما قال الأكثرون

__________________

١ ـ هود : ٨.

٢١٤

« موجل » بالكسر ، لأنّهم ربّما غيّروه في توجل ويوجل فقالوا : ييجل ويأجل ، فلمّا أعلوه بالقلب شبّهوه بواو « يوعد » المعلّ بالحذف ، فكما قالوا هناك : موعد ـ بالكسر ـ ، قالوا هيهنا : موجل (١).

والمراد به هنا إمّا الزّمان أو المكان حقيقة أو الأمر الداعي إلى المتكلّم فإنّ الأمر الدّاعي قد يشبه عند أهل المعاني بالزمان فيسمّى الحال ، وقد يشبّه بالمكان فيسمّى بالمقام.

الأعراب :

المراد بالتعجّب من القوم التعجب من حالهم وصنيعهم إمّا تقديراً أو عناية من مجرّد لفظ القوم ، أو من وصفهم بما بعدهم على أن يكون المقصود بالإثبات هو القيد ، كما يكون المقصود بالنفي في الأكثر القيد فكأنّه قال : عجبت من قوم كذا ، من حيث إنّهم كذا ما بعد قوم ، من قوله « أتوا » إلى ما سيأتي من قوله تبّاً لما كان به أزمعوا ؛ صفة لهم.

و « الباء » في « بخطبة » إن كانت للتعدية فمدخولها مفعول « أتوا ».

وإن كانت للسببيّة كانت متعلّقة به.

وإن كانت للمصاحبة كان الظرف مستقراً حالاً مع عامله المقدّر عن فاعله ، وما بعد خطبة صفة لها.

والبيت مستأنف إمّا خبر ، أو إنشاء للتعجّب.

المعنى : حصل لي العجب ، أي الكيفيّة المخصوصة أو الانفعال المخصوص من صنيع ، أو حال قوم جاءوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكلام أو بطلب ليس له

__________________

١ ـ شرح شافية ابن الحاجب لرضي الدين الاسترابادي : ١ / ١٧٠. دارالكتب العلمية ، بيروت ١٣٩٥ هـ.

٢١٥

موضع ، أوجاءُوه بسبب كلام أو طلب ، أو مصحوبين بكلام أو طلب ، أو عجبت من قوم فعلوا كذا من جهة أنّهم فعلوا كذا لكون هذا الصنيع منهم أمراً نادراً خفي السّبب ، أو أنكرتُ منهم هذا الصّنيع ، أو عظم عندي لغرابته جدّاً وإنّما لم يكن له موضع لأنّه كان معلوماً من حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين صلوات اللّه عليه ومن الآيات النازلة في شأنه ومن الأقاويل النبويّة في حقّه : أنّه الخليفة بعده ، وإن كان المراد بالموضع الداعي فالمراد نفي الداعي : الحق ، فإنّ الداعي إلى هذا السؤال إنّما كان رجاء أن ينصّ على أحد منهم أو يفوّض الأمر إليهم.

المعاني :

فيه مسائل :

الأُولى : الإتيان بالجملة الفعلية للإيجاز وللدلالة على التجدّد ، ولكونها أقرب إلى الإنشاء من الاسمية ، وذلك لتقاربهما من جهة أنّ مضمونها متجدّد حادث بعد أن لم يكن ، كما في مضمون الإنشاء ، وللتصريح بالزمان المقصود مع الاختصار.

الثانية : تنكير قوم لتحقيرهم بإيهام أنّهم لحقارتهم لا يعرفون ولا يعهدون ، وللدلالة على نكارتهم ، لنكارة صنيعهم كأنّهم لمّا صنعوا ما نُكر ولا يعرف ، فكأنّهم ينكرون ولا يعرفون ، وليتعيّن وصفهم بالنكرة ، إذ لو عرفهم ، لوصفهم بالموصول وصلته ؛ والأصل في الصلة أن تكون معلومة للمخاطب ؛ والأصل في الصفة أن تكون مجهولة له ، ولذا قيل : إنّ الأوصاف بعد العلم بها صلات ، والصلات قبل العلم بها صفات ، فأراد أن يدلّ على أنّ هذا الفعل الشنيع الغريب العجيب ليس ممّا يعرفه المخاطب فإنّه من الغرابة بحيث ينكره العقلاء ، فنكر القوم ليقع صفته نكرة فيفيد هذه الفائدة.

٢١٦

الثالثة : في الإتيان بلفظ « أتوا » الدالّ على المجيئ بسهولة ، دلالة على أنّهم إنّما طلبوا النصّ على الخليفة بأنفسهم من غير إجبار ولا إكراه ، وعلى أنّهم كانوا يتمكّنون من استفسار المطالب الدينية بسهولة ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يمنعهم عن ذلك بوجه فيكون أدخل في ذمهم ، فإنّهم إمّا أن استفسروا واستعلموا الوصي واستيقنوه ثمّ أنكروه ، أو لم يبالغوا في استعلامه.

وعلى كلّ تقدير فهم المفرطون الغاصبون.

الرابعة : التصريح باسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتبرّك والاستلذاذ. والتصريح باسم المختصّ به لئلاّ يبقى اشتباه وتردد فإنّه مقام التسجيل عليهم بعصيانهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولتعظيم عصيانهم فإنّهم عصوا مثل أحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يقال : أمير المؤمنين يأمرك بكذا ، وللكناية باسمه الشريف على أنّه أحمد الخلائق خصالاً وفعالاً ، فلم يكن من شأنه أن يبهم عليهم أمر الخليفة ، أو ينصّ عليه لهم بما يبقى لهم فيه شكّ وارتياب ، أو ينصّ على من لم يؤمن بالنص عليه من اللّه سبحانه ويتبع في ذلك هواه ، أو تكلم به على لسانهم تنبيهاً على أنّهم لم يكونوا مؤمنين بنبوّته ليدعوه بالنبي أو الرسول وآن دعوه بهما لم يكن ذلك على وفق اعتقادهم بل اللائق بحالهم أن يدعوه باسمه.

الخامسة : إنّما عبّر عن مقالهم بالخطبة. أمّا إن كانت بضم الخاء فللدلالة على أنّهم طوّلوا الكلام وبالغوا في ذلك ، أو أنّهم قالوا ذلك في صورة الوعظ ، وفيه دلالة على سوء أدبهم مع نبيّ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإن كانت بكسر الخاء فلدّلالة على غاية رغبتهم في التنصيص كرغبة الخاطب فيمن يخطبها لنفسه.

السّادسة : تقديم الظرف ، أعني : خبر ليس على اسمه للقافية ، وتقريب الضمير من مرجعه وزيادة تخصيص الاسم.

٢١٧

البيان :

في التعبير عن مقالتهم بالخطبة ، استعارة مصرّحة ، ثمّّ إن كانت الباء للتعدية أو المصاحبة كانت فيه استعارة أُخرى مكينة ، فإنّه شبّه مقالهم بجسم ينتقل ويحوّل ويؤتى به أو بشيء يستصحب. أو يكون إيقاع الإتيان عليها مجازياً تنزيلاً للدّاعي إلى الإتيان منزلة مفعوله وإقامته لملابسة الداعي به مقام ملابسة المفعول به. أو يكون أتوا استعارة تبعيّة تشبيهاً لإلقاء هذا الكلام بالإتيان به. أو تكون « الباء » استعارة تبعيّة تنزيلاً لملابسة غاية الفعل والداعي إليه ، منزلة ملابسة ما يصحب الفاعل وتشبيهاً لها بها.

وإن أراد بالموضع الأمر الداعي إلى الكلام كان فيه أيضاً استعارة مصرّحة تشبيهاً للملابسة التي بين الداعي والكلام بالملابسة التي بين الظرف ومظروفه في الملازمة بينهما عند البلغاء ومساواة كلّ منهما للآخر ، بحيث لا تفصل عنه عندهم ، فإنّ البليغ من الكلام ما كان على وفق مقتضى المقام من غير زيادة ولا نقصان ثمّ بيّن خطبتهم ، فقال :

٢١٨

[ ٩ ]

قالوا له لو شئت أعلمتنا

إلى مَنْ الغاية والمَفزعُ

اللّغة :

قالَ يَقُولُ قَولاً وقَوْلَةً وَمَقالاً وَمَقالَةً وقِيلاً وَقالاً : تكلّم بمفرد أو مركّب تامّ أو ناقص ، أو تكلّم بكلام تامّ. أو القول في الخير ، والقال والقيل والقالة في الشر ، والقيل والقال اسمان لا مصدران ، أو فعلان أُجريا مجرى الأسماء. وفي الخبر : نُهي عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال.

يروى بالكسر والتنوين وبالفتح ، قال الزمخشري في « الفائق » : بناؤهما على كونهما فعلين محكيّين متضمّنين للضمير ، والإعراب على إجرائهما مجرى الأسماء خِلْوَين من الضمير ـ قال ـ : ومنه قولهم : إنّما الدنيا قال وقيل. وإدخال حرف التعريف عليهما لذلك في قولهم : ما يعرف القال من القيل ـ قال ـ : وعن بعضهم : القال الابتداء ، والقيل الجواب ، ـ قال ـ ونحوه قولهم : أعيَيتني من شُبّ إلى دُبّ ، ومن شُبّ إلى دُبٍّ (١).

__________________

١ ـ الفائق في غريب الحديث : ٣ / ٢٣١.

٢١٩

وفي حرف ابن مسعود : « ذلك عيسى ابن مريمَ قال الحقّ الذي فيه يَمْتَرون » (١) وأصل قال : قول بفتح العين لا بكسرها ، بدليل يقول ، ولا بضمّها لتعدّيه.

قال ابن جنّي : إنّ معنى قاول أنّى وُجدت وكيف وقعت مِن تقدّم بعض حروفها على بعض ، وتأخّره عنه إنّما هو للخفوف والحركة ، وجهات تراكيبها الست مستعملة كلّها لم يهمل شيء منها وهي قاول ، قال ، وقل ول ق ل ق ، ول وق.

الأصل الأوّل « قاول » وهو القول ، وذلك أنّ الفم واللسان يخفان له ويقلقلان ويمذلان به ، وهو بضد السكوت الذي هو داعي إلى السكون ، ألا ترى أنّ الابتداء لمّا كان أخذاً في القول لم يكن الحرف المبدوء به إلاّ متحرّكاً ، ولمّا كان الانتهاء أخذاً في السّكوت لم يكن الحرف الموقوف عليه إلاّساكناً. ثمّ ذكر باقي الأُصول على التفصيل.

« اللام » في « له » لام التبليغ ، وهي الداخلة على اسم السامع ، لقول ، أو ما في معناه وقيل : إنّها للتعدية.

« لو » حرف ثنائي الوضع له وجوه :

منها : أن يكون من حروف التعليق ، ويقال : من حروف الشرط. ويراد أنّه يدلّ على الشرط التقديري ، أي الثاني فيها مرتبط بالأوّل على تقدير وجودهما وإليه أشار سيبويه حيث قال : إنّها لما كان سيقع لوقوع غيره ، والمشهود أنّها تدلّ على عدم الجزاء لعدم الشرط ، وذهب الحاجبي إلى أنّها لعدم الشرط لعدم الجزاء ، والحقّ مجيئها للآخَرين.

__________________

١ ـ في قراءة الآية ٣٤ من سورة مريم.

٢٢٠